الاحتجاجات الشعبية في إيران -مقالات مختارة-
يتم تحديث هذا الملف دوريا، أنظر في الأسفل
احتجاجات إيران… سماتها وسياقاتها وآفاقها
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تشهد إيران، منذ منتصف أيلول/ سبتمبر 2022، موجة احتجاجات مستمرّة في إثر مقتل الشابة الإيرانية/ الكردية مهسا أميني (22 عامًا)، وذلك بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق في العاصمة طهران بتهمة انتهاكها “قواعد لبس الحجاب”. وقد عمّت الاحتجاجات على مقتلها مختلف المدن الإيرانية، بما فيها العاصمة طهران، واستخدمت السلطات العنف في التعامل معها؛ ما أسفر عن مقتل العشرات وجرح المئات في مواجهات وصفها مرشد الثورة علي خامنئي، في أول تعليق متلفز له عليها، بأنها “أحداث شغب مخطط لها” ومدعومة من الخارج. وقطعت السلطات خدمة شبكة الإنترنت عن مناطق واسعة من البلاد في محاولة للتعتيم على الأحداث، كما أُجّل إطلاق العام الدراسي أيامًا؛ للحيلولة دون مشاركة طلاب المدارس والجامعات في الاحتجاجات.
تاريخ من الأعمال الاحتجاجية
يمكن التقليل من فرادة هذه الاحتجاجات، بالإشارة إلى أن إيران، منذ الثورة الدستورية التي اندلعت في عام 1906، تشهد احتجاجات واسعة كل عشرة أعوام، واستمر هذا النمط من الاحتجاجات بعد الثورة الإسلامية، حيث شهدت البلاد في عام 1988 احتجاجات واسعة على التعديلات الدستورية، وفي عام 1999 احتجاجات كبيرة للحركة الطلابية، ومن ثم جاءت الحركة الخضراء عام 2009 ردّة فعل على ما اعتبره الإصلاحيون تزويرًا للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها المحافظ أحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية. وقد تحوّل بعض هذه الاحتجاجات إلى ثورة غيّرت وجه إيران. لكن وتيرة الاحتجاجات بدأت تأخذ، في السنوات الأخيرة، منحىً أشدّ تسارعًا، إذ باتت تتكرّر سنويًا وأحيانًا تتعدّد في السنة الواحدة. ومن أبرز الاحتجاجات التي شهدتها إيران في السنوات الأخيرة احتجاجات كانون الأول/ ديسمبر 2017، واحتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وكانت الأعنف منذ سقوط نظام الشاه عام 1979، وأسفرت، بحسب مصادر مختلفة، عن مقتل نحو 1500 شخص، وجاءت على خلفية رفع الحكومة أسعار الوقود بين %50 و200%. كما وقعت احتجاجات على مستوى مناطقي أيضًا، خلال عامَي 2020 و2021، في الأقاليم الطرفية الأكثر تهميشًا مثل إقليم الأهواز، الذي تقطنه غالبية عربية، وإقليم سيستان بلوشستان، قرب الحدود مع باكستان، حيث تنشط جماعاتٌ مسلحةٌ ضد الحكومة، وفي المناطق الكردية الواقعة غرب إيران وشمال غربها.
وفي جميع هذه الاحتجاجات الأخيرة، كانت الشعارات المرفوعة تبدأ مطلبية، ولا تلبث أن تتحوّل إلى سياسية تدعو إلى إسقاط النظام، وإطلاق الحريات، والتركيز على أوضاع البلاد الداخلية بدلًا من تبديد ثرواتها على مغامرات خارجية. في المقابل، كانت السلطات تتّبع الأساليب نفسها في مواجهتها، إذ غالبًا ما توصَف الاحتجاجات بأنها مؤامرة مدبّرة تُدار وتموَّل من الخارج، وذلك لتبرير قمعها. ويجري عادة حجب خدمة الإنترنت عن مناطق الاحتجاج، قبل أن تبدأ السلطات في استخدام العنف في عمليات القمع، منعًا لانتشار أيّ مقاطع فيديو أو صور تسهم في تأجيج المزيد منها.
سمات الاحتجاجات
تتميز الاحتجاجات الحادثة أخيرا من سابقاتها بأنها تتمحور فعليًا حول موضوع اجتماعي، جوهره التمييز ضد المرأة، كما ترتبط بموضوع تدخّل السلطة الحاكمة في الحريات الفردية والخيارات الشخصية. من هنا، مثّلت المرأة هذه المرة القوة الدافعة وراء اندلاعها واستمرارها، وباتت قضية مهسا أميني تمثل رمزًا لاضطهاد المرأة وإملاءات النظام في الشأن الديني، ومحرّكًا لغضب الإيرانيين، نساء ورجالًا، من السياسات الاجتماعية المتشددة للنظام منذ عام 1979. بهذا المعنى، باتت “معركة الحجاب” تختصر صراعًا بين مجتمعٍ يطمح إلى مزيد من الحرية والحياة الكريمة ونظامٍ يعتبر المسّ بالحجاب انتهاكًا لأحد أشدّ رموزه الأيديولوجية وضوحًا وأهمية. لذلك، اعتبر النظام أن خلع نساء الحجاب في الأماكن العامة أو حرقه أو قصّ شعورهنّ احتجاجًا على قتل مهسا أميني بمنزلة تحدٍّ لأيديولوجيا النظام، وهو أمرٌ غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الإسلامية؛ ما يفسّر العنف الشديد الذي استُخدم في مواجهة الاحتجاجات.
سياقات الاحتجاج المعقدة
تضافرت عوامل مختلفة، إلى جانب قضية أميني، ساهمت في إبقاء جذوة الاحتجاج متّقدة فترةً أطول من أيّ احتجاجاتٍ سابقة، مرتبطة بأوضاع اقتصادية متفاقمة، وشعور جزء كبير من الشباب الإيراني الذي ولد بعد الثورة بالاغتراب والتهميش وانعدام الأفق. وتفيد إحصاءات رسمية بأنّ 60% من الإيرانيين وُلدوا بعد عام 1979، وهم لم يعرفوا نظامًا آخر غير نظام الجمهورية الإسلامية، وليس لديهم أيّ تجربة مع نظام الشاه الذي ساهم آباؤهم وأجدادهم في إسقاطه نتيجة فساده واستبداده.
وأسهمت إعادة فرض العقوبات، بعد انسحاب إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي عام 2018 بموجب سياسة “الضغوط القصوى” التي انتهجها لدفع إيران إلى التفاوض على اتفاق جديد، في مفاقمة الأوضاع السيئة أصلًا. وتفيد بيانات مختلفة بأنّ نحو 40 مليون إيراني (ما يعادل نصف السكان تقريبًا) يعيشون اليوم تحت خط الفقر، في حين يعيش ما بين 10 و16 مليون شخص في مساكن غير مسجّلة، كما ارتفع عدد سكان الأحياء الفقيرة 17 مرة خلال 30 عامًا. وقد زادت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) الوضع سوءًا؛ إذ شهدت إيران أعلى نسبة وفيات قياسًا على عدد السكان، خارج أوروبا والأميركتين خلال عامَي 2020 و2021، بسبب سوء إدارة الحكومة للأزمة وترهّل نظامها الصحي. وتذكُر إحصاءات رسمية أنّ نحو 150 ألف إيراني توفّوا بوباء كورونا، في حين قدّرت مصادر أخرى الرقم بضعف ذلك. وقد أدّت العقوبات الأميركية وسياسات الإغلاق التي اضطرّت إليها الحكومة لاحتواء انتشار الوباء إلى خفض الناتج الإجمالي القومي إلى النصف؛ إذ هبط من 450 مليار دولار عام 2019 إلى نحو 200 مليار عام 2021 بحسب بيانات البنك الدولي. ونتيجة تعطّل سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار السلع الأساسية على المستوى العالمي بعد الحرب في أوكرانيا بلغ مستوى التضخّم في إيران نحو 50%، وانخفض سعر صرف العملة الوطنية إلى مستوى غير مسبوق مقابل الدولار الأميركي. أما سياسيًا، فقد اتّجه النظام منذ إخماد “الثورة الخضراء” عام 2009 إلى إقصاء ما تبقّى من الاتجاهات السياسية العلنية في البلاد، بما في ذلك قوى تعدّ نفسها جزءًا من النظام، وتسعى إلى إصلاحه، وباتت السلطة متركّزة على نحو كلّي تقريبًا في يد المحافظين الذين أحكموا سيطرتهم على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن خلفهم الحرس الثوري الموالي للمرشد على نحو مطلق. وقد عبّرت النسبة المتدنّية للمشاركة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2021 وفاز فيها مرشّح النظام إبراهيم رئيسي، بعد استبعاد المرشحين الآخرين، عن سيطرة الإحباط على الشارع الإيراني من إسكات كل الأصوات المختلفة. وكانت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، حيث لم تتجاوز 49%؛ ما فُسّر بفقدان ثقة الشارع بإمكانية التغيير من خلال المشاركة في الاقتراع. ويمكن مقارنة هذه النسبة المتدنية بآخر دورتين انتخابيتين عامَي 2013 و2017، حيث شارك ما يقارب 73% من الناخبين المسجلين، في حين بلغت نسبة المشاركة 85% في انتخابات 2009.
ورغم أن رئيسي حاول مواجهة الشكوك التي أحاطت بشرعية انتخابه من خلال تبنّي سياسات تقرّبه من الشارع، فإنّه لم يفلح، بعد أكثر من عام على تولّيه مقاليد الحكم، في تحقيق أيّ من الوعود التي قطعها، فيما يتعلق بالسياسات الداخلية أو الخارجية. ففي الداخل لم تصل وعود مكافحة الفساد التي رفعها رئيسي إلى نتائج مهمة، كما لم يتمكّن من تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لملايين الإيرانيين الذين طحنتهم الأزمات أخيرا. على العكس، ازدادت خلال العام الأخير نسب الفقر في إيران وانكمشت الطبقة الوسطى، في حين استمرّت برامج الخصخصة التي انتهجتها الحكومات السابقة، رغمًا عن شعارات العدالة الاجتماعية التي رفعها رئيسي؛ ما يعني أن سياسات الخصخصة تجري على حساب مشاريع محاربة الفقر التي وعد بها. في المقابل، تضاعفت في عهده جهود إعادة تشكيل المجال العام وفق رؤية اليمين المحافظ؛ إذ تنامى دور شرطة الأخلاق، وتزايدت القيود على الحريات العامة والفردية، خصوصا المتعلقة بالمرأة.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فشلت حكومة رئيسي في إحياء اتفاق عام 2015 الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، رغم شهور من المفاوضات المضنية التي تخلّلتها ثماني جولات من التفاوض غير المباشر مع الأميركيين. ورغم سياسة الاتجاه شرقًا ومحاولات تحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين وروسيا وغيرهما، فإنّ سياسة رفع العقوبات المفروضة على إيران من خلال إعادة إحياء الاتفاق النووي ما زالت تمثّل أولوية لحكومة رئيسي، كما تبقى مدخلها الرئيس وربما الوحيد لتنفيذ وعودها بتحسين أحوال البلاد المعيشية، عبر جذب رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية. بالمثل، لم تتمكّن الحكومة الإيرانية، رغم الجهود التي بذلتها، من تحقيق اختراقٍ مهم في علاقاتها العربية، ولم تسفر خمس جولات من المفاوضات الأمنية المباشرة مع المملكة العربية السعودية في بغداد عن تقدّم يُذكر. وقد جرى تأجيل الجولة السادسة التي كان مزمعًا عقدها بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين إلى أجل غير مسمّى، في ضوء تدهور الوضع السياسي والأمني في العراق، وظهور مؤشّرات على ضعف القبضة الإيرانية هناك مع فشل طهران في لمّ شمل القوى الشيعية العراقية تحت سقف حكومة توافقية.
أضف إلى ذلك أنّ العمليات التي شنّتها إسرائيل في الداخل الإيراني على امتداد العام الماضي، واستهدفت خلالها منشآت إيران النووية وبرنامجها الصاروخي ومصانع طائراتها المسيّرة وشخصياتٍ مرتبطةً بالبرنامج النووي وضباطًا في الحرس الثوري، أدّت إلى إضعاف هيبة الحكومة التي حاولت الردّ عبر استهداف مناطق في إقليم كردستان العراق الذي تنظُر إليه حكومة رئيسي باعتباره مركزَ عمليات متقدّمًا يستخدمه خصوم إيران لاستهدافها. من هذا الباب، أيضًا، استُهدف الإقليم بصواريخ بالستية وطائرات مسيّرة تزامنًا مع الاحتجاجات الأخيرة في محاولة للربط بينها وبين ما تقول إيران إنه عمليات مدبّرة من الخارج لإضعاف النظام.
آفاق الحركة الاحتجاجية
لا تمثّل الاحتجاجات التي انطلقت على خلفية مقتل مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق إلى حينه تهديدًا جدّيًا للنظام الإيراني، إذ ما زالت بعد أسابيع على انطلاقتها تتسم بالعفوية وتفتقر إلى التنظيم، وهي تحظى بتشجيع وسائل الإعلام الغربية وغيرها، ولكن يبدو أنها تفتقد قيادة واضحة، ولا يزال عدد المشاركين فيها محدودًا نسبيًا. كما يلاحظ اختلاف الشعارات الاحتجاجية بحسب المناطق التي يخرج منها المحتجّون، ما يعني أن ثمّة اختلافًا واضحًا في أولويات المحتجين واهتماماتهم وأهدافهم وغياب إطار ناظم ومحرك للاحتجاجات. بعبارة أخرى، ليس هناك تنظيم يقود الاحتجاجات ولا ما يشير إلى وجود تحالفات تعكس وحدة الأهداف بين المحتجين. ولم تبرز أيّ تصدّعات في جدار النظام، رغم صدور مواقف متعاطفة مع المحتجّين من شخصيات فنية ورياضية. ولكن أصواتا بدأت تصدُر من داخل النظام ترى ضرورة إصلاح بعض القضايا المتعلقة بتدخّله في خيارات الناس اليومية وشرطة الأخلاق. ويؤكّد تكرار الاحتجاجات تراكم الغضب والاحتقان في المجتمع الإيراني، واتساع الفجوة بين تطلعات الإيرانيين واهتماماتهم وبين سياسات حكومتهم المتصلة بقضايا داخلية ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية على عكس أولويات النظام في إيران الذي يركّز على السياسة الخارجية وطموحاته الإقليمية. ورغم صعوبة التنبؤ بمستقبل الأحداث في إيران، فإن سيناريوهات رئيسة تتوقع إمّا أن تهدأ الأحداث وتتراجع وتيرتها كما حصل في الاحتجاجات السابقة من دون تنازلاتٍ كبيرةٍ من النظام، أو مع تنازلاتٍ محدودة فيما يتعلق بتقليص فرض اللباس والمظهر الخارجي، وإمّا أن تزداد الاحتجاجات عمقًا وانتشارًا؛ ما يدفع النظام إلى استخدام مستوى أكبر من العنف في مواجهتها، على نحوٍ قد يُدخل البلاد في صراع أكبر، وإمّا أن تشكّل الاحتجاجات جرس إنذار يدفع النظام إلى إجراء إصلاحات تتجاوب مع تطلعات شرائح واسعة من الإيرانيين، وهذا أمرٌ ممكنٌ في إيران حيث توجد دولة قوية ومؤسسات راسخة قادرة على ذلك.
العربي الجديد
——————————–
قصة الحجاب بين الفرض والحظر/ راتب شعبو
أبعد ما يكون عن الحقيقة القول إن موضوع الحجاب الذي لا يكفّ عن تحريك آليات القمع (لفرضه أو لنزعه) وآليات الاحتجاج المضادّة، هو موضوع ديني. الواقع أن الساعين إلى فرض الحجاب، شأنهم شأن الساعين إلى نزعه، هم فاعلون سياسيون، وأن الحجاب لم يصبح مشكلة إلا حين زجّوه في الميدان السياسي، بوصفه مؤشّراً على السيطرة.
كيف ينتمي إلى الدين ما يُفرض على الناس فرضاً؟ وكيف ينتمي إلى الدين مظهر خارجي كالحجاب، لا يمكن لأحد، سوى للعالِم بما في الصدور، أن يستدلّ منه على طهارة القلب من عدمها؟ لا يمكن لعاقل أن يرى في النسوة الإيرانيات اللواتي يرمين الحجاب فاسدات القلوب، ويرى أن السلطة التي تفرضه عليهن بالقوة ذات قلب طاهر. ليس في احتجاج النسوة الإيرانيات ضد فرض الحجاب معاداة للدين، كما يصوّر بعضهم هذا الأمر، بل معاداة لسلطة سياسية تتزيّا بالدين، وتفرض نفسها على الناس بالقمع.
بات من الواضح أن النقاشات الدينية في موضوع الحجاب لا تُفضي إلى نتيجةٍ ثابتة، فهو، في النهاية، موضوع غير محسوم، وينطوي على تفاسير واجتهادات شتّى ومتباينة بين “العلماء” أنفسهم والفرق الدينية المستندة إلى النصّ المقدس نفسه. على هذا، يبقى تغليب تفسير على آخر، واعتماد اجتهاد دون آخر، مسألة ليست من الدين بألف ولام التعريف، والإلزام بهذا التفسير دون ذاك، لا يعدو كونه قسراً يجد منبعَه في السياسة والغلبة وصراع القوى الدنيوية مستقلاً بصورة كاملة عن الدين بما هو كذلك.
يحتاج المرء إلى قدر كبير من السذاجة كي يعتقد أن السلطات الإيرانية “الإسلامية”، وأمثالها، تنطلق في فرضها الحجاب من حرصٍ على حماية المرأة أو صون كرامتها من أذى الشارع. والحال إن ما تتعرّض له النساء على يد “شرطة الأخلاق” أسوأ من كل ما يجري الكلام عنه من أذىً محتمل، وقد يصل أذى هذه الشرطة “الدينية”، كما في حالة مهسا أميني، إلى الموت. ليت هذه السلطات تكترث، كما اكترثت بالحجاب الناقص للشابّة الكردية، بما يتعرّض له الإيرانيون، نساءً ورجالاً، من أذى جرّاء الفقر والقمع وصرف موارد البلاد في حماية السلطة وملاحقة أحلام إمبراطوريةٍ لم يستشر بشأنها الشعب الإيراني.
في فرض الحجاب بالقوة، مجهودٌ سياسي، هدفه الأول إبراز السيطرة وجعل النساء مجرّد حوامل لشارة السيطرة (الحجاب)، وهذا لا يختلف في المضمون عن حرص السلطات المستبدّة على ملء الأماكن العامة بصور أعلام السلطة ورموزها. وهدفه الثاني جعل الحجاب قضية بحد ذاته، فيبدو فرض الحجاب وملاحقة النساء غير الملتزمات وكأنه إنجاز للسلطة المعنية التي ليس لديها ما تقدّمه للمجتمع المحكوم سوى هذا النوع من “الإنجازات”.
في فرنسا، تسعى السلطات، على عكس الحال في إيران، إلى حظر الحجاب في المدارس ومؤسّسات الدولة، وهناك من يدعو إلى حظره بشكل كامل حتى في الأماكن العامة. مع ذلك، يبدو ما يحرّك موضوع حظر الحجاب في فرنسا هو من طبيعة ما يحرّك فرضه في إيران، من حيث أن الفرض والحظر يتحرّكان في الواقع بدوافع سياسية، ويتستران بالدين، هذا يتستر بالالتزام بالدين وذاك بالحياد عن الدين. والحق أن هناك تكاملا بين هاتين الحالتين على تعاكسهما.
حساسية السلطات الفرنسية إزاء الحجاب الإسلامي لا تعادلها في الشدّة حساسيتها تجاه أي رمز ديني آخر غير إسلامي، ولكن فرنسا تغطّي حظر الحجاب بمبدأ علماني يحظر الإشارات الدينية. والحق إن الحساسية الفرنسية ضد الحجاب ليست دينية بل سياسية، ومن يرى في النفور الفرنسي من الحجاب نفوراً من الدين الإسلامي تفوته رؤية حقيقة المشكلة.
بقدر ما تحرص السلطات الإسلامية في طهران أو غيرها على فرض الحجاب، وجعله رمزاً لسيطرتها، بقدر ما ترى السلطات العلمانية في فرنسا، وغيرها، أن الحجاب هو إذن رمز لسلطة سياسية دينية إسلامية، وهذه سلطةٌ معاديةٌ للجمهورية، لأنها تجعل الشريعة فوق قانون الجمهورية. من هنا، تتولد هذه الظاهرة التي تبدو غريبة، نقصد مشكلة الحجاب الذي هو بحد ذاته لا يختلف عن أي إشارة دينية لأي دين آخر، ولكنه في الواقع يثير مشكلةً لا يثيرها غيره من رموز الديانات الأخرى، وهي مشكلةُ لا تني تتسع.
من يحوّل قضية الحجاب إلى قضية “نضالية”، أي يجعله رمزاً لسلطةٍ أو لمشروع سياسي، سوف يولّد حساسية مضادّة لدى السلطات العِلمانية التي، وإن كانت لا تحظُر الدين، تلاحظ أن الحجاب ليس موضوعاً دينياً صرفاً، إنما رمزاً أو مؤشّراً على تقدّم مشروع سياسي مضادّ للجمهورية. الطبيعة الملتبسة التي تضيف السياسي إلى الديني، فلا يسهل الفصل بينهما، وتسمح بأن يتلطّى أحدهما بالآخر، هي المصدر الذي يُحدث الإشكالية الدائمة للسلطات الفرنسية تجاه الإسلام، وهو ما دفع أحد أكثر المتطرّفين الفرنسيين خفةً (إيريك زيمور) إلى اعتبار أن المشكلة في الإسلام نفسه، متجاوزاً التمييز السائد في فرنسا بين المسلمين (أتباع الدين) والإسلاميين (أتباع الشريعة).
تبدو اللوحة لذلك خادعة، ذلك لأنه تجري مواجهة مشروع سياسي مضاد (إسلامي) لا يتقدّم بوصفه مشروعا سياسيا صريحا، بل يتقدّم برموزٍ لا تمتلك في الواقع الدولة حقاً في محاربتها. التضييق على الرموز الإسلامية هو تعبير عن خوفٍ مبالغ فيه باعتقاد الكاتب، ويصل في لحظاتٍ إلى حد الرهاب، من خطر متنكّر، من مشروع سياسي تدلّ عليه الرموز. زيادة عدد المحجّبات، ولا سيما من الجيل الشاب، توحي للفرنسيين بتقدّم المشروع السياسي الإسلامي المخاتل، وتبدو المحجّبات، كما يبدو أصحاب الذقون الإسلامية ولابسو الجلباب، على أنهم جمهور لهذا المشروع، ولا سيما حين ينشط هؤلاء في ترويج الحجاب أو غيره من الرموز الإسلامية.
من شأن الحساسية الشديدة التي تبديها السلطات الإسلامية في إيران وغيرها تجاه الحجاب أن تعزّز حساسية الفرنسيين وغير الفرنسيين، من انتشار هذا الرمز، ليس بوصفه رمزاً دينياً، كما تقول القوانين الفرنسية، بل بوصفه رمزاً سياسياً بالأحرى. في المقابل، يشكّل حظر الحجاب في فرنسا وغيرها دافعاً إضافياً لدى الإسلاميين إلى التشدّد في فرضه. بين الحساسيتين تآزر في التأثير وتعاكس في الاتجاه.
العربي الجديد
——————————–
ما فعلته المرأة الإيرانيّة وتفعله!/ حازم صاغية
«الثورة أنثى» شعار رُفع في المدن العربيّة في السنوات الخمس أو الستّ الأخيرة. إلى حدّ ما، كان هذا صحيحاً. ذاك أنّ المرأة نزلت إلى الشارع وهتفت واعترضت واشتبكت وضحّت. حصل هذا في بيروت والخرطوم وبغداد ومدن عربيّة أخرى، وكانت الثورات العربيّة قبلذاك قد أنجبت نساء أيقونات تصدّين وغنّين وكتبن وسُجنّ وخُطفن. لكنّ ثورات منطقتنا التي سبق لها أن احتكرت طويلاً تسمية «ثورة»، لم تكن أنثى على الإطلاق. لقد كانت ذَكَراً، بل ذكراً فائض الذكورة.
أهمّ تلك الثورات، الثورة الجزائريّة، حضرت فيها نساء قاتلن المستعمر الفرنسي إلى جانب الرجل. جميلة بوحيرد وزهرة ظريف وسامية لخضاري ومليكة قايد ومريم بوعتورة وزبيدة ولد قابليّة ووريدة مداد بعض تلك الأسماء. لكنْ، وكما بات معروفاً جيّداً، ما أن انتصرت الثورة وأعلن الاستقلال حتّى أعيدت النساء إلى البيت والأبناء. بعض أسوأ ما حمله «القانون الخاصّ بالسكّان الأصليين» (Le Code de l’Indigénat) حوفظ عليه، وحتّى عام 1984 على الأقلّ، حين سُنّ قانون الأسرة، لم يكن قد تغيّر الكثير. حينذاك خرجت النسويّات الجزائريّات إلى الشارع محتجّاتٍ ومعترضاتٍ في مواجهة قمع كثير.
الجهاد الجزائري لم يتّسع إلا للمجاهدين الرجال.
في الثورة الفلسطينيّة، سطعت رموز الذكورة الحصريّة: كنية «أبو» سبقت أسماء 95 في المائة من قادة الثورة. إنّها ثورة آباء أضاف معظمهم إلى الأبوّة اللحية الكثيفة التي كانت من معالم الثورة والثوّار في «العالم الثالث». فيديل كاسترو وتشي غيفارا كانا الأشهر لكنّهما لم يكونا فريدين في هذا الباب. الذين لم يُسعفهم الحظّ بلحية كثّوا الشاربين وكثّفوهما تعويضاً ولحاقاً بالركب.
الأنظمة العسكريّة والأمنيّة التي سمّت نفسها ثورات، في سوريا والعراق البعثيين، أحضرت «المنظّمات النسائيّة» بلباس عسكري إلى مهرجانات الاحتفال بالزعيم الخالد. معمّر القذّافي «كرّم المرأة» بتحويلها حارساً شخصيّاً في حاشيته.
أمّا مع ثورة الخميني في إيران فكُتب انتصار الرجال القساة على المرأة على نحو لا رجعة عنه. لقد صار هذا الانتصار مطلباً سماويّاً أيضاً بعدما كان من قبل مطلباً أرضيّاً. الجَدّ جلس على صدر الأحفاد، ولا سيّما الحفيدات.
وعلى امتداد هذه المسيرة طغت صفات الذكورة طغياناً مبرماً على أنظمة القيم: المناضل، والمجاهد، والشهيد، والباسل، والشريف… إنّهم نجوم الدنيا والآخرة معاً. الأمّ المثلى هي التي ترمق ابنها الذاهب إلى الموت بحنان وتقدّم له كأس شاي أو كوب حليب ثمّ تدعو له بالتوفيق، وعيناها تغرورقان بالدمع. «أجمل الأمّهات» قاطبة هي «التي انتظرت ابنها… وعاد مستشهداً»، كما قالت قصيدة صارت أغنية. أمّا ما كان يعزّز أنظمة القيم هذه فإن الميوعة والتخنّث وسواهما من الصفات المُدانة جرى لصقها بالغرب أو بـ«مقلّدي» الغرب و«تابعيه». إنّهم يرطنون بكلمات أجنبيّة ويتسّمون بأسماء مغناجة ويتعثّرون بلفظ كلمات الشنفرى!
هذا الهراء تلقّى ضربته الأكبر في إيران حيث تتمّ المصالحة الأهمّ والأوسع نطاقاً بين المرأة والثورة. ولأنّ المراجعة هناك من عيار تاريخيّ، فقد بدت وتبدو أشبه باحتفال أممي لنساء الأرض لا تستطيع حتّى أفغانستان صدّه عنها. فضدّاً على المفاهيم القديمة والضيّقة للثورة، تعلن طهران أنّ الحقّ في التحكّم بالجسد وفي اختيار الملبس وسماع الموسيقى مطالب ثوريّة أيضاً.
وليس تفصيلاً بسيطاً أنّ المرأة هي رمز العمل الثوري في إيران، وأنّ صورة الثورة باتت صورة النساء. فإذا صحّ أنّ تحوّلات الأزمنة والمعاناة الخاصّة بالمرأة الإيرانيّة لعبت دورها في إتمام هذا التحوّل، صحّ أيضاً أنّ نساء إيران لا يخضن حرباً ضدّ الإمبرياليّة أو ما يعادلها. هنا بالضبط يكمن الفارق الأكبر بين ثورات الماضي وهذه الثورة التي شاءت التخفّف من تلك القضايا والانسحاب منها، ابتداء بالشعار الذي انطلق في 2009: «لا غزة ولا لبنان، روحي فدى إيران».
فكما يتغلّب الوطن على القضايا، يتغلّب الحاضر على الماضي كائناً ما كان تأويله. وفي هذا السياق لا تخفى المفارقة الناجمة عن نشوب ثورة النساء التي «تطلب العاديّ» فيما النظام الحاكم مشغول بالملفّ النووي وتوطيد النفوذ في العراق ولبنان وغزة واليمن.
يقال هذا لأنّ الذكوريّة الثوريّة القديمة إنّما تغذّت أساساً، ومنذ بواكير العلاقة بأوروبا، على مسائل الهويّة والصراع. حتّى هدى شعراوي، الرائدة النسويّة المبكرة، وقعت في هذا الفخّ، فعلّقت على حضورها مؤتمراً دوليّاً في روما عام 1923، بأنّ ذاك الحضور ليس هدفه «طلب إلغاء تعدّد الزوجات أو تعديل نظام الخطبة أو تضييق دائرة الطلاق على الرجال»، بل هناك أغراض أخرى أوّلها «ظهور المرأة المصريّة بحقيقتها الثابتة أمام المرأة الغربيّة التي تجهل عنها كلّ شيء، أو تعرف عنها معلومات مشوّهة قرأتها في كتب ذوي الأغراض الاستعماريّة (…) وبيان أنّ المرأة المصريّة الحديثة تكاد تساوي أختها الغربيّة في مدنيّتها، وأنّ الدين الإسلامي منحها من الحقوق ما تودّ المرأة الغربيّة لو تناله».
إنّ طريق المرأة الإيرانيّة ليست معبّدة بالزهور طبعاً، وهناك مخاوف كثيرة لا ينبغي تجاهلها، أهمّها أن ينجح قمع النظام في عسكرة الثورة. لكنّ المؤكّد أنّ النساء الإيرانيّات بدأن يطرحن السؤال على نحو صائب. الجواب مسألة أخرى.
الشرق الأوسط
—————————
إيران: ثورة ضدّ ثورة…/ حازم صاغية
مفهوم الثورة، أقلّه في الزمن الحديث، واسع ومطّاط، بل متضارب. التعريف الجامع المانع للثورة لزوم ما لا يلزم. حتّى داخل التأويلات الماركسيّة، وهي أكثر النظريّات الثوريّة سعةً وتأثيراً، يمكن العثور على معانٍ متنافرة، معظمها ناجم عن طبيعة البلد المعنيّ وتركيب اقتصاده، وبعضها يتعلّق بمواصفات النُخب الثوريّة نفسها.
في روسيا القيصريّة والفلّاحيّة، وسّع لينين والبلاشفة المفهوم الماركسيّ لـ«ديكتاتوريّة العمّال»، التي يُفترض أن تقيمها الثورة، ليغدو «ديكتاتوريّة العمّال والفلّاحين». في الصين، الفلّاحيّة جدّاً، قدّم ماو تسي تونغ، لا سيّما بعد مذبحة 1927 التي نزلت بالشيوعيّين، الفلّاحين على العمّال، عمليّاً إن لم يكن نظريّاً. لاحقاً، وكاقتراح للمجتمعات الرأسماليّة المتقدّمة، رأى الفيلسوف الألمانيّ الأميركيّ هيربرت ماركيوزه، أنّ الطبقة العاملة فقدت طاقتها الثوريّة؛ لأنّ الاستهلاك دمجها بالنظام الرأسماليّ. هذه المقدّمة التي لازمت أفكار مؤسّسي «مدرسة فرانكفورت»، وماركيوزه أحدهم، طوّرها تصوّراً لثورة ينتجها المثقّفون والطلّاب والجماعات المهمّشة اجتماعيّاً وإثنيّاً. أمّا الكاتب الفرنسيّ ريجيس دوبريه، وبنتيجة تفاعله مع الثورة الكوبيّة، فدافع عن «البؤرة» الثوريّة في حرب العصابات، بديلاً عن الحزب اللينينيّ الطليعيّ. نظريّة دوبريه هذه قُدّمت بوصفها «ثورة في الثورة»، كما قال عنوان كتابه الأكثر شهرة. وبدوره، رأى الكاتب والطبيب المارتينيكيّ فرانس فانون، في قراءته الثورةَ الجزائريّة، أنّها خلاصة جهد عنفيّ يبذله الفلّاحون وعمّال المدن والعاطلون عن العمل، وقد تنضمّ إليهم البورجوازيّة الوطنيّة، وإن ظلّت مرشّحة للانقضاض على الثورة بعد أن تبلغ السلطة.
من موقع آخر مغاير، ذهبت عالمة السياسة الألمانيّة الأميركيّة هنه أرنت إلى تفضيل الثورة السياسيّة، كما جسّدتها الثورة الأميركيّة، على الثورة الاجتماعيّة، كما عرفتها فرنسا في 1789، ثمّ روسيا في 1917. أرنت انحازت أيضاً إلى صيغة المجالس الشعبيّة المنتخبة، شريطة عدم إخضاعها لحزب مركزيّ، ولآيديولوجيا قاطعة ومُبرَمَة.
وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي، قدّمت أوروبا الوسطى والشرقيّة نموذجاً في الثورات شديد الاختلاف عن التجارب الفرنسيّة والروسيّة والصينيّة وشبيهاتها: هنا حلّت السلميّة محلّ العنف، وغاب الحزب والآيديولوجيا، كما رُفض الصراع الطبقيّ بوصفه محرّك الثورة…
وفي سنتها الأولى حاكت الثورات العربيّة، إلى حدّ بعيد، تجارب أوروبا الوسطى، لكنّ القمع الذي واجهته وما ترتّب عنه من عسكرة للصراع، غلّبا الحرب الأهليّة العنفيّة على الديناميّات المدنيّة والسلميّة.
في هذه الغضون، وبين تلك التواريخ، شهدت إيران ثورتها في 1979. ففي ظلّ قيادة آية الله الخمينيّ استولت ثورة رجال الدين على السلطة، وأقامت نظاماً استبداديّاً متجهّماً في السياسة كما في الثقافة والقيم، وفي الداخل كما في العلاقة مع الخارج. النظام الثوريّ الجديد افتُتح بالسطو على السفارة الأميركيّة في طهران، وبإعلان «ثورة ثقافيّة» تستأصل تأثيرات الغرب من التعليم والثقافة، علاوة على إطلاق العنان لعنف يهدّد المنطقة بالتفكيك، بذريعة تثوير هذه المنطقة وأسلمتها. حصل ذلك بالاستفادة من الحماقة الدمويّة الكبرى التي ارتكبها صدّام حسين بحربه على إيران. المرأة والحرّيّة حُبستا، في هذه الثورة المناهضة للإمبرياليّة، في أقفاص كثيرة، وفي وقت لاحق انطلقت نوازع التوسّع الإمبراطوريّ من كلّ عقال، مصحوبة بتورّم نرجسيّ للأنا عبّر عنه المشروع النوويّ.
في البلد نفسه، إيران، انطلقت قبل أيّام ثورة أخرى قدّمت النموذج النقيض تماماً لما حصل في 1979: المرأة والحرّيّة احتلّتا الصدارة. أشباح الإمبرياليّة ومكافحتها رُميت طعاماً للجراد، مصحوبةً برموز العهد الذي نشأ في 1979، وبصوره وشعاراته.
وهي بالطبع ثورة قد تنهزم، إلا أنّ هذا لا يلغي نجاحها في تقصير عمر النظام، وفي الإعلان عن شيخوخة ثورته الأولى. لقد تحدّت الأساسيّات الآيديولوجيّة والتنظيميّة التي قامت عليها ثورة 1979 واستند إليها نظامها، وقالت كم أنّ مفهوم الثورة، وفي البلد نفسه، يمكن أن يحمل معاني متناقضة، بما فيها مَعنيا ترسيخ العبوديّة وطلب الحرّيّة.
الفارق الزمنيّ بين الثورتين 43 سنة فقط، جُرّبت فيها الثورة الأولى بما يكفي، وانتهت إلى الإخفاق العريض الذي تتخبّط فيه اليوم. وهي 43 سنة انهار فيها النظام العالميّ القائم، وتعولم الاقتصاد، وأتيحت المعرفة بالعالم على نحو أكبر، كما زاد الطلب على الحرّيّة والمساواة، لكنْ من جهة أخرى، وجزئيّاً بسبب تلك الثورة، انبعثت الهويّات من كلّ نوع، وخيضت حروب، وتعاظمت مآسٍ، لكنّ الفارق الزمنيّ ذاك، الذي حاولت طهران أن تصدّ نفسها عن الكثير من مفاعيله، يبقى هزيلاً بالقياس إلى الفارق في المعاني والأهداف، الذي يعادل مئات السنوات، وربّما أكثر.
—————————
«الحرملك» السياسي: الحجاب بوصفه دال هيمنة/ محمد سامي الكيال
تطرح الاحتجاجات الشعبية الإيرانية الأخيرة أسئلة كثيرة على المقاربة الليبرالية – اليسارية السائدة حول حقوق النساء. فالاضطرابات، التي عمّت المدن الإيرانية، احتجاجاً على مقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، لم تعتبر الحجاب شأناً شخصياً، يعود لكل امرأة اختيار ارتدائه أو خلعه، بل رمزاً سلطوياً يجب تحطيمه وحرقه. وعندما تصبح الملابس أمراً متعلقاً بسياسات الجموع، أي مجالاً للرفض أو القبول من قبل مجموعات، تخوض مواجهات مفتوحة في الشارع، مع السلطة أو ضدها، يغدو الحديث عن «حرية فردية» منفصلاً عن السياق السياسي والاجتماعي، الذي يدور ضمنه الصراع.
تبدو الاستجابة الليبرالية، خاصة في دوائر ما يسمى «يساراً» في الدول الغربية، بعيدة عن فهم الإشكاليات التي تثيرها المسألة، وأميل لتكرار شعارات وجمل معلّبة، وعلى رأسها التركيز على اعتبار الحجاب قضية «نسوية» محضة. بمعنى أنه جانب من صراع، تخوضه النساء وحدهن، بوصفهن هوية سياسية مستقلة، لنيل حريتهن بتقرير ملابسهن، بعيداً عن الهيمنة الأبوية، سواء كانت إسلامية أو علمانية. فضلاً عن الحرج الواضح، الذي تسببه الاحتجاجات الإيرانية، لأنصار الحجاب في الدول الغربية، على اعتبار أن حرقه سيعزز من النزعات الإسلاموفوبية، التي لا ترى فيه إلا جانباً من عملية أسلمة شاملة للغرب.
الأسئلة الأساسية التي تتجنّبها هذه الاستجابة تتعلق بمكانة الحجاب ضمن صراع سياسي/ثقافي شديد التعقيد، تتداخل فيه أنظمة توتاليتارية؛ مجموعات يمنية ويسارية؛ النزاعات حول الهوية القومية والثقافية والأساطير المؤسسة للدول. كيف يمكن اعتبار الحجاب مسألة فردية ونسائية محضة وسط كل هذا؟ هل يمكن للنساء الانفصال عن هذه السياقات كافة، واعتبار أن مشكلتهن فقط هي النزاع مع تجريد نظري مثل «النظام الأبوي»؟ وهل يمكن أيضاً للذات الفردية أن تتعامل مع كل هذه القضايا من خلال التركيز على حريتها بالاختيار «الحر» حسب؟ ألا يتطلب إنتاج فضاء المساواة الجندرية والحرية الفردية خطاباً سياسياً عمومياً، يتجاوز النساء والأفراد، وصولاً للتعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية كافة، التي تعني الجميع؟ والأهم: إذا كان الحجاب مسيّساً لهذه الدرجة، وجانباً أساسياً من صراعات على القوة والهيمنة في مجتمعات متعددة، فهل يمكن المطالبة بنزع سياسيته، وتحويله إلى مجرد شأن خاص؟ التعاطي مع كل هذه الأسئلة يتطلب إعادة التفكير في كثير من المفاهيم الأيديولوجية الرائجة، سواء المتعلّقة بالفردانية والنسوية؛ أو المرتبطة بشروط الممارسة السياسية نفسها في عصرنا. وربما يكون تجاهلها جانباً من مشكلة ثقافية وسياسية عامة، تساهم في تشتيت الاحتجاجات السياسية، ومحاولات التغيير حول العالم.
القماش المسيّس
لا يبدو الحجاب المعاصر، على الأقل في شكله السائد منذ سبعينيات القرن الماضي، قضية فقهية إسلامية، بقدر كونه رمزاً أيديولوجياً وسياسياً. فبعد السجال المطوّل، الذي شهده مطلع القرن الماضي، حول أنماط الحجاب السائدة آنذاك، وضرورة تعديلها لتتناسب مع الدور الذي أفردته الدول الوطنية الناشئة للنساء/المواطنات، جاء حجاب «الصحوة الإسلامية» بوصفه محاولة لإعادة بناء دول الاستقلال بما يتسق مع مشروع إسلامي حديث، معني بقضايا سياسية شديدة التعقيد: مفهوم الأمة وهوية الدولة؛ نزع آثار الاستعمار، الذي تحوّل إلى «صراع مع الغرب»؛ السجال حول مصادر التشريع والنصوص الدستورية؛ صياغة الذات الجمعية والفردية.
ضمن سياق هذا المشروع كان تعميم الحجاب فعلاً سياسياً متعدد الدلالات: علامة ثقافية وأخلاقية عن «الأمة» المراد بناؤها، وكيفية نهضتها، روحياً ومادياً؛ رمزاً لحضور الأيديولوجيا الإسلاموية وقوتها في الحيز العام؛ وكذلك ممارسة فورية للسياسات الحيوية التي يسعى إليها الإسلاميون، الملتزمة بصيانة نموذج العائلة النووية المحافظ، والدور الذي تلعبه النساء فيه، بما في ذلك عملهن غير المأجور في مجال الرعاية العائلية، رغم خروجهن إلى سوق العمل، بعد انهيار نمط العائلة الممتدة التقليدي. في هذا المعنى تحوّل الحجاب إلى ما يمكن تسميته «دال هيمنة» للحركات الإسلامية، أي رمزاً يكثّف في ذاته مشروعاً سياسياً مركّباً، يعبّر عن مطالب وفئات متعددة، ويوحدها بما يوفّره من معانٍ عاطفية وثقافية. الدول التي فرضت الحجاب بقوة القانون والأجهزة العنفية، وأولها إيران، جعلت ذلك المشروع فرضاً سياساً، وأحد الرموز المؤسِّسة للسلطة القائمة. يختلف هذا كثيراً عن اعتبار الحجاب مجرد قطعة قماش، تختارها المرأة ارتداءها حسب قناعاتها ونمط حياتها، فلبس الحجاب يعني موافقة ضمنية، يختلف مدى وعيها بذاتها، على هذا التصور للأمة والمجتمع والهوية الثقافية؛ ورفضه يعني مواجهة، مباشرة أو غير مباشرة، مع المشروع الإسلامي، واتخاذ وضع الأقلية، العقائدية والعرقية والطائفية، على هامش «الأمة» وهو وضع ليس مريحاً في أغلب الدول العربية والإسلامية.
حرق قطعة القماش المسيّسة هذه في إيران يعني محاولة تحطيم دال هيمنة السلطة، وبالتالي هو فعل سياسي معارض، موجّه ضد البنية الأساسية للدولة، وسياساتها الحيوية. ولا يعني النساء وحدهن، بل كل المعنيين بالتخلّص من حكم الملالي، على اختلاف أجناسهم. يمكن التساؤل عن مدى قدرة مناهضي الحكم الإسلامي على جعل نزع الحجاب دال هيمنة مضادا، في إمكانه تجميع الفئات المتضررة من النظام الإيراني؛ وكذلك عن التصوّر البديل للأمة وهوية الدولة الذي يسعون إليه، لكن يبقى الحجاب، في كل الأحوال، مسألة عامة وجمعيّة، والحديث عن ذات فردية، تختار بحرية وسط هذه المعمعة، ليس أكثر من مخيال ميتافيزيقي، لا وجود له خارج الأيديولوجيا الليبرالية – اليسارية، باستطالتها النسوية والهوياتية. ما قد يجعله متخلّفاً جداً عن مواكبة الأسئلة المعاصرة الأكثر الحاحاً. إلا أن هذا يطرح بدوره أسئلة شديدة الإشكالية: ألا يعني الزج بملابس النساء في المعترك السياسي، بكل هذه الحدة، أن خياراتهن ستبقى رهينة دوماً لصراعات وتوازنات عامة، ذكورية الطابع؟ ثم ألا يمكن أن يغدو التركيز على الحريات الفردية، وتحرير خيارات النساء، مرتكزاً لخطاب سياسي بديل، يواجه كل أشكال القمع الأبوي، ويمكن أن يساهم حتى بهزّ أركان النظام الإسلامي القائم في إيران؟
الخروج من الحرملك
قد لا يكون تأسيس النسوية المعاصرة على النمط السائد من الفردانية الليبرالية أفضل طريق للوصول إلى المساواة الجندرية. فالحديث عن «خيارات فردية» في ما يتعلّق بالحجاب، وجعله مسألة نسوية صرفة، تعني النساء وحدهن، قد يعزل قضاياهن عن السياقات العامة، ويؤسس لنوع من «الحرملك» السياسي، أي مساحة تحجب النساء عما يدور خارجها، وتجعل دورهن مقتصراً على الانهمام بشؤونهن الخاصة، ضمن علاقة متوترة مع الذكور، وكل الخارجين عن سياق الحرملك. في هذا المعنى ربما تكون إعادة اكتشاف وتحديد القوة السياسية للنساء، ليس بوصفهن ذواتاً فردية معزولة ومضطهدة، بل باعتبارهن فاعلات أساسيات في إنتاج العالم المعاصر، مادياً وثقافياً وحيوياً، الطريق الأمثل للخروج من ذلك «الحرملك» عبر تحويل قضايا النساء إلى مسائل عابرة للنوع الجندري، صالحة لبناء تحالفات وائتلافات اجتماعية أكبر، ينضوي فيها البشر على اختلاف أجناسهم. وهذا قد يرفع القضايا النسائية إلى مستوى دال الهيمنة التحرري، وهو ما سبق للمفكرة البلجيكية شانتال موف اقتراحه. وذلك لن يكون إلا بجعل تلك القضايا جانباً من بناء ذات سياسية جمعية، وليس تفتيت كل جماعة إلى ذوات مفردنة، تعتبر الآخر تهديداً دائماً للدائرة السحرية الخاصة، التي تحيط نفسها بها، وتتخذ ضمنها خياراتها «الحرة».
إذا كانت الملابس شأناً سياسياً عاماً، وستبقى كذلك في المدى المنظور، فإن ما يمكن تسميته «الخروج من الحرملك» عبر التسييس المضاد للملابس، سيجعل النساء مشاركات محوريات في ذلك الشأن، وصاحبات سيادة وقرار. في حين قد لا يوصل الحديث عن عدم التدخل في الخيارات الفردية إلى أكثر من صيغ خطابية مائعة، تنتظر التضامن والتعاطف من مجتمع حريات ليبرالي عالمي مفترض، ولا يمكن أن تنتج ذواتاً قادرة على التغيير.
دوال جديدة
عانت التحركات الاحتجاجية حول العالم في العقدين الأخيرين من غياب المنظور، والعجز عن تقديم بدائل، أو حتى طرح شعارات ومطالب قابلة للتنفيذ العملي. وزاد من ضعفها عدم قدرتها على إنتاج ذات سياسية واضحة المعالم، قادرة على الاستمرار حتى بعد نهاية التحركات في الشوارع والميادين. ما يجعل المظاهر الاحتجاجية المعاصرة أقرب لمناسبات، تشغل لفترة اهتمام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ثم تتبدد، دون أن تترك أثراً سياسياً يتمتع بشيء من الديمومة، والقدرة على تأسيس أنماط من السلطة البديلة.
قد يكون العمل على صياغة دوال هيمنة جديدة، ذات مدلول على سيادة وأيديولوجيا مضادة، شرطاً لازماً للخروج من هذه الحالة، وهذا يتطلّب بالضرورة مواجهة كل أشكال العزل السياسي، سواء في ما يتعلّق بالذات الفردية، أو بالهويات الثقافية والجندرية والعرقية، ومنها الهوية النسائية. وعندها قد تصبح الإجابة على سؤال الحجاب، بوصفه سؤالاً سياسياً عاماً، وسيلة للتغيير، بل تحرير الخيارات الشخصية بشكل فعلي مستقبلاً.
كاتب من سوريا
القدس العربي
———————————-
===================
تحديث 28 تشرين الأول 2022
——————————–
هل يستثمر السوريون الانتفاضة الإيرانية والحرب الأوكرانية؟/ عمار ديوب
شكّل التعثر الروسي في الحرب ضد أوكرانيا فرصةً ثمينة للسوريين، كي يتوقفوا عن السير في مسارات روسيا التي بدأت مع التدخل الروسي في سورية 2015؛ ودفعَ التعثر ذاك روسيا إلى سحب منظومات للدفاع الجوي وقادة وجنود، ونقلوا قوات من هناك إلى جبهات أوكرانيا. منذ منتصف الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) بدأت انتفاضة واسعة في إيران، وما تزال تتفاعل، وتتوسّع في مدنها، وهذا يضعف إيران إقليمياً، وفي سورية خصوصاً، حيث كانت قد ملأت الفراغ الروسي. هناك حاليا فراغان، روسي وإيراني، وإن لم يبدأ بعد تأثير نتائج الانتفاضة على الوجود الإيراني في سورية والمنطقة، والبدء بالانسحاب. لن نناقش خطورة ثلاثة مشاريع جديدة، تقدّمت بها الأردن وتركيا، وكذلك أميركا وأوروبا المنشغلتان في أوكرانيا، وتريد الأخيرتان تفعيل مسار الخطوة خطوة عبر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، بيدرسون. وتتحرك هذه المشاريع ضمن مسار المصالحة بين المعارضة والنظام، وهو ما يرفضه الأخير، واضطرّت المعارضة، التي وافقت على مسار روسيا التفريطي بحقوق السوريين، على رفض هذه المشاريع، ولنقل لا تقوى على الموافقة عليها علنا، بسبب الرفض الشعبي الواسع لها.
دخلت الحرب الروسية، أخيراً، في مرحلةٍ خطيرة، سيما بعد ضم بوتين المناطق الأوكرانية الأربع، وتفجير جسر القرم، والتهديد بالنووي، وبنقل الحرب من عملية عسكرية جزئية إلى حرب شاملة. وفي الضفة المعاكسة، هناك الرفض الأميركي والأوروبي للتصعيد الروسي، والاستمرار بمدّ أوكرانيا بالسلاح. هذه التطورات، وكما سلف أعلاه، تقول إنّ طرفي الصراع في أوكرانيا لا يضعان سورية على طاولة التفاوض، وإنْ كانا يميلان إلى اتفاقٍ قديم، ينطلق من بقاء النظام، وضرورة إجبار المعارضة على المصالحة معه، وإجباره أيضاً على تقديم بعض التنازلات، وهذا دونه ألف تعقيد، بدءاً برفض النظام لأيّ إصلاح فيه.
تؤكّد الفقرة السابقة الضعف الروسي الشديد، وعدم قدرة موسكو على فتح معارك واسعة في سورية من جديد، وإيران ليست قادرة على تعويض النقص والضعف هذا، سيما أنّ المشاريع الثلاثة أعلاه لا تأتي على هوى إيران، ومبادرة الأردن في بعض أوجهها ضد الوجود الإيراني في سورية. ويعطي هذا الضعف فرصة قوية لاستعادة تنشيط الوضع السوري عبر السوريين، سيما أنّ أوضاع المناطق تحت سيطرة النظام في أسوأ أحوالها، نظراً إلى الأزمات العميقة التي تعانيها، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبخصوص أزمة السلطة، فهي تتفاعل ضمن اتجاهاتٍ متعدّدة في السلطة، وهناك تآكل ثقة المؤيدين لها بفعل عدم قدرة السلطة على تلبية أي احتياجات للمواطنين، وتتالي انهيار العملة السورية، وبالتالي، انهيار أوضاع السكان بشكل كامل.
ما يُضعف قدرة السوريين على استثمار تلك الفرص سيطرة تركيا على الفصائل، وعلى مناطق هيئة تحرير الشام، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ومؤسسته في أسوأ أحوالها. أصبحت الفصائل هذه عرضة للنهب وللقمع وللاغتيال وللجباية، وتنفيذ ما تريده تركيا منها، والأخيرة وبسبب الانتخابات المقبلة فيها، تسعى نحو التطبيع مع النظام، وبالتالي، تُغلق الفرص التي فتحتها جبهات أوكرانيا والانتفاضة الإيرانية للسوريين. لم تتوقف هيئة تحرير الشام، منذ سنوات، عن تسويق نفسها أمام روسيا والنظام وأميركا، ولهذا تفتح المعابر مع النظام، وتقمع المتظاهرين، وتُشيد نظاماً أمنياً بامتياز، وتخضع بدورها للمشيئة التركية، وتقمع المواطنين عن التعبير عن رفضهم سياساتها أو لفتح المعابر أو “المصالحة” مع النظام، وهذا ما يجري فعلياً عبر المعابر والامتناع عن فتح الجبهات.
تتحرك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بأفقٍ وحيد، ينطلق من التصالح مع النظام، بدفعٍ أميركي وروسي، ويشكل هذا الدفع خيارها الوحيد لتتفادى حربٍ مع تركيا، وتخسر كل شيء بموجبه. غياب أية مشتركات بينها وبين الفصائل أو الائتلاف الوطني، يساهم في ضعف كل هذه الأطراف أمام تركيا وروسيا وأميركا، وبالتأكيد النظام السوري.
ليست مشكلة السوريين فقط في النظام وقوى الأمر الواقع، وربما بسببها كذلك، تنعدم كل أشكال الفعل المجتمعي، والقوى السياسية البديلة، وتضعف قوة الشعب لاستثمار الفرص، الروسية والإيرانية. وبالتالي، لا يمتلك الشعب في المناطق السورية الأربع أية قدرات مستقلة على إنشاء تحالفات أو قوى مجتمعية منظمة، تساهم في تغيير الوضع المتأزّم بشدة.
شكّلت الحرب الروسية على أوكرانيا واقعاً عالمياً جديداً، ويبدأ من أزماتٍ كبرى في الطاقة والغذاء، وربما تندلع حروب جديدة هنا وهناك. وتتفاعل هذه الأزمات وتنتج انتفاضات جديدة، كما الحال في إيران، وخطورة الوضع بين تركيا واليونان واستمرار الأوضاع برداءتها في كل من لبنان والعراق واليمن، وبالتالي، ليس هناك تفكير دولي بإيقاف الحروب والأزمات، والانتقال إلى التفاوض لحل هذه المشكلات؛ فالأزمة الأوكرانية تتفاقم يومياً، ومثلها السورية، والآن الوضع الإيراني مرشّح للمزيد من التوتر، ولن نتحدث عن الخطر النووي، وهو موضوع نقاش دولي واسع، وفي حال لجأت روسيا إليه، فسيعني تأزماً دولياً أكبر.
عربياً، ليست هناك استجابة لهذه الفرص، أقصد ليس هناك توافقات عربية عربية تنهي ملفات كل من سورية واليمن وليبيا والسودان والعراق. الدول العربية متضاربة في سياساتها، والأخيرة مثقلة بقضاياها الداخلية، أو بالضعف الشديد إزاء الأزمات الدولية، وكذلك تجاه كلٍّ من إيران وتركيا وإسرائيل. لا يمتلك السوريون من أمرهم شئياً كما يبدو، ولم يعد النقاش السياسي عن أوضاعهم مفيداً إن تجاهل الأوضاع الراهنة، وأقصد إن ظل يدور في ثنائية النظام والمعارضة، أو الانقسامات الطائفية والقومية أو انتظار الحلول الدولية. ويعاني النظام السوري تأزماً شديداً، فهو غير قادر على مواجهة أية أزمة يعانيها الشعب، ويمعن في خياراته العسكرية والأمنية، وفي التبعية لكل من إيران وروسيا؛ ضعفه وأزماته سبب هذه التبعية، وهذا ما لا تغيير فيه حاليا. المعارضة والفصائل خاضعة وتابعة ومفكّكة، ولا تشكل بديلاً عن النظام.
رغم كارثية الوضع العام للشعب السوري، وقد أشير إلى بعضها، سيظلّ تزايد الأزمات العالمية والإقليمية، ولا سيما في إيران، يتيح فرصاً ثمينة للتحرّك وطنياً، وطرح مشروع وطني، يتجاوز النظام والمعارضة المأزومين، ومنذ 2011، وبما يستجيب لحاجة السوريين إلى وطنٍ جامع لهم، والوصول إلى حقوقهم المتعدّدة، وبدءاً من تأمين فرص العمل والنهوض الاقتصادي، وليس انتهاء بنظامٍ ديمقراطي، يحقّق مصالح السوريين في العدالة الاجتماعية والحرّيات العامة.
العربي الجديد
————————–
الثورة النسائية في إيران تتمّة طبيعية لثورتها الإسلامية/ دلال البزري
ثورة نساء إيران سابقة تاريخية. بزخمها وحجمها. أكبر الحشود الشعبية مشت خلفها. أطلقتها نساء الأكراد المعروفات بنسويتهن، وبالتهميش المنظّم لقوميتهن، فانضمت إلى طليعتها بقية الإيرانيات الشابات. وفي جماهيرها نساء ورجال من طبقات ومذاهب وأجيال وقوميات مختلفة. بل خرجت إلى العلن مواقف من نخبة رجال في صلب النظام. مثل علي لاريجاني، الرئيس السابق للبرلمان الإيراني، الذي احتجّ على ممارسات الشرطة الإيرانية ضد المتظاهرات والمتظاهرين. وقد دعا السلطات الإيرانية إلى مراجعة قانون إلزامية الحجاب، وإلى سحب يد “الباسيج” (تابع للحرس الثوري) من “عِبء التشجيع” على الحجاب. فيما زميله، مصطفى تاج زاده، نائب وزير الداخلية في عهد محمد خاتمي، والمحسوب على الجناح الإصلاحي، فقد خُتِم ملف “التحقيق” معه، الآن، بعد اندلاع ثورة النساء، بعقوبة خمس سنوات سجن بتهمة “المؤامرة على أمن البلاد، ونشر أخبار كاذبة عن النظام”. هذا ما وصل إلينا من أنباء عن الاضطراب الذي أحدثته ثورة النساء الإيرانيات داخل “النخبة” الحاكمة. والأرجح أنها شحيحة أمام طرق النظام المختلفة لحجب بقيتها.
ولا تشبه ثورة نساء إيران غيرها من نظيراتها. ليست سعياً للسلطة، وكوتا نسائية من أجل وزارة أو نيابة. ليست صالونات ولوبيينغ التغزّل بالنظام وعرض الخدمات والمواهب والشهادات على ذوي السلطة من أجل “إعلاء شأن النساء ومشاركتهن السياسية”. هنا “المشاركة” النسائية تأتي من تحت، من القلب، من الداخل، وتجرّ قضيتها إلى بقية “القطاعات”، وبنوع من العصف الذي يهزّ الكيان الشخصي لكل فرد، لكل جماعةٍ “محلية”، لكل إثنيةٍ من الإثنيات المضطهدة والمحرومة حقوقها الثقافية والتنموية.
المعتادون النظر إلى الأرباح السلطوية، من نوع “هل تسقط الجمهورية الإسلامية بهذه الثورة، أم لا؟” والذين يكرّرون ما حفظناه عن ظهر قلب، بأن هذه الثورة النسائية ليست مؤطَّرة، ليست قيادات أو قائداً بطلاً كاريزماتيكياً، أو لا تملك برنامجاً سياسياً… وبالتالي هي مرشّحة، كغيرها من الانتفاضات السابقة عليها، لتتلقّى الردّ الدموي للنظام، الذي لن يترك خلفه غبْرة واحدة من غَبارات “أعمال الشغب”… فقوة هذه الثورة لا تكْمن في كل هذه المواصفات الجاهزة المطلوبة، بل في “ضعفها”، في قطعة قماش توضَع غصباً على الرأس. هل يوجد شيء أكثر هزالاً من قطعة القماش هذه؟ ومع ذلك، هي استطاعت أن تخلط المجالات. أخرجت الحجاب من البيت إلى الشارع. قالت إن النقاش حوله لم يَعُد يحتمل تحريماً ولا صمتاً، ولا قوانين وعقوبات.
بمعنى آخر، تخلّت النساء الإيرانيات عن التحايل على قطعة القماش هذه. تقصرها من هنا، تنزلها قليلاً من هناك، تصحبها بغرّة على الجبين… لعلها تطرّي قلوب “شرطة الأخلاق”. ولكن عبثاً. هذه الشرطة توحَّشت في الآونة الأخيرة، مع الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي، فكانت الثورة على الحجاب، بمثابة الثورة على الجمهورية الإسلامية نفسها. وتعمل في ميدانها المباشر، أي الميدان الثقافي، الأقوى من القمع ومن الردّ على هذا القمع.
أن تكون ثورة ثقافية، يعني أنها أدخلت إدراكاً جديداً في وعي المستمعين إلى نبضات قلبها. سلطة جديدة ناعمة، تفصيلية وسحيقة، تقود العقول نحو سلوك وقيم جديديْن. نحو عالم آخر، هو ملْكهن البديهي، الذي استحوذ عليه الملالي. وامتلكوا بذلك قدرةً وثيقة على تقرير مصير النساء باحتكارهم قوانين الأحوال الشخصية، التي لم يلغها الشاه أصلاً، رغم إجراءاته الحداثية. كما لم يلغ شرطته السرية، “السافاك”. فكانت غنيمَتا الحرب بيد الملالي، أصحاب السلطة الجديدة بعد الثورة الإسلامية: غنيمة التحكّم بمصير النساء، عبر قوانين أحوال شخصية استطاعوا أن يدخلوا إليها كل الإضافات “الإسلامية” المعروفة. والغنيمة الثانية، شرطة “السافاك” التي سمّت نفسها جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكر، شرطة سرّية وعلنية، تتحكّم برِقاب الاثنين، الرجال والنساء، وتقرّر واجباتهم وسُبل الإذعان لها، تحت طائلة عقوبات وسجون وإقامة جبرية واغتيال وألوان من المنع أو الحرمان، إلخ.
ورمزية خلع الحجاب وحرقه لا تقتصر على ذلك. تكلمت النساء الثائرات عن “أخلاق خبيثة” يسترشد بها الملالي: يرسلون بناتهن وأبناءهن إلى الخارج، الغربي طبعاً، بأموال الشعب الإيراني المسروق، حيث يعيث هؤلاء سفوراً وسكراً وعرْبدة وبَطَراً. تكلمن أيضاً عن الفساد، الذي تفاقمت نسبته، ورجال عضلات وثروات جديدة و”حرس ثوري” يغتني، وأصحاب ملايين من بين قياداته. وكله معطوفٌ على أزمة اقتصادية خانقة، بطالة، تضخّم، انغلاق السوق، وتصاعد الوحشية البوليسية. يدركه الشباب خصوصاً، هم الذين يتقنون أجْدد مبتكرات التواصل المتعوْلم.
ثم تلك ردّة فعل النظام. ردّة فعل لا تُعدّ مرّاتها، صارت مألوفة. وقوامها الثابتة، من أن الحاصل الآن هو مؤامرة صهيونية – أميركية، من أن الإعلام الغربي الموجّه يموّلها، وأن عملاء للمخابرات الغربية يديرونها. ومنهم، زوجان فرنسيان في عمر الأجداد كانا يتسوَّحان في إيران منذ شهر مايو/ أيار الماضي. وإذا بقناة “العالم” (وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية)، تتذكّرهما اليوم، وتذيع شريطاً للزوجة، السيدة سيسيل كوهلر، “تعترف” فيه بأنها “عميلة للاستخبارات الفرنسية”، وبأنها قدمت إلى إيران “من أجل تهيئة ظروف الثورة وإسقاط النظام الإيراني”. ينقص من هذه المناورة الحكي عن “الذين تموّلهم السفارات”، لتكتمل حلقة الردّ البافْلوفي. وكذلك شرائط “الاعتذار من سماحة السيد”، من نقد أو مجرَّد تسجيل لحقيقة على الأرض. أو شرائط “الانشقاق” الموجّه، من مجموعة تهدّد مقام “حزب الله” الحاكم (“انشقاق” من لجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ، بعد قرار الحزب وقف التحقيق بمسؤولياته).
بخصوص الإعلام الغربي الداعم ثورة نساء إيران، والذي “تقف خلفه المخابرات الغربية”، ثمّة تضامن طبعاً، محدود. وجلّه من نساء مواطنات، فنانات، كاتبات، مجتمع مدني، حقوق إنسان. وبعض المقالات التي يكتبها إيرانيون منفيون، وتنشرها صحافة رصينة، ومقابلات على الشاشة، إلخ. لكن أيضاً، ثمّة ميلٌ غامض حيناً، بائن أحياناً، بأن ثورة نساء إيران هي ضد الحجاب وحسب. فيكون الاستنتاج البديهي، في زيادة شرّ الحجاب، وبأنه يجب الاستمرار بمحاربته في ديارنا، ومنعه قانوناً، في كذا أو كيت من الأمكنة العامة، أو حتى كل الأمكنة. وإلى ما هنالك من نغمة مقترنة بالإسلاموفوبيا، ومن أهم روافدها الدعوة إلى منع الحجاب، أو في أحوالٍ أقل سوءاً، اضطهاد صاحبته، أو منعها من السكن، أو العمل، أو أيٍّ من أوجه الاندماج في المجتمعات التي استقبلتها كمهاجرة، فالذي يحصل الآن في إيران لا يشبه غيره من انتفاضات، نسوية كانت أو مطلبية، أو سياسية بحتة، إلا، وبحجم أقل، في بلدة الباغوز السورية. وكانت هذه البلدة تحت سيطرة الدولة الإسلامية العابرة، قد فرضت على نسائها ارتداء النقاب الأسود الكلّي، تحت طائلة عقوبات وحشية. ومنذ أربع سنوات، في أولى لحظات هزيمة “داعش” في هذه البلدة، خرجت نساؤها في هَيْصة وفرح، ينْزعن النقاب عن وجوههن. أمر يشبهه، مع فرق بالعمر المديد و”المنهجية”، يحصل الآن في إيران، وينطلق من تجربة فريدة: ثورة بقيادة النساء، ابنة عصرها، وابنة بيئتها في آن واحد. تعرف ما يجول في العالم، بفضل الشبكة رغم التضييق عليها، وربما أيضاً بفضل مهاجريها… تواجه نظاماً ليس ابن عصره إلا بالسلاح والصواريخ والنووي، وكل الباقي يستحيل له العيش بغير القتل أو الاعتقال أو التعذيب. أربعون سنة على هذا المنوال، مع عهود “إصلاحية” حاولت ولم تنَل غير الإقامة الجبرية أو الإعدام أو المنفى أو الإقالة المقنّعة… تقود الثورة ضده نساء، لا مرشّحات وزارات ولا نيابات، وفي هذا العصر بالذات… فهذا لعمري، من التجارب الفذّة، الجديدة، التي ستظهر نتائجها تباعاً، شيئاً فشيئاً، بوتيرة النساء البطيئة، الدؤوبة، العميقة…
العربي الجديد
——————————–
في اختلاف الاحتجاجات الإيرانية عن سابقاتها/ عمر كوش
تتميز الاحتجاجات الإيرانية، على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني، في أنها تختلف عما سبقها من احتجاجات، ليس فقط من حيث أن نساءً يقدنها، أو من حيث اتساع نطاقها، وسرعة مشاركة قطاعات واسعة من الإيرانيين فيها، وانتشارها في غالبية المدن الكبيرة والصغيرة، بل من حيث أنها اندلعت لأسباب اجتماعية، ثم التقت فيها القضايا الاجتماعية مع السياسية والاقتصادية، بينما شهدت إيران في 1988 احتجاجات واسعة اعتراضاً على التعديلات الدستورية، وفي 1999 انطلقت احتجاجاتٌ كبيرةٌ قادتها الحركة الطلابية، ثم جاءت “الثورة الخضراء” عام 2009 على ما اعتُبر تزويراً لنتائج الانتخابات الرئاسية، التي فاز فيها أحمدي نجاد بولاية ثانية، في حين أن أسباب احتجاجات عامي 2017 و2019 تمحورت حول قضايا اقتصادية ومعيشية، وقادها مسحوقون وفقراء. أما الاحتجاجات الحالية، التي دخلت أسبوعها الرابع، فهي الأوسع انتشاراً، وقادتها نساء ضد فرض الحجاب القسري، ثم التفّت حولها معظم الفئات الاجتماعية الإيرانية، تعبيراً عن غضب واسع ضد النظام الذي ينظر إلى المسّ بنمط الحجاب الذي يفرضه على النساء انتهاكاً صارخاً لأشدّ رموزه الأيديولوجية، وذلك لأن الحجاب لم يعد رمزاً دينياً فقط بالنسبة إليه، إنما تحوّل إلى رمز سياسي هام، ويافطة لا يستطيع التخلي عنها أبداً.
وإذا كانت الاحتجاجات الحالية قد اتسمت بمشاركة أعداد كبيرة من الشابات والشبان فيها، حيث تصدّرت الشابّات صفوفها الأولى، فذلك لأن فئات الشباب هي الأكثر استعداداً من جهة الدوافع والمصالح للذهاب بعيداً في الحراك الاحتجاجي، وخصوصاً أن أكثر من نصف سكان إيران تحت الثلاثين، فيما النساء 63% من طلبة الجامعات، إضافة إلى الجيل الشاب الذي بات على درايةٍ بما يحصل في العالم الخارجي، بواسطة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومطّلع على تقدّم المجتمعات على مختلف الأصعدة، الاجتماعية والاقتصادية والفنية والحياتية، ولم يعد مقتنعاً بأوضاع مجتمعه المتردّية، وبالممارسات التي تريد إعادته إلى الوراء.
ويمكن القول إن الاحتجاجات الحالية تختلف عن سابقاتها في الأسباب والقضايا التي أدّت إلى اندلاعها وفي سماتها أيضاً، ولعل الأهم أنها لم تقتصر على فئة معينة أو إثنية محدّدة، على الرغم من أن مهسا أميني من أصول كردية، فالجانب الاجتماعي المحرّك لها، والذي استدعى تضامناً واسعاً في داخل إيران وخارجها، أساسه التطلّع والتوق إلى نيل الحرية، إلى جانب رفض القهر والتمييز ضد المرأة، حيث ارتبط الإجحاف بحقها بقضية تدخل السلطات الثيوقراطية في المسائل الحياتية للإيرانيات، التي تخصّ الحريات الفردية والخيارات والسلوكيات الشخصية، فضلاً عن التمييز القانوني حيالهن في شؤون الحياة. لذلك، شكّلت النساء محرّكاً للاحتجاجات ودافعاً لها، ورفعن شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، بوصفه المؤسّس للاحتجاجات، مع استعادة شعار “الموت لخامنئي… الموت للديكتاتور”، تأكيداً على الارتباط بين السياسي والاجتماعي، وعلى أن المعركة التي تخوضها المرأة ضد الحجاب القسري لا تنفصل عن التي يخوضها المجتمع لنيل الحرية والعيش الكريم. وبالتالي فإن خلع الإيرانيات الحجاب المفروض عليهن أو حرقه خلال الاحتجاجات جاء تعبيراً عن تمرّد عارم على سلطة النظام، وعن رفض منظومته الأيديولوجية. ولذلك واجهها بعنف مفرط، لأنه اعتبر أنها طاولت أمراً لا يمكن التسامح أو التساهل معه.
وسطّرت الإيرانيات سابقة في الاحتجاجات الحالية، تبدّت في ظاهرة قص شعورهن، تعبيراً عن استعدادهن للتخلي عن شيءٍ عزيز لديهن من أجل نيل حريتهن، وعن استعدادهن لدفع ثمن توقهن إلى الحرية مهما كان، الأمر الذي يشي بأن الحرية هي المحرّك الأساس لخلاص الأفراد من القهر، مثلما هي محرّك الشعوب على مرّ التاريخ. كما أن خروج المرأة بدون حجاب إلى الشوارع والساحات العامة يرمز إلى الرغبة في كسر طوق الهيمنة التي نسجتها سلطات النظام، وعلى السعي إلى تحطيم شبكات التحكّم والسيطرة على أجساد البشر، التي تسعى الأنظمة الشمولية والثيوقراطية إلى فرضها عليهم.
ولعل تصدّر النساء المشهد الاحتجاجي يقدّم دليلاً جديداً على أن القضية النسوية تحتل موقعاً مركزياً في الاعتراض على النظام، ويستدعي إدراج قضايا النساء في مركزية العمل السياسي، بوصفها محرّكاً هاماً يضاف إلى العوامل والدوافع الأخرى للوقوف في وجه سياسات الأنظمة الشمولية وممارساتها، الإيراني خصوصا، كما يستدعي من القوى السياسية المعارضة إعادة النظر في مواقفها وأجنداتها السياسية، فالنساء أصبحن صانعات حراك احتجاجي جديد في البلاد.
وبالنظر إلى ما تميزت به الاحتجاجات الحالية، كان التضامن العالمي واسعاً معها، وخصوصا من ناشطين ومثقفين وفنانين ورياضيين، ومنظمات المجتمع المدني، ليس لأن حركة الاحتجاج ضد ارتداء الحجاب، أو ضد الحجاب الإسلامي، إنما ضد فرضه على النساء، أي هو تضامن مع الحرية بمعناها الواسع، أي حرية الإنسان في أن يقرّر تدبير شؤون حياته الشخصية في المأكل والملبس والنوم، من دون أي رقيب من أي نوع كان.
ويُظهر ما يجري في إيران مدى احتقان كتلة شعبية كبيرة، مأزومة وقلقة، ويعبر عن احتجاج ورفض من شرائح واسعة من الإيرانيين. ولعل التكهنات بأن مآل الحركة الاحتجاجية لن يختلف عما سبقه من حركات في سنوات سابقة لا تمتلك أهلية أو وجاهة، إذ من الصعب الركون إليها، بالنظر إلى أن المستقبل يبقى على الدوام مفتوحاً على شتى الاحتمالات والآفاق، إضافة إلى أن منطق المقايسة الذي تعتمده ليس صالحاً لكل مكان وزمان، ومن المهم أخذ الاختلافات والتباينات، واستخلاص العبر والدروس للمضي، والتعويل على إشراقة شمس الحرية.
العربي الجديد
———————————-
المرأة والحياة والحرية/ كمال عبد اللطيف
يحمل عنوان هذه المقالة واحداً من أبرز شعارات التظاهرات، التي شملت منذ أزيد من شهر حواضر عديدة في إيران، بسبب حَدَثِ اعتقال الشابة مَهْسَا أميني (22 عاما) ووفاتها، وقد اتّهمت بإخلالها بقواعد اللباس. ونتصوَّر أن هذه التظاهرات، وإن كانت ترتبط في بعض أوجُهها بما ذكرنا، فإنها تعلن، في الوقت نفسه، أن التناقضات الاجتماعية والسياسية القائمة اليوم داخل المجتمع الإيراني تتجاوز الحدث الذي ذكرنا، لتشير إلى اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع. إنها تُؤشّر إلى ميلاد قيم جديدة، مختلفة تماماً عن قيم قواعد اللباس والحجاب، ومُختلف أشكال التمييز بين الرجال والنساء، وبين المواطنين، في مجتمع أكثر من نصف سكانه من النساء، وأغلبية شبابه من الجيل الجديد، الذي تربّى في فضاءات الانفجار المعلوماتي والثورة الرقمية زمن التعولم الكاسح. وهناك مظاهر عديدة في الاحتجاجات المتواصلة تكشف أن المحتجّين كسروا حواجز الخوف لحظات تظاهرهم، حيث عملوا على تمزيق الحجاب والتظاهر برؤوسٍ عاريةٍ وشعر مقصوص. كما حرقوا صور المرشد وتغنّوا بالمرأة والحياة والحرية. ولم ترعبهم كثافة حواجز شرطة الأخلاق، ولا مواقف النظام وطرق مواجهته العنيفة للمتظاهرين، واتهامهم بتنفيذ مؤامرات خارجية.
يعي المحتجّون، وهم في أقصى حالات غضبهم، أن إيران ليست جزيرة معزولة، كما تعي أجهزة النظام الأمنية والإيديولوجية أن شعارات الدولة الإسلامية لم تعد تنال قَبول الشباب الذي يتطلع اليوم بعد شيخوخة الثورة، إلى بناء مجتمع منفتح وأكثر حرية. وهم يعرفون في الوقت نفسه أن إيران تتصوَّر نفسها منذ ما يزيد عن أربعة عقود بؤرة ثورية حاضرة، بأعينها وأذرعها وخطاباتها، في الشرق والغرب، وهي تُعَدُّ اليوم قوة إقليمية فاعلة، ليس لأنها تخترق العراق، وتنظر إليه باعتباره جزءاً من جغرافيتها وتاريخها الثقافي، كما أصبح يتكرر ذلك، في مواقف وخطب كبار مسؤوليها. إضافة إلى أنها تُعَدّ اليوم لاعباً مركزياً في دمشق وبيروت واليمن، وذلك في سياق تداعيات الثورات العربية وما قبلها.. ولا نتردّد في القول إنها تعمل في موضوع سياستها الخارجية على بناء خيارات ومواقف سياسية تتجه فيها نحو الشرق، حيث حَسّنت علاقتها مع روسيا والصين.. وذلك في سياق تعزيز خياراتها في موضوع البرنامج النووي.. كما يعي المحتجون أن الأزمات المتلاحقة التي يعرفها نظامهم السياسي، تتواصل منذ سنوات وبدون انقطاع، بحكم الأدوار والمواقف الصانعة لمآلات ثورتها، مآلات دولة الفقيه، التي عَمِل نظامها السياسي على ترسيخها.
واجه المرشد الأعلى للجمهورية احتجاجات المتظاهرين، معتبراً أن كل ما يعرفه الاقتصاد الإيراني اليوم من تراجع، سببه العقوبات التي يفرضها الغرب وأن اقتصاد المقاومة، الذي تلتزم به الدولة الإيرانية يُشكّل مدخلاً مناسباً لمقاومةٍ تشمل المجتمع والثقافة والقيم، مقاومة يواجه بها المجتمع الإيراني، حسب تعبيره، الجبروت الغربي. وقد تَمّ ربط الاحتجاجات الجارية بمسلسل التآمر على الجمهورية الإسلامية من طرف من أطلق عليهم المرشد الأعلى أعداء الداخل والخارج، وتَوَعَّدَهم بالمواجهة الصارمة. برز ذلك في حملات القمع الشرسة، التي ترتب عنها قتلى وجرحى من قِوى الأمن ومن المتظاهرين. ولم تكتف أجهزة الأمن بهذا، بل حجبت أيضاً تطبيقاتٍ عديدةً من فضاء التواصل الرقمي، وأوقفت بعض منصّات التواصل الاجتماعي، التي كانت تساعد في عمليات التنسيق بين الشباب الإيراني الغاضب والمحتج.
سجّل المهتمون بتطوّر أنماط الاحتجاج السياسي والاجتماعي في المجتمع الإيراني أن الاحتجاجات الأخيرة تستوعب مجموعات سياسية وفعاليات مدنية من خارج التيارين السياسيين المألوفين في المشهد السياسي الإيراني، الإصلاحي والمحافظ. وقد منح تصدّر الإيرانيات للتظاهرات الجديدة، تعاطف نساء عديداتٍ في العالم أجمع، الأمر الذي لم يكن يحصل بالقوة نفسها في الاحتجاجات السابقة، وخصوصا أن أشكال العنف التي جُوبِه بها المتظاهرون، حيث امتلأتٍ الشوارع بدوريات شرطة الأخلاق، الأمر الذي أجَّج التظاهرات، ودفع المتظاهرين إلى رفع شعارات جمعت بين البعدين الثقافي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ولم يعد من الممكن الفصل بين الحدث المُفَجِّر للاحتجاج وأجهزة الدولة وخياراتها. نتصوّر أن تمزيق النقاب الأسود وتصدُّر النساء التظاهرات، يكشف صوراً جديدة في تاريخ احتجاجات المجتمع الإيراني.. نتبيّن ذلك في الشعارات الرئيسية التي تغنّى بها المتظاهرون، وأبرزها شعار المرأة، الحياة، الحرية، وشعار الموت للديكتاتور، وكذا شعار “لا نريد الجمهورية الإسلامية”. وقد فتحت هذه الشعارات جبهة النقاش السياسي على قضايا عديدة، يرتبط بعضها بالجندر، وبعضها الآخر بالأعراق، وكثير منها يرتبط بقضايا الإصلاحين، السياسي والديني، حيث وصل الأمر إلى درجة المطالبة بثورة تُمكِّن من إطاحة رجال الدين.. وتؤشّر هذه الشعارات إلى ميلاد ثقافة جديدة، ويمكن أن تُقْرَأ كإرهاصات أولى لميلاد مشروع ثورة ثقافية وسياسية.
نقرأ معركة الحجاب في الاحتجاجات الإيرانية باعتبارها معركة مجتمع وثقافة، إنها تعبيرٌ عن الغضب الذي يزداد اتساعاً في قلب المجتمع، وهو غضبٌ لا تعبر عنه فقط عمليات تمزيق الحجاب، إنه أكبر من ذلك.. إنه غضبٌ نتبيّن ملامحه بجلاء في حركة النساء، وفي حركة مجموع الشباب المشارك فيها، حيث تجري عمليات مواجهة حاشدة لخيارات نظامٍ يواصل قهر النساء والرجال. ومن المؤكّد أن الواقع المحلي والإقليمي لإيران اليوم أكثر تعقيداً مما نتصوَّر، إلا أن معاينة نظام الدولة والمجتمع تُبرز أن مواصلة تمركز السلطة في يد المحافظين أدّى إلى تَشَكُّل نظام سلطوي يضع فيه المحافظون أيديهم على مختلف السلطات في النظام السياسي الإيراني. ومقابل ذلك، يعرف الشارع الإيراني إحباطا كثيرا، تتصاعد نسبة الفقر والبطالة وينتشر الفساد، ترتفع أدوار شرطة الأخلاق، وتوضع القيود المُحاصِرة للحرّيات العامة والخاصة على الشباب.
يساهم تواتر حصول الاحتجاجات في عملية تراكم الغضب داخل المجتمع الإيراني، ويقف دون اهتمامات الإيرانيين وتطلعاتهم، حيث تتّجه الدولة إلى فتح جبهات خارجية، وتتخلى مقابل ذلك عن القضايا ذات الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية. ويبدو للملاحظ أن إيران تعمل على تعزيز مجال سياستها الخارجية أكثر من العمل على حلّ التناقضات والصراعات المتصلة بأحوال المجتمع الإيراني في الداخل.. ولهذا الخيار نتائجه التي يمكن أن نُعاين بعض أوجُهها في أشكال الصراع والاحتجاج كما يعكسها الشارع اليوم.
العربي الجديد
————————
إصلاحيون ومتشددون: هل تعاود إيران سياسة العصا والجزرة لإنهاء الاحتجاجات؟/ كريم شفيق
لم تعد الانتخابات التي تتم هندستها، وتبادل الأدوار بين الإصلاحيين والمتشددين، لها فائدة، أو تحقق نتائجها، كما في السابق، لا سيّما في ظل القناعة التامة بأنّ المرشد أمسى مصدر السلطة وهو صاحب القرار النهائي، بل والمسؤول الفعلي عن المآلات السياسية والاقتصادية والأمنية.
مع أربعينية الشابة الكردية الإيرانية، مهسا أميني، والتي قضت بعد ساعات من اعتداء أفراد دورية شرطة الأخلاق عليها، على خلفية ما اعتبروه “حجاباً سيئاً”، فإنّ النظام، في طهران، بات يخرج من نطاق التقليل من شأن الاحتجاجات، التي تتزايد وتيرتها دون أيّ مؤشر على انحسارها، إلى تهديد حلفائه، لا سيّما المحسوبين على التيار الإصلاحي.
خشية النظام، أو بالأحرى إعلانه الصريح رفض دعم الحراك الاحتجاجي على لسان النخبة الإيرانية، السياسية والثقافية والرياضية، يؤشر إلى اعترافه، ضمناً، بوجود أزمة سياسية تلاحق نظامه، بدلاً من الاعتماد على سردية الدور المشبوه للقوى الأجنبية في التعبئة المجتمعية.
ومع تنامي التظاهرات في معظم مدن وأقاليم في البلاد، بل وقدرتها على المناورة، وكسب تأييد أطراف عدة داخل قطاعات متفاوتة، انبعث متغير مهم ولافت، اضطر المسؤولون في إيران إلى المكاشفة عن جزء من الأزمة. لكن موقف الحكومة يشي باضطرابات وعدم وضوح تام في مسألة التعامل (أو إيجاد بدائل وآليات) مع الأحداث المتفاقمة.
عدوى الاحتجاجات، التي انتقلت إلى الشوارع والمدارس والجامعات، حققت نجاحات مؤثرة على مستوى تعرية عنف الملالي وفقدانه الشرعية والفعالية، فضلاً عن عدم قدرة القمع، الذي بلغ درجاته القصوى، على إنهاء موجة الغضب الهائلة أو تحقيق أفق آخر.
كما أنّ قيادات التيار الإصلاحي لم تنأَ بنفسها عن الأحداث التي جرت منذ وفاة أميني. بينما كشفت عن رفضها التعاطي الأمني ليس مع الحادث الأخير، فقط، إنّما تعميم الإدارة الأمنية للأوضاع السياسية والمجتمعية والثقافية في إيران، وهو ما فرض اتجاهاً متشدداً ورؤية منغلقة لا انفتاح فيها.
فخخ حادث مقتل أميني وتداعياته المتواصلة، حتى اللحظة، الصراع بين التيارين الأصولي والمتشدد.
ومع بدايات الأزمة، تحديداً مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2022، عقدت جلسة في جامعة طهران، ضمت أكاديميين (نحو 90 أستاذاً جامعياً)، فضلاً عن مسؤولين سابقين وحاليين، منهم وزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف، وأمين المجلس الأعلى للثورة الثقافية، الشيخ سعيد رضا عاملي.
وفي هذه الجلسة، التي استمرت نحو أربع ساعات، تباينت مواقف الأكاديميين والسياسيين تجاه الأزمة الحالية. لكن غلبت على الحاضرين انتقادات مباشرة للرؤية الأمنية، والتعامل الخشن، مع مجمل الأوضاع التي يجري فرضها قسراً، إضافة إلى المطالبة بضرورة الإفراج عن الطلبة المعتقلين.
بعض المحسوبين على التيار الأصولي، أكدوا أنّ هناك قوى إقليمية (تمت الإشارة للسعودية وولي العهد محمد بن سلمان)، ودولية، تعادي الجمهورية الإسلامية وتعمد إلى جعلها منبوذة ضمن سياسة التخويف من “إيران” “والثورة الإسلامية” و”الإسلاموفوبيا”. وذلك كرد فعل على رفض الملالي الالتحاق في تبعية للغرب والولايات المتحدة.
وفي حين أكد وزير الخارجية الإيراني السابق، أنّ فلسفة الحكم تتجه، أكثر فأكثر، إلى فرض سياساتها وقيمها بالإكراه والقوة، فإنّ أمين المجلس الأعلى للثورة الثقافية، عزا الاحتجاجات القائمة إلى تغييب جيل كامل من الإيرانيين الذين لم يجدوا وسيلة ثقافية وإعلامية تنقل لهم قيم “الولي الفقيه”. وانتقد رضا عاملي وزارتي الإرشاد والتربية التعليم، وكذا هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمية.
كما اعتبر رئيس كلية القانون والعلوم السياسية في جامعة طهران، إبراهيم متقي، أنّ هناك “أطراف تسعى للانتقام من الجمهورية الإسلامية”، مشيراً إلى أنّه “قبل خمسة أعوام تحدث محمد بن سلمان (ولي العهد السعودي) عن إدخال الأزمة إلى الداخل الإيراني. واليوم تمكنت أموال بن سلمان من زعزعة الأمن في إيران”.
فخخ حادث مقتل أميني وتداعياته المتواصلة، حتى اللحظة، الصراع بين التيارين الأصولي والمتشدد. هذا الصراع الذي يعود إلى متن السياسة الإيرانية بعد عمليات إجهاض وتأميم محمومة من قبل الأطراف القريبة من المرشد والحرس الثوري وقد تمكنوا من التمفصل في مؤسسات الدولة وأجهزتها، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وقد اتخذ القياديان في التيار الإصلاحي، وهما تحت الإقامة الجبرية، مير حسين موسوي ومهدي كروبي، مواقف متشددة، بخلاف الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي. إذ تجاوزت مواقفهما فكرة المحاسبة للقتلة وتقديمهم للعدالة. وقال كروبي: “لقد فرض أسلوب الحكم أعباء ثقيلة على البلاد والشعب في الساحتين المحلية والدولية”. وتابع: “هذا البلد ليس ملكاً مطلقاً لفرد، وليس من المقرر أن يذبح كل شيء، بما في ذلك الشريعة والقانون والأخلاق، تماشياً مع الحكم الفردي”.
ولطالما كانت الاحتجاجات في إيران مجالاً لتصفية الحسابات بين مكونات النظام الإيراني من الإصلاحيين والمتشددين. فقد شن الإصلاحيون “هجوماً عنيفاً على حكومة رئيسي من أجل إضعاف قوته”، وفق الباحث المتخصص في الشأن الإيراني، محمود حمدي أبو القاسم.
ويتابع أبو القاسم لـ”درج: “يحاول الإصلاحيون استعادة الزخم الذي يؤهلهم للحضور السياسي (أو المنافسة)، مجدداً، بعدما تم استبعادهم، بصورة كاملة، من المؤسسات المنتخبة، سواء مجلس الشورى بعد انتخابات شباط/ فبراير 2020، أو انتخابات الرئاسة في حزيران/ يونيو 2021”.
ومن ثم، هدد مسؤولون في الحكومة الإيرانية من تداعيات الاصطفاف مع الاحتجاجات، والتصعيد ضد الإجراءات السياسية والأمنية. وهو ما ينذر بإنهاء النظام برمته سياسياً. وقال محمود حسين بور، محافظ مازندران، شمال إيران، إنّ “البعض يسأل ماذا سيحدث في المستقبل؟ أقول: “على الجميع، الإصلاحيين والأصوليين، أن يفتحوا آذانهم، إذا حدث شيء ما للنظام فلا يعتقد أيّ شخص أنّه سينجو، بل سيتم شنقه قبل غيره”.
إذاً، فالاحتجاجات على مقتل أميني تبدو نقطة تحول في التعبئة الاجتماعية، خلال هذه المرحلة، وفق تحليل أبو القاسم. ويردف: “المحتجون في إيران، أظهروا تحدياً طال أمده للنظام. وبعد أكثر من أربعين يوماً على اندلاع التظاهرات، فإنها ما تزال تشهد زخماً مستمراً. كما أنّ النساء والشباب (الفئات أقل من عشرين عاماً) يظهرون تحدياً مباغتاً للسلطة وللقواعد التي حاول تأطيرها نظام الولي الفقيه”.
واللافت أنّ المسيرات الاحتجاجية تعمد إلى التنقل في مساحات غير مكشوفة، أو تقليدية، بينما تستخدم آليات وتكتيكات جديدة لتفادى المواجهة مع قوات الأمن. ومستفيدة من إمكانية الوصول إلى الإنترنت الذي وفرته شركة “ستار لينك”، بعدما رفعت الولايات المتحدة القيود على الوصول إلى خدمات الانترنت الفضائي.
وفي ما يبدو أنّ النظام لا يتورع عن استخدام القوة والبطش في مواجهة الاحتجاجات، بل وإدارته للأحداث من خلال الحيل الأمنية. وبالتزامن مع تصاعد الاحتجاجات في أربعينة الفتاة الكردية الإيرانية، وقع هجوم مسلح وغامض في مدينة شيراز على يد “داعشي/تكفيري”، بحسب وصف الصحف المقربة من الحرس الثوري. وذلك قبل تبني التنظيم الإرهابي الهجوم على حسابه في “تلغرام”.
ووظفت الصحف المقربة من الحرس الثوري، ومنها “كيهان” و”جوان”، الحادث لافتعال صلة عضوية بينه وبين التظاهرات التي تشكل بيئة حاضنة لتسلل العناصر “الإرهابية” بحسب النظام الذي يجهد لإيجاد وسيلة لإجهاض الاحتجاجات ضده.
إنها محاولة لتكرار سيناريو سوريا لقمع الاحتجاجات ضد النظام بوصمها بالتطرف.
فيما طالب المرشد الإيراني، علي خامنئي، الإيرانيين بضرورة “الاتحاد” إثر الهجوم، متوعداً المتورطين بأنّهم “سيعاقَبون بالتأكيد”.
وفي بيان بثه التلفزيون الرسمي، قال المرشد الإيراني: “علينا جميعاً التصدي للعدو وعملائه الخونة أو الجهلاء. يجب على أجهزة الأمن والقضاء والنشطاء في مجال الفكر والشعب الاتحاد ضد الاستخفاف بأرواح الناس وأمنهم ومقدساتهم”.
ويكاد لا يختلف موقف الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، عن المواقف السابقة التي عمدت إلى الاستعانة بالحادث للتشويش والتعمية على الاحتجاجات التي هي جزء من مؤامرة يقودها “أعداء” الجمهورية الإسلامية.
وقال رئيسي: “تظهر الواقعة أنّ أعداء إيران، بعد فشلهم في إحداث انقسام في صفوف الأمة الموحدة، ينتقمون بالعنف والإرهاب. هذا الشر بالتأكيد لن يمر دون حساب، وهيئات الأمن وإنفاذ القانون ستلقن مخططي هذا الهجوم درساً قاسياً”.
كما أنّ تفاقم الأوضاع داخل الجامعات الإيرانية، اضطر الحكومة إلى وضع ضوابط أمنية متشددة من خلال عسكرة الجامعات. حيث إنّ هناك جملة اعتبارات سيتم تحديدها، من جانب ممثلين عن الشرطة (والشرطة السيبرانية) والقضاء، واستخبارات الحرس الثوري، ضمن اشتراطات قبول الطلبة في الجامعات، وفق ما أعلن عبد الرسول بور عباس، رئيس منظمة “سنجش” التابعة لوزارة العلوم الإيرانية.
وعلى ما يبدو، أنّ استمرار الحراك في ظل الظروف المحيطة به، محلياً وإقليمياً ودولياً، يجعل النظام قلقاً بشأن تزايد فرص صعود هذه الموجة بالقدر الذي قد يهدد بقاء النظام. وهو ما أرغم النظام على تنفيذ الإقامة الجبرية ضد بعض العناصر، مثل فائزة رفسنجاني، النائبة السابقة في البرلمان وابنة الرئيس الراحل أكبر هاشمي.
وبالعودة إلى الباحث المتخصص في الشأن الإيراني، فهناك انعطافة من جانب النظام في ما يخص التعاطي مع التظاهرات. فيسعى إلى “بدء حوار على الأرض مع المحتجين، ومحاولة تصفية الغضب الجماهيري. وهو ما ظهر في لقاءات المسؤولين مع أسرة أيقونة الاحتجاجات مهسا أميني، واجتماع الرئيس مع النخب والإعلاميين من التيارات والانتماءات، من أجل كسب موقفهم، وتوجيه خطابهم نحو التهدئة بدلاً من التصعيد”.
ويختم: “الحراك الاحتجاجي فرض نفسه بقوة على السلطة. وكشف عن متغيرات تحتاج للتهدئة، حتى لا يصل إلى ثورة كاملة، تطيح بحكم الولي الفقيه. وأيّ مبررات غير الإصلاح لن تكون مقنعة للشارع الذي يبدو أنه تمرد على قواعد اللعبة التقليدية التي حصره فيها النظام، على مدى أكثر من أربعة عقود”.
ولم تعد الانتخابات التي تتم هندستها، وتبادل الأدوار بين الإصلاحيين والمتشددين، لها فائدة، أو تحقق نتائجها، كما في السابق، لا سيّما في ظل القناعة التامة بأنّ المرشد أمسى مصدر السلطة وهو صاحب القرار النهائي، بل والمسؤول الفعلي عن المآلات السياسية والاقتصادية والأمنية.
درج
—————————-
عن صور الإيرانيات الجميلة.. والمحزنة/ وليد بركسية
لا يمكن تبديد الشعور برومانسية الصور الآتية من إيران لنساء يتحدين قمع السلطة الدينية بخلع الحجاب أمام الكاميرات، أو بقصّ شعورهن وإظهار الألوان في ملابسهن، رفضاً للأسود المفروض عليهن منذ العام 1979. وفيما تتكرر عبارة “صورة أيقونية” يومياً في مواقع التواصل ووسائل الإعلام، تحيل المقارنات إلى صور مماثلة ظهرت خلال السنوات الماضية ووصفت أيضاً بالأيقونية.. لكن إلى أي تغيير أفضت؟
في أربعينية مهسا أميني، الشابة التي قتلت على يد “شرطة الأخلاق” في أيلول/سبتمبر الماضي إثر اعتقالها بتهمة ارتداء الحجاب بشكل فضفاض، ظهرت صورة لشابة اعتلت سيارة أمام الآلاف ممن توافدوا إلى مقبرة آيجي في بلدة سقز، حيث دفنت أميني (22 عاماً)، رغم التحذيرات الأمنية والتهديدات التي لاحقت العائلة، وكل من أراد إحياء ذكرى مرور أربعين يوماً على الجريمة البشعة.
This is today in Iran. She could get killed for standing up unveiled but she’s not risking her life to just get rid of compulsory hijab. She wants to get rid of a regime which killed #MahsaAmini and thousands of innocent people for 40 years. Enough is enough.#مهسا_امینی pic.twitter.com/UQQk2COxiX
— Masih Alinejad 🏳️ (@AlinejadMasih) October 26, 2022
الصورة التي نشرتها وكالة “فرانس برس” جميلة حقاً بالمفهوم الصحافي. امرأة شابة أمام آلاف من الحشود “على مد العين والنظر” في تحدٍّ لنظام شمولي يقمع الأفراد باسم الدين. لكن الصورة، مثل صور كثيرة قبلها، تبقى في إطار العاطفة، ربما لأن الحدث نفسه يقع في منطقة رمادية وسطى بين الثورة بمفهومها الأشمل والاحتجاجات بمفهومها اللحظي. كما أن الصورة ومثيلاتها أيضاً تبدو في المجمل ردَّ فعل على حدث مستمر. وهي تختلف بذلك عن صور أخرى كتلك الآتية من سوريا إبان سيطرة تنظيم “داعش” على مناطق واسعة فيها.
على سبيل المثال في العام 2015 التقط الصحافي المستقل جاك شاهين، صوراً لنساء يخلعن العباءات السّود ليظهرن بثياب مزركشة وألوان زاهية. وكانت تلك الصور تخليداً للحظة الخروج من الأراضي الداعشية نحو مناطق أخرى لم تبلغها “الخلافة” التي أزالت الحدود بين سوريا والعراق مؤقتاً، وامتلكت بذلك أثراً عاطفياً بسبب الحرية الفعلية التي امتلكتها النساء في تلك اللحظة، ويقينهن بأنهن نجَون من التنظيم. أما الصورة الآتية من إيران، ورغم أنها مفعمة بالمقاومة، فإنها تذكر أيضاً باستمرار القمع الديني ونظامه الذي يبدو حتى الآن صامداً، ما يسبغ عليها جانباً محزناً… هل ثمة أمل فعلاً؟
Portrait of freedom.
July 2015
A woman takes off her #burga as she fled from ISIS area to a safe Kurdish area.
Snapshot from a video of Jack Shahine pic.twitter.com/BI8OzckYAP
— Athená (@Athena_Alkis) December 20, 2020
كما أن صور السيدات السوريات والعراقيات الهاربات من الخلافة الداعشية، وصوراً موازية لرجال وأطفال، جسّدت معنى الخلاص من القمع الداعشي. وفي تلك اللحظة تجسدت مشاعر الفرح والتمرد معاً، إذ كان اللباس الأسود الذي أُجبرت النساء على ارتدائه، مجرد خدعة تبعد العقاب عن صاحباته، من السلطة الغاشمة، لا تأييداً لها أوالتزاماً بقواعدها، وانتهين بالتحرر منها، وإن ليس بفعل ثورتهن وحدهن. نساء إيران يقمن بالفعل المتمرد نفسه، يومياً، منذ عقود، إلا أن استمرار قمعهن طوال تلك الفترة، هو بالتحديد ما يجعلها محزنة أكثر منها مُبهجة.
ربما تصبح الصور الإيرانية، أيقونية وتاريخية مكرّسة في المستقبل، في حال حصول تغيير سياسي كنتيجة للاحتجاجات الحالية. لكن ذلك يبدو الآن غير مرجح، نظراً لوتيرة الاحتجاجات نفسها التي تراجعت في الأيام الأخيرة قبل أن تعاود البروز مجدداً في أربعينية أميني. لكنها، في هذه اللحظة، تبقى صوراً “جميلة”، مثل لقطات تكسير تماثيل حافظ الأسد وحرق صور بشار الأسد في سوريا، قبل عشر سنوات، والتي أعطت أملاً لحظياً سرعان ما تبدد، وبات يُنظر إليها اليوم بحسرة، عند تذكّر الحدث السوري الذي تحول إلى صراع مجمّد، ضمن فيه نظام الأسد البقاء في السلطة بسبب الحل الأمني الذي اتبعه وعنفه المفرط من دون رد فعل حقيقية من المجتمع الدولي. الإيرانيات يحظين بتأييد العالم.. لكن، إلى أي مدى سينصرهن العالم حقاً؟ هل ينلنَ ما نالته النساء المحررات من تنظيم “الدولة الإسلامية” بعدما حاربته الدول الكبرى نفسها التي لم تقطع شعرة التفاوض مع النظام الإيراني؟
لعل خصوصية الصور الإيرانية اليوم تكمن في تصدّر الجيل “Z”، وهم الأفراد الذين ولدوا تقريباً بين منتصف التسعينيات ونهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، كمحرّكين للاحتجاجات. إلا أن غياب القيادات والتنظيم الحقيقي وخطة العمل، تجعل الاحتجاجات مشابهة للربيع العربي الذي لم يُفضِ إلى ما أراده ثواره. وفيما يثير ذلك إعجاب الجيل الأكبر سناً، من فلاسفة وكتاب وصحافيين ومثقفين، داخل إيران وخارجها، إلا أن ذلك الإعجاب يبدو شديد العمومية ويأخذ صيغة حوار بين الأجيال أكثر منه صيغة ثورة، وهو ما تبرزه كتابات لمثقفين إيرانيين في وسائل إعلام غربية خلال الأسابيع الأخيرة.
وما يزيد في عمومية تلك الصور أنها صور بلا أسماء. صُور تتشابه، بطلاتها وأبطالها لا يحظون بمجد انتصارهم، يُقمعون ولا يبلغون الاحتفال. هم أبطال في ديستوبيا خاصة بهم. وحتى ضمن الحيز الإيراني نفسه، يعتبر ذلك أقل من المتوقع. إذ برزت أسماء المحتجين، في سنوات سابقة، بما في ذلك العام 2017، عندما كانت الناشطة، ويدا موحد، تقود الاحتجاجات، بعدما اعتلت صندوقاً ضخماً وسط حشود غفيرة في شارع الثورة بطهران، قبل نزعها حجابها الأبيض ورفعه فوق عصا طويلة، ملوحة به للأعلى، في مشهد كررته النساء داخل إيران وخارجها قبل أن يذوي من الذاكرة الجمعية، فيما اعتقلت صاحبته لاحقاً.
#IranProtests: Hundreds of thousands across #Iran chant “We don’t want Islamic Republic!” & “Clerics shame on you, let go of our country!” Woman in video took off her #Hijab to protest Islamic dress code imposed on Iranian women since 1979. #IStandWithHer pic.twitter.com/CHNwrTsWPA
— Mark Vallen (@mark_vallen) December 29, 2017
وإن كان المحتجون الحاليون لا يركنون إلى مصطلحات إصلاح النظام، مثلما كان المحتجون من أجيال سابقة يفعلون، فإن محتجي الربيع العربي لم يدعوا للإصلاح أيضاً بل للتغيير الأشمل تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، لكن الرغبة في التغيير وحدها لا تكفي. كأن الاحتجاجات في الشرق الأوسط تبقى في إطار ردّ الفعل، ليس فقط على السيستم السياسي السائد، بل على الأهل والعائلة، من قِبل جيل شاب يرفض طريقة التفكير القديمة ويحاول البحث عن ذاته ضمن الفضاء العام، وينظر لنفسه كضحية، حسب وصف مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية، إذ حُرم من اختيار أسلوب حياته وفُرض عليه العيش في ظروف اقتصادية واجتماعية خانقة.
أما تظاهرات الطلاب العام 1999، والثورة الخضراء العام 2009، التي احتجت على تزوير الانتخابات الرئاسية، وكذلك تظاهرات العامين 2017 و2019 ضد السياسات الاقتصادية للحكومة، فدعت في الغالب إلى إصلاحات داخل النظام. وبحسب “صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن انعدام القيادة حالياً يجعل من الصعب على النظام قطع رأس الحركة. ففي السابق، أدى اعتقال زعيمَي المعارضة، مير حسين موسوي ومهدي كروبي، إلى إنهاء الحركة الخضراء عملياً. لكن غياب القيادة أيضاً يجعل الاحتجاجات أقل فاعلية.
كأن شيئاً لا يتغير في الشرق الأوسط؟ هي نتيجة يكاد يكرسها العقد الماضي الذي بدأ مُبشّراً، مع ثورات الربيع العربي التي لم تؤدّ إلا لتكريس القمع وإعادة تدويره، سواء بوجوه جديدة كما في تونس ومصر، أو بالوجوه نفسها كما في سوريا. وفي إيران، مازال النظام قوياً ومتماسكاً، ويفاوض الغرب على اتفاق نووي جديد، والعقوبات المفروضة عليه لا تفضي إلى جديد، بعدما رزح نظام الملالي تحت عقوبات خانقة منذ سنوات، وبات معتاداً عليها وبارعاً في التملص منها.
المدن
————————
“عزيزتي” الجمهورية الإسلامية: لهذا السبب سوف تخسرين أمام جيل “الزي”/ مويتري موخوبادهياي
اليوم أعرب أبناء الجيل “زي” عن رفضهم لتلك القوانين والأعراف، فهم يرغبون في أن يكونوا مثل باقي المراهقين وباقي النساء في سائر أنحاء العالم. يريدون حقوقاً وحرياتٍ للجميع.
“من أجل حرية الرقص في الشوارع
من أجل تبادل القبل بين العشاق (على الملأ)
من أجل أختي وأختك وكل أخواتنا
من أجل تغيير هذه العقول العقيمة
من أجل محو عار الفقر
من أجل الحياة العادية التي نتوق إليها
من أجل النساء والحياة والحرية
من أجل الحرية (آزادي)”
هذه الكلمات ليست مقتبسة من أغاني بوب مارلي، وإن كان العنوان مأخوذاً، دون حرج، من عنوان ألبومه الذي يحمل الاسم نفسه. لم يكن بوب مارلي ليعترض على ذلك، فهو يعلم أن أغاني الحرية تتحدى الإستبداد. في الحقيقة، هذه الكلمات مقتبسة من أغنية الفنان الإيراني شروين حاجي بور “براي”، والتي تعني بالفارسية “من أجل أو بسبب”، التي تتألف كلماتها بالكامل من تغريدات ومنشورات كُتبت على منصات التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت فيما بعد النشيد “الرسمي” لانتفاضة الإيرانيات بعد مقتل مهسا أميني خلال احتجازها في مركز للشرطة في سبتمبر/أيلول من هذا العام.
يتردد صدى الأغاني التي تعبر عن كافة تطلعاتنا إلى الحرية في صفوف كثير من الحركات في مختلف أنحاء العالم على مدار السنوات الثلاث الماضية.
لكن الاحتجاجات التي تشهدها شوارع المدن الإيرانية في مختلف أرجاء البلاد والتي تقودها الفتيات الصغيرات، غالباً من طالبات المدارس، مع مشاركة أشخاص من مختلف التوجهات، تتميز بطابع خاص، وذلك لأنها تتألف من جيل كامل من الشباب بعضهم ليسوا سوى مجرد مراهقين يطالبون بإعادة النظر في الأسس الفعلية للسلطة وذلك النظام الديني ونخبه الحاكمة، أولئك الرجال الذين تجاوزت أعمارهم التسعين.
“من أجل الحياة العادية التي نتوق إليها”
يعرف معظم القراء الآن جيداً كيف بدأت هذه الانتفاضة وكيف تحولت إلى سلسلة من الاحتجاجات التي حشدت الإيرانيين، ومنحتهم منفذاً للتعبير عمّا يشعرون به من غضب وإحباط وحزن. لكنني أرغب عن قصدٍ في التحدث عن الشابات اللاتي ضحين من أجل أن يتمكن كثيرون من التطلع إلى الحرية.
ذهبت مهسا أميني، وهي شابة تبلغ من العمر 22 عاماً من محافظة كردستان في غرب إيران، في زيارة إلى أقارب لها في طهران لكن شرطة الأخلاق ألقت القبض عليها في 13 سبتمبر/أيلول من عام 2022 بسبب عدم ارتدائها الحجاب بالطريقة الملائمة التي تفرضها الحكومة.
توفيت مهسا في 17 سبتمبر/أيلول أثناء احتجازها لدى الشرطة، بالطبع بعد تعرضها للتعذيب والضرب. لكن السلطات أدعت أنها أصيبت بنوبة قلبية نتجت عن حالة مرضية سابقة. اندلعت الاحتجاجات أولاً في محافظة كردستان غرب إيران ثم سرعان ما امتدت إلى المحافظات الأخرى مع الكشف عن حالات وفاة كثيرة أخرى لنساء داخل مراكز الاحتجاز.
وفي مقطع فيديو نشر على موقع “تويتر” تظهر نيكا شاكرمي (16 عاماً) وهي تحرق حجابها في حاوية قمامة يوم 20 سبتمبر/أيلول 2022، بينما هتف آخرون بشعارات مناهضة للجمهورية الإسلامية. اختفت نيكا لاحقاً بعد أن أخبرت أحد أصدقائها أن الشرطة تلاحقها. قال المسؤولون إنها توفيت بعد سقوطها من بناية كانت تحت الإنشاء، ربما على يد بعض العمال.
(بي بي سي فارسي 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022). قالت عائلة نيكا إنهم عثروا على جثمانها في المشرحة بعد 10 أيام من اختفائها، وأن المسؤولين لم يسمحوا لهم سوى برؤية وجهها فقط لبضعة ثواني من أجل التعرف عليها. امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بصور لها وهي تغني وترقص، لِيطاردني وجهها الجميل أينما ذهبت. بالمثل، قُتلت المدونة المشهورة ذات الـ16 عشر ربيعاً سارينا إسماعيل زاده في 30 سبتمبر/أيلول وزعمت السلطات أنها انتحرت.
تطاردني كل هذه الوجوه الجميلة.
تصاعدت الاحتجاجات في الشوارع على الرغم من قمع الشرطة الوحشي مع حرق الشابات للحجاب وقص شعرهن على الملأ. وسرعان ما تحول ما كان في البداية مجرد وقفات ليلية إلى احتجاجات خلال النهار، انضم إليها الشبان والشابات وآبائهم، وبعد وقت قصير، بدأت فئة من السكان تثور على النظام الاستبدادي.
وبينما صبت الفتيات المتمردات الإيرانيات جام غضبهن على النظام الاستبدادي الذي لا ينسجم على الإطلاق مع آمال ورغبات جيلهن، ردّ النظام بكل قسوة، مستعيناً بالشرطة وقوات البَسيج الشعبية شبه العسكرية المخيفة، التي لم ترحم أحداً خاصةً الفتيات والفتيان الصغار. وسجلت كاميرات الهواتف المحمولة مشاهد لفتيات يسخرن من الشرطة، ومشاهد لحرق الحجاب، ومشاهد لمركبات مقلوبة بالإضافة إلى مشاهد ضرب الفتيات وجرهن من شعورهن، ونقلتها إلى العالم. ومع عجز النظام عن السيطرة على هذه الأصوات وقمعها، لم يكن بيده حيلة سوى قطع الإنترنت، لأنهم كانوا يواجهون جيلاً من الأطفال الذين يعيشون حياة موازية على منصات التواصل الاجتماعي، حياة مليئة بالاحتمالات والأمل على النقيض من الواقع المتضائل الذي يتحكم فيه حراس الثورة الإسلامية.
لذلك، بينما تنمو الحركة وتواصل نشاطها، ومع تصاعد القمع منذ أكثر من شهر، لا يمكن لبقيتنا في سائر أنحاء العالم معرفة ما يحدث هناك إلى أن يعثر الإيرانيون على وسيلة أخرى للولوج إلى الإنترنت رغم الرقابة والحظر. يعيش شعب بأكمله في سجن، لكنه سيجد طريقة للهرب مثلما نجح في تحقيق ذلك في كثير من الأحيان.
في الوقت ذاته، أعلن وزير التعليم الإيراني عن إعداد مراكز تعليمية نفسية لإصلاح طلاب المدارس المتمردين! ربما ما يقصده بذلك هو إعداد غرف تعذيب وسجون مؤمنة “لغسل عقول” الأطفال أو الأكثر رعباً: تطويعهم تماماً. عزيزي وزير التعليم، الثورة على الاستبداد ليست اضطراباً عقلياً. ما تقوم به هو قتل وتشويه طلابك، جيل المستقبل. باتت أيامك وأيام أمثالك معدودة، سيعيش أولئك الأطفال بعدك، وسينتصرون.
“من أجل تلك “الجنة” القسرية”
إذن، من هؤلاء الأطفال والنساء، من هم أبناء الجيل “زي”؟
تقل الأعمار في هذا الجيل عن ثلاثين عاماً ويشكلون 60% من سكان إيران البالغ عددهم 84 مليون نسمة (نعم، لقد قرأته بشكل صحيح). ويبلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة بين أفراد هذا الجيل 97%، وتشكل النساء أكثر من 65% من المتخرجين من الجامعات. لكن مثلما كتبت كامين محمدي في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عندما وصلت الثورة الإسلامية إلى السلطة، كانت القضية الوحيدة التي خصتها بالذكر، من بين العديد من القضايا التي لا تعد ولا تحصى التي تستدعي الاهتمام، هي قانون حماية الأسرة الإيراني، الذي بدلوه بقانونٍ جعل النساء يعتمدن على الإرادة الأبوية وأعادهن إلى العصور الوسطى، بعد أن كان واحداً من أكثر القوانين تقدميةً في المنطقة. فشهادة المرأة في المحكمة تعادل نصف شهادة الرجل، ولا يمكنها الغناء أو الرقص أو إظهار شعرها في الأماكن العامة، ويمكن تزويج الفتيات في سن الثالثة عشر!
اليوم أعرب أبناء الجيل “زي” عن رفضهم لتلك القوانين والأعراف، فهم يرغبون في أن يكونوا مثل باقي المراهقين وباقي النساء في سائر أنحاء العالم. يريدون حقوقاً وحرياتٍ للجميع.
هذه ليست الانتفاضة الشعبية الأولى التي تتزعمها النساء. فقد اندلعت المظاهرة الأولى ضد الحجاب بعد ثلاثة أسابيع من وصول الخميني إلى السلطة في عام 1970. ثم في بداية الألفية الجديدة، نشبت احتجاجات واسعة منتظمة مع ميلاد جيل جديد في الجمهورية الإسلامية يطالب بأن يكون له رأي في طريقة إدارة البلاد في عامي 2005 و2017 وكان آخر هذه الاحتجاجات في عام 2019 والتي اندلعت في الأساس بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الوقود لكن رقعتها اتسعت لتتحول إلى انتفاضة وطنية في كافة أرجاء البلاد من أجل الديمقراطية. ومنذ عام 2009، بدأ الرجال ينضمون إلى النساء في التظاهرات، وارتدوا الحجاب في كثير من الأحيان لإظهار تضامنهم معهن.
إلا أن كل المعلقين السياسيين الإيرانيين يقولون إن الأمر مختلف هذه المرة، فحركة الاحتجاج تتوسع وترفض التراجع بعد أكثر من شهر من ظهورها. هذه الانتفاضة التي شنها أبناء إيران وأحفادهم مختلفة عن أي حركة أخرى سبقتها من الحركات التي تدعو للتشكيك في شرعية الثورة الإسلامية. الأمر مختلف هذه المرة بسبب روحية الحدث، ولأنه لم يعد يتعلق بالضائقة الاقتصادية والتضخم أو الإصلاح. بل على العكس من ذلك، تقول هؤلاء الفتيات الإيرانيات إنهن لا يرغبن في هذه الثيوقراطية بعد الآن؛ إنهن يُردْن حياة مختلفة ويخضن معركة ضد الذل والقمع. وكما أوضح الفيلسوف الإيراني رامين جهانبگلو؛ “فإن وجود الفتيات الصغيرات والمراهقات في حالة الإثارة ومستوى الغضب والإحباط من السلطات الإيرانية هو نمط جديد من التمرد”.
هؤلاء هم الأبطال الجدد للمقاومة المدنية، الذين ولدوا في العقد الأول من هذا القرن، ويواجهون ثيوقراطية استبدادية وأبوية. على عكس العناصر العسكرية للنظام الإيراني – من ذوي التعليم السيء والعقلية العدوانية – فإن المحتجين الشباب منفتحون وموهوبون ومبدعون. وعلى عكس آبائهم وأجدادهم الذين عايشوا مرارة الهزيمة السياسية أمام النظام الديني، تعلمت نساء جيل شاكرمي وإسماعيل زاده أن يكنّ مبتهجات ومبدعات. لقد تجرأن على التفكير والتصرف بشكل مختلف، وأطلقن ثورة على قيم المجتمع الإيراني. كانت ثورة القيم هذه نتيجة لحياة موازية وحرية افتراضية وجدتها هؤلاء الشابات على وسائل التواصل الاجتماعي” (رامین جهانبگلو، 2022). لكل هذه الأسباب يبدو أن المعلقين يعتقدون أن هذه نقطة لا عودة للثورة الإسلامية.
لكل هذه الشعارات التي لا معنى لها: أجبرت على ترديد “الموت لأميركا“
كنت أتحدث مع صديقة شابة نسوية وناشطة سياسية من الهند قبل أيام قليلة، وسألتني: ماذا بعد؟ كيف يمكن لهذه الانتفاضة أن تنتهي بطريقة أخرى غير تلك التي حدثت في مصر باستيلاء الجيش على السلطة؟ الجيش هو المؤسسة الوحيدة المستقرة التي تحرس “شرعية” الأنظمة الاستبدادية. لم يعن سؤالها بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية هذه الانتفاضة، بل كانت تتوقع بخوف فرض ديكتاتورية عسكرية أشد قسوة. ليس لدي إجابات، فأنا لا أعرف الغيب. كل ما يمكنني قوله كنسوية براغماتية هو أنه لا يمكن إسكات أغاني الحرية لفترة طويلة رغم كل هذه الفظائع التي ترتكبها الأنظمة المحتضرة. قد تتطور التمردات والانتفاضات إلى ثورات، وقد لا تتطور لأن هذه الأنظمة المحتضرة تقمعها بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ على سيطرتها على آخر بقايا السلطة. أو يمكن إسكات هذه التطلعات إلى الحرية من خلال جرعة لامبالاة زائدة من نظام عالمي يركز على جني الأرباح على حساب الأرواح البشرية. إيران لديها نفط ولديها قوة نووية؛ وهذا يجعلها قوة لا يمكن المساس بها، خاصة الآن مع وجود حرب في أوروبا ودعم الإيرانيين لروسيا. لذا، على الرغم من المواقف الجارية، والعقوبات المفروضة، والتعطش للنفط الذي يمهد الطريق نحو الأرباح، تضعف إرادة السلطات العالمية للتدخل وفعل أي شيء. في عالم مُعولم من النوع الذي نعيش فيه الآن مع رأس المال النيوليبرالي باعتباره القوة المهيمنة، تحتل صرخات الأطفال من أجل الحرية المرتبة الثانية بعد المصالح الجيوسياسية. لا يوجد بلد يمكنه العيش معزولاً، ولا هذه الانتفاضات…
من أجل المرأة والحياة والحرية: آزادي
لكن ماذا عن النسويات في جميع أنحاء العالم، كيف لنا أن نظهر تضامننا؟ بالنظر إلى وجودي في أوروبا، يمكنني الإبلاغ عن وجود مظاهرات في جميع العواصم الرئيسية هنا، وهناك مزيد من المظاهرات المخطط لها. أبدت الناشطات السياسيّات دعمهن من خلال قص شعرهن في الأماكن العامة (وهو ما فعلته سياسية سويدية) والإدلاء بتصريحات مفادها أن النظام يقف في الجانب الخطأ من التاريخ (وهو ما قالته أنالينا بيربوك، وزيرة خارجية ألمانيا). الحديث ضد النظام الإيراني ليس بالأمر الجديد هنا؛ فلطالما شُوّهت سمعة النظام الإيراني كما يُشوِّه النظامُ الإيراني الغربَ بدوره. لا يعني هذا أيضًا إهمال أهمية الوقفات الاحتجاجية التي ينظمها الشباب والتي يجري التخطيط لها في معظم المدن في الأيام المقبلة.
أخبرني صديق من لبنان أمس أنه كانت هناك مظاهرات في لبنان أيضاً، وأن الفصيل الشيعي من الأحزاب السياسية اللبنانية المتصدعة (المدعومة من إيران) نجح في قمع التظاهرات. لا يمكنني قول الشيء نفسه بالنسبة للهند، وطني، حيث تعلمت أن أصبح نسوية، وحيث يُقمع الدعم النسوي لنساء إيران في أحسن الأحوال، ويُساء فهمه في أسوأ الأحوال. باستثناء عدد قليل من الاحتجاجات، لم يظهر الرأي العام بالصورة التي كان يتوقعها المرء؛ لماذا؟ فالأمور معقدة في أماكن مثل لبنان والهند، إذ إن تاريخهما المعقد من الاستعمار وما بعد الاستعمار يجعل علاقتهما بالقمع والاستبداد في جميع أنحاء العالم متوقفة على السرديات السياسية المهيمنة. وبقدر ما أفهم، فإن النسويات في الهند عالقات بين السردية السياسية المهيمنة لهندوتفا (القومية الهندوسية السائدة) وسياسات الدولة الحالية للأغلبية، والمجتمعات المسلمة ذات الأقلية في ولاية كارناتاكا، والتي تقاوم هذا الهجوم من خلال الاستشهاد بالحرية الدينية وحيازة الحجاب. التصريحات التي تدين ما يحدث في إيران يمكن تأويلها بسهولة في الهند باعتبارها تعكس “تخلف الجالية المسلمة وحاجتها للإصلاح”. وبعد ذلك، أصبح زعماء الهندوتفا الأبطال “العلمانيين” الذين يتظاهرون بأنهم منقذو الأنوثة المسلمة.
علينا أن نعلن “آزادي/الحرية” من استبداد الأغلبية، والقومية، ومن السياسة التي ترتدي زي الدين، أو أي شيء غير علماني يناسب الأنظمة الاستبدادية السائدة حالياً. يجب أن نعلن عن آزادي/التحرر من المجازات التي تستخدم أجساد النساء وملابسهن وسلوكهن كمواد خام للقمع. تعلمنا الفتيات في شوارع العواصم الإيرانية أن الحق في اختيار الطريقة التي تريدها النساء للعيش هو أمر بالغ الأهمية. عزيزتي الجمهورية الإسلامية، لهذا السبب ستخسرين، لأن هذه المرة ليست الولايات المتحدة والغرب الشرير هم من يحاول هزيمتك (على الرغم من أنهما تسببا في ضرر كافٍ بالفعل)، بل نساؤك.
في الختام، أود أن أقتبس من كلام مخرج الأفلام الإيراني المعروف ماني حقيقي، الذي منعته السلطات للتو من المغادرة إلى لندن – حيث يُعرض فيلمه الأخير “Subtraction” في مهرجان الفيلم. قال: “دعني أخبرك أن وجودي هنا في طهران الآن هو أحد أعظم مباهج حياتي. لا أستطيع أن أصف بالكلمات الفرح والشرف بأن أكون قادراً على أن أشهد مباشرة هذه اللحظة العظيمة في التاريخ، وأنا أفضل أن أكون هنا على أن أكون في أي مكان آخر في العالم الآن. لذا، إذا كان هذا عقابًا على ما فعلته، فأنعم به من عقاب. اسمحوا لي أن أنهي هذا الحديث بالكلمات الثلاث التي منحت الإيرانيين الكثير من الفرح والشجاعة في الأسابيع القليلة الماضية: المرأة، الحياة، الحرية“.
درج
—————————
=================
تحديث 04 تشرين الثاني 2022
—————————
إيران هي الحدث!/ حازم صاغية
منطقة الشرق الأوسط لا تبخل على الإعلام العالميّ بالعناوين. إنّها عناوين من كلّ صنف، تلخّص الأحداث الكثيرة بنزاعاتها المفتوحة ومحاولاتها المجهضة. لكنّ أكثر تلك الأحداث بات يبدو تكراريّاً، رأيناه من قبل على نحو أو آخر. وهذا إنّما يعود علينا بذاك الضجر الذي يحلّ محلّ الأمل، وبالإحباط الطارد للحيويّة، فبدل أن يوقظنا الحدث ويزجّ بنا في النشاط والحركة، إذا به يصيبنا بالنعاس.
أحياناً تتشابه أحداثنا الراهنة مع نهايات تعرّضت لمطٍّ اصطناعيّ مبالَغ فيه، أو مع موت لا يزال يأبى الإقرار بالموت رافضاً أن يموت، أو تكون تلك الأحداث مجرّد تداعياتٍ وذيول يمكن توقّعها لأحداث سابقة لم تكتمل. وغالباً ما تترافق هذه المراوحات في المكان نفسه مع إدارة العالم الخارجيّ ظهره وتجاهله لنا.
أمّا الأحداث التي تختلف قليلاً، وتنطوي على جديد ما، كترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة – الإسرائيليّة، فتبقى مموّهةً وغامضة، يتعرّض معناها الفعليّ للتزوير فيما يُحرَّم الإفصاح عن حقائقها.
وعموماً، يبقى الأهمّ أنّ أحداثنا الكثيرة غدا تأثيرها في معظم الأحيان محصوراً بمسرحها الجغرافيّ. فنادراً ما باتت منطقتنا تنتج حدثاً يؤثّر في بلد غير البلد الذي شهد الحدث. هذا لا يلغي كونها لا تزال مكلفة جدّاً في الدم والخراب اللذين، للأسف الشديد، صارا يُدفَعان بلا مقابل، بل بلا أمل في الحصول على مقابل.
إيران وحدها شيء آخر. إنّها اليوم صاحبة الحدث بألف ولام التعريف. إنّها الحدث.
فليس عاديّاً ولا مألوفاً أن تنتفض المرأة في هذه الرقعة من العالم ضدّ نظام طغيان ذكوريّ يسند شرعيّته إلى تأويله للمقدّس. وليس عاديّاً أن تنتفض الأقلّيّات الإثنيّة، وعلى رأسها الكرد، ضدّ نظام من الطغيان المركزيّ المرصوص، أو أن يصاب بقدر من التصدّع أقربُ أنظمة منطقتنا إلى التوتاليتاريّة الحديثة بعدما مُزج بالثيوقراطيّة الدينيّة المتعجرفة.
وعلى عكس سواه، هناك المدى الإقليميّ الواسع الذي يؤثّر فيه الحدث الإيرانيّ. فإيران اليوم، وكما نعلم جيّداً، تقيم في العراق وسوريّا ولبنان واليمن ومنطقة الخليج، بحيث يُدرَج انهيار نظامها، في حال حصوله، في خانة انهيار الإمبراطوريّات، أو في الحروب والتحوّلات الكبرى التي يُفتتح بها عصر ويُغلق عصر. وبسقوط نظام كهذا النظام تسقط منظومة آيديولوجيّة وخلاصيّة زعمت أنّها «طريق ثالث» وقبلةٌ لملايين المقهورين على وجه البسيطة.
ثمّ إنّ الحدث الإيرانيّ مفاجئ، وتداعياته الممكنة قد تكون مفاجئة أيضاً، فيما توقّعها ضعيف يشوبه الغموض. وهذه كلّها من مواصفات الأحداث كاملة الجِدّة، والتي تقتحم التاريخ من حيث لم ينتبه أحد، حتّى أنّ الانتفاضات الكثيرة السابقة ضدّ النظام نفسه قد لا تفيد كثيراً في تعقّل اليوم والغد الإيرانيّين.
كلّ ما يمكن قوله في هذه الغضون، وبشيء من التردّد والتحفّظ، وأيضاً الخجل ممّا قد يبدو أستذة على الثائرات والثائرين الإيرانيّين، هو إعلان تفضيلاتٍ ما قد يكون الأخذ بها أشدّ نفعاً لحركة التغيير ومسارها، كضرورة إنتاج طواقم قياديّة ومزيد من البلورة لأفكار جديدة، خصوصاً منها ما يتعامل مع المشاكل بالغة التعقيد للقوميّات والأقليّات.
كائناً ما كان الأمر، وكائنة ما كانت النتيجة، نحن أمام حدث تاريخيّ صافٍ. أمام ثورة تقابل ما تعيشه منطقتنا من حروب أهليّة وثورات مضادّة. أمام حرب الأمل الذي يسعى ويقاوم بعد هزائمه في ديارنا العربيّة.
وإيران، بعد كلّ حساب، لا تقتصر أهميّتها على كونها بلداً لـ86 مليون نسمة، أو اشتمالها على مساحة تقارب الـ1.7 مليون كيلومتر مربّع تحاذي أفغانستان وأرمينيا وأذربيجان والعراق وباكستان وتركيّا وتركمانستان، ولا تنبع تلك الأهميّة فحسب من ثرواتها في النفط والغاز والمصادر الطبيعيّة الأخرى، ولا حتّى من كونها مهد حضارة وثقافة تعود جذورهما إلى أزمنة بالغة القدم، وتتمدّد آثارهما من بلاد فارس إلى جنوب القوقاز وآسيا الوسطى والأناضول وما بين النهرين، حيث اجتمع الفنّ والشعر والعمارة والتقنيّة والطبّ والفلسفة. إنّ سبباً آخر يعطي إيران أهميّتها هو أنّ ثورة 1979 وجمهوريّتها الخمينيّة يجب أن تسقطا. لقد كانتا فاتحة عصر من الظلمات وأطلقتا أكبر الردّات الهمجيّة التي عرفها الشرق الأوسط منذ عقود على كلّ ما هو مضيء وواعد.
لهذا فمثلما كان سكّان الإمبراطوريّة الرومانيّة، من أوروبا إلى شمال أفريقيا وغرب آسيا، يتسقّطون أخبار روما بوصفها أخبار حياتهم وأخبار موتهم، فإنّنا نتسقّط أخبار طهران، كيما نشهد سقوط ذاك النظام، وكيما نشهد عليه. وهو، عاجلاً أو آجلاً، سوف يسقط.
الشرق الأوسط
————————-
عن “ولادة إيران جديدة”…مقابلة ممنوعة مع الباحث الإيراني آصف بيات
ترجمة – New Line Magazine
“أمنيتي، ربما مثل ملايين الإيرانيين، وهي أن أرى هذه المطالب المهملة لمختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في هذا البلد تتحقق، بأقل تكلفة على الأرواح البشرية، وبنيتها التحتية المادية، ودون أي تدخل من القوى الأجنبية. “
نشرت صحيفة “اعتماد اليومية” في طهران المقابلة التالية مع آصف بيات بالفارسية في 10 تشرين الأول/ أكتوبر. وبعد وقت قصير من نشرها، أمرت السلطات الإيرانية الصحيفة بحذف المقابلة من موقعها على الإنترنت. إلا أن محتوى المقابلة انتشر بالفعل في إيران وخارجها، واضطرت منافذ إعلامية أخرى كانت أعادت نشرها إلى حذفها. لا نعرف ما هي الأسباب، التي قدمتها السلطات لحذف المقابلة؛ ربما كان التحليل الذي قدمه بيات، وهو باحث يحظى باحترام كبير من الحركات الاجتماعية والثورات المؤثرة في الأوساط الفكرية والسياسية الإيرانية. تواصل مواقع إلكترونية داخل إيران حالياً نشر المقابلة. أُبلغ عن الحظر للمرة الأولى من راديو “فاردا” على الإنترنت. وعلى مدار الأيام التالية، نُشرت المقابلة في عشرات الآلاف من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي بين الإيرانيين في جميع أنحاء العالم.
هنا المقابلة مترجمة للعربية
في البداية؛ دكتور بيات، هل تتابع ما يحصل داخل إيران؟
وكيف لا أتابع؟ نعم، أنا أتابع الأحداث عن كثب، وبصفتي إيرانياً، فأنا مهتم جداً بالوضع الحالي للبلد، وبصفتي شخصاً كان يدرس التطور الاجتماعي والسياسي لإيران والمنطقة ككل. في الواقع، في هذه الأوقات الحرجة، تتجه عيون ملايين الإيرانيين في الشتات نحو إيران. يبدو الأمر كما لو أن “إيران جديدة” قد وُلدت؛ “إيران عالمية”، مجموعة من الأفراد المختلفين الذين تفصلهم الجغرافيا، ولكنهم يتشاركون إلى حد كبير المشاعر والهموم والأحلام نفسها.
برأيك كيف نفهم هذه الموجة من الاحتجاجات؟ هل يمكننا فهمها من منظور الحركة؟
نظراً لأن الأشياء لا تزال تتكشف وتتطور، فمن الصعب إعطاء إجابة محددة. لكنها تبدو مختلفة تماماً عما رأيناه من قبل. نحن أمام شيء جديد. فقط تذكر الثورة الخضراء عام 2009؛ كانت حركة قوية مؤيدة للديمقراطية أرادت حكومة خاضعة للمساءلة. كانت إلى حد كبير حركة قادتها الطبقة الوسطى الناشئة حديثاً في المناطق الحضرية، على رغم أن بعض الساخطين قد دعموها أيضاً. بعد ذلك، كانت لدينا انتفاضة عام 2017، حين قامت مجموعات اجتماعية متنوعة- مثل العمال غير المأجورين، والدائنين، والمزارعين المتضررين من الجفاف وغيرهم – بالاحتجاج في وقت واحد في جميع أنحاء البلاد، لكن كل واحدة من هذه الأطياف كان لها مطالبها الفئوية. أما انتفاضة 2019 فقد ذهبت إلى ما هو أبعد، فأظهرت المجموعات الاحتجاجية المختلفة- ولا سيما الفقراء والطبقة الوسطى الفقيرة- درجة جيدة من التماسك والوحدة. وتركزت مطالبهم المركزية على المسائل الاقتصادية وتكلفة المعيشة. كما اتبع المتظاهرون- الذين جاء معظمهم من المناطق المهمشة في المدن والمحافظات- تكتيكات متطرفة.
أما الانتفاضة الحالية فقد تجاوزت هذا كله. لقد جمعت بين الطبقة الوسطى الحضرية، والفقراء من الطبقة الوسطى، وسكان الأحياء الفقيرة، والأشخاص من مختلف الهويات العرقية – الأكراد والفارسيون والأذربيجانيون الأتراك والبلوش – كل ذلك تحت رسالة “المرأة، الحياة، الحرية”.
من الملاحظ جداً أننا أمام انتفاضة تحتل فيها المرأة دوراً مركزياً. هذه السمات تميز هذه الانتفاضة عن سابقاتها. يبدو الأمر كأن نقلة نوعية في الذات الإيرانية قد حدثت. وينعكس هذا في مركزية المرأة وكرامتها، والتي تتعلق على نطاق أوسع بالكرامة الإنسانية. هذا غير مسبوق. يبدو الأمر كما لو أن الناس يستعيدون حياتهم المدمرة، وشبابهم الضائع، وفرحتهم المكبوتة، ساعين وراء العيش الكريم والبسيط الذين حُرِموا منه. هذه حركة لاستعادة الحياة. يشعر الناس أن نظام رجال الدين المسنين قد حرمهم من الحياة الطبيعية. يشعر الناس أن هؤلاء الرجال يبدون منفصلين عن واقع الناس، وهم في الوقت نفسه قد استعمروا حياتهم.
استعادة الحياة فكرة قوية؛ ينعكس عمقها في القصيدة المشهورة للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي التي يحفظها كل ثائر عربي عن ظهر قلب: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدرُ”. في هذه الانتفاضة، أصبحت استعادة الحياة مطالبة عالمية. نحن نرى أنه- على المستوى الذاتي بين الناس- قد ظهر “ألمٌ جماعي” ومطالب جماعية التفتْ حولها مجموعات اجتماعية متنوعة، ولا يتوقف الأمر على وحدة الشعور بها ومشاركتها، بل أيضاً العمل عليها. مع ظهور “الشعب”- وهي جماعة شاملة تذوب فيها الفروق في الطبقة والجنس والعرق والدين موقتاً لمصلحة خير أكبر- يبدو أن الانتفاضة قد انتقلت إلى نوع من الأحداث الثورية.
لقد درستَ الحركات والانتفاضات الاجتماعية، بخاصة في الشرق الأوسط؛ هل صادفت أي حركة مشابهة لما يحدث في إيران الآن؟
هناك أوجه تشابه بين الانتفاضة الحالية في إيران وانتفاضات الربيع العربي، لا سيما في ما يتعلق بالشرارة الأولى وبداية احتجاجات الشوارع. أشعلت التضحية بالنفس التي قام بها محمد البوعزيزي في تونس بسبب القمع الذي تعرض له، وقَتل خالد سعيد نتيجة التعذيب على يد الشرطة في مصر؛ انتفاضات واسعة النطاق في كل بلد. أُطيح بزين العابدين بن علي من السلطة في غضون 28 يوماً، وأُطيح بحسني مبارك في غضون 18 يوماً من هذه الانتفاضات. جسّد البوعزيزي وخالد سعيد القمع الذي شعر به الكثير من التونسيين والمصريين، فاحترام كرامة الإنسان أمر يشترك فيه المحتجون في إيران وتونس ومصر. لكن هناك أيضاً اختلافات كبيرة. في إيران، وبسبب محاولات استعمار الحياة اليومية، فإن الفجوة والصراع بين معظم الناس ونظام الملالي أوسع وأعمق بكثير مما هو عليه في تونس أو مصر. فعلى عكس تونس أو مصر، تعرضت الحياة اليومية – وحتى الحياة الخاصة للناس (خاصة النساء) – في إيران لمراقبة أيديولوجية وسياسية خانقة. في الواقع، فإن نظام المراقبة الوحيد القابل للمقارنة مع إيران هو نظام طالبان في أفغانستان. حتى الحكام المستبدين في المملكة العربية السعودية بدأوا في إصلاح النظام الوهابي للسيطرة على حياة الناس العامة. لكن الفارق الأساسي بين الانتفاضة الحالية في إيران وتلك التي شهدتها الدول العربية هو الاعتراف بالمرأة باعتبارها “موضوعاً” تحولياً، و”قضية المرأة” باعتبارها محوراً استراتيجياً للنضال. لقد جعلت الدعوة الشاملة لـشعار “المرأة، الحياة، الحرية” حركة الاحتجاج الحالية في إيران فريدة تماماً.
ما يثير دهشة الكثير من المراقبين هو وجود الشباب والمراهقين في الشوارع؛ فقد كان يُعتقد في السابق أن هذا الجيل الشاب لا يبالي بالسياسة وأناني، ولا يتطلع إلى أي طموحات، وبدون مُثُل، وغير قادر أو غير راغب في اتخاذ أي إجراء سياسي، ومتعلق بالإنترنت والألعاب الإلكترونية. ما هو تقييمك لحضور هذا الجيل في الشوارع؟
قد يكون الوجود الكبير للشباب في شوارع الانتفاضة مفاجئاً، لكنه لم يكن غير متوقع. في الأساس، الشباب وسياسات الشباب فضفاضة ومتقلبة للغاية. قد نشهد نشاطهم المذهل ثم نرى منهم موقفاً يعكس اليأس والسلبية واللامبالاة في أوقات أخرى. إنما هناك منطق وراء هذا السلوك. بشكل عام، “فتوّة الشباب”، أي القدرة الجسدية للشباب، وخفة حركتهم وطاقتهم، وتطلعهم نحو المستقبل والتعليم، و”عدم مسؤوليتهم الهيكلية” (على عكس البالغين والآباء) تفسح المجال لميل واضح نحو سياسة الشارع والنشاط الراديكالي. في الثورة التونسية، شارك أكثر من 28 في المئة من الشباب (من 15 إلى 29 سنة) في الانتفاضة، وهو أمر غير عادي. عادة ما يشارك بين 1 و8 في المئة من سكان بلد ما في الثورات. لكن الموقف المهمّش للشباب في هيكل السلطة (الذي يكون على رأسه عادة رجال كبار السن) يمنعهم من المشاركة بفعالية في صنع القرار على أساس أنهم يفتقرون إلى الخبرة، وتسيطر عليهم العاطفة، ويجب أن يتبعوا كبار السن (تعاني النساء الشابات بشكل خاص كثيراً من هذا التصرف). هذا النوع من السلوك الأبوي يجعل الشباب يشعرون باليأس وخيبة الأمل والاستياء من السياسيين و”السياسة”، ومن ثمَّ يتجهون نحو عالمهم الخاص، ويسعون جاهدين إلى خلق مساحات للتعبير عن الذات والتمكين الذاتي، سواء في الإبداع الفني والتقني، أم في صنع المستقبل، أو في كسر الأعراف، أو في الملاحقات الجنائية. وقد ناقشتُ أساليب سياسات الشباب وسياسة المرأة وسياسة الفقراء في أوقات الثورة في كتابي الأخير “الحياة الثورية: يوميات الربيع العربي”.
لاحظ أنه في حالة إيران؛ كان الشباب نشيطين للغاية في بعض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أواخر التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين، وكان هناك شيء من المنافسة والأمل في التغيير. ولكن عندما شعروا بأن الانتخابات قد تم تزويرها، وتلاشى الأمل في التغيير، لجأوا إلى عالمهم الخاص، في مجموعات الصداقة، وعبر الإنترنت، وفي “اللاحركية” لتحقيق أسلوب حياتهم، وإيجاد طريقة لتأمين الانتقال إلى مستقبل الكبار. لا يعني الاتصال بالإنترنت ممارسة الألعاب وحسب؛ بل إنهم يحتكّون بالعالم الأوسع، ويتعلمون مهارات واستراتيجيات جديدة للنضال، ويتعلمون قيماً ومعرفة جديدة، ويطلعون على ما هو موجود في العالم، ويدركون مدى حرمانهم. كل هذا يجعل هؤلاء الشباب أكثر عزلة وانفصالاً عن عالم الحياة والأيديولوجية التحريمية لحكم رجال الدين. أضحى هذا الصدع عميقاً للغاية في هذه الأيام، وكأن الحكام والشباب (الذين نصفهم من الإناث) يعيشون في كواكب مختلفة. لذلك ليس من المستغرب أن تكون حركة الشباب والمراهقين اللاحركية قد اندمجت الآن في اضطراب سياسي واسع النطاق يضطلع فيه الشباب- بفضل “فتوّتهم”- بدور ذي مسحة متطرفة أكبر.
لكن يجب أن أشدد على أنه برغم حضورهم المذهل وأدائهم في سياسة الشارع، فإن هؤلاء الشباب الاستثنائيين- وبالطبع أي مجموعة أو طبقة اجتماعية أخرى- لا يستطيعون بمفردهم تحقيق اختراق سياسي. يتحقق الاختراق فقط عندما يأتي الناس العاديون من مختلف الفئات الاجتماعية- بما في ذلك النساء والرجال وكبار السن والأطفال والجدات والدوائر التقليدية أو الحديثة- إلى الشوارع والأزقة الخلفية للانتفاضات.
هنا، يصبح “الشارع” الفضاء الذي يناهض التيار الاجتماعي السائد، والذي يدعو إلى التحول السياسي. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هؤلاء الشبان والشابات هم من يبدأون الاحتجاجات في أحيان كثيرة. إنهم يضخون دماً جديداً في جسد الحراك الشعبي في أوقات الصمت واليأس، وهو ما يوفر الطاقة والتجدد للحركة لتعيش وتستمر.
ثمة نقطة رئيسية أخرى اتسمت بها هذه الاحتجاجات، وهي حضور النساء الواسع. نحن نعلم أن الدافع الأساسي هو وفاة شابة بعدما اعتقلتها ما يسمى بشرطة الأخلاق أو “دوريات التوجيه أو الإرشاد” [گشت إرشاد]. وقد أدى الحضور البارز للمرأة، الذي حظي بدعم دولي واسع النطاق، إلى أن يعتبرها كثيرون حركة نسوية. ما هو تقييمك لدور المرأة وحضورها في هذه الاحتجاجات؟
كما ذكرت آنفاً، فإن مركزية المرأة بوصفها “موضوعاً” و “قضية المرأة” بوصفها نقطة محورية قد ميزت هذه الاضطرابات على نطاق واسع عن غيرها. برغم أن النظام الذكوري لا يزال سمة من سمات الكثير من الحكومات العلمانية، فقد كان الحكم الديني [في إيران] ذكورياً بشكل غير عادي ومعادٍ للنساء على المستويين الأيديولوجي والهيكلي. لذلك ليس من المستغرب أن تبدأ مقاومة المرأة ومعارضتها منذ الأيام الأولى بعد ثورة 1979. وعلى مدى عقود، واصلت النساء الإيرانيات مقاومتهن في ممارسة الحياة اليومية، وقمن باستغلال “فن الحضور” (أداء المهمات دون محاولة التحكم في الحالة الأولية أو تغييرها)، في الأماكن العامة، ومن خلال اللاحركات الاجتماعية، و “الزحف البطيء”، السعي الرصين نحو تحقيق تقدم تدريجي، من أجل التصدي للنظام الذكوري وكراهية النساء. وكلما كانت هناك فرصة سانحة، حاولن تنظيم الحملات الجماعية وبناءها، بيد أن النظام لم يستطع حتى أن يتقبل فكرة وجود مجموعة من الناشطات اللائي يعقدن اجتماعات في منازلهن.
فقد قامت شرطة الأخلاق وقوات الأمن بإهانة وتهديد واعتقال ملايين النساء في الشوارع ومؤسسات الدولة. وبحسب تقرير للشرطة عام 2006، خلال الأشهر الثمانية من حملة الهجوم على النساء اللواتي يرتدين “الحجاب السيئ”، تعرضت 1.3 مليون امرأة للإيقاف في الشوارع ووجهت لهن خطابات تحذيرية رسمية. وفي العام التالي، خلال حملة قمع استمرت ثلاثة أيام، اعتقلت الشرطة أكثر من 150 ألف امرأة. مثل هذه الاعتداءات ذكّرت الإيرانيين بصور الجيش الإسرائيلي وهو يذل الفلسطينيين. بيد أن المقاومة والزحف البطيء أو اللاحركات الاجتماعية التي قادتها النساء الإيرانيات استمرت. وفي خضم هذه العملية، وضعن معايير جديدة في المجتمع ورسخن حقائق جديدة على أرض الواقع، مثل الحضور في المجال العام والحجاب باعتباره مسألة اختيارية وليست بالإكراه. والآن، أدت تلك اللاحركات الاجتماعية التي ساعد في تنظيمها مقتل إحدى هؤلاء النساء، مهسا أميني، إلى انتفاضة سياسية غير عادية، اكتسبت فيها النساء وكرامتهن، بل والكرامة الإنسانية بشكل عام، مكانة بارزة.
غير أن هذه الانتفاضة لا تتعلق بـ”مسألة المرأة” فقط. فقد تجاوز الطابع الشامل لهذه الحركة الاحتجاجية المرأة. واحتضنت الكثير من الفئات والطبقات الاجتماعية والدينية والعرقية الأخرى المحرومة والمنبوذة والمضطهدة. وثمة شعور بأن تحرير المرأة يفتح الطريق أمام تحرير الجميع، بمن فيهم الرجال والمحرومون. بعبارة أخرى، يبدو أن المتظاهرين الآن يتقاسمون آلاماً مشتركة، ويشتركون في فهم الصالح العام الذي يوحد جميع المتظاهرين. ويبدو أن شعار “المرأة، والحياة، والحرية”، يمثل تلك المصلحة العامة.
لعل الشعار الأكثر أهمية الذي نستمع إليه اليوم هو “المرأة، والحياة، والحرية”، وقد علت أصداؤه في مختلف أنحاء العالم. فالبعض يعتبرونه غامضاً وعاماً، ويرون أنه لا يتمتع بنبرة إيجابية محددة. بينما يعتبره كثيرون شعاراً تقدمياً يركز على قيم الحياة. ما رأيك في هذا الشعار؟
يُشكل الغموض والعمومية مفارقات في معظم الحركات الثورية. لأنه، من ناحية، يكفل الغموض والعمومية وحدة الحركة الثورية، ومن ثم يعزز قوتها؛ وهذا شرط الانتصار. ومن ناحية أخرى، تختفي الدقة والتفاصيل والاختلافات في التفسير والتوقعات تحت هذا الشعار العام، لتظهر مجدداً بعد الانتصار. وفي هذه المرحلة، يصل تضارب المعاني والتوقعات، وبالتالي المواجهات السياسية، إلى ذروتها. وهذه معضلة تجب معالجتها.
على سبيل المثال، إذا أردنا تأسيس سياسة ديمقراطية، فربما نتمكن من التوصل إلى توافق في الآراء من خلال المفاوضات. هذه ملاحظة عامة. بيد أنه في حالة إيران، ما زلنا لا نعرف ما هو مستقبل هذه الانتفاضة. ويبدو أن هناك حالياً بعض المناقشات الجارية بشأن هذه القضايا، التي يمكن أن تكون مثمرة إذا اقترنت بحسن النية. وأعتقد أن شعار “المرأة، والحياة، والحرية” لديه القدرة على تبني تطلعات مختلف الفئات المحرومة والتعيسة والمضطهدة في المجتمع الإيراني. في حين ترتبط مركزية المرأة بالمقولة القديمة القائلة بأن “حرية المجتمع ليست ممكنة بدون حرية نسائه”. ولا يمكن إنكار العلاقة بين المرأة والحياة عندما نعتبر أن المرأة لا تلد الحياة فحسب، بل تحافظ عليها أيضاً من خلال القيام بثلثي العمل في العالم اليوم. وأخيراً، فإن الشعور العام بـ”استعادة الحياة” بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية هو في صميم هذا الشعار. وبالطبع، من الواضح أن “استعادة الحياة” لا يمكن تحقيقها، إلا من خلال إجراء تحول هيكلي جاد.
إقرأوا أيضاً:
تتمثل إحدى خصائص المجتمع الإيراني في تراكم مختلف المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهملة، والتي تتدفق جميعها معاً في مثل هذه الأوقات. ألا يثير هذا التعدد في المطالب القلق؟ وهل يساهم في إبعاد الحركة الاجتماعية عن هدفها الرئيسي؟
لا أعتقد ذلك. في الواقع، يُشكل هذا الكم الهائل من المطالب والتعبير عن الآمال والأحلام، دلالات واضحة على سلسلة من الصراعات الاجتماعية التي تسعى إلى تحقيق تحول هيكلي. ولا يمكن لأي فئة اجتماعية -العمال أو الفقراء أو الطبقة المتوسطة أو النساء أو الشباب- بمفردها أن تغير توازن القوى بين الجمهور المعارض والنظام. وقد تحققت دائماً التحولات السياسية الحقيقية من خلال تحالف مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية المحرومة والتعيسة والمضطهدة. ولذلك، فإن السؤال ليس ما إذا كان تراكم المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهملة سيكون له آثار سلبية على عملية النضال. بل إن السؤال هو كيف يمكن التعبير عن هذه المطالب المهملة في إطار مطالبة مشتركة وشاملة وبسيطة ومفهومة، يمكن من خلالها لتلك الفئات التي تعاني أن تحددها وأن تعبر عن نفسها بلسانها.
وهذا هو تجسيد تعبير “المصلحة العامة” الذي أشرت إليه سابقاً. وعلى هذا الأساس، على سبيل المثال، تنبغي صياغة شعار “المرأة، والحياة، والحرية” بطريقة يمكن من خلالها لمختلف الفئات المعنية أن تشعر بأصدائه وتستوعبه، مع تأكيد أن تحقيق مثل هذا المطلب الجماعي يستلزم حدوث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة.
يشعر بعض المحللين بالقلق من أن التطورات الحالية ستتحرك في اتجاه يهدد الاندماج والسلام واستقرار البلاد. ما مدى احتمال حدوث ذلك، في رأيك؟
لست متأكداً تماماً من مدى استناد هذه التحليلات إلى أدلة، أو مدى جسامة مثل هذه المخاطر، ولكن لا بد من معالجتها. وعموماً، أي حركة قوية معرضة لخطر الاستغلال. إذ يحاول الانتهازيون هنا وهناك أو في الخارج استخدامها لمصلحتهم الخاصة، أو ربما يدعون أنفسهم قادة لها، أو يعربون عن دعمهم لدوافع خفية. من يعتقد حقاً أن شخصاً مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فضلاً عن ولي عهد المملكة العربية السعودية، محمد بن سلمان، يريد الديمقراطية في إيران؟ إنهم أنفسهم يشكلون تهديداً خطيراً للديمقراطية في بلدانهم. ولحسن الحظ، يبدو أن حركة “المرأة والحياة والحرية” تُظهر ما يكفي من القدرة والوعي السياسي لعدم الاكتراث بهذه الألاعيب السياسية ومواصلة رحلتها بالاعتماد على قوة الشعب. والواقع أن إيران لم تشهد في السنوات الأخيرة مثل هذا التقارب بين مختلف الجماعات والأعراق والطبقات الاجتماعية؛ ويبدو الأمر وكأن “إيران” جديدة قد ولدت. وبالطبع، سيكون هناك أيضاً من ينسبون المعارضة والاحتجاجات إلى المكائد والمؤامرات الخارجية. إلا أن هذه الادعاءات ليست جديدة وبخاصة بإيران. مثلما عزا مبارك وأنصاره الحركة الثورية المصرية إلى المؤامرات الخارجية والإسلامية والتطرف، بيد أن الواقع كان مختلفاً تماماً.
ما هو تقييمك لمستقبل هذه الحركة؟ وما هي السيناريوهات أو الاحتمالات التي تتصورها؟
يُعد التنبؤ بمستقبل هذه الأحداث أمراً صعباً للغاية لأنه يعتمد على العديد من العوامل. ويعتمد على أسئلة ليس لدينا إجابات عليها. على سبيل المثال، لا نعرف إلى أي مدى قد يلجأ النظام إلى العنف المستشري لقمع الاحتجاجات أو الإضرابات في الشوارع. وإذا كانت استراتيجية النظام هي اللجوء إلى العنف الشديد، فما مقدار الغضب الأخلاقي الذي سيعقب ذلك بين الناس العاديين والقائمين على النظام مثل قوات الأمن؟ وماذا ستكون مواقف النخب التقليدية أو الزعماء الدينيين أو آيات الله أو السياسيين المعتدلين؟ وهل ستستجيب هذه النخب ورجال الدين لنداء الضمير؟ فضلاً عن أننا ما زلنا لا نعرف المسار الذي سيسلكه المعسكر الإصلاحي وقادته. إذ إن المأساة التي يعيشها العديد من الإصلاحيين في هذه المرحلة هي أنهم لا يستطيعون إجراء إصلاحات (لأنهم طردوا من السلطة)، ولا الانخراط في ديناميكية ثورية (لأنهم يشعرون أنهم بحكم تعريفهم إصلاحيون وليسوا ثوريين). هذه الحالة المحزنة من العجز لها علاقة بنهجهم العقائدي والثابت وغير التاريخي في التعامل مع مفاهيم واستراتيجيات التغيير الاجتماعي والسياسي. يبدو كما لو أن الإصلاحي لا بد وأن يظل إصلاحياً حتى نهاية حياته، والثوري يتحتم عليه أن يظل ثورياً إلى الأبد، بغض النظر عما يحدث على أرض الواقع، وعلى الساحة السياسية، حيث يتطلب الواقع المتقلب والمعقد وسائل مناسبة ومبتكرة وبعيدة عن التشدد العقائدي لممارسة السياسة. والأهم من ذلك، أننا لا نعرف إلى أي مدى ومتى ستُظهر الفئات الاجتماعية المتحالفة، مثل العمال والمعلمين، أعمال تضامن أوسع مع الانتفاضة. باختصار، من الصعب للغاية التنبؤ.
ومع ذلك، مهما حدث لهذه الانتفاضة، فقد حققت هذه الحركة في هذه المرحلة تحديداً بالفعل إنجازات كبيرة. إننا نشهد نقلة نوعية حاسمة في النظرة الذاتية للإيرانيين. ففي المدن الكبيرة والصغيرة، حتى في القرى، بين الآباء والشباب، وبين المجموعات العرقية والطبقات الدنيا والمتوسطة، يبدو أن “أمة” جديدة قد ولدت- أمة تصر على استعادة الحياة والعيش بكرامة. وتصيح بذلك في شوارع الانتفاضة. ومن غير المرجح أن تعود أمور كثيرة إلى ما كانت عليه من قبل. ربما هذه هي النهاية الفعلية لشرطة الأخلاق، حتى لو لم يقوموا بإلغائها رسمياً. فقد فرضت معايير جديدة نفسها على واقع الحياة العامة. وربما يكون “الحجاب الاختياري” أحد هذه المعايير.
ما الذي تتمناه من حركة الاحتجاجات الاجتماعية هذه؟
أمنيتي، ربما مثل ملايين الإيرانيين، وهي أن أرى هذه المطالب المهملة لمختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في هذا البلد تتحقق، بأقل تكلفة على الأرواح البشرية، وبنيتها التحتية المادية، ودون أي تدخل من القوى الأجنبية. ويتوقف تحقيق هذه الرغبة، من ناحية، على قدرة هذه الحركة واستمراريتها، ومن ناحية أخرى، على ضمير الحكام وقرارهم. ربما تكون هذه سذاجة مني. وربما من المستحيل تحقيق ذلك. لكن الحقيقة، كما أشار إليها ماكس فيبر، تتمثل في أن التجربة التاريخية تثبت أننا نحن البشر ما كنا لنتمكن من تحقيق “الممكن” من دون التفكير مرة تلو الأخرى في “المستحيل”.
*القراء المهتمون بمعرفة المزيد عن مفاهيم مثل “فن الحضور”، و “اللاحركات الاجتماعية”، و “الزحف البطيء”، يمكنهم الاطلاع على كتاب آصف بيات “الحياة سياسة: كيف يغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط” (2013).
هذا الموضوع مترجم عن newlinesmag.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط هنا
درج
——————————-
بعد حملة نزع العمامات…محتجو إيران يتحدون الحرس الثوري/ كريم شفيق
يبدو أنّ الاحتجاجات لا تزال تتحدى بطش قوات الأمن، برغم حملة القمع الدامية التي بلغت درجاتها القصوى. مع الأخذ في الاعتبار أنّ النظام يقع تحت وطأة أزمات جمّة، تتصل بإيجاد آليات وبدائل لمواجهة التعبئة المجتمعية.
مشهد نزع أحد المحتجين عمامة رجل دين شيعي، في مدينة دزفول في محافظة خوزستان، شمال طهران، بينما صرخات وتصفيقات فتيات إحدى المدارس تتعالى من حوله، كان رمزياً إلى حد كبير.
وبرغم تكرار ذلك المشهد في وقائع وحوادث مماثلة، إلا أن أي استهداف لعمامات رجال الدين من قبل محتجين، يحمل رمزية بالغة الدلالة ويمثل تحدياً جديداً للنظام. ففي هذه الاحتجاجات، كما في غيرها، تكررت ظاهرة استهداف رجال دين وحوزات بل وإحراق بعض المقار الخاصة بهم.
الفتيات اللواتي ظهرن في مقطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وثق الواقعة، كنّ محجبات. وبغض النظر عما إذا كان هذا الحجاب من النوع الذي يتفق ورؤية النظام، أو قد يكون “الحجاب السيئ” الذي يسير بهن نحو مصير مهسا أميني، الفتاة الكردية، التي قضت على يد “دورية شرطة الأخلاق”، فإنّ الاستياء من رجال الدين يعد رسالة مباشرة برفض حكم “آيات الله”.
صعدّ الإيرانيون احتجاجاتهم، برغم تحذير قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، المتظاهرين بإنهاء حراكهم، قسراً، والذي وصفه بـ”أعمال شغب”. وقد عاود الجنرال في الحرس الثوري تأكيد أنّ هذه التظاهرات تم تدبيرها في “البيت الأبيض” و”إسرائيل”.
وقال سلامي: “لا تبِع شرفك لأميركا ولا تصفع وجه قوات الأمن التي تدافع عنك”.
وفي كلمته أثناء مراسم تشييع قتلى الهجوم المسلح على المزار الديني في مدينة شيراز، والذي عمدت الحكومة إلى توظيفه ضد التظاهرات، واعتبرته حاضنة لتسلل العناصر “الإرهابية”، وفق تعبير مسؤولين إيرانيين، توجه سلامي بلهجة حادة وعنيفة ضد من وصفهم بـ”عدد محدود من الشبان المغرر بهم”. وطالبهم بضرورة “وقف الشغب”.
وتابع: “اليوم هو (يوم) نهاية أعمال الشغب، لا تنزلوا إلى الشوارع بعد الآن”. كما توجه إلى الطلاب طالباً “ألا يصبحوا بيادق بين يدي الأعداء”، لأنّ “أحداً لن يسمح بأن تثار أعمال شغب في إيران”.
مشهد نزع أحد المحتجين عمامة رجل دين شيعي، في مدينة دزفول في محافظة خوزستان، شمال طهران، بينما صرخات وتصفيقات فتيات إحدى المدارس تتعالى من حوله، كان رمزياً إلى حد كبير.
وإثر تصريحات قائد الحرس الثوري، قال الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إنّ الأمن في إيران “خط أحمر”، مشدداً على أنّ “الأمن هو الخط الأحمر للجمهورية الإسلامية. ولن نسمح للعدو بتنفيذ مخططاته بأيّ شكل من الأشكال لتقويض هذه الثروة الوطنية القيمة”.
ويبدو أنّ الاحتجاجات لا تزال تتحدى بطش قوات الأمن، برغم حملة القمع الدامية التي بلغت درجاتها القصوى. مع الأخذ في الاعتبار أنّ النظام يقع تحت وطأة أزمات جمّة، تتصل بإيجاد آليات وبدائل لمواجهة التعبئة المجتمعية.
وأسفرت المواجهات الأمنية العنيفة عن مقتل ما لا يقل عن 283 شخصاً، حتى الآن، منهم 44 طفلاً. فضلاً عن اعتقال 14 ألف شخص في 129 مدينة ونحو 115 جامعة، وفق ما أعلنت وكالة أنباء نشطاء حقوق الإنسان (هرانا).
كما أنّ وكالة أنباء “تسنيم” الإيرانية، شبه الرسمية، قد أفادت ببدء محاكمات “علنية” وفي “محكمة ثورية” بحق ألف شخص على خلفية اتهامهم “بأعمال تخريبية في الأحداث الأخيرة، بما في ذلك الاعتداء على حراس الأمن أو قتلهم، وإضرام النار في الممتلكات العامة”.
وتؤشر التهديدات المتواترة على لسان مسؤولين في الحكومة إلى انعطافة النظام تجاه عدم التهدئة، ورفض الانفتاح على “الحوار” مع المتظاهرين، كما سبق أن حاولت بعض الأطراف القريبة من التيار الإصلاحي، فيما يبدو أنّ التشدد من النظام يتزامن وتحركات أممية لفرض عقوبات على طهران.
في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قالت صحيفة “اعتماد” الإصلاحية إنّ النخبة الحاكمة لن تقبل بـ”التفاوض” مع المتظاهرين، مشيرة إلى القيود التي تعيق إمكانية تفعيل هذا المبدأ طالما النظام يضع شروطاً متشددة منها “عدم تأثر المحتجين بالإعلام الأجنبي (!)”.
ويكاد لا يختلف هذا الموقف عما صرح به رئيس مجلس النواب الأصولي، محمد باقر قاليباف، والذي بينه وبين الرئيس الإيراني، خلافات قديمة، تعود لانتخابات الرئاسة عام 2013. ولم تراوح التجاذبات مكانها بين الطرفين منذ انتخاب “رئيسي” لمنصبه.
ومن أبرز محطات المنافسة المكتومة والمحتدمة بينهما، أزمة اختيار أعضاء الحكومة التي جاءت غالبيتها من “جبهة بايداري” (الصمود) المحسوبة على الرئيس الإيراني. وسبق لنواب محسوبين على رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قالبيقاف أن طالبوا بسحب الثقة من “رئيسي”، تحدثوا عن “عدم أهليته”.
كما أنّ دعم قالبيقاف حقوق الإيرانيين في “المطالبة بالتغيير”، وقبلها انتقاداته للحكومة، يمكن تفسيره في نطاق هذا الصراع والتنافس المحموم، والذي لا يخرج عن كونه نوعاً من اللمز. إذ يعاود الاصطفاف مع الرؤية العامة للسلطة، بالابتعاد من “مثيري الشغب” لتحقيق المطالب.
وثمّة مواقف متناقضة بين التيارين الإصلاحي والمتشدد حول الأحداث المحتدمة والمستمرة لنحو خمسين يوماً. وبينما عنونت الصحف الإصلاحية صفحاتها بدعوات إلى “الحوار الوطني”، فإنّ الصحف الراديكالية تعمي العيون عن المعطيات الجديدة والمآلات التي وصلت إليها الاحتجاجات.
وقالت صحيفة “إيران” الحكومية إنّ القوات الأمنية “مظلومة”. وتابعت: “قوات الأمن الإيرانية فقدت 35 شخصاً من أفرادها. لكن لم يقتل أحد من الطرف الآخر (المتظاهرين) حتى الآن”. وذلك بخلاف الحقائق التي وثقتها منظمات حقوقية، محلية وأجنبية. فضلاً عن حوادث قتل اعترفت بها السلطات، كما هو الحال مع احتجاجات مدينة زاهدان، والتي أرغمت الحكومة على إقالة قائد الشرطة بالمدينة.
لكن صحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية طالبت بأن تكون “الجامعات أفضل موقع للمفاوضات”. وتسأل صحيفة “جمهوري إسلامي” في افتتاحيتها: “لماذا نتخاصم بدلاً من أن نتفاهم؟”.
الصحف المقربة من الحرس الثوري والمرشد، ومنها صحيفة “جوان”، اتهمت الاحتجاجات بأنها “مهندسة” و”مخطط لها”. وقالت: “طبيعة الاحتجاجات الحالية شبيهة بما حدث من اضطرابات في بداية الثورة الإيرانية”.
كما أيدت “كيهان” حملة القمع الدامية والاعتقالات بحق الصحافيين، بينما وصفتهم بأنّهم “متعاونون مع الاستخبارات الأميركية”. كما طاولت اتهاماتها التيار الإصلاحي على خلفية مطالباته بالتهدئة والإفراج عن الموقوفين.
وعقّب النائب البرلماني الإصلاحي، مسعود بزشكيان، على موقف التيار الأصولي بالإصرار على التمادي في ممارساتهم دون الاعتراف بالمسؤولية أو الأخطاء، كما نقلت صحيفة “شرق”. وأردف: “هؤلاء نراهم الآن وبدلاً من الاعتراف بالأخطاء وتحمل المسؤوليات، يصفون المتظاهرين بأعداء الثورة، وهذه محاولة من هؤلاء للهروب من مسؤوليتهم. وكان عليهم أن يعترفوا ويقروا بأنهم كانوا يجهلون كيفية إدارة الأمور”.
يتزامن موقف النخبة الحاكمة مع إعلان الأمم المتحدة “قلقها المتزايد” بشأن التقارير الحقوقية التي وثقت زيادة أعداد القتلى في التظاهرات المستمرة لأكثر من شهر. وقد أدان ناطق بلسان المنظمة الدولية “جميع الحوادث التي أسفرت عن وقوع وفيات أو إصابات خطيرة للمتظاهرين”. فيما دعا المسؤول الأممي قوات الأمن بضرورة “تجنب جميع أشكال الاستخدام غير الضروري أو غير المتناسب للقوة ضد المتظاهرين السلميين”. وتابع: “تجب محاسبة المسؤولين عن ذلك”.
الاصطفافات الأممية، للضغط على طهران، تتمثل في محاولة فرض عقوبات جديدة على خروقات الملالي الحقوقية، وفق ما أعلنت وكالة “رويترز” للأنباء. ومن المزمع إجراء جلسة غير رسمية لمجلس الأمن الدولي. وهي الجلسة التي من المتوقع أن تتحدث فيها المحامية والحقوقية الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل، شيرين عبادي، والممثلة والناشطة الإيرانية نازانين بونيادي.
ووفق المذكرة التي اطلعت عليها “رويترز”، فإنّ “الاجتماع سوف يسلط الضوء على القمع المستمر للنساء والفتيات وأفراد الأقليات الدينية والعرقية في إيران. وسيحدد فرص تشجيع إجراء تحقيقات موثوق بها ومستقلة في انتهاكات وتجاوزات الحكومة الإيرانية لحقوق الإنسان”.
وفي المقابل، وصفت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة، في نيويورك، واشنطن وحلفاءها، بأنّها تستغل المنصات الدولية لجهة “تعزيز أجنداتها السياسية”.
وتابعت: “في ضوء نفاقها والكيل بمكيالين والتطبيق الانتقائي لحقوق الإنسان، نجد أن مزاعم الولايات المتحدة بدعم الإيرانيات خادعة وتفتقر إلى حسن النية”.
كما قال الناطق بلسان الحكومة الألمانية شتيفن هيبيشترايت: “ندين بشدة الاستخدام غير المناسب للقوة من قبل قوات الأمن الإيرانية ضد المتظاهرين هناك”. وأكد أنّ برلين تؤيد العقوبات الإضافية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على إيران. وختم: “تستخدم برلين إمكانياتها لدعم الناس الذين نزلوا إلى الشوارع في إيران من أجل حقوقهم”.
درج
——————————
كيف انعكست الاحتجاجات في إيران على سياستها الخارجية؟/ إياد الجعفري
يمكن لحظ جملة مؤشرات برزت في الآونة الأخيرة، تفيد بأن السياسة الخارجية الإيرانية تتجه نحو التهدئة في معظم الملفات ومناطق النفوذ الخاصة بها، باستثناء اليمن، وذلك مع تواصل الاحتجاجات الشعبية في الداخل، واتساع نطاقها الجغرافي والديمغرافي، بالتزامن مع عدم حسم ملف خلافة المرشد، في وقتٍ تتبدى فيه تباينات في المواقف حيال كيفية معالجة الاحتجاجات الراهنة، من داخل النخبة الحاكمة في طهران، وإن بقي المعلن من هذه التباينات، محدوداً.
ففي العراق، وبعد عامٍ من الشلل المؤسساتي والصراع السياسي الذي اتخذ منحنى دامياً في الصيف الفائت.. وخلال أيام فقط، انتُخب رئيس للجمهورية، كلّف بدوره رئيساً للوزراء، ونالت حكومة هذا الأخير الثقة من البرلمان، في سلاسة وسرعة غير معتادة في الحياة السياسية ببغداد. وكان لافتاً أن القوى الموالية لطهران، التي تُحكم سيطرتها على البرلمان -بعد انسحاب كتلة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر منه- انتخبت رئيساً “كردياً” محسوباً على الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل. وهو الفصيل الكردي الذي يحكم إقليم “كردستان العراق”، والذي يُعد مقرّباً من تركيا. وكان ذلك على حساب الرئيس العراقي السابق، برهم صالح، الذي كان يُوصف حين انتخابه عام 2018، بأنه “رجل إيران”، وهو المحسوب على الاتحاد الوطني الكردي في السليمانية، الذي يُعد بدوره، مقرّباً من طهران. وهو ما يؤشر إلى رغبة إيران في التقرّب من حزب مسعود بارزاني، الذي يدير مناطق يعيش فيها أكراد إيرانيون، وتقيم فيها جماعات معارضة كردية إيرانية، سبق أن اتهمتها طهران بالوقوف وراء تصاعد الاحتجاجات على وفاة الشابة مهسا أميني، التي كانت قد تفاقمت بدايةً في المدن “الكردية” في شمال غربي إيران المحاذي لـ “إقليم كردستان العراق”، قبل أن تمتد إلى باقي المدن الإيرانية.
وكما أشرنا، كان من اللافت سرعة الاتفاق على حصص القوى السياسية المشكلة لحكومة محمد شياع السوداني. وعادةً ما يستغرق تشكيل الحكومات في بغداد، أشهراً من المفاوضات على الحصص والمناصب. وتسيطر القوى الموالية لإيران على معظم المناصب المهمة في الحكومة الجديدة، لكنها نحّت جانباً جميع خلافاتها البينية المتعلقة بالحصص والمكاسب، لصالح الخروج بحكومة موحدة، يبدو جلياً أن الهدف منها تجنب حصول احتجاجات شعبية ضخمة في الوسط الشيعي العراقي، بدفعٍ من مقتدى الصدر، صاحب النفوذ الكبير في هذا الوسط، والذي خرج من العملية السياسية تماماً، بعد أن عرقلت طهران محاولاته لتشكيل حكومة يحظى فيها باليد العليا، وذلك على مدار العام الجاري. وما يؤكد ذلك، هو تركيز خطاب القوى الموالية لإيران الممثلة في “الإطار التنسيقي”، عقب تشكيل الحكومة، على شعار “استعادة هيبة الدولة”، ما يعني أن هدف هذه “السلاسة” في توحيد الصفوف، هو مواجهة خطر انفجار “الشارع الشيعي” مجدداً، ضد الموالين لإيران، على وقع تفاقم الاحتجاجات في الداخل الإيراني.
وبالانتقال إلى لبنان، شهدت البلاد في شهر تشرين الأول/أكتوبر، انفراجةً سياسية أيضاً. إذ وُقّع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بعد أن أبدى حزب الله مرونة مفاجئة، تنازل فيها عن الخط 29، الذي كان مصرّاً سابقاً على التمسك به. انقلاب موقف حزب الله من التشدد والتلويح بالاشتباك المسلح مع إسرائيل قبل أشهر فقط، إلى المرونة والحديث عن الوقوف وراء “الدولة اللبنانية”، أدى إلى إنجاز اتفاقٍ يخدم المصالح الإسرائيلية بصورة كبيرة، إذ إن استخراج الغاز من حقل كاريش بات متاحاً الآن للدولة العبرية. كما أن اتفاق الترسيم أشبه باعتراف ضمني من حزب الله بالكيان الإسرائيلي، وفق مبدأ الاعتراف بالحدود، اعتراف بالوجود.
فيما الجانب اللبناني، الذي يمسك حزب الله بزمامه عبر مؤسسات “الدولة”، قدّم تنازلاً في حقل كاريش، وتمسك بحقل قانا، الذي يتطلب استخراج الغاز منه وقتاً طويلاً، إذ إن التنقيب اللبناني لم يبدأ بعد، ناهيك عن الضرورات اللوجستية التي يفتقد إليها لبنان، والتي ستجعل من استخراجه للغاز، أمراً قد يتطلب سنوات. مما يعني أن ذريعة القبول بترسيم الحدود، بهدف الحصول على الغاز لدعم اقتصاد لبنان المنهار، ليست دقيقة. وما حدث، هو مرونة “إيرانية” حيال إسرائيل، في توقيتٍ أرادت فيه طهران التقرّب من واشنطن (الوسيط في مفاوضات الترسيم)، للحفاظ على الدعم الغربي للاحتجاجات الداخلية، عند مستوى “الدعم اللفظي المعنوي”، وعدم تجاوزه إلى أبعد من ذلك.
رغبة طهران في التهدئة مع الغرب، تظهر جلياً أيضاً في ملف المسيّرات الإيرانية التي تستخدمها روسيا في أوكرانيا. إذ تمسّك الخطاب الرسمي الإيراني بعدم علم طهران بأن موسكو تستخدم “طائراتها” في تلك الحرب. وقد أطلقوا وعداً باتخاذ موقف من الشريك الروسي في حال ثبت ذلك. ووصل الأمر إلى حد إجراء وزير الخارجية الإيراني، اتصالاً مع نظيره الأوكراني، ليؤكد نفي قيام بلاده بتزويد روسيا بطائرات مسيّرة بغاية استخدامها في الحرب بأوكرانيا، مؤكداً على رفض طهران ضم روسيا للمحافظات الأوكرانية الأربع، مؤخراً.
لكن المشهد يختلف في اليمن. فالسياسة الخارجية الإيرانية دفعت هناك نحو التصعيد، وأوعزت لميليشيا الحوثي الحليفة لها، برفض تمديد الهدنة، والتهديد باستهداف السعودية والإمارات. يأتي ذلك بالتزامن مع توتر العلاقات بين البلدين الخليجيين من جهة، وبين واشنطن من جهة ثانية، من جراء تخفيض إنتاج النفط في اجتماع مجموعة “أوبك+”، مطلع تشرين الأول/أكتوبر. وهكذا يبدو التصعيد “الإيراني” في اليمن، منسجماً إلى حدٍ ما، مع المصالح الأميركية.
أما في سوريا، فلا يمكن قراءة أية مؤشرات لتغيّر في سياسة إيران حتى الآن. وذلك بسبب استقرار المشهد السياسي والأمني لصالح نظام الأسد الحليف لطهران، وعدم وجود تحديات مباشرة للنفوذ الإيراني، في الوقت الراهن. لكن يبقى السؤال مطروحاً: كيف ستتعامل طهران مع ظهور تحدٍ مستجدٍ لنفوذها في سوريا فيما تتفاقم الاحتجاجات في الداخل الإيراني؟ الجواب على الأرجح، أنه كما حدث في الساحتين العراقية واللبنانية، فإن طهران ستقدم تنازلات لقوى إقليمية وداخلية، بهدف التهدئة، في الساحة السورية أيضاً. إذ من المتوقع أن يستنفر النظام الحاكم في إيران كل موارده وإمكاناته البشرية والمادية، بهدف القضاء على الاحتجاجات، ومنع تحولها إلى تهديد وجودي جدّي له. لكن، حتى لو تمكن النظام الإيراني بالفعل، من إخماد تلك الاحتجاجات، فإن النخبة الحاكمة -ومع تكرار الاحتجاجات كل بضع سنوات وتفاقمها أكثر في كل مرة- باتت مضطرة لتوفير المزيد من الاهتمام للداخل. خاصة على الصعيد الاقتصادي. وكما في احتجاجات العام 2019، رفعت الاحتجاجات الراهنة شعارات تدين التدخل الإيراني في دول المنطقة، معتبرةً أن كلفته الاقتصادية تنعكس على معيشة الإيرانيين. وفي هذا الحيز بالذات، قد تكون حصيلة الاحتجاجات حتى لو أُخمدت، تراجعاً في الدعم الاقتصادي الإيراني للحلفاء والأذرع في المنطقة، الأمر الذي سينعكس بصورة خاصة، على نظام الأسد، الذي يعيش –إلى حدٍ كبير- بفضل المعونة الاقتصادية الإيرانية.
تلفزيون سوريا
——————————
أيّام حاسمة في إيران/ خيرالله خيرالله
صورة من المواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين في طهران. (أ ف ب)
تبدو الأيّام المقبلة حاسمة في إيران، خصوصاً أنّ النظام نفسه بدأ يعي أن ما يشهده البلد بات ثورة شعبيّة حقيقيّة تشمل مناطق عدة وشعوباً إيرانيّة مختلفة. لم يعد أمام النظام سوى اللجوء إلى القمع إذا كان مطلوباً الحفاظ على “الجمهوريّة الإسلاميّة” كما حدّد مفهومها آية الله الخميني عام 1979، عندما سقط نظام الشاه. هل يكفي القمع للحفاظ على نظام لا علاقة له بكل ما هو حضاري في هذا العالم؟
سيتبيّن في الأيّام المقبلة هل لا يزال الخيار القمعي خياراً ناجعاً بعدما تأكّد أن المواطن الإيراني يسعى، كما حصل في سوريا، إلى استعادة بعض من كرامته التي حُرم منها طوال ما يزيد على أربعة عقود.
ليس هناك ما يشير إلى خطورة المرحلة التي تمرّ بها الثورة الشعبيّة الإيرانية أكثر من اضطرار النظام إلى اللجوء إلى “داعش” لتنفيذ هجوم على مقام شيعي في شيراز. لا يشبه لجوء النظام إلى “داعش” سوى ما فعله النظام السوري في مواجهة الشعب السوري ابتداءً من عام 2011. عندما وجد النظام السوري أنّ الشعب السوري، بكلّ فئاته، في ثورة عليه، لجأ إلى”داعش” وما شابه “داعش” للادعاء أنّه يقاتل “الإرهاب”.
هذا ما فعله النظام الإيراني في شيراز، حيث قتل ما يزيد على عشرين مصلّياً في هجوم لـ”داعش” على مقام ديني. من أين جاء “داعش” الذي لم يكن في يوم من الأيّام سوى صنيعة النظامين الإيراني والسوري وأداة يستخدمها هذان النظامان في العراق وسوريا؟
جاء الآن دور استخدام “داعش” في إيران نفسها. ليس معروفاً هل سيستطيع “الحرس الثوري” الإيراني استخدام هذا التنظيم الإرهابي لتغطية القمع الذي قرّر اللجوء إليه في ضوء اكتشافه أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بحرّية وضع المرأة للحجاب أو عدم وضعه… أو طريقة وضعه؟
من يستمع إلى قائد “الحرس الثوري” حسين سلامي يطلق تهديدات في كلّ الاتجاهات يتأكّد من أن الأيّام المقبلة ستشهد مزيداً من القمع في ظلّ إصرار الجيل الإيراني الشاب، خصوصاً طلاب الجامعات، بما في ذلك جامعات طهران، على متابعة تحرّكهم. لم يتردّد سلامي في شنّ حملة على المملكة العربيّة السعودية، وذلك في محاولة واضحة لتفادي استيعاب أنّ المشكلة مع الشعب الإيراني وليست مع هذه الدولة أو تلك. أكثر من ذلك، يتجاهل المسؤولون الإيرانيون، عندما يتحدثون عن دور أميركي في الداخل الإيراني، أن إدارة جو بايدن تعمل كل ما تستطيع عمله من أجل مراعاة النظام من جهة، والتغاضي عن ارتكاباته من جهة أخرى.
لم يعد الموضوع في “الجمهوريّة الإسلاميّة” موضوع الحجاب وحريّة المرأة والمواطن عموماً. بات الموضوع مرتبطاً بمستقبل النظام الذي لم يستطع إيجاد نموذج يصدّره غير الميليشيات المذهبيّة ونشر البؤس في كلّ مكان صار لديه فيه وجود ما، أكان ذلك في العراق أو سوريا أو لبنان… أو اليمن. أينما صار لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” وجود، يحل الخراب والفوضى وتظهر على السطح الغرائز المذهبيّة.
يقضي النظام على الثورة الشعبيّة أو يفشل في ذلك؟ الجديد في الأمر أن للثورة الشعبيّة التي تشهدها “الجمهوريّة الإسلاميّة” هذه الأيّام خلفيات مختلفة، خصوصاً أنّها جاءت في وقت باتت مطروحة فيه مسألة خلافة “المرشد” علي خامنئي الذي تجاوز الـ83 من العمر. الأكيد أنّ صراعاً بين مراكز النفوذ يدور حالياً. محور الصراع من سيخلف خامنئي الذي جعل “الحرس الثوري” القوّة المهيمنة على البلد واقتصاده. ليست غريبة تلك الحملة لوسائل إعلام قريبة من “المرشد” على الرئيس السابق محمّد خاتمي، رغم أنّ انتقاداته للنظام كانت ملتبسة إلى حد كبير وبعيدة من الصراحة…
الأهمّ من ذلك كلّه أن التحركات الشعبية شملت كل المناطق الإيرانية وكلّ القوميات، خصوصاً الأذريين. هؤلاء يمتلكون نظرة خاصة بهم إلى إيران من جهة، إضافة إلى أنّهم يمتلكون نفوذاً قوياً سياسياً واقتصادياً في كلّ المجالات، بما في ذلك بازار طهران، من جهة أخرى.
فوق ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل انكشاف عمق العلاقة الروسيّة – الإيرانيّة والدور الإيراني في الحرب الأوكرانيّة، عن طريق المسيّرات التي يستعين بها فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا وشعبها.
إيران إلى أين؟ الجواب الوحيد أن دولة غير طبيعية مثل “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا يمكن إلّا أن تكون مقبلة على تغييرات في العمق. ليست المسألة مسألة حصول هذه التغييرات بمقدار ما أنّها مسألة وقت، أي متى ستحصل هذه التغييرات؟
لا يعود ذلك إلى أن الشعوب الإيرانية صارت تعي أنّ النظام لا يمتلك أي حلول غير القمع فحسب، بل لأنّ هذه الشعوب تدرك أيضاً أنّ لا سبيل آخر غير التخلص من النظام… إذا كانت تريد استعادة حريتها والتمتع بثروات إيران، وهي ثروات كبيرة ومتنوعة، في يوم من الأيّام.
النهار العربي
————————
الممانعون يحيّدون أميركا: دول إقليمية تؤجج الداخل الإيراني/ راغب ملي
تسقط الولايات المتحدة من حسابات الجمهور الموالي لإيران بزعم دور لها في إشعال الداخل الايراني من خلال الفضاء الإعلامي والرقمي، ويتهمون دولاً إقليمية وعربية محيطة بإيران، في إشعال الاحتجاجات التي لم يستطع النظام إخمادها حتى الآن، مما يشكل انقلاباً في الأدبيات الايرانية التي تصف أميركا بـ”الشيطان الأكبر”، والتي لطالما اعتبرت خصومها مجرد “أتباع للولايات المتحدة وينفذون أجندتها”.
السعودية منبهرة بصمود “المتظاهرين” في #ايران وتشيد بكون “خطابات التخوين وآلة القمع” -على حد وصف الحدث- لم توقف الاحتجاجات.الرياض عاصمة الحريات و🪚الصحفيين أعدمت في يوم واحد فقط من هذا العام 81 شخصاً بعد تخوينهم وقمعهم وتعذيبهم على خلفية مطالب سياسية تظاهروا من أجلهاومنهم من كتمها https://t.co/aikxh64KQg
— Israa Alfass || إسراء الفاس (@Israa_Alfass) October 28, 2022
فمنذ وفاة الشابة الايرانية مهسا أميني يوم 16 من سبتمر /أيلول الماضي بعد 3 أيام من اعتقالها على يد شرطة الأخلاق بدعوى عدم ارتداء ثياب محتشمة، يستمر الإيرانيون بالتظاهر بمختلف خلفياتهم وانتماءاتهم، وكأن هذه الحادثة جاءت لتفجر وضعاً كان على فوّهة بركان.
ارتفعت الأصوات التي تحمّل السياسات الخارجية للنظام الإيراني، مسؤولية المعاناة التي يعيشها الإيرانيون، فيما صدحت في الداخل أصوات أخرى تطالب بالتخلّص من النظام العقائدي وقبضة الحرس الثوري على مفاصل الدولة وتركيبة المجتمع.
أمام هذا الغليان الداخلي، لم يقف النظام متفرجاً، فخرج قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي ليرد على المتظاهرين ويحذرهم من الخروج الى الشارع، قائلاً: “ينبغي ألا يختبر المتظاهرون صبر النظام”، في رسالة تهديد واضحة ومباشرة للمُحتجّين، بموازاة اتهامات بالتدخل الأجنبي في الساحة الإيرانية، وهو ما جاء على ألسنة مسؤولين إيرانيين.
دول إقليمية
لكن الاتهامات الموجهة للولايات المتحدة، تبدو أقل حدة من الاتهامات الموجهة الى دول اقليمية تتسم علاقتها مع طهران بالخصومة. وهو ما برز في تغريدات الناشطين الموالين لإيران. وبعيداً من التأييد والولاء المُطلق الذي يظهره الموالون في مواقفهم الداعمة للنظام الإيراني في كافة القضايا، ولو كانت قضايا إنسانية بحتة، ذهب هؤلاء في اتجاه التصويب الشرس على المنصّات العربية التي تنقل حدث الشارع الإيراني.
ملايين الإيرانيين خرجوا في مظاهرات عارمة اليوم، في عددٍ من المدن الإيرانية، تأييداً للجمهورية الإسلامية، وتنديداً بجريمة شيراز الإرهابية ‼️
الإعلام العربي (العبري الهوى والهوية) لم ينقل هذا الحدث الكبير لأنه يعلم أن نقل التفاف الشعب الإيراني حول قيادته صفعة موجهه له
هوالله
— عبدالسلام جحاف (@jahafabdulsalam) October 28, 2022
موجات المواقف والآراء وتفاعلات شبكات التواصل الاجتماعي تذهب في شكل رئيسي نحو دور بعض الأنظمة العربية ومؤسساتها الإعلامية في دعم وتجييش الرأي العام ضد النظام الإيراني، فيما تُغيّب هذه الجماهير المايسترو الأميركي ودوره المحوري والمركزي في هذه الحملة، ودور الأمة الأوروبية التي تنتقم من قتل إيران للشعب الأوكراني، ويذهب الممانعون في التطرف بآرائهم، وتتحول الانتقادات والحملات الرقمية تجاه دول عربية مما ينتج آثاراً سلبية للعلاقات والتواصل مع الشعوب موضوع الحملة.
تحضر الخصومة السياسية والتجاذبات الإقليمية بين الجمهور الموالي لإيران والدول العربية، لتوظيفها في المواقف المترتبة عن أي حدث يشعر هذا الجمهور أنه يستهدف النظام الإيراني، حتى لو نتج عن ذلك تحييد دور الولايات المتحدة الأميركية وما يترتب عليه من سياسات وعقوبات ومحاولات لعزلة إيران دولياً.
“لا يمكن للسعوديّة أن تعبث بأمن غيرها وتشعر هي بالأمان..
نعم، عليكم أن تقلقوا..”#قائد_الحرس_الثوري
— حسين زين الدين (@sheikhhusseinzd) October 29, 2022
توتر مع الغرب
والواقع أنه لا يمكن فصل حدث حقوقي ومَطلبي كهذا في الداخل الإيراني، عن طبيعة العلاقة بين إيران والغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، حيث واجهت إدارة بايدن انتقادات واسعة لسياساتها حيال إيران. وفي المقابل، ردت الإدارة الأميركية على هذه الاتهامات بنفي مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، أن تشكل المفاوضات مع إيران أي عائق أمام الولايات المتحدة للإعراب عن دعمها للمتظاهرين.
هي نقطة إضافية في سجل العداء التاريخي بين البلدين. فالعداء بين الولايات المتحدة وإيران يعود إلى زمن انتصار الثورة الخمينية العام 1979. ومنذ ذلك التاريخ، تتباين المواقف الأوروبية والغربية من إيران، لكن السمة العامة للعلاقات تبقى “غير جيدة”، الأمر الذي ينعكس في سياسات وتوجّهات المؤسسات الإعلامية الأميركية والغربية.
منذ انطلاق الاحتجاجات، وهذا الحدث يحظى بمساحة كبيرة في تغطيات الإعلام الغربي، عناوين عريضة في الصحف، أخبار عاجلة وتغطيات مُستمرة في الفضائيات، منشورات ومواد تفاعلية رقمية.
وتأخذ هذه الحملة الإعلامية تجاه النظام الإيراني، منحى تصاعدياً، تحديداً بعد الحديث عن تزويد إيران، الجيش الروسي، بالمسيّرات، ما جعل الغرب يعتبر الجانب الإيراني شريكاً في قتل الشعب الأوكراني. وانعكس هذا الأمر في الخطاب الإعلامي الغربي وفي التفاعلات الرقمية والنقمة على النظام الإيراني بإعتباره قاتلاً وحليفاً عسكرياً ولوجسيتياً لروسيا، العدو الأول للولايات المتحدة والغرب اليوم.
مما لا شك فيه أنّ قضية المسيرات الإيرانية شكّلت حافزاً لتصعيد الحملة الإعلامية والرقمية على النظام الإيراني ودعم المتظاهرين الذين ينادون بالتخلّص من دولة ولاية الفقيه، ومن جانب آخر شكّلت قضية المسيرّات عاملاً استقطابياً للغضب الشعبي الغربي بشكلٍ عام، والأوروبي بشكلٍ خاص.
ولإطمئنانهم بما يلي:
١- أن الأمور أقل وأقل بكثير مما يطرحه الإعلام العربي والموجه توجيها صهيونيا.
٢- وهذا مهم ومهم جدا؛ حيث تظهر بعض الفيديوات وفيها اعتداءات بإسقاط عمائم بعض رجال الدين والقائها على الارض وهذا أمر مهم ننبه
اليه بأنه مفبرك رغم أن هذه الحالة حدثت بشكل نادر جدا
— Z S زينب (@ZSaad41355283) October 31, 2022
المدن
————————————-
إيران:طلاب الجامعات رفضوا “الخروج من الشارع“
تواصلت احتجاجات الإيرانيين على بالنظام القائم في البلاد، في تحدٍ لحملة القمع التي تشهد حالياً محاكمة موقوفين يواجه عدد منهم عقوبة الإعدام.
وأظهرت مقاطع مصورة استمرار الإيرانيين لا سيما الجامعات في احتجاجاته ضد النظام، رغم التحذير الذي وجهه لهم قائد الحرس الثوري السبت، بالخروج من الشوارع.
الجامعات تقود الحراك
وواصل الطلاب في مختلف الجامعات في جميع أنحاء البلاد احتجاجاتهم الثلاثاء، ونظموا إضراب وتجمعات احتجاجية، حيث شملت الاحتجاجات جامعة الزهراء في طهران، وجامعة طهران شمال، وأمير كبير بطهران، وجامعة يزد، وجامعة طهران، وبهشتي بطهران، والجامعات الحرة غربي طهران، وجامعة العلامة طباطبائي في طهران، وجامعة شريف في طهران، وجامعة أصفهان، وجامعة آمل، وجامعة خوارزمي وجامعة مشهد.
تظهر مقاطع فيديو تلقتها “إيران إنترناشيونال” استمرار الشعب الإيراني لا سيما الجامعات في انتفاضته ضد النظام. واليوم، الثلاثاء الأول من نوفمبر، اجتمع طلاب جامعة “آمل” وهتفوا: “المرأة، الحياة، الحرية، والرجل، الوطن، البناء”.#احتجاجات_إيران pic.twitter.com/2M5ndbtejj
— إيران إنترناشيونال-عربي (@IranIntl_Ar) November 1, 2022
ونظم طلاب هذه الجامعات وغيرها اعتصامات، ورددوا شعارات مناهضة للنظام الإيراني، فيما تجمع طلاب جامعة “صنعتي” أصفهان لدعم الطلاب الموقوفين. كما تجمع طلاب جامعة “خورازمي” بطهران، ورددوا هتافات مثل: “يجب إطلاق سراح الطالب المسجون”.
وأضرب طلاب جامعة “طهران شمال” عن الحضور، وتجمعوا في الحرم الجامعي، بعد يومين من هجوم عناصر الأمن الإيرانية وقوات ترتدي الملابس المدنية ضدهم .
وتشهد إيران منذ ستة أسابيع احتجاجات غير مسبوقة منذ الثورة الإسلامية في العام 1979، على أثر وفاة الشابة مهسا أميني في أيلول/سبتمبر، بعد ثلاثة أيام على توقيفها من قبل شرطة الأخلاق التي اتهمتها بخرق قواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.
وحذّرت السلطات المتظاهرين الأسبوع الماضي من أنّ الوقت قد حان لمغادرة الشوارع، لكن لم تظهر أيّ مؤشرات على تراجع الاحتجاجات التي تواصلت في مناطق سكنية وشوارع رئيسة وجامعات في جميع أنحاء البلاد.
مراسم الحداد تؤرق السلطة
وذكرت منظمة حقوق الإنسان في إيران ومقرها أوسلو، أن الاحتجاجات أسفرت عن مقتل 160 متظاهراً على الأقل. ولقي 93 شخصاً على الأقل حتفهم في تظاهرات منفصلة اندلعت في 30 أيلول/سبتمبر في مدينة زاهدان في جنوب شرق البلاد على خلفية تقارير أفادت عن تعرّض فتاة للاغتصاب من قبل مسؤول في الشرطة، بحسب المنظمة الحقوقية.
ويتفاقم التحدّي بالنسبة للسلطات كلما تم احياء ذكرى مرور أربعين يوما على وفاة شخص ما في إيران جراء القمع، مع تحول مراسم الحداد إلى بؤرة احتجاج محتملة.
وردّد سكان منطقة أكباتان في طهران في وقت متأخر من الإثنين، شعارات الحركة الاحتجاجية بما في ذلك “الموت للدكتاتور”، في الوقت الذي استخدمت فيه قوات الأمن القنابل الصوتية في محاولة لفضّ التحرّك، وفقا لمقاطع مصورة نُشرت على موقع رصد “1500تصوير” ومواقع أخرى.
وفقا للتقارير التي تلقتها “إيران إنترناشيونال” من طهران، فقد توجهت قوات الأمن الإيرانية إلى حي “أكباتان” حيث يشهد احتجاجات، وهددت السكان. كما أطلقت العناصر الأمنية الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت.#احتجاجات_إيران pic.twitter.com/tRp6qNzYuH
— إيران إنترناشيونال-عربي (@IranIntl_Ar) October 31, 2022
وأفادت منظمة “هينغاو” لحقوق الإنسان التي تتخذ من النروج مقرّا، بأن الجنازة التي أُقيمت في مدينة سنندج الرئيسة في محافظة كردستان في شمال غرب إيران الإثنين، للفتاة سارينا سعيدي البالغة من العمر 16 عاما، التي قُتلت خلال التحرّكات الاحتجاجية، تحوّلت إلى احتجاج تخلّلته هتافات معادية للنظام، بينما قامت نساءٌ بخلع حجابهن.
كذلك، نشر موقع “1500 تصوير” مقطعاً مصوراً جرى تداوله على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، يُظهر طلاّبَ طبّ يحتجّون في مدينة تبريز الشمالية، وهم يقولون للسلطات “أنتم المنحرفون!”، في رسالة إلى شرطة الأخلاق.
ولفتت “هينغاو” إلى أن من بين الذين دُفنوا الإثنين، قمار دارفتاده البالغ من العمر 16 عاماً والذي يتحدّر من بيرانشهر في شمال غرب إيران. وقالت إن قوات الأمن أطلقت عليه النار على مسافة ثلاثة أمتار وتوفي لاحقاً في المستشفى.
وأوقف آلاف الأشخاص في مختلف أنحاء البلاد خلال حملة قمع الاحتجاجات، حسبما أفاد ناشطون حقوقيون، بينما أعلن القضاء الإيراني أنّ ألف شخص وُجّهت إليهم اتهامات بالفعل، بشأن صلتهم بما وصفه بأنه “أعمال الشغب”.
وبدأت السبت في طهران محاكمة خمسة رجال متّهمين بارتكاب جرائم يمكن أن يعاقب عليها بالإعدام، على خلفية الاحتجاجات. وحُكم على أحد هؤلاء الرجال، وهو محمد قبادلو، بالإعدام في الجلسة الأولى للمحاكمة، وفقا لمقطع مصور لوالدته نشره مركز عبد الرحمن بوروماند ومقره واشنطن. لكن لم يجر تأكيد هذا الأمر من قبل القضاء.
———————————–
====================
تحديث 08 تشرين الثاني 2022
——————————
إيران ولاية الفقيه تخشى سقوط العمامة/ راغب ملي
منذ بداية الاحتجاجات الإيرانية في أيلول/سبتمبر الماضي، كان شعار “امرأة، حرية، حياة” حاضراً للتعبير عن المحتجين الغاضبين إثر وفاة الشابة مهسا أميني (22 عاماً) بعد اعتقالها على يد شرطة الأخلاق بتهمة ارتداء الحجاب بشكل فضفاض، لكن شعاراً جديداً بدأ يطغى على مواقع التواصل مع مقاطع الفيديو التي تظهر تعرّض رجال دين إيرانيين للاستهزاء من شبان وشابات إيرانيات، في الشوارع.
يصرخ الإيرانيون اليوم “العمامة عفا عليها الزمن” (#عمامة_ پرانی بالفارسية) فيما تدخل الاحتجاجات المُناهضة لنظام الملالي أسبوعها الثامن. وفي بلد تحكمه عمامات رجال الدين المتشديين منذ 40 عاماً، تبرز الآن بكثرة مقاطع الفيديو في مواقع التواصل، حيث يظهر رجال دين يمشون في الشوارع ومن ثم يقوم شاب أو فتاة أو حتى طفل بإسقاط عمامته أرضاً، وهذا لافت باعتبار أن تحدي رجال الدين يعتبر جريمة خطيرة في البلاد.
والحال أن الانتفاضة على العمامة وتعمّد الناشطين المُحتجين نشرها والترويج لها بكثافة، لا يرتبط بالبُعد الشخصي أو العقائدي لرجل الدين المُستهدف، بل ينظر المواطنون الإيرانيون المُحتجون الآن إلى رجال الدين على أنهم رجال سلطة، وأن العمامة التي يضربونها بأيديهم ويسقطونها على الأرض تُمثّل رمزاً للنظام الحاكم الذين يطمحون لإسقاطه، وهو النظام السياسي المسؤول عن الأوضاع السياسية والاجتماعية المُزرية، والقمع والجوع الذي يعانيه الشعب الإيراني، رغم رفع النظام هذا شعارات نُصرة المستضعفين في العالم، بغطاء ديني، إثر الثورة الإسلامية التي أوصلت رجال الدين المتشديين إلى السلطة العام 1979.
چالش ملی #عمامه_ پرانی
امیدواریم همیشه صبح شادی داشته باشید
این بار تیمی با موتور رفتن سراغش#انقلاب#سیستان_بلوچستان #مهسا_امینی #نیکا_شاکرمی#حدیث_نجفی#ایران #کردستان#مظاهر_حیدری#اوین pic.twitter.com/Dq3afqcPpW
— Aylin_Moghadam (@Aylin_Moghadam) November 4, 2022
ومن الواضح أنّ الشباب الإيراني يتعمّد تصوير ونشر المقاطع التي تظهر الاستهزاء برجال الدين، من أجل كسر حاجز الخوف والقدسية التي خلقها النظام حول رجال الدين.
وخلال مقابلة مع “راديو أوروبا الحرة” الأميركي، الذي يركز على الشؤون الإيرانية، قال رجل الدين المعارض أبو الفضل نجفي طهراني، المقيم في طهران، في آب/أغسطس الماضي، أن الأداء السيئ للمؤسسة الدينية الإيرانية وتدخلها في الحياة اليومية للإيرانيين وفشل رجال الدين في الاستجابة للاحتجاجات الحديثة، أسباب للفجوة بين رجال الدين والشعب الذي اتسع منذ الثورة وإنشاء الجمهورية الإسلامية.
وذكر نجفي طهراني أيضاً أنّه في السنوات الأخيرة “شهدنا كراهية الناس وغضبهم تجاه رجال الدين بشكل خاص الذين يتبعون سياسات الدولة”، مضيفاً أن الغضب أدى إلى اعتداءات على رجال الدين الذين يفرضون “أسلوب حياتهم الرجعي على الآخرين”.
ومنذ بدء الاحتجاجات، نشطت الماكينة الاعلامية والشبكة مُتعدّدة الأوجه المرتبطة بالنظام الايراني، لتقديم سردية حول الاحتجاجات المُشتعلة في إيران. وتتألف تلك الماكينة من مؤسسات إعلامية وفضائيات وصحف وإعلاميين وناشطين ومؤثرين، إضافة إلى منظومة الشبكة الرقمية حسابات وصفحات موالية لنظام طهران في مواقع التواصل.
#عمامه_پرانی#مهسا_امینی
گوشه هایی از دور اول مسابقات جهانی عمامی پرانی تهران pic.twitter.com/YbnCF1gGkh
— فدراسیون عمامه پرانی (@iatf_official) November 4, 2022
فمن جهة، عملت الماكينة السابقة على الترويج لنظرية الارتباط بالخارج وتنفيذ الأجندات الغربية والعمالة للشيطان الأكبر (الولايات المتحدة)، ومن جهة أخرى ركزت على شيطنة العناصر المُعارضة للنظام الديني، وتقديمهم للرأي العام بصورة المجرمين والقتَلة وبأنّهم يحملون أفكاراً داعشية تحديداً بعد الهجوم الارهابي الذي حصل في شيراز. وتكثفت الجهود بنشر المواد التفاعلية من صور و فيديوهات لضحايا الهجوم الإرهابي وبعض الاعتداءات التي تحصل في الشارع الإيراني، وربط هذه الاعتداءات بالمُحتجين والمعارضين للنظام الديني ورسم هذا الحراك بصورة نشاط لتنظيم “داعش”.
وهنا تحديداً، أخفقت الماكينة ووقعت في التناقض لأنّه من الواضح أنّ هدف خروج المُحتجين الى الشارع يُعبّر عن جيل يطمح إلى دولة مدنية علمانية لا تواجُد فيها لأصحاب العمامات في رأس السلطة ولا أي شكل من أشكال الظاهرة الدينية في الحياة العامة وعلى رأسها السياسة، فكيف لهؤلاء المُحتجين أن يكونوا داعشيين وهم يطالبون بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة والسياسة؟!
ويكتمل المشهد الدعائي بنشر فيديوهات ترويجية ودعائية لأصحاب العمائم وتقديمهم بصورةٍ ملائكية في مشاهد تُظهر زُهدهم وتفانيهم لخدمة الشعب الإيراني. ولا يعتبر ذلك عبثياً بالطبع نظراً لحَملة الشباب الإيراني لإسقاط العمائم وتصويرها بتحدٍّ وشجاعة.
ويقول النظام الإيراني عبر جهوده الدعائية مجتمعة، أنه لن يسمح بسقوط العمامة لا في الشارع الواقعي ولا في العالم الافتراضي. لأن العمود الفقري للنظام يتمثل في قدسية رجال الدين وعمائهم. بداية من العمامة الأولى على رأس النظام، والتي تعرف بعمامة الولي الفقيه، وصولاً إلى كافة أنحاء المجتمع الايراني عبر رجال الدين المُنتشرين في كل مكان.
عمامه پرانی#مهسا_امینی pic.twitter.com/xmBcRHaChw
— +۱۵۰۰تصویر (@1500tasvir) November 4, 2022
المدن
————————–
هي شعلة لا تنطفئ… الاحتجاجات الإيرانية بعد 50 يوماً/ ناديا كريمي
بينما احتفلت السلطات الإيرانية بذكرى الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران (4 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1979)، والذي يسمى في إيران بـ”اليوم الوطني لمحاربة الغطرسة العالمية، وذكرى احتلال وكر التجسس الأمريكي، واليوم الوطني للطلاب”، ونظمت مسيرات في جميع أنحاء البلاد ردد فيها المشاركون هتاف “الموت لأمريكا”، ووصف فيها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، المحتجين، بـ”الخونة المخادعين”، شهدت إيران احتجاجات في بعض المناطق، منها العاصمة طهران، ومدينة كَرَج القريبة منها، ومحافظة سيستان وبلوتشستان جنوب شرقي البلاد.
وهذه الاحتجاجات التي تلعب فيها النساء وطلبة الجامعات دوراً بارزاً، هي استمرار لحركة احتجاجية بدأت منذ 16 أيلول/سبتمبر الماضي، بعد وفاة الشابة مهسا أميني في مخفر شرطة الحجاب في طهران.
وبعد مضي 50 يوماً أي نحو 7 أسابيع، تحث السلطات الإيرانية قوات الأمن على القضاء بسرعة على الاحتجاجات، والمتشددون في البلاد يدعون إلى مواجهة صارمة مع المحتجين. كما تتواصل السلطات الإيرانية إلقاء اللوم على الولايات المتحدة و”أعداء” آخرين بسبب دورهم في “الاضطرابات وأعمال الشغب”، وتتهمهم بمحاولة زعزعة استقرار إيران، وتغيير النظام فيها.
وفي المقابل تتداول دعوات عديدة من الشخصيات الإيرانية إلى إصلاحات جذرية في سياسات النظام، وإلى فتح باب الحوار في البلاد، بدلاً من قمع الاحتجاجات، معتبرين القمعَ بمثابة صب البنزين على نار غضب الشعب، ولكن يبدو أن السلطات الإيرانية تصرّ على مواصلة قمع الاحتجاجات وعدم التنازل عن نهجها، حيث لا يمر يوم في هذه الفترة لا تعتقل فيه السلطات الإيرانية شخصاً أو لا توجّه انتقادات أو اتهامات لشخص آخر أو جهة أخرى، أو تبث موادَّ إعلاميةً ضد الاحتجاجات والمحتجين، أو داعمة لقوات الأمن والشرطة.
ووفقاً لوكالة أنباء نشطاء حقوق الإنسان (هرانا) 300 شخص لاقوا حتفهم في الاحتجاجات الإيرانية حتى يوم الخميس الماضي، بينهم 47 قاصراً، إضافة إلى 37 من قوات الأمن. وأضافت الوكالة أن أكثر من 14 ألف شخصاً اعتقلوا، بينهم 385 طالباً، في الاحتجاجات التي خرجت في 134 مدينة وبلدة و132 جامعة.
وتواصل السلطات الإيرانية منع إقامة مراسم تشييع جثمان قتلى الاحتجاجات ومراسمات أخرى متعلقة بهم، وتستمر في تهديد عائلات ضحايا ومعتقلي الاحتجاجات، وتقوم بأخذ اعترافات قسرية من بعضهم، وذلك إلى جانب محاكمة المعتقلين في جلسات محاكمة دون محام.
وأفادت تقارير غير رسمية باعتقال عدد آخر من الصحافيين والفنانين والناشطين المدنيين في الأيام القليلة الماضية، إلى جانب تهديد وتضييق عملِ عددٍ آخر، منها الصحافية في وكالة “إرنا” الحكومية “نادرة وائلي زاده” التي أعلنت عن طردها بسبب توقيعها على بيان دعا إلى الإفراج عن الصحافيين المعتقلين خلال الاحتجاجات، والممثل الشهير “بَهْرام رادان” الذي أعلن حظره من السفر من جانب السلطات الأمنية، وإبلاغه بذلك قبل نصف ساعة من رحلته. وكتب رادان في نصٍّ أرفقه بمقطع فيديو يتحدث فيه عن ما جرى له في مطار طهران: “اتجهتُ من المطار نحو البيت… في ظلام الليل وفي البعيد كان يلوح لي في الأفق نور يوعد بصبح جميل”.
أربعينية قتلى الاحتجاجات تشعل نار الغضب وخطيب جمعة أهل السنة يدعو إلى استفتاء
شهد يوما الخميس والجمعة، وبالتزامن مع أربعينية عدد من قتلى الاحتجاجات، حضور أقارب الضحايا ومواطنين آخرين رفعوا شعارات مناهضة للنظام ولرموزه. وقوبلت هذه التجمعات بإطلاق النار والغاز المسيل للدموع من جانب قوات الأمن.
وأفادت التقارير بسقوط 16 قتيلاً على الأقل في صفوف المحتجين أمام مبنى حاكم مدينة خاش في محافظة سيستان وبلوتشستان، جنوب شرقي إيران، وإصابة واعتقال عدد من المحتجين في زاهدان مركز المحافظة، ومدينة سَراوان التابعة للمحافظة، بعد صلاة الجمعة. ورفع المحتجون في هذه الاحتجاجات شعار “الموت للحرس الثوري”، و”الموت لخامنئي”، و”سأقتُل من قَتَل أخي”. وأعلن قائد شرطة محافظة سيستان وبلوتشستان مقتلَ إمام مسجد شيعي في زاهدان برصاص “مسلحين مجهولين”، بالتزامن مع خبر آخر أفاد بإطلاق نار من جانب مجهولين نحو مكتب إمام جمعة مدينة شادِگان (الفلاحية) في محافظة خوزستان، جنوب غربي البلاد.
ودعا خطيب الجمعة وإمام أهل السنة في زاهدان، مولوي عبد الحميد إسماعيل زِهي، في خطبة صلاة الجمعة إلى إجراء استفتاء في إيران بحضور المراقبين الدوليين. وقال مخاطباً النظام الإيراني: “الشعب الذي يتظاهر منذ 50 يوماً في الشوارع، وينزف الدم، ويشهد سقوط ضحايا، لن تستطيعوا إرغامه على التراجع عبر القتل والاعتقالات”.
وأكدت التقارير الرسمية أيضاً وقوع اضطرابات في مدينة كَرَج مركز محافظة اَلْبرز غرب طهران ومقتل أحد قوات البسيج فيها وإصابة ما لا يقل عن 10 من قوات الشرطة. وأعلنت تقارير أخرى بأن الاحتجاجات في كرج شهدت مواجهة شديدة بين المحتجين وقوات الأمن، وإضرام النار في زي رجل دين، وأفادت أيضاً بأن القوات الأمنية اضطرت إلى نقل مصابيها عبر المروحية، كما قامت بإطلاق النار والمتفجرات الصوتية من المروحية نحو المحتجين.
هذا، وأفاد الإعلام الرسمي الإيراني بمقتل عنصر من قوات البسيج في مدينة لاهيجان شمال البلاد، وعنصر آخر في طهران، وقال إن عشرات من قوات الأمن والشرطة أصيبوا أو قُتلوا في الأيام الأخيرة على يد “مثيري الشغب”.
وأفادت تقارير أخرى بتنظيم احتجاجات مساء الجمعة في منطقة “جوادية” في جنوب طهران، وفي منطقة “إكباتان” الواقعة غرب العاصمة، أطلقوا فيها المحتجون شعاراتٍ تنادي بالحرية، وموجهة ضد النظام، إلى جانب احتجاجات مسائية في مدن أخرى كمدينة رَشْت مركز محافظة گیلان الواقعة شمال البلاد، وبوشِهْر وفَسا في الجنوب، والأهواز في جنوب غرب البلاد.
وانتشرت فيديوهات في الأيام الأخيرة تظهر ظاهرةً جديدة في إيران وهي مهاجمة شباب وشابات رجالَ دين في الشوارع، وإسقاط عماماتهم أرضاً. كما تتداول تقارير عن تجنب رجال الدين الخروج إلى الشارع بزيِّهم الرسمي، خوفاً من مهاجمتهم من قبل المواطنين.
ولا زالت القيود على الإنترنت مستمرة في إيران، وتطبيقا واتساب وتلغرام محظوران حتى الآن، ولا أمل في رفع الحجب عنهما، وفقاً لما أعلنته الحكومة الإيرانية، والتي دعت المواطنين إلى استبدالهما بالتطبيقات الوطنية.
بايدن يتحدث عن “تحرير” إيران، وإيران تتحدث عن نية أمريكية لتغيير النظام الإيراني
في خطوة لافتة، تعهد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بـ”تحرير إيران”، وقال يوم الخميس الماضي في كلمة خلال حملة انتخابية في مكان في كاليفورنيا، تجمّع في خارجه عشراتُ المتظاهرين حاملين لافتات تدعم الاحتجاجات الإيرانية: “لا تقلقوا، سنُحرّر إيران. سيحررون أنفسهم قريباً جداً”، دون تحديد الإجراءات التي ستتخذها بلاده في هذا المجال.
وقدمت الإدارة الأمريكية، توضيحاً عن تصريحات بايدن التي أثارت الجدل، حيث أشار جون كيربي، منسق الاتصالات الإستراتيجية بالبيت الأبيض، إلى أن تصريح بايدن عن تحرير إيران كان “تعبيراً عن تضامنه مع المحتجين”، مؤكداً بأن “الأمر في النهاية متروك للشعب الإيراني لتحديد مستقبله”.
وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن: “نحاول فرض مزيد من العقوبات على السلطات الإيرانية بسبب قمع الاحتجاجات، وسنساعد الإيرانيين على إسماع أصواتهم للعالم”.
كما أدان وزراء خارجية مجموعة السبع في بيان في ختام اجتماعاتهم في مدينة مونستر الألمانية “الاستخدام الوحشي وغير المتناسب للقوة” من قبل النظام الإيراني ضد المحتجين، وهددوا النظام الإيراني بمواصلة “استخدام كلِّ الإجراءات الدبلوماسية المتاحة لمحاسبته”، وطالبوا إيران بالسَّماح لمفوضي حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بدخول البلاد لتقييم وضع حقوق الإنسان بعد القمع وموجة الاعتقالات.
وأكد مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، وبعد ساعات من محادثة هاتفية مع وزير الخارجية الإيراني، على إدانة الاتحاد الأوروبي لقمع الاحتجاجات في إيران، مضيفاً أن الاتحاد الأوروبي ردّ بفرضِ عقوباتٍ على النظام الإيراني.
ورحّبت الخارجية الألمانية في بيان بالعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على إيران، وطالبت رعاياها بمغادرة إيران.
ردّ الرئيس الإيراني في كلمة له في مسيرات يوم أمس الجمعة في طهران، على نظيره الأمريكي الذي تحدث عن “تحرير إيران”، قائلاً: “أقول لبايدن إنه تم تحرير إيران قبل 43 عاماً، ولن تتحول إيران إلى دولة تابعة لهم”.
وبدوره، كتب وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في تغريدة على تويتر: “يا سيد بايدن، توقَّفْ عن تصرفاتك المنافقة”، مضيفاً أن “البيت الأبيض شجَّع بشكلٍ متزايد العنفَ والإرهابَ في أعمال الشغب الأخيرة في إيران، بينما يحاول في الوقت نفسه التوصلَ إلى اتفاق نووي”.
كما قال وزير الخارجية الإيراني في تصريحات للصحافيين حول تصريحات الرئيس الأمريكي بأن “المسؤولين الأمريكيين قاموا على الفور بتصحيح تصريحات بايدن غير المدروسة، وأبلغونا عبر القنوات الدبلوماسية أن أمريكا ليس لديها مثل هذا الموقف، لكننا نعلم نيةَ البيت الأبيض منذ الـ43 عاماً المتمثلة في السعى وراء تغيير نظام الجمهورية الإسلامية”.
هذا، وأصدرت وزارة الخارجية الإيرانية الإيرانية، بياناً حول اجتماع غير رسمي أخير في مجلس الأمن بطلبٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وألبانيا حول الاحتجاجات الإيرانية، ووصفتْه “مثالاً بارزاً لإساءة استخدام الإدارة الأمريكية للآليات الدولية لأغراضها غير القانونية والتدخلية في الشؤون الداخلية للدول المستقلة”.
في ظل القمع الشديد، يبدو أن شعلة الاحتجاجات الجارية في إيران، والتي تُعتبر من أكبر تحديات للنظام الإيراني منذ انتصار الثورة الإسلامية في 1979 حتى الآن ومن أطولها فترة، لا تنطفئ، رغم مضي نحو 7 أسابيع من انطلاقها. ويعتبر الكثيرون بأن هذه الاحتجاجات بداية لتغيير النظام في إيران، وفي المقابل يرى البعض أنها لن تؤدي إلى تغيير النظام، بل تجعله أشدَّ قمعاً و أكثر محاولةً للصمود.
——————————-
اعتقال صحافية أجرت مقابلة لوالد مهسا أميني..”لا أنوي الانتحار”
اعتقلت السلطات الإيرانية، الصحافية الإيرانية نزيلا مروفيان، بسبب إجرائها مقابلة مع والد الشابة مهسا أميني التي أثارت وفاتها في أيلول/سبتمبر الماضي تظاهرات تحولت إلى حركة احتجاجية كبيرة مناهضة للنظام.
وقالت منظمة “هينغاو” الحقوقية التي تتخذ من النروج مقراً، أن قوات الأمن الإيرانية اعتقلت مروفيان في طهران، الأحد الماضي، ونقلتها إلى سجن إيفين سيئ السمعة، حسبما أوضحت عائلتها المتحدرة من مدينة سقز، مسقط رأس أميني، في محافظة كردستان الإيرانية.
وكانت الصحافية التي تعمل لصالح موقع “رويداد 24” نشرت مقابلة مع أمجد، والد مهسا أميني، في 19 تشرين الأول/أكتوبر، في موقع “مستقل” (Mostaghel) الإلكتروني. وخلال نشر رابط لمقالها، علّقت قائلةً: “ليست لدي نية الانتحار، وليس لدي أي مرض أساسي”، في إشارة مباشرة إلى المخاطر التي تُدرك أنها ستتعرض لها عبر نشر المقابلة وكيف يزوّر الإعلام الرسمي الإيراني أسباب مقتل معارضيه.
ومنذ ذلك الحين، سحب موقع “مستقل” المقابلة، لكن نسخة منها تفيد بأن الأب ينفي تفسيرات السلطات الإيرانية التي تفيد بأن ابنته كانت تعاني مشاكل صحية. وكانت المقابلة بعنوان “والد مهسا أميني: إنهم يكذبون!”.
وتشهد إيران منذ حوالى الشهرين احتجاجات إثر وفاة أميني (22 عاماً) في 16 أيلول/سبتمبر بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق التي اتهمتها بانتهاك قواعد اللباس الصارمة التي تفرضها طهران على النساء. وتعدّ التظاهرات، التي تصفها السلطات بأنها أعمال شغب، غير مسبوقة في إيران من حيث حجمها وطبيعتها منذ الثورة في العام 1979.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات، جرى احتجاز صحافيتَين ساهمتا في نشر القضية، في سجن “إيفين”، فالصحافية نيلوفار حامدي (30 عاماً) والتي تعمل لصالح صحيفة “شرق”، كانت توجّهت إلى المستشفى حيث دخلت أميني في غيبوبة قبل وفاتها، واعتُقلت حامدي في 20 أيلول/سبتمبر، وفق أسرتها. أما إلاهه محمّدي (35 عاماً) المراسلة في صحيفة “هام ميهان”، فتوجّهت إلى سقز لتغطية جنازة أميني، حيث جرت أيضاً إحدى أولى التظاهرات. واعتُقلت محمّدي في 29 أيلول/سبتمبر.
وقالت “لجنة حماية الصحافيين” التي تتخذ من نيويورك مقراً، أن 54 صحافياً اعتقلوا خلال حملة قمع الاحتجاجات. ومنذ ذلك الحين، تم الإفراج بكفالة عن 10 منهم فقط.
——————————
ذي أتلانتك: لماذا تتردد واشنطن بدعم الإيرانيين المطالبين بالديمقراطية وتقف مع الأوكرانيين
ابراهيم درويش
نشر موقع “ذي أتلانتك” مقالا للصحافية رويا حكاكيان قالت فيه إن الشعبين الإيراني والأوكراني متحدان في كفاحهم ضد العدو الواحد، ففي قتالهم، يواجه الأوكرانيون عدوا استبداديا كانت الولايات المتحدة تأمل في احتوائه من خلال الدبلوماسية. أما الإيرانيون الذين يهتفون “مرأة، حياة، حرية” فهم مستعدون للموت من أجل شعارهم الشبيه بشعار تأسيس أمريكا “حياة، حرية، سعي وراء السعادة”. ولا يريد مواطنو أي من البلدين الاستسلام، على الرغم من الهجمات الصاروخية على كييف وشرطة مكافحة الشغب في طهران. وتقول الكاتبة إن فكرة “أعطني الحرية، أو أعطني الموت” ربما ظهرت منذ ما يقرب من 250 عاما في ولاية فرجينيا، ولكن اليوم وجد الشعار سكنا جديدا له في الأراضي البعيدة، بين أشخاص ليسوا أمريكيين بالولادة ولكن روحهم تتوق لذلك.
ورغم القرابة بين كفاح هذين الشعبين فإن كفاح الإيرانيين لم يحصل بعد على الاعتراف العاجل من واشنطن – مركز الديمقراطية والحكومة الأمريكية. ويعد الإعلان الأخير لمستشار الأمن القومي جيك سوليفان عن تدابير “لمحاسبة إيران على العنف ضد مواطنيها، وخاصة النساء والفتيات” تطورا مرحبا به، هذا إذا ثبت أن هذه الإجراءات عملية أكثر منها مجرد كلام. وتقول الكاتبة إنها وجدت في سلسلة من الاجتماعات الأخيرة مع أعضاء مجلس الشيوخ وكبار المسؤولين في وزارة الخارجية، أن الطريقة التي يتشابك بها مصير أوكرانيا وإيران الآن، بفضل تحالف موسكو مع طهران، وإمدادات إيران المتزايدة من المساعدات العسكرية للقوات الروسية في أوكرانيا، يتم تجاهلها بشكل خطير. وبدا العديد ممن التقت بهم الكاتبة غير مستعدين بشكل خاص لسماع قائمة مطالب الشعب الإيراني كاملة. كانت العبارة التي ظلت تسمعها هي: “ما الفرق بين هذه الانتفاضات في إيران وتلك التي حدثت من قبل؟”.
وعندما أوضحت لهم أنه أثناء الحركة الخضراء لعام 2009، كان المتظاهرون يسألون: “أين صوتي؟” كانوا لا يزالون يتحدثون مع النظام، ويعتقدون أنه من خلال محاسبة السلطات، يمكنهم التراجع عن الانتخابات المزورة. أما متظاهرو اليوم فقد توقفوا عن الحديث مع السلطات. بينما يوجهون الإهانات إلى مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني ومرشدها الأعلى الحالي علي خامنئي، فإن لديهم مطلبا واحدا بسيطا: ارحل.
وتضيف أنه وبعد أسبوع من اتصالها مع وزير الخارجية أنتوني بلينكين وغيره من كبار المسؤولين في الدولة، بمن فيهم روبرت مالي، المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، رأت هذه التغريدة من مالي: “المتظاهرون في واشنطن والمدن حول العالم يظهرون دعمهم للشعب الإيراني، الذي يواصل التظاهر السلمي من أجل أن تحترم حكومته كرامته وحقوق الإنسان”.
وتعلق أنه لو لم تكن جلست مقابل المبعوث وأخبرته بشكل لا لبس فيه أن ما يريده الإيرانيون هو التخلص من النظام – وهي رسالة رددتها زميلات إيرانيات حضرن الاجتماع – ربما اعتقدت أنه لا يعرف مطلب الشعب الحقيقي.
الطريقة الوحيدة التي يمكن تفسير هذا التحريف المتعمد الواضح للواقع الجديد في إيران هو أن إدارة بايدن، التي يخدمها مالي، تهتم أكثر بإحياء الاتفاق النووي في عهد أوباما مع النظام أكثر من الاعتراف بالتطلعات الفعلية للشعب الإيراني.
وهذا النوع من ردود الفعل الصماء من قبل صانعي السياسة الأمريكية تجاه إيران له تاريخ طويل. في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، أدى الانشغال في الحرب الباردة بكبح الشيوعية إلى حجب الحقائق السياسية لإيران لدى صانعي السياسة الأمريكيين، وخلق خوفا غير منطقي من رئيس الوزراء محمد مصدق، وأدى إلى مشاركة وكالة المخابرات المركزية في انقلاب عام 1953 الذي أطاح به هو وحكومته. اليوم، يعد إنقاذ الاتفاق النووي الشغل الشاغل لوزارة الخارجية حيث يجرد مسؤولي الإدارة من المرونة الفكرية اللازمة لفهم الوضع الذي يتكشف الآن في إيران وتعديل الإستراتيجية الأمريكية وفقا لذلك.
ولم تتوقف حيرة الكاتبة عند هذا، فقد فوجئت بعد لقائها مع اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، عندما حثتهم على تقديم كل دعمهم للمتظاهرين في إيران. وسمعت بدلا من ذلك سلسلة من التبريرات عن إخفاقات السياسة الأمريكية في البلدان المجاورة لإيران، والتي تم تقديمها كدليل على أن الولايات المتحدة لا تستطيع أبدا فهم المنطقة وهي حتما سترتكب خطأ آخر بالتدخل.
لسوء حظ الإيرانيين والأوكرانيين، لا تراوغ موسكو وطهران في دعم بعضهما البعض. كانت هذه علاقة قامت في سوريا. بينما وقفت الولايات المتحدة وأوروبا جانبا، قامت إيران وروسيا بالقضاء على الحركة المناهضة لبشار الأسد. وساعد هذا التحالف في تمهيد الطريق لغزو أوكرانيا. بعد الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان، تجرأ فلاديمير بوتين على مهاجمة جارة روسيا. وكان يعلم أن بإمكانه الاعتماد على النظام الإيراني في دعم تصرفاته بحزم كما فعل في الماضي. هذا الأسبوع، أكد جون كيربي، منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي، أن العسكريين الإيرانيين كانوا على الأرض في شبه جزيرة القرم لمساعدة العسكريين الروس في “قيادة المسيّرات الإيرانية، واستخدامها لشن ضربات عبر أوكرانيا”. وفقا لشبكة سي أن أن، يزعم ضباط المخابرات الأوكرانية أيضا أن الجيش الروسي يتوقع تلقي شحنات من المسيرات أكثر تقدما، والتي يمكن أن تحمل 200 كيلوغرام من المتفجرات.
إذا كانت العلاقة بين كفاح الأوكرانيين والإيرانيين غير واضحة للمسؤولين الأمريكيين، فهي كذلك للآخرين – مثل المؤرخ تيموثي شنايدر، الذي علق في تغريدة حديثة: “النظام الإيراني الذي يقتل النساء بسبب أسلوبهن في ارتداء الحجاب يزود روسيا بالأسلحة حتى تتمكن روسيا من قتل الناس لكونهم أوكرانيين”.
وسبق هذا الربط الموجة الحالية من الاحتجاجات في إيران: بعد أيام من غزو روسيا لأوكرانيا، تجمع حشد يحمل أعلاما زرقاء وصفراء أمام السفارة الأوكرانية في طهران لحضور وقفة احتجاجية على ضوء الشموع، مرددين “الموت لبوتين!” وسرعان ما أقيم حاجز أمام السفارة الروسية في المدينة لإبعاد المحتجين. أعلن النشطاء الإيرانيون على منصات التواصل تضامنهم من خلال إضافة العلم الأوكراني إلى ملفاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي ونشر أخبار الحرب بشغف. في الشهر الماضي، نظم أعضاء الشتات الأوكراني والإيراني مظاهرة مشتركة في لندن، أوضحوا أن قضيتهم واحدة.
ويكمن وراء هذه القضية المشتركة التزام الأوكرانيين بالدولة المستقلة، مع انتخابات حرة ونزيهة. فهم يقاتلون من أجل الحق في تقرير مستقبلهم، وليس أن يقرره المستبد المجاور لهم. الإيرانيون أيضا لديهم تطلعات مماثلة، والتي، في الأسابيع الستة الماضية فقط، أودت بحياة ما يقرب من 250 شخصا وأدت إلى سجن 12500 شخص.
وتعلق الكاتبة أنها خرجت من اجتماعاتها مع المسؤولين الأمريكيين بإحساس عارم بأن واشنطن الرسمية ببساطة لا تعرف ماذا تفعل بالأخبار السارة.
على مدى السنوات العشرين الماضية، كان الأمريكيون يخشون اندلاع حرب مع إيران. لم تأت تلك الحرب. وبدلا من ذلك، يواجه النظام العدو الآن تهديدا وجوديا من شعبه، إذ يتعرض العدو اللدود الآخر، روسيا، للضرب من قبل الحلفاء الأوكرانيين. يجب أن يشيد قادة أمريكا بهذه الأحداث التاريخية باعتبارها انتصارات. لم يأتوا في أعقاب أي تدخل عسكري أمريكي، ولكن من خلال تصميم ومبادرة الشعبين.
في عام 1979، كان الشعب الإيراني يهتف في الشوارع “الموت لأمريكا”. اليوم، يرددون “الموت للديكتاتور” ويطالبون بالحرية على الطريقة الأمريكية. مع تزايد الاستبداد في العالم، يمكن أن يكون نجاح هاتين الدولتين نعمة لقضية الديمقراطية – فقط إذا رأت واشنطن ذلك وتصرفت بناء على ذلك.
القدس العربي”
——————————-
====================
=====================
تحديث 15 تشرين الثاني 2022
—————————–
سوريّا في روايات غازيها/ حازم صاغية
مع الانتفاضة التي تفجّرت مؤخّراً في إيران، راح يتردّد ذِكر سوريّا في لغة النظام الإيرانيّ وتابعيه على الشكل التالي: إنّهم – أي القوى الغربيّة والأعداء والجواسيس ومن لفّ لفّهم – يريدون تدمير إيران مثلما حاولوا تدمير سوريّا.
قبلذاك، ومع الحرب الروسيّة على أوكرانيا، باتت الرواية الروسيّة، التي يتزايد مُردّدوها، تذكر سوريّا على النحو التالي: إنّ الشرّ سوف يُهزم في أوكرانيا مثلما هُزم في سوريّا.
الروايتان، في آخر المطاف، رواية واحدة بفصلين: الفصل الإيرانيّ يصف المشكلة: إنّها المؤامرة. الفصل الروسيّ يصف الحلّ: إنّه النار المقدّسة. الأرض المحروقة. التطهير بعد دنس.
هكذا يروي القاتل قصّة المقتول، والسارق قصّة المسروق، ومنها يستنتج «العِبَر» الملائمة.
والروايتان، بطبيعة الحال، مسكونتان بقائد مخلّص: في الحالة الإيرانيّة، هو الجنرال المقتول قاسم سليماني. في الحالة الروسيّة، هو «جزّار سوريّا»، الجنرال ألكسندر فلاديميروفيتش دفورنيكوف الذي استعين بكفاءته علّها توقف انتكاسات الحرب على أوكرانيا.
سوريّا، في الحالات جميعاً، كائن صامت، غُزاته يمثّلونه ويمثّلون تجربته متحدّثين هم وحدهم نيابةً عنه. وهم يفعلون هذا خصوصاً لدى مواجهتهم مِحَنهم الخاصّة التي يُستخدم الصمت الإجباريّ السوريّ ليكون شهادة على تعرّضهم، كما أبطال الملاحم، لاستهداف قدريّ دائم. وبطبيعة الحال، لا تسمح روسيا أو إيران بظهور رواية أخرى عن سوريّا إلاّ بقدر ما تسمحان برواية أخرى عن أيّ موضوع آخر!
في هذه الاستعادات لسوريّا، الكاذبة والمتكاثرة، تقيم خلطة يجتمع فيها ميل المجرم إلى تفقّد جريمته، وتأسيس مكان يتمّ فيه تجريب الكذب، بما يوازي تجريب الأسلحة، وطمأنة النفس إلى أنّ الانتصار قد أُنجز وتمّ، وأنّ القتيل السوريّ قد قُتل ولن تقوم له قائمة بعد اليوم.
رواية جلفة كهذه لا يشبهها إلاّ الفعل الجلف الذي «ترويه» في زمن بات كثيرون يصفونه بـ«زمن المعلومات».
والحقّ أنّ وصف العمل وروايته الإيرانيّين – الروسيّين بمصطلح «استعماريّ» أو «إمبرياليّ»، لا يقول الكثير وقد يضلّل قليلاً:
فإذ يراجع المنسوبون إلى الاستعمار تاريخهم الاستعماريّ، نجد أنّ غالبيّتهم الكاسحة ومتنهم العريض باتا يعتمدان لغة اعتذاريّة تعاكس تماماً اللغة الانتصاريّة الإيرانيّة – الروسيّة. وإذ تكثر، أقلّه في البلدان الديمقراطيّة، محاولات بعث الثقافات والهويّات القديمة التي كاد يمحوها الاستعمار المبكر، لا يوجد في الثقافتين السياسيّتين السائدتين لإيران وروسيّا أيّ همّ من هذا النوع. وما النفي المتكرّر للوجود الوطنيّ الأوكرانيّ وحصره بـ«نازيّين جدد» سوى آخر تعابير هذه النزعة وأشدّها إفصاحاً. ثمّ أنّ الارتكاب الاستعماريّ القديم طال هويّات جماعاتيّة مارس القسوة عليها، وربّما حرمها فرص تطوّر يقول البعض إنّ تاريخها كان يحبل بها. أمّا الارتكاب الإيرانيّ – الروسيّ في سوريّا فيطال هويّة وطنيّة مفترضة انقضى أكثر من ثلاثة أرباع القرن على استقلال بلدها ودولتها. وإلى ذلك، تصاحب الارتكاب الاستعماريّ الأوروبيّ، في شراسته وفي استهانته بالسكّان المحلّيّين، مع تطوّرات كبرى، مادّيّة وثقافيّة، مؤسّسيّة وسياسيّة، لا يستطيع أيّ مناهض متحمّس للإمبرياليّة إنكارها وتجاهل فوائدها، خصوصاً متى قيست بالقاع الصفصف الذي تخلّفه روسيا وإيران وراءهما.
وبحسب الأرقام الشائعة، بلغت الأكلاف الإنسانيّة للمواجهات الكبرى بين السوريّين والاحتلال الفرنسيّ على مدى 26 عاماً، 150 قتيلاً في معركة ميسلون (1920) و4213 قتيلاً إبّان قمع «الثورة السوريّة الكبرى» في 7- 1925، و600 قتيل في قصف دمشق عام 1945. وهذه أرقام لم يكن الجنرال سليماني ليرضى بها وجبة فطور سريع فيما هو يتنقّل على نحو متواصل من جبهة عسكريّة إلى أخرى، والشيء نفسه يقال عن الشهيّة المفتوحة للجنرال دفورنيكوف. لقد شهدت لندن في 2003 أكبر تظاهرة في تاريخها اعتراضاً على حرب العراق عامذاك، ولا تزال في الذاكرة حركة الاعتراض الستينيّة العظيمة في الولايات المتّحدة، وأيضاً في باقي البلدان الغربيّة، ضدّ حرب فيتنام. فهل سُمح في طهران أو في موسكو بأيّ حدّ، ولو مجهريّاً، من الاعتراض على سياسة التدمير الإيرانيّ – الروسيّ لسوريّا؟
بمواصفات كهذه تغدو الرواية الإيرانيّة – الروسيّة عن سوريّا رواية توحّش مطلق عن عمل لا اسم له سوى التوحّش المطلق.
أمّا الردّ على هذا العمل فليس في يد أيّ كان، أقلّه في المدى المنظور. لكنّ الردّ على روايته فيبدأ من تطوير رواية سوريّة تجمع بين تجارب الأفراد والجماعات والمضيّ في اكتشاف التاريخ والواقع السوريّين كما هما وكما كانا بلا تزويق ولا مزاعم.
في هذه الغضون يمضي التعاون الإيرانيّ – الروسيّ الذي تأسّس في سوريّا على أشدّه. هديّة المسيّرات الإيرانيّة للروس في أوكرانيا تقول كم أنّ معركة التوحّش واحدة: المتعاونون فيها يقولون أيضاً إنّهم يكافحون الإمبرياليّة، ويتّهمون السوريّين والأوكرانيّين بالعمالة للإمبرياليّة!
رواية سوريّا عن نفسها يُستحسن أن تنجو بنفسها من الوقوع في هذا الفخّ، تماماً كما نجت رواية أوكرانيا.
الشرق الأوسط
—————————–
سحر الإمبريالية الغامض/ بكر صدقي
قليل من الناس عندنا اليوم يدركون العلاقة اللغوية بين الإمبريالية والإمبراطورية مع أنهما شيء واحد. تحيل الثانية، في أذهان عموم الجمهور، إلى الماضي الذي شهد صعود امبراطوريات وانحدارها، كالإمبراطورية البريطانية واليابانية والصينية والعثمانية والروسية وغيرها. في حين أن مفهوم الإمبريالية ارتبط، في مئة العام الأخيرة التي تلت الثورة البلشفية، بـ«أعلى مراحل الرأسمالية» وفقاً لتعبير لينين، ليشمل فقط الدول الرأسمالية المتطورة، وبخاصة تلك التي كانت لها مستعمرات قبل الحرب العالمية الثانية، كفرنسا وبريطانيا بصورة رئيسية. ربما لا يعرف أكثر شاتمي الإمبريالية اليوم أن هولندا وبلجيكا واسبانيا والبرتغال والنمسا كانت إمبرياليات تتبعها مستعمرات أيضاً في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكنها اليوم دول عادية صغيرة مساحةً وبعدد السكان.
في حقبة الحرب الباردة طوّر السوفييت مفهوم الإمبريالية بحيث يشمل كل دولة رأسمالية متطورة لها استثمارات في دول ما نسميه «الجنوب» أو تقيم معها علاقات تجارية «غير متكافئة» بما يؤدي إلى «هيمنة إمبريالية» غير مباشرة أي بلا احتلال عسكري مباشر، فأصبح تخلف الجنوب وفقره هو بسبب العلاقة الإمبريالية، في حين أنه من الحصافة عدم استبعاد تحليل معاكس فحواه أن تخلف الجنوب هو ما يؤدي إلى عدم تكافؤ العلاقة مع «الشمال الغني». فقد انتهى عصر الاستعمار المباشر منذ نحو سبعين عاماً وحظيت المستعمرات السابقة بفرصة مديدة للنهوض لكنها أهدرتها لمصلحة الصراع على السلطة في كل بلد، في نوع من السعي إلى استعمار داخلي يحل محل الاستعمار الخارجي الذي ولّى بلا رجعة.
غير أن مفهوم الإمبريالية تحول إلى مجرد مادة للشعارات على أيدي تيارات قومية ويسارية وإسلامية متصارعة على السلطة والثروة في أكثرية بلدان الجنوب، وابتذلها البعثيون بصورة خاصة إلى درجة أنها باتت مجرد شتيمة ضد الخصوم كالقول إن الحزب الفلاني أو النظام الفلاني هو «عميل للإمبريالية» بإطلاق القول. كذلك لعب قيام إسرائيل في قلب المنطقة العربية، والصراع العربي معها المستمر بأشكال مختلفة إلى اليوم، دوراً كبيراً في شيطنة مفهوم الإمبريالية وتحويلها إلى اتهام وشتيمة، وذلك بسبب الدعم الثابت لإسرائيل في هذا الصراع من قبل بريطانيا أولاً ثم الولايات المتحدة. ليس القصد من هذا القول تبرئة الدول الداعمة لقيام إسرائيل وتأمين تفوقها العسكري بثبات، بل وصمها بالإمبريالية وكأن هذه الصفة هي سبب دعمها لإسرائيل، أو العكس أي أن دعمها لإسرائيل هو مبرر وصفها بالإمبريالية.
ولو توقف الأمر عند مستوى التحليل أو الوصف لربما كان أقل أذى، فضلاً عن كونه جديراً بالمناقشة، فالتاريخ الاستعماري لـ«الرجل الأبيض» لا يمكن إهماله كسبب في إفقار وتأخير نهوض البلدان التي تعرضت للغزو. ولكن مع مرور الزمن واستتباب السلطة لأنظمة متوحشة تتعامل مع السكان الواقعين تحت حكمها بفظاعة لم تبلغها أي سلطات احتلال استعمارية، ناهيك عن «الإمبريالية»، أصبحت الشعارات المعادية للإمبريالية مجرد أداة قمع إضافية بأيدي الأنظمة المشار إليها، سلاحاً أيديولوجياً فارغاً من المحتوى لكنه فعال ضد أي خصوم أو منافسين محتملين على السلطة، وإرهاباً استباقياً ضد أي مقاومة اجتماعية محتملة. مع العلم أن معظم الأنظمة الموصوفة هنا مدينة بديمومة حكمها أصلاً لرضى أولئك الإمبرياليين المولعين بـ«الاستقرار». حتى نظام آيات الله في إيران صاحب الصوت الأعلى عالمياً في معاداة «الاستكبار» (مرادف كلمة الإمبريالية في الخطاب الإيراني) مدين اليوم ببقائه لكون الإمبرياليين لا يفعلون شيئاً (ولن يفعلوا) لمساعدة الشعب الإيراني الذي قرر التخلص منه. بل أكثر من ذلك «باض» الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل يومين تصريحاً غبياً يساعد النظام على دعم وصفه للثورة الشعبية بأنها «مؤامرة إمبريالية صهيونية» والذي منه.
غير أن أكثر ما يثير الاستغراب هو أن معظم فرسان معاداة الإمبريالية في منطقتنا يتجاهلون إمبريالية النظامين الروسي والإيراني، وليتهما امبرياليتان من النمط الكلاسيكي الذي ارتبط بالاستعمار الأوروبي، بل هما أقرب إلى النزوع الإمبريالي الألماني الذي وجد ذروة تجليه في الحرب العالمية الثانية بقيادة هتلر. تعزى شراسة النزوع الإمبريالي الألماني إلى كونه قد جاء متأخراً عن الإمبرياليات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية للحصول على نصيبها من ثروات الدول الأخرى. فاليوم نشاهد ما يشبه ذلك لدى كل من روسيا وإيران (وتركيا بدرجة ما) أي ذلك النزوع إلى التمدد الإمبراطوري لتلافي تفكك إمبراطورياتها الغابرة.
ما هي الإمبريالية إن لم تكن التمدد الجغرافي بالسيطرة على أراضي دول مجاورة كما تفعل روسيا اليوم، وإن لم تكن الهيمنة من خلال اختراق مجتمعات دول أخرى كما تفعل إيران في دول عربية، وإن لم يكن التدخل العسكري المباشر كما تفعل تركيا في سوريا وليبيا وأذربيجان، بصرف النظر عن تقييم تلك التدخلات من قبل الأطراف في الصراعات المحلية المحتدمة. فما كان لهذه الدول ذات النزوع الإمبريالي المتأخر أن تتمدد في البلدان الأخرى ما لم تكن هناك أطراف محلية تخوض صراعاً على السلطة مع أطراف منافسة، تستقوي على منافسيها بدول ذات منازع إمبريالية. ينطبق هذا على جميع الحالات في سوريا وليبيا واليمن وحتى أوكرانيا حيث المقاطعات الشرقية ذات الغالبية السكانية من أصول روسية.
غير أن المقارنة، بجميع المعاني، بين إمبرياليات الأمس ونظيراتها اليوم تعيد التأكيد على مقولة هيغل الشهيرة بأنه إذا كانت الأولى مأساة فالثانية هي مهزلة، مهزلة دامية طبعاً.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————
إيران اليوم ليست إيران ما قبل وفاة مَهسا أميني/ هادي مستوفي
شارفت احتجاجات إيران على مرور شهرين على اندلاعها في أنحاء البلاد، أزمة من أجل المرأة والحياة والحرية، وبمشاركة جريئة من الفتيات والنساء، ونشاطهن المستمر، وأصواتهن التي تعلو يوماً بعد يوم.
العصيان المدني منتشر في كلّ مكان في إيران، لا غطاء على رأس النساء في الشوارع والساحات والمتاجر والحدائق والمترو والباصات، فيبدو أن الشَّعر قد تحرّر لمن أرادت منهن. وكما يقول الخبراء، إن إيران اليوم ليست إيران ما قبل وفاة الشابة مهسا أميني في مخفر شرطة الحجاب في 16 أيلول/سبتمبر الماضي، ولا مؤشر في الأفق يدلنا على التراجع أو العودة إلى الوراء والتقيد بقوانين الحجاب.
تنتشر مقاطع فيديو وصور على منصات التواصل الاجتماعي تظهر فتياتٍ مع غطاء الرأس وأخريات دونه، يسرن جنباً إلى جنب، وهذا من أهمّ ما طالب به الشعب الإيراني في هذه الاحتجاجات، وقد تحقق.
حرية دون مباركة النظام
وهذا قد تحقق دون مباركة النظام، فهو ما زال يستخدم أقصى الضغوط للحدّ من الاحتجاجات، من تضليل إعلامي وسبّ وشتم واعتقالات وتهديدات وضرب وقمع، وحتى القتل، لكن العصيان المدني قد تخطى كل ذلك، فباتت الكثير من النساء لا يخفن شرطة الحجاب ولا أي سلطة أخرى.
عن الفجوة الحاصلة بين النظام والشعب بعد أربعة عقود من الحكم الإسلامي، يقول وزير التراث الثقافي والسياحة الإيراني عزّت الله ضرغامي، في اجتماعه مع طلاب جامعة شريف التي لم تهدأ منذ اليوم الأول من الاحتجاجات: “تحدثت مع محقق مخضرم في السجون، وقد أخبرني بأن التحقيقات مع معتقلي هذه الاحتجاجات كانت الأصعب في حياته، إذ لا هو يفهم ما يقوله المعتقلون، ولا هم يفهمون ما يقوله المحقق”.
اعتقلت إيران آلاف المحتجين في الشوارع، وحتى من اقتصر نشاطهم المعارِض على منصات التواصل الاجتماعي فحسب، ومعظمهم كان من جيل z، وهم طلاب مدارس أو جامعات.
هؤلاء يرفضون التقيد بالقوانين الإسلامية التي تُفرض من قبل النظام، فهم يعيشون في بيئة أخرى بعيدة كلَّ البعد عن الجمهورية الإسلامية وطموحاتها، حالهم حال أقرانهم في العالم، يبحثون عن سرعة إنترنت فائقة ولم توجد، يريدون النشاط في شبكات تيك توك وسناب شوت ويوتيوب، وهي محجوبة في بلدهم، يطالبون بحفلات ورفاهية لكنها صعبة المنال، وأضيفوا إلى القائمة عشراتٍ من المحظورات والممنوعات الأخرى.
كشفت الاحتجاجات الأخيرة عن أول صدام وصراع علني بين رجال النظام -وجلهم يتقلدون المناصب منذ ثورة 1979- وبين جيل لا يعترف بمبادئ تلك الثورة بل يبحث عن حياة عادية كما يراها في إسطنبول أو دبي أو بيروت أو باريس أو لندن.
إسقاط العمائم
من ظواهر الاحتجاجات التي انتشرت في المدن الكبرى هي “إسقاط العمائم” من رؤوس رجال الدين في الشوارع، وهي ظاهرة تكشف عن عمق الفجوة بين الشارع والنظام الإسلامي.
رفض ذلك الكثير من المحتجين والنخب الإيرانية بمختلف انتمائاتهم، ولكن ذكّر بعض المحتجين بإسقاط عمامة الشيخ مهدي كرّوبي، وهو أحد قادة الحركة الخضراء المعارضة التي اندلعت عقب الانتخابات الرئاسية عام 2009، كما نشر بعض الناشطين على مواقع التواصل مقطع فيديو لآية الله الخميني وهو يحثّ إبان الثورة بإسقاط عمائم رجال الدين المحسوبين على النظام الملكي آنذاك.
جامعات على مدار الاحتجاج
وبرغم سيطرة الشرطة على الشوارع وإخماد الاحتجاجات، إلا أن ساحات التعليم في المدارس والجامعات ما زالت مشهداً حياً من التظاهر كلَّ يوم.
والمشهد الأبرز كان يوم الثلاثاء الماضي حيث أقام طلاب جامعة شريف الحكومية، وهي أبرز جامعة تقنية في إيران، وقد تَخرَج منها أعداد كبيرة من النخب الإيرانية، وقفةً احتجاجية بمشاركة كبيرة من الطلاب، إضافة إلى عدد من الأساتذة. وقد صدحوا بشعارات تطالب بالحرية للمعتقلين وعدم حضور العناصر الأمنية في حرم الجامعة واحترام مطالب المتظاهرين.
“لماذا الهجرة؟ ابقى واستعِدْ حقّك”، هو بيت شعر من أغنية “نشيد المرأة”، للفنان مهدي يرّاحي، والتي كتبتها الشاعرة مونا بُرزويي خلال الاحتجاجات القائمة، وسرعان ما تبدلت الأغنية إلى نشيد يتغنى به طلاب الجامعات في عموم البلاد. وهذا المقطع من الأغنية يردّده الطلاب بقوة يطالبون به الشباب والنخب الذين ينوون الهجرة إلى أوروبا بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد، أن يبقوا في البلد، خاصة أن معظم خريجي جامعة شريف التقنية، يعيشون اليوم خارج إيران.
أطباء يتدخلون لحماية حقوق الأطفال
نشر نحو 600 طبيب في مجال الأطفال والمراهقين بياناً يدعون فيه السلطاتِ للحدّ من المواجهات العنيفة تجاه طلاب المدارس كالضرب والإهانة والتهديد والاضطرابات الروحية، وأكدوا على عدم مشاركة الطلاب في برامج الحكومة بالإكراه.
وقد انتشرت صور على المنصات توثق دخول عناصر الأمن إلى المدارس لفحص حقائب الطلاب أو للتحقيق معهم أو لاعتقالهم، وقد كشف وزير التربية والتعليم صحة اعتقال الطلاب، دون الإشارة إلى أعداد المعتقلين، مؤكداً أنهم يخضعون لدورات نفسية، بينما أكد مراقبون أن السجون ليست مكاناً للأطفال والطلاب.
رياضياً امتنع أعضاء المنتخبين الوطنيين لكرة القدم الشاطئية وکرة الماء من قراءة النشيد الوطني أثناء المنافسات الدولية التي أقيمت في دبي وتايلاند، وقبل ذلك لم يبد فريق استقلال في الدوري الممتاز بهجةً أثناء رفع كأس السوبر الإيراني تضامناً مع الاحتجاجات. في غضون ذلك أعلن اتحاد كرة القدم الوطني عن محاسبة اللاعبين وفق قوانين الفيفا.
تصف السلطات الإيرانية، الاحتجاجاتِ بأنها أعمال شغب يعمل على افتعالها الأعداء، حيث أعلن وزير الداخلية أحمد وحيدي أن حوالي 7 دول تقف خلف “الفوضى” منها أمريكا وإسرائيل والسعودية ودول أوروبية. بدوره اتهم وزيرُ الاستخبارات إسماعيل خطيب، بريطانيا والسعودية بدعم أعمال تزعزع أمن إيران.
وفي ظل تعطيل قطاع السياحة في البلاد، حيث تم إلغاء نحو 70 بالمئة من الرحلات السياحية نحو إيران، أبدى رئيس مجلس إدارة جمعية المرشدين السياحيين في البلاد، أسفه بشأن اعتقال السياح مؤكداً: “تم اعتقال بعض السياح الأجانب الذين قاموا بالتقاط صور الاحتجاجات من باب الفضول. مشاهدة السياح في أماكن خاصة ليس معناه بالضرورة أنهم جواسيس”.
وكانت قد أعلنت وزارة الاستخبارات في 30 أيلول/سبتمبر عن اعتقال 9 أجانب من جنسيات ألمانية وإيطالية وفرنسية وهولندية وسويدية وبولندية أثناء الاحتجاجات، وبينما تم إطلاق سراح بعضهم، ما زالت الإيطالية آليسا بيبرنو، تقبع في سجون طهران منذ 40 يوماً، وطالبت أسرتها بإطلاق سراحها، أما السلطات الإيطالية فلم تردّ على أنباء اعتقال مواطنتهم.
وأصدرت محكمات البلاد نحو ألف لائحة اتهام للمعتقلين تصل بعضها إلى حكم الإعدام، وفي غضون المباشرة بجلسات المحكمة، قدم 227 برلمانياً طلباً للسلطات القضائية لإصدار أشدّ الأحكام بحق “مثيري الشغب”، حسب وصفهم.
“رسالة النظام للمحتجين، أننا لم نفهم مطالبكم، وإذا فهمناها، فلم يتوجب علينا أن يكون ردّنا إيجابياً”،؛هكذا شرح الباحث السياسي والصحافي عباس عبدي في مقال له حول دور الإعلام الرسمي في الاحتجاجات الأخيرة.
رصيف 22
—————————-
قراءة في الدستور الايراني: ولاية الفقيه “روح الجمهورية”…والمرشد عمودها/ سامر القرنشاوي
في ظل تحجيمٍ مطّرد لقدرة الناخبين على التأثير في إطار دستور يسمح بذلك، وتركز فريد من نوعه للسلطة بيد شخص واحد، بل واستبعادٍ لكل من يراه هذا الشخص مخالفاً لتوجهاته من داخل منظومة الجمهورية الإسلامية، في ظل هذا كله هل يظل مستغرباً أن يهتف المتظاهرون مطالبين بسقوط النظام برمته؟
عدا الشعار الأشهر للانتفاضة الجارية في إيران “زن، زندگي، آزادي” (“امرأة، حياة، حرية”)، هتف طلبة في جامعة إيرانية قبل أيام: “جمهوری اسلامی نمیخواهیم، نمیخواهیم (الجمهورية الإسلامية: لا نريدها، لا نريدها)”.
من يتابع خطاب الحراك الحالي عموماً سيرى بوضوح أن المغامرات والمغامرين بأرواحهم في شوارع إيران هذه المرة لم ينزلوا ليساندوا مرشحاً يرجون به إصلاح الأمور بعد أن زورت ضدّه انتخابات، كما في الثورة الخضراء عام 2009، ولا لطلبات معيشية معينة كما جرى سابقاً، بل للقضاء على النظام برمته.
قضية فرض الحجاب على أهميتها كانت الفتيل.
جل، إن لم يكن كل، تفسير هذه اللعبة الصفرية التي لا خيار فيها لطرفٍ إلا إفناء الآخر في الوثيقة المؤسسة للجمهورية الإسلامية: دستورها. نظرة سريعة إلى الدستور الإيراني، حسبما ورد مترجماً إلى العربية في موقع وزارة الخارجية الإيرانية، تكشف بوضوح كيف يتداخل منطق الإسلام السياسي عموماً في فرض طريق الجنة على الأرض (حسب فهمٍ معين) ورده الشرعية بشكل شبه حصري للسماوي دون الدنيوي، مع الاعتقاد الاثناعشري خصوصاً في الإمامة وغيبة الامام الأخير. ويرينا الدستور أيضاً بجلاء، وعلى العكس من أنظمة سلطوية أخرى في منطقتنا وغيرها تتجاهل تشريعاتها كل يوم، كيف أن ما يفعله الخامنئي ودائرته من أصحاب القرار هو فقط الالتزام بهذا الدستور الذي حشر إيران، حكاماً ومحكومين، حيث هي اليوم.
ولاية الفقيه: روح الجمهورية الإسلامية الإيرانية و الإسلام السياسي.
للوهلة الأولى، تفترق الجمهورية الإسلامية عن جمهور العلماء الشيعة، ناهيك عن غير الشيعة، في قيامها على ولاية الفقيه، والتي تعني هنا تحديداً رجل دين (الولي الفقيه) منوطٌ به تمثيل مصدر الشرعية السياسية الوحيد تقليدياً في الفكر الشيعي الاثناعشري: الامام الغائب (الثاني عشر والأخير من أئمة المذهب)، أي فعلياً تمثيل بشر غير معصوم لإمام يُعتبرُ معصوماً (مرة أخرى بناء على العقيدة الاثناعشرية). من جهة تبقى نظرية ولاية الفقيه التي صاغها الخميني بهذه الصورة خلافية بين علماء الدين الشيعة، إن لم تكن مرفوضة من غالبيتهم، لكن من جهة اخرى ما يبدو فريداً هنا متسقٌ تماماً مع قلب كل فكرٍ منضوٍ تحت عباءة الإسلام السياسي، سني أو شيعي. فسواءٍ ارتكز الحاكم على تمثيل الإمام الغائب أو على أي فهمٍ محددٍ للإسلام، من ذا الذي يملك سلطة محاسبة من ينطق (أو ينطقون) باسم الوحي المقدس؟ وإذا كان أصل الاسترشاد في الحكم هو الفقه والشريعة فأين يترك ذلك غير المتخصصين في العلوم الشرعية؟ بغض النظر عن ولاية الفقيه أو الموقف منها، يُحسب للخُميني (مُنظّر هذه الدولة ومؤسسها) صراحته في رسمها على حقيقتها. لا ديمقراطية ولا حرية هنا، اللهم إلا بقدر ما يسمح به المُخَولُ التحدثُ باسم الشريعة.
من يقرأ الدستور الإيراني، والذي تم اقراره في استفتاء شعبي أواخر 1979 ثم أدخلت عليه تعديلات صيف 1989 (بعد أسابيع من وفاة الخميني)، سيرى بوضوح أن السلطة الأعلى في الجمهورية ليست لأي مسؤول منتخبٍ مباشرة من الشعب، بل هي في يد الولي الفقيه. عدا الديباجة (المقدمة)، يقع الدستور في مائة وسبعة وسبعين مادة مقسمة إلى أربعة عشر فصلاً. “ولاية الفقيه العادل ” هي الركن الأساس. في المقدمة: “اعتماداً على استمرار ولاية الأمر والإمامة، يقوم الدستور بإعداد الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط والذي يعترف به الناس باعتباره قائداً لهم (مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) [حسب نص منسوب للامام الأول علي ابن أبي طالب]” ، وفي المادة الخامسة من نص الدستور: ” فـي زمن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير”.
السياق الذي يحكم فيه “الفقيه العادل” الشرعية والأولوية الأولى فيه ليست من المحكومين ولا لهم، اللهم إلا لوضعهم على جادة الصواب كما تراها المنظومة الفقهية الحاكمة: طبقاً للمادة الثانية من الدستور: “يقوم نظام الجمهورية الإسلامية على أساس: (1) الإيمان بالله الأحد (لا إله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره. (2) الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس فـي بيان القوانين. (3) الإيمان بالمعاد ودوره الخلاق فـي مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله. (4) الإيمان بعدل الله فـي الخلق والتشريع. (5) الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس فـي استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام [في إشارة لدور الولي الفقيه].” ثم في ذيل القائمة: ” (6) الإيمان بكرامة الإنسان وقيمه الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله …”. في ضوء ترتيب الأولويات هذا ، وفي ضوء الإيمان بمركزية قيادة “الفقيه العادل” خلق دستور الجمهورية الإسلامية منظومةً معقدة تضمن، لا دور الولي الفقيه فحسب، لكن قدرة هذا الولي الفقيه نفسه على خلق الهيئات التي تدير الدولة والتي يفترض بها أن تختاره بل وأن تحاسبه.
قضية فرض الحجاب على أهميتها كانت الفتيل.
قلب النظام: مجلس صيانة الدستور.
الولي الفقيه يعينه “مجلس الخبراء”، لكن قبل الحديث عن هذا المجلس مهمٌ تفصيل طبيعة الهيئة الأقوى في بنية الجمهورية والتي تشكل، فيما تشكل، مجلس الخبراء: مجلس صيانة الدستور. طبقاً للمادة 91 : ” يتم تشكيل مجلس صيانة الدستور، بهدف ضمان مطابقة ما يصادق عليه مجلس الشورى الإسلامي [المنتخب بالاقتراع المباشر، أقرب ما في الجمهورية للبرلمان] مع الأحكام الإسلامية والدستور.” يتكون المجلس من اثني عشر عضواً، نصفهم يعينهم الولي الفقيه مباشرة من “الفقهاء العدول العارفين بمقتضيات العصر وقضايا الساعة”. ثم ستة آخرين يرشحهم رئيس السلطة القضائية [الخاضع لسلطة الولي الفقيه طبقاً للمادة 57] يكونون من “المسلمين ذوي الاختصاص في مختلف فروع القانون” ثم يصادق على اختيارهم مجلس الشورى الإسلامي. والأخير، طبقاً للمادة 94، ملزم بإرسال كل ما يقرر لمجلس الصيانة الدستور لـ”تقرير مدى مطابقته مع الموازين الإسلامية ومواد الدستور”. و إذا رأى مجلس صيانة الدستور أن ما شرعه مجلس الشورى مخالف لـ”الموازين الإسلامية ومواد الدستور” فإنه يعيده إلى مجلس الشورى. ومن يملك القول الفصل، حتى من بين الاثني عشر عضواً المختارين مباشرة أو تحت ضغط نفوذ الولي الفقيه في مجلس صيانة الدستور؟ طبقاً للمادة 96: “تحديد عدم تعارض ما يصادق عليه مجلس الشورى الإسلامي مع أحكام الإسلام يتم بأغلبية الفقهاء فـي مجلس صيانة الدستور. أما تحديد عدم التعارض مع مواد الدستور فيتم بأكثرية جميع أعضائه”. و عموماً :” تفسير الدستور من اختصاص مجلس صيانة الدستور ويتم بمصادقة ثلاثة أرباع الأعضاء” (المادة 98). أي أنه حتى داخل هذه الجماعة الصغير المنتقاة؛ يكون الرأي الفصل للفقهاء الحائزين على رضا الولي الفقيه. وحتى لا يظنن أحدٌ أن النواب المنتخبين مباشرة يمكن أن يقرروا وحدهم ما يرون، طبقاً للمادة 93: “لا مشروعية لمجلس الشورى الإسلامي دون وجود مجلس صيانة الدستور، عدا ما يتعلق بإصدار وثائق عضوية النواب، وانتخاب ستة أعضاء حقوقيين لمجلس صيانة الدستور” (لاحظ مرة أخرى أن هؤلاء الستة يرشحهم رأس السلطة القضائية الذي يختاره الولي الفقيه). و من يحكم في الاختلاف، حال حدوثه، بين مجلس صيانة الدستور و مجلس الشورى؟ الفيصل بينهم حينئذ مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهذا يشكله “القائد” (الولي الفقيه)، إذا يعين مباشرة “أعضاءه الدائمين والمؤقتين” (المادة 112).
مجلس صيانة الدستور: آلة الاستبعاد النشطة.
مجلس صيانة الدستور، المعين نصف أعضاءه مباشرة من الولي الفقيه كما أسلفنا، هو الجهة التي تتولى الإشراف على انتخابات مجلس الخبراء و انتخاب رئيس الجمهورية و انتخاب أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وعلى الاستفتاء العام (المادة 99). علماً بأن سيطرة مجلس صيانة الدستور على انتخاب الرئيس تُكرَر مرةٌ اخرى في البند 118. من جملة الشروط اللازمة للترشح للرئاسة (المادة 115) أن يكون من “من بين الرجال المتدينين السياسيين”، “ذا ماض جيد” تتوفر فيه الأمانة والتقوى. ثم، الشرط الأهم على الإطلاق فعلياً: أن يكون “مؤمناً ومعتقداً بمبادئ الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمذهب الرسمي للبلاد.” بناء على هذا الشرط بالذات استبعد كل مرشح اُعتُبر مخالفاً لمبدأ وكيفية عمل ولاية الفقيه كما يراها الخامنئي. وربما أبرز من استبعدوا من التنافس على رئاسة الجمهورية، تحديداً عام 2013، أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل نفسه الذي كان عضواً ورئيساً لمجلس الشورى في الجمهورية الإسلامية من 1980 إلى 1989، ثم رئيساً للجمهورية الإسلامية لولايتين متتالين (خلفاً للخامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية وقت وفاة الخميني) من 1989 إلى 1997، وكان أيضاً، أي رفسنجاني، رئيساً لمجلس تشخيص مصلحة النظام من 1997 حتى وفاته 2017، ورئيساً لمجلس الخبراء بين 2007 و 2009. رغم كل هذه المناصب وهذا التاريخ استبعد مجلس صيانة الدستور الرجل من الانتخابات. قيل وقتها إن استبعاده كان استبعاداً لوجه معتدل لصالح أجنحة النظام الأكثر تشدداً الأقرب إلى خامنئي. ومجلس صيانة الدستور هو أيضاً من استبعد كل المرشحين ذوي الوزن من امام الرئيس الحالي، رئيسي، المحسوب على الدوائر الأكثر تشدداً في النظام، من ثم فوزه والعزوف الواسع عن المشاركة في الانتخابات التي أتت به للسلطة سنة 2021، علماً بأن رئيسي كان قد فشل في الوصول للرئاسة في انتخابات 2017 أمام روحاني الموصوف بالاعتدال.
أما بالنسبة لمجلس الشورى، فهذا أيضاً يسيطر مجلس صيانة الدستور على انتخاباته ويستبعد المرشحين غير الملائمين من وجهة نظره، علماً أن “تنقية” قوائم المرشحين هذه تأتي بعد دور وزارة الداخلية في استبعاد من تراه غير مناسب من المرشحين. ما بين من ترفض طلباتهم وزارة الداخلية ومن يستبعدهم مجلس صيانة الدستور (بما في ذلك أعضاء سابقين في مجلس الشورى) زادت نسبة الممنوعين من الترشح عن نصف المتقدمين في بعض الدورات (طبقاً لأرقام جمعها وحللها باحثون في مؤسسة سياسات الشرق الأدنى بالعاصمة الأمريكية). لذلك كله انخفضت بشكل كبير نسب المشاركة في الانتخابات المختلفة، ولم تصل إلى نصف الناخبين المؤهلين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2021، و كانت أكثر قليلاً من الأربعين في المئة في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة عام 2020. مثال على رد فعل التيار المحافظ المتحكم داخل النظام على هذا العزوف عن منظومة انتخابية مفرغة باطراد من الفاعلية أو حتى التمثيل الحقيقي ورد في كلامٍ لوالد زوجة الرئيس الحالي رئيسي، آية الله أحمد علم الهدى، المقرب من خامنئي، ممثل الولي الفقيه وخطيب الجمعة في مدينة مشهد المهمة (حيث ضريح الإمام الثامن، الرضا، من أئمة الاثناعشرية): “إن مقاطعة الانتخابات في إيران بمثابة ترك الإسلام، والذين يقولون إننا لن نشارك في الانتخابات ليسوا مسلمين”.
مجلس خبراء من الفقهاء: انتقاء من يختارون الولي الفقيه.
أما بالنسبة لمجلس الخبراء المختص بتعيين الولي الفقيه والرقابة عليه فهذا يصيغه الفقهاء الأعضاء في مجلس صيانة الدستور (دوناً عن غيرهم) فطبقاً للمادة 108: “القانون المتعلق بعدد الخبراء والشروط اللازم توفرها فيهم وكيفية انتخابهم والنظام الداخلي لجلساتهم بالنسبة للدورة الأولى، يجب إعداده بواسطة الفقهاء الأعضاء فـي أول مجلس [أي أول اجتماع] لصيانة الدستور ويصادق عليه بأكثرية أصواتهم، وفـي النهاية يصادق قائد الثورة [أي الولي الفقيه] عليه، بعد ذلك فإن أي تغيير أو إعادة نظر فـي هذا القانون والموافقة على سائر المقررات المتعلقة بواجبات الخبراء يكون ضمن صلاحيات مجلس الخبراء”. أي أن مجلس الخبراء هذا، ما إن يتم تشكيله، حتى يصير سيد قراره دون غيره.
بشرط أن يكون فقيهاً، يمكن لمن شاء أن يترشح لمجلس الخبراء(عدد المقاعد حالياً 88) ، علماً أن غير المسلمين الاثناعشرية والنساء ممنوعون من الترشح، ثم بعد ذلك مجلس صيانة الدستور هو من يقرر من يصلح للترشح. في دورة انتخابات مجلس الخبراء عام 2016 تقدم للترشح 801 مرشحاً لم يسمح مجلس صيانة الدستور إلا لـ 161 (عشرون في المئة) منهم بالمضي قدماً، بعض هؤلاء كان في دوائر لا منافسين فيها. المفترض أن هؤلاء “الخبراء” منتخبون من الشعب مباشرةً، كما ينص الدستور (المادة 107)، لكن في هذا الإدعاء أقل من نصف الحقيقة، تماماً كما في كل انتخابات تقريباً في الجمهورية الإسلامية.
كيف يتم اختيار الولي الفقيه في حال شغور المنصب أو عجز شاغله عن القيام بمهامه من وجهة نظر مجلس الخبراء (المادة 111 )؟ طبقاً للمادة 107 من الدستور “توكل مهمة تعيين القائد [أي الولي الفقيه] إلى الخبراء المنتخبين من قبل الشعب. وهؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء الجامعين للشرائط … ومتى ما شخصوا فرداً منهم باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة فـي المادة التاسعة بعد المئة انتخبوه للقيادة”، وفي حال لم يجدوا الفقيه الملائم خارج مجلسهم” فإنهم ينتخبون أحدهم، من خارج المجلس، ويعلنونه قائداً… “. ما الشروط الواجبة في القائد؟ طبقاً للمادة 109 أول المؤهلات “الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء فـي مختلف أبواب الفقه” ثم بعد ذلك،”العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية” و “الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة، والقدرة الكافية للقيادة” وفي حال توفر أكثر من شخص مؤهل “يفضل من كان منهم حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره”.
إقرأوا أيضاً:
الدولة هي الولي الفقيه:
إذاً باختصار الولي الفقيه يعين مباشرة نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور ورأس القضاء، والأخير يختار ستة من أعضاء مجلس الشورى، الذي يتحكم المجلس السابق في ترشحهم، ليشغلوا المقاعد الست الباقية في مجلس صيانة الدستور. الفقهاء فقط في مجلس صيانة الدستور يشكلون قواعد عمل ونظام مجلس الخبراء، أيضاً مجلس صيانة الدستور يتحكم في اختيار أعضاء مجلس الخبراء، الذي يختار الولي الفقيه. أيضاً مجلس صيانة الدستور يقرر من له الحق في الترشح للمنصب التنفيذي الأعلى تحت قيادة الولي الفقيه: رئيس لجمهورية. كذلك يراجع مجلس صيانة الدستور قرارات مجلس الشورى وله حق التصديق عليها أو رفضها. وفي حال أصر مجلس الشورى على معاندة مجلس صيانة الدستور، الذي يشكله مباشرة وبشكل غير مباشر الولي الفقيه، فله أن يلجأ إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهذا يشكله بالكامل مباشرة الولي الفقيه. وسط دوائر من الفقهاء المعممين المرضي عنهم، الولي الفقيه قاض وخصم وحكم ومنفذ للعقوبة وسجان وصاحب قرار العفو، وحاكم لا يُحكم عليه (نظرياً لمجلس الخبراء أن يراقب عمل الولي الفقيه، لكن هذا الدور بقي نظرياً حتى الآن).
و لتبيان الصورة أكثر، اسم واحد في أعلى دوائر السلطة يلخص لنا طبيعة أركان النظام ممن يختارهم الولي الفقيه. تولى أحمد جنتي، المولود سنة 1927 رئاسة مجلس صيانة الدستور منذ عام 1993 إلى اليوم علماً انه كان عضواً فيه منذ إنشائه عام 1980، وهو أيضاً ترأس مجلس الخبراء منذ 2016 إلى اليوم. جنتي أحد أكثر وجوه النظام تشدداً. في ثمانينيات القرن الماضي كان قاضيا في محكمة الثورة التي أصدرت حكماً بالإعدام، من جملة ما أصدرت، على ابنه لانضمامه إلى عدو الجمهورية الإسلامية اللدود، منظمة مجاهدي خلق. و معروف عنه أنه تحدث علانية عن إعجابه بطالبان أفغانستان كنموذج يحتذى لفرض الأخلاق، كذلك وصفه مؤخراً، قبل أيامٍ من اشتعال الانتفاضة الجارية في أوائل شهر سبتمبر -أيلول الماضي، للخميني بأنه في مصاف أنبياء بني إسرائيل (!) هذا عدا عدائه الشديد للغرب.
هل من الممكن تصميم دائرة حكم، في نص دستور مكتوب، أكثر انغلاقاً وضيقاً على نفسها؟ تقع مقدراتها كلها تقريباً في يد شخصٍ واحد؟ لكن مرة أخرى إن كان المنطلق ولي فقيه يمثل الإمام الغائب المعصوم حتى وإن كان هو نفسه (أي هذا الولي الفقيه) غير معصوم، فلا غرابة هنا، لكن يبقى طريفاً أن نظاماً كهذا يسمى “جمهورية”.
سلاح الثورة التي لا تنتهي: جيش الله على الأرض.
في هذه المنظومة التي تنسب شرعيتها مباشرة إلى الخالق ومن يمثلون، بحسب التعبير الاثناعشري، حجته على الخلق (الامام الغائب)، أين يقف السلاح وحاملوه؟ من أول ما قام به الخميني لإحكام قبضته على إيران وتأمين وجوده هو ومناصريه حرفياً (في وجه اغتيالاتٍ ومحاولات انقلاب) وسياسياً؛ كان إنشاء كيانات مسلحة بعيدة عن نظام آل بهلوي وعلى ولاء لمشروع ولاية الفقيه (بما في ذلك مواجهة مخالفي الخميني ممن شاركوا في الثورة) من ثم إنشاء “سازمان پاسيج مستضعفين” أو “منظمة تعبئة المستضعفين”، المعروفة اختصاراً بال”پَسيج”، وهذه بدأت كميليشيا تطوعية شبه عسكرية أسسها الخميني عام 1979 ثم في عام 1981 تم دمجها في الجهاز العسكري الأهم على الإطلاق في الجمهورية الإسلامية: جيش حراس الثورة الإسلامية (الترجمة الحرفية للاسم الفارسي الرسمي: ” سپاه پاسداران انقلاب اسلامی” )، أو ما يعرف اصطلاحاً بالحرس الثوري.
وتبعاً للاسم الرسمي يعرف أعضاء هذه المنظمة ب “الباسداران” اختصاراً. الدلالة في الاسم: هؤلاء “جيش حراس الثورة”، لا جيش إيران. طبقا للمادة 50 من الدستور: “تبقى قوات حرس الثورة الإسلامية التي تأسست فـي الأيام الأولى لانتصار هذه الثورة راسخة ثابتة من أجل أداء دورها فـي حراسة الثورة، ومكاسبها”. “جيش حراس الثورة هو المتحكم في “منظمة المستضعفين” السابق ذكرها، والتي تحضر بقوة في كل قمع لأي حراكٍ في الشارع الإيراني. أما الدور الإقليمي لحرس الثورة فأشهر من أن يشار إليه، خاصة بالنسبة لسرايا القدس الشهيرة. علماً أيضاً أن “جيش حرس الثورة” يدير امبراطورية اقتصادية ضخمة تشكل جزءاً أساسياً من الاقتصاد الإيراني (تتراوح بين عشرة وخمسين في المائة من حجم الاقتصاد الكلي بحسب تقديراتٍ متباينة).
يوجد إذاً تنظيم مسلح ثري مسؤول عن “حراسة الثورة” يخضع مباشرة للولي الفقيه، ماذا إذا عن الجيش الذي ورثته الجمهورية الإسلامية من حكم آل بهلوي؟ طبقاً للمادتين 43 و 44 من الدستور على التوالي: “يتولى جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية مسؤولية الدفاع عن استقلال البلاد ووحدة أراضيها وعن نظام الجمهورية الإسلامية فيها”. ثم: “يجب أن يكون جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية جيشاً إسلامياً من خلال كونه جيشاً عقائدياً وشعبياً. وأن يضم أفراداً لائقين ومؤمنين بأهداف الثورة الإسلامية، ومضحين بأنفسهم من أجل تحقيقها”. وإن أردت تفسيراً أو تبريراً للدور الإقليمي المسلح للجمهورية الإسلامية في الدستور، في صيغة تشمل كل أذرعها المسلحة فهي في الديباجة وتحت عنوان لا لبس فيه، فهي تتمثل في “الجيش العقائدي”: “فـي مجال بناء وتجهيز القوات المسلحة للبلاد يتركز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساساً وقاعدة لذلك، وهكذا يصار إلى جعل بنية جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة على أساس الهدف المذكور، ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد فـي سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي فـي العالم “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم. [القرآن، سورة الأنفال، الآية 60]”. من ثم نشاط الجمهورية الإسلامية في المنطقة واعتراض المتظاهرين المتكرر في كل انتفاضة ضد النظام على إنفاق أموال البلاد على أنشطة عسكرية وراء حدودها برغم ما يعانيه الإيرانيون من أزماتٍ اقتصادية.
ولاية الفقيه وفرض التقوى.
ماذا عن إلزام المجتمع بما يراه الولي الفقيه من الصلاح في السلوك؟ وتحديداً “گشت إرشاد” (حرفياً “دورية التوجيه”) أو ما عرف اصطلاحاً بشرطة الأخلاق التي كان اعتدائها على الشابة الكردية مهسا أميني ما أشعل الموقف؟ طبقاً للمادة 8 من الدستور: “فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية جماعية ومتبادلة بين الناس فيتحملها الناس بالنسبة لبعضهم البعض، وتتحملها الحكومة بالنسبة للناس، والناس بالنسبة للحكومة، والقانون يعين شروط وحدود وكيفية ذلك، و”المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” [القرآن، سورة التوبة، الآية 71]”.
في تاريخ “دورية التوجيه” ما يختصر تاريخ الجمهورية الإسلامية، فسلف الجهاز الحالي كان ما عرف بـ”اللجان الثورية الإسلامية” (“كميته هاي انقلاب إسلامي”) التي ظهرت مع ولادة الجمهورية الإسلامية وتولت دور “شرطة الأخلاق” وكانت تحت إشراف وزارة الداخلية، حتى تقرر عام 2005 إنشاء دورية الإرشاد لتضطلع بهذا الدور، وهذه تحت الإشراف المباشر للولي الفقيه. خلال رئاسة روحاني (2013- 2021)، وبرغم كون دورية الإرشاد تحت إشراف الولي الفقيه مباشرة تعرض هذا الجهاز لنقدٍ من داخل أروقة الجمهورية الإسلامية ومن ثم خف دوره إلى حد كبير، لكنه عاد بقوة مع تسلم رئيسي، المحسوب على الجناح المحافظ المتشدد، رئاسة الجمهورية، والنتيجة ما رأينا (وهو تحديداً ما حذر منه منتقدون داخل البرلمان الإيراني منتصف العقد الماضي من أن نشاط هذا الجهاز وتعديه على خصوصيات الناس يستعدي الناس ضد الحجاب إن لم يكن ضد الجمهورية الإسلامية بل والإسلام نفسه).
غياب المرونة ، تغييب الخيارات والأفق المسدود.
هل من الممكن تغيير هذه المنظومة؟ تحجيم الطبيعة الثيوقراطية الفجة للجمهورية الإسلامية؟ فتح المجال لهيئات حرة منتخبة وتمثيل حقيقي لا يسيطر عليه الفقهاء المحسوبون على الولي الفقيه؟ تبدو الإجابة سلبية. طبقاً للمادة الأخير من الدستور وحده الولي الفقيه هو من يملك حق الدعوة لتعديل الدستور، ويتم ذلك، مرة أخرى من خلال لجان يشكلها هو مباشرة أو بشكل غير مباشر، ثم يملك هو أيضاً (أي الولي الفقيه) حق المصادقة على التعديلات المقترحة قبل طرحها للاستفتاء. و إن كان هذا لا يكفي تخبرنا الفقرة الأخيرة بما هو “فوق-دستوري” في الدستور: “مضامين المواد المتعلقة بكون النظام إسلامياً وقيام كل القوانين والمقررات على أساس الموازين الإسلامية والأسس الإيمانية، وأهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكون الحكم جمهورياً، وولاية الأمر، وإمامة الأمة، وكذلك إدارة أمور البلاد بالاعتماد على الآراء العامة، والدين والمذهب الرسمي لإيران، هي من الأمور التي لا تقبل التغيير”. علماً أن هذه الخاتمة للدستور تبني على المادة 12 منه وتتوسع فيها والتي تقول: “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثني عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”. بتعبير آخر، يفهم من المادتين أن ولاية الفقيه وطبيعة نظامها الثيوقراطي (المسمى “جمهورية”، ربما كنقيض للملكية التي سبقته) هما أيضاً أبديان.
في ظل تحجيمٍ مطّرد لقدرة الناخبين على التأثير في إطار دستور يسمح بذلك، وتركز فريد من نوعه للسلطة بيد شخص واحد، بل واستبعادٍ لكل من يراه هذا الشخص مخالفاً لتوجهاته من داخل منظومة الجمهورية الإسلامية، في ظل هذا كله هل يظل مستغرباً أن يهتف المتظاهرون مطالبين بسقوط النظام برمته؟
– كاتب وأكاديمي مصري
درج
————————–
=========================
تحديث 08 كانون الأول 2022
——————–
غموض حول حقيقة إلغاء “شرطة الأخلاق”:النظام الإيراني يراوغ المحتجين/ كريم شفيق
بعدما فشلت كافة المحاولات، بما فيها القمع والعنف والاعتقال، فإنّ السلطة تحاول أن تقدم استجابة مع وجود المحتجين في شوارع إيران. غير أنّها خطوة جاءت متأخرة؛ فمطالب الجماهير تجاوزت الحدود الفئوية وأمست الاحتجاجات تطاول رموز النظام، وشرعيتهم المتآكلة.
لا يعدو إلغاء دورية “شرطة الأخلاق” الغامض والملتبس، في إيران، كونه أكثر من حيلة تكتيكية، لجهة تخفيض سقف الاحتجاجات التي تتجه إلى إضراب شامل، وتصريف الأزمات عن الحكومة.
إلغاء أو ربما، تجميد مؤقت لشرطة الأخلاق بإيران، بما يجعل فرصة العودة ممكنة، يؤكد على أنّ الموقف الأخير محض قرار أمني. لكنه، في الآن ذاته، يؤشر إلى إذعان اضطراري للأمر الواقع الجديد الذي يبعث حالة تمرد واسعة على هياكل السلطة الدينية، ونبذ للقيم الثقافية والمجتمعية للملالي.
تصريحات المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري، التي تزامنت والاحتجاج الشعبي الهائل، في غالبية مدن وأقاليم طهران، لأكثر من شهرين متواصلين، ليست جديدة. وثمة سوابق مماثلة على لسان مسؤولين إيرانيين. والمقصود هو الإيعاز بأنّ الحكومة في طهران “تولي اهتماماً لمطالب الشعب الحقيقية”، حسبما نقلت وسائل الإعلام الحكومية والرسمية.
وقال جعفر منتظري، إنّ شرطة الآداب “أغلقت”، دون مزيد من تفاصيل. وفي لقاء بعنوان: “الجهاد التفسيري” عرج المدعي العام عن أسباب التخلي عن دورية الإرشاد وقال: “ليس ثمّة علاقة بين القضاء ودورية شرطة الأخلاق (غست إرشاد). كما أوضح، في صيغة غامضة، أنّه قد تم تجميد عمل الشرطة المعنية بـحجاب النساء من قبل الجهة الملحقة (لم يذكر اسمها). وتابع: “بالطبع يواصل القضاء مراقبة التصرفات السلوكية على مستوى المجتمع”.
انعطافة النظام لهذا الخيار، الذي يبدو مرناً وشكلياً بينما لا يمس جوهر السلطة، تتحرى تنحية القوى المسؤولة عن تزايد وتيرة الاحتجاجات، دون أن يعني ذلك عدم إتاحة الفرصة لأطراف أخرى تقوم بالمهمة ذاتها، كما هو الحال في فترات سابقة. ففي ستينات القرن الماضي، كانت هناك دوريات لجان الثورة الإسلامية، وكذا دوريات “جند الله” الملحقة بقوات الدرك. ثم جرى دمج القوتين في قوات الشرطة، والأمر ذاته مع دوريات “ثار الله” التابعة للحرس الثوري بالتعاون مع قوات الباسيج.
وفي آب/أغسطس الماضي، سبقت نائبة الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والأسرة، أنسيه الخزعلي، المدعي العام الإيراني، وقالت إنّه “ليس لدينا دورية إرشادية مطلقاً”. وتابعت: “هؤلاء هم شرطة الضمان الاجتماعي”.
فيما زعم النائب البرلماني نظام الدين موسوي، أنّ هذا القرار يهدف إلى إيجاد مقاربة أقل تشدداً لمواجهة المحتجين. وقال: “أصرت الإدارة والبرلمان على أنّ الاهتمام بمطلب الشعب الاقتصادي، بشكل أساسي، هو أفضل طريقة لتحقيق الاستقرار ومواجهة أعمال الشغب”.
ونقلت وكالة أنباء الطلبة الإيرانية (إيسنا)، عن منتظري قوله إنّ الحكومة تراجع قانون الحجاب الإلزامي.
وقال منتظري: “نحن نعمل بسرعة على مسألة الحجاب ونبذل قصارى جهدنا للتوصل إلى حل مدروس للتعامل مع هذه الظاهرة التي تؤذي قلوب الجميع”.
الحجاب الإلزامي، في كل الأحوال، الذي جرى إقراره في ثمانينات القرن الماضي، يحدد قانون العقوبات الإسلامي في المادة 638، عقوبة “الحبس من عشرة أيام إلى شهرين، أو حتى (74) جلدة” في حال عدم ارتدائه أو الالتزام به وفق شروط الحكومة الإيرانية. ووفق القانون فإنّ “النساء اللواتي يظهرن بدون حجاب إسلامي في الشوارع وفي الأماكن العامة، يعاقبن بالحبس من عشرة أيام إلى شهرين، أو بغرامة من خمسين ألف إلى خمسمائة ألف ريال”.
إذاً، بقاء القانون وتبدل الأطراف المسؤولة عن تنفيذه إنّما بهدف تخفيف الضغوط عن الحكومة. بحيث يكون إلغاء شرطة الأخلاق ضرورة لإنهاء الاحتجاجات. مع الأخذ في الاعتبار أنّ هناك قرابة 25 مؤسسة رسمية في إيران معنية بقضية فرض الحجاب قسراً على الفتيات، حسبما ذكرت وكالة أنباء “فارس” الإيرانية، عام 2019.
واللافت أنه في مدينة همدان، تمّ استدعاء مدير أحد المتاجر على خلفية اكتشاف تقديم خدمات لنساء من دون حجاب، بحسب منصة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الإيرانية، وذلك بعد يوم، فقط، من الإعلان عن تجميد دورية “شرطة الأخلاق”.
ونقل موقع “جماران” الإيراني عن الناطق بلسان هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علي خان محمدي، قوله إن “مهمة دوريات الإرشاد قد انتهت، غير أنه يتعين النظر في بدائل لها”.
ووفق خان محمدي فمن الضروري البحث عن “إطار أكثر حداثة، باستخدام التقنيات الموجودة في هذا المجال وفي بيئة غير أحادية الجانب”. وذلك لفرض الحجاب الإلزامي.
كما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية “تسنيم” التابعة للحرس الثوري الإيراني، أنّ هناك حديقة أطفال داخل مول تجاري قد تم إغلاقها في طهران، مؤخراً، بأمر وقرار قضائي، بدعوى نشر صور لموظفيها من دون “احترام الحجاب الديني”.
وبالتزامن مع هذه الحوادث التي جاءت في أعقاب تصريحات منتظري، انتقدت منصة “جام جام أونلاين”، التابعة للتلفزيون الرسمي الإيراني، “إزالة لافتات” الدعاية للحجاب الإلزامي في بعض الخطوط الجوية الإيرانية، دون ذكر أسماء شركات الطيران المقصودة. ودان الموقع، في تقرير له، قبل أيام، موقف المضيفات والمسؤولين في رحلات الطيران الذي يتفادى توجيه (تحذير) المسافرين بضرورة الالتزام بالحجاب.
وعليه، نفت قناة “العالم” الإيرانية، احتمالية غلق مكاتب دوريات شرطة الأخلاق. وقالت: “حاولت وسائل إعلام أجنبية تفسير كلام النائب (المدعي) العام على أنّه انسحاب للجمهورية الإسلامية حول موضوع الحجاب والعفة وتأثرت بأحداث الشغب الأخيرة”.
وعمد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى المراوغة عندما باغته سؤال في بلغراد بصدد تصريحات منتظري. وقال: “تأكدوا أنّ في إيران، في إطار الديمقراطية والحرية، التي توجد بوضوح شديد في إيران، كل شيء يسير على ما يرام”.
ضمن خطط واستراتيجية تنمية ثقافة “العفة والحجاب” و”تعزيز الضمان الاجتماعي”، الذي دشنه مجلس الثقافة العامة التابع لمجلس الثورة الثقافية (يتبع المرشد الإيراني علي خامنئي)، عام 2004، جرى تعيين 21 مهمة لعناصر الشرطة تتصل بملابس النساء والسلوكيات الشخصية. ومنذ ذلك التاريخ، برزت دوريات عديدة معنية بضبط “الآداب العامة”. وحصلت قوات الشرطة إثر إقرار هذا المشروع على ميزانية ضخمة بلغت نحو ألف مليار تومان، أيّ ضعف ميزانية مركز التنمية الفكرية للأطفال والمراهقين مرتين، وضعف ميزانية جامعة الشريف للتكنولوجيا مرة ونصف.
وفي نهاية حكم الرئيس الإصلاحي، محمد خاتمي، تمّت الموافقة على قوات “شرطة الآداب والأخلاق”، عام 2005، بصورتها الراهنة.
وفي المحصلة، هذه الخطوة الأخيرة قد تبدو تراجعاً من السلطة بعد ثلاثة شهور من مقتل مهسا أميني، وذلك في محاولة جديدة لامتصاص الغضب الشعبي المتنامي، الذي يبدو الأكثر تأثيراً منذ نجاح ثورة الخميني في إيران، عام 1979، وفق الباحث المتخصص في الشأن الإيراني محمود حمدي أبو القاسم.
لكن هذه الخطوة، ربما، فات الآوان على تطبيقها، كما يقول أبو القاسم لـ”درج”. ويتابع: “كانت خطوة مهمة لو حدثت عند بداية الأحداث قبل أن تصل إلى محطة رفض النظام السياسي، برمته”.
فبعدما فشلت كافة المحاولات، بما فيها القمع والعنف والاعتقال، فإنّ السلطة تحاول أن تقدم استجابة مع وجود المحتجين في شوارع إيران. غير أنّها خطوة جاءت متأخرة؛ فمطالب الجماهير تجاوزت الحدود الفئوية وأمست الاحتجاجات تطاول رموز النظام، وشرعيتهم المتآكلة.
الأوضاع الاقتصادية المتدهورة تفاقم الأعباء على الحكومة، تحديداً بعد إخفاقات حكومة إبراهيم رئيسي في الوفاء بوعودها في معالجة المعضلات الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إلغاء شرطة الأخلاق يعطي دفعة للمحتجين ويعزز مطالبهم، بل ويدفعهم إلى مواصلة الاحتجاجات.
ووفق تقارير رسمية، فإنه مع إضراب العمال والمتاجر، انخفض المؤشر الإجمالي لبورصة طهران بمقدار 4235 نقطة إلى مليون و413 ألف نقطة. وقالت وكالة “تسنيم” للأنباء إن “أكبر انخفاض للأسهم في البورصة، كان لأسهم شركات “كل كهر” للتعدين والصناعة، و”خاورميانه” لتطوير المناجم والصناعات التعدينية، و”فولاد مباركه” في أصفهان”.
لكن أيّ احتجاجات ما تزال معرضة لمواجهة “حملة أشد عنفاً وقمعاً”، يقول حمدي أبو القاسم.
يتفق والرأي ذاته، الباحث في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، علي ألفونه، والذي قال لـ”أسوشييتد برس” إن “الطبقة الوسطى العلمانية تكره المنظمة (شرطة الأخلاق) لتقييدها الحريات الشخصية”. وتابع: “الطبقة المحرومة والمحافظة اجتماعياً تستاء من كيفية عدم تطبيقها تشريع الحجاب” في المناطق الأكثر ثراء في المدن الإيرانية.
درج
————————–
أي أفق للاحتجاجات الإيرانية؟/ محمد أحمد بنّيس
بعد أيام من إعلان النائب العام الإيراني حل شرطة الأخلاق، المتورّطة في مقتل الفتاة مهسا أميني في سبتمبر/أيلول المنصرم، دعا المرشد الإيراني، خامنئي، إلى “إصلاح النظام الثقافي في البلاد”. يبدو ذلك وكأنه إقرار ضمني بفشل النظام في إدارة الاحتجاجات، والحد من ارتفاع كلفتها الداخلية والإقليمية. فداخلياً، باتت الفجوة أكثر اتساعا بين هذا النظام، المتوسّل بشرعية الثورة الإسلامية، والمجتمع الذي شهد تحولاتٍ عميقة. أما خارجياً، فيصعب فصل الاحتجاجات عن موقع طهران في معادلة القوة والنفوذ، باعتبارها لاعبا رئيسا في المنطقة. يتعلق الأمر بكلفةٍ يمكن أن تدفعها إيران، من نفوذها الإقليمي، في حالة خروج الاحتجاجات عن السيطرة.
لم تكن الاحتجاجات مفاجئةً لمتتبعي الشأن الإيراني، لا سيما مع الاحتقان الاجتماعي الناتج عن العقوبات الغربية المفروضة على طهران، على خلفية ملفها النووي، هذا إضافة إلى الأعباء المترتبة على نفوذها السياسي والمذهبي، والتي أضحت أكبر من إمكاناتها الاقتصادية والجيوسياسية.
تحوّل الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد عسكري، بسبب الدعم اللوجيستي والعسكري والاستخباراتي الذي تقدّمه طهران لحلفائها في العراق ولبنان وسورية واليمن. هذا في وقت زادت نسبة البطالة والفقر والتضخم، وارتفعت الأسعار، وتراجعت القدرة الشرائية، ورُفع الدعم الحكومي عن بعض السلع، فضلا عن تبخّر آمالٍ علّقها الإيرانيون على إحياء الاتفاق النووي، ورفع جزء من العقوبات الغربية. إنها كلفة اقتصادية واجتماعية لم يعد الإيرانيون قادرين على تحمّلها، وهم يرون جزءا كبيرا من عوائد بلادهم يذهب لتغطية النزعة التوسّعية للنظام في الإقليم. يشعر الإيرانيون أنهم أولى بهذه العوائد التي ينفقها النظام على حلفائه في المنطقة، دونما اكتراثٍ لأوضاعهم المعيشية المتردية، هذا من دون أن ننسى الطبيعة السلطوية لهذا النظام التي لا تسمح بهوامش للمعارضة وتصريف فائض الاحتقان الاجتماعي. ومن هنا، لم يكن مقتل الفتاة أميني إلا النقطة التي أفاضت الكأس. ولا شك أن اتساع رقعة الاحتجاجات في ظل نظام يُشكّل تصديرُ الثورة وتوسيع رقعة نفوذه الطائفي أهم موارد شرعيته السياسية، يمكن أن يخلط الأوراق، خصوصا أن هناك صراع أجنحة واضحا قد يُربك حسابات هذا النظام.
يُسابق النظام الإيراني الزمنَ لإخماد هذه الاحتجاجات، وتطويق امتداداتها، منعاً لتشكّل ما يعرف بالكتلة الحرجة، وهو أمر قد يحدُث، في أي لحظة، إذا ما التحقت الطبقة الوسطى، أو على الأقل شرائحُ واسعة منها، بهذه الاحتجاجات، فهناك متغيّرات ديمغرافية وثقافية قد ترجّح ذلك، بما يمكن أن يُحدِث تغييرا في تركيبة النظام على المدى البعيد.
هناك أجيال جديدة لم تشهد اندلاع الثورة الإسلامية التي أطاحت حكم الشاه عام 1979، ولم تسمع خطب الخميني المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل في الثمانينيات. هذه الأجيال، مثل غيرها في عالم اليوم، أكثر انفتاحا على العالم بفضل وسائل الاتصال الحديثة، ولا تجد حرجا في المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية ونصيبها في الثروة، ولا تبدو مستعدّة للقبول باستمرار نظامٍ لا همَّ له إلا توسيع نفوذه في الإقليم.
لا يشذّ نظام الملالي عن قاعدة الأنظمة الاستبدادية، حين يتهم أطرافا خارجية بالوقوف خلف الاحتجاجات وتأجيجها، فهو لا يختلف عن غيره من أنظمة المنطقة التي أنهكها الاستبداد والفساد وسوء توزيع الثروة. إنه جزء من الإشكالية الإقليمية الكبرى التي يلخّصها تطلع الشعوب إلى الحرية والديمقراطية والعدالة.
هل استنفد النظام الإيراني أوراقه في مواجهة الاحتجاجات؟ لا يبدو ذلك، سيما أنه يستند إلى حاضنة اجتماعية وسياسية. وخروج مظاهرات مؤيدة للنظام، قبل فترة، يعكس، إلى حدٍّ ما، ميزان القوى الذي لا يزال لصالحه. فلا يمكن إغفال أنه يستند إلى ركيزتين أساسيتين: المؤسسة الدينية بكل ثقلها الروحي والسياسي والمذهبي، والتي تجسدها ولاية الفقيه، والمؤسستين الأمنية والعسكرية بكل ثقلهما داخل مفاصل الدولة.
العربي الجديد
—————————
في إيران… الصواريخ والمسيّرات لا تطعم خبزا/ خيرالله خيرالله
أخيرا، استفاق الغرب على صواريخ إيران ومسيّراتها، كما استفاق على الأزمة الداخلية التي تعاني منها “الجمهوريّة الإسلاميّة” وهي أزمة مرتبطة بنظام لم يستطع أن يكون متصالحا مع الشعوب الإيرانيّة في أي وقت من الأوقات. ما يمكن فهمه من القمّة، التي انعقدت حديثا في واشنطن بين الرئيس جو بايدن والرئيس إيمانويل ماكرون، أنّ هناك نظرة جديدة لدى الغرب إلى الموضوع الإيراني. تأخذ هذه النظرة في الاعتبار الحراك الذي يشهده الداخل من جهة والتورط الإيراني في الحرب الأوكرانيّة من جهة أخرى. بدأ الغرب يعترف بأن الصواريخ والمسيّرات لا تسد جوع المواطن في بلد بات أكثر من نصف شعبه يعيش تحت خط الفقر.
حتّى روبرت مالي المسؤول عن الملف الإيراني في واشنطن بدأ يعيد النظر في موقفه من سلوك النظام بعدما كان من أشد المتحمسين له ولصفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في شأن برنامجها النووي. تحدث مالي، المعروف بانحيازه للنظام الإيراني، عن تركيز أميركي أكبر على التسليح الإيراني لروسيا في حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا وعن اهتمام أميركي بالقمع الذي يتعرّض له الإيرانيون. أشار إلى أن هذا التركيز على العلاقة بين إيران وروسيا وعلى الوضع الداخلي الإيراني صار يتفوق على مسألة إحياء الاتفاق في شأن الملف النووي الذي وقعته “الجمهوريّة الإسلاميّة” مع مجموعة البلدان الخمسة زائدا واحدا (البلدان ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا) صيف العام 2015. كان ذلك قبل مغادرة باراك أوباما للبيت الأبيض.
أراد النظام الإيراني، منذ قيامه في العام 1979، تصدير أزمته الداخلية إلى خارج حدوده. نجد حاليا، بفضل المرأة الإيرانيّة أوّلا، أنّ هذه السياسة ارتدّت عليه، خصوصا بعد فقدان هيبته واضطراره إلى التخلي عن أحد مقومات وجوده، أي شرطة الأخلاق.
مؤسف أنّ الإدارات الأميركيّة، خصوصا إدارة أوباما، انشغلت في السنوات الماضية بالبرنامج النووي الإيراني وبكيفية استرضاء “الجمهوريّة الإسلاميّة” بدل مواجهة الواقع المتمثل في الخطر الذي يشكله النظام الإيراني على دول المنطقة من جهة وعلى السلم العالمي من جهة أخرى. جاءت مشاركة إيران في الحرب الأوكرانيّة، دعما لبوتين، كي يكتشف الغرب أخيرا خطورة النظام الذي أقامه آية الله الخميني والذي في أساسه شعار “تصدير الثورة”، أي تصدير الخراب والبؤس والغرائز المذهبيّة إلى دول المنطقة. يبدو مسموحا تصدير الخراب إلى بلدان عربيّة، لكنه محظور، أميركيا وأوروبيا، على إيران الدخول على خط المواجهة بين روسيا والغرب عبر الحرب التي يشنّها بوتين على أوكرانيا.
لا تقدّم الصواريخ الباليستية ولا الطائرات المسيّرة ولا تؤخّر في شيء على الصعيد الإقليمي، اللهمّ إلّا إذا استثنينا أنّها تخيف جيران إيران وتجعلهم يلجأون إلى كلّ الوسائل المتاحة من أجل حماية أنفسهم. هذه صواريخ مطلوب، قبل كلّ شيء، أن تكون للاستهلاك الداخلي الإيراني من أجل تأكيد أن شيئا لم يتغيّر في البلد بعد انتصار”الحرس الثوري” على منافسيه في الداخل.
لم تستخدم إيران صواريخها إلّا من أجل لعب دور يصبّ في إلحاق الضرر بمدن عراقيّة معيّنة، كما حصل بين العامين 1980 و1988 إبان الحرب العراقية – الإيرانية أو لتبرير الهجمات الإسرائيلية على لبنان أو على قطاع غزّة في مرحلة لاحقة.
لا يمكن تجاهل أن إيران كانت، من الناحية النظريّة فقط، الجهة المُعتدى عليها في العام 1980 عندما بدأت الحرب العراقية ـ الإيرانية. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أيضا أن نظام صدّام حسين شعر في تلك المرحلة بأنّ مصير العراق ومصيره كانا على المحكّ لو لم يباشر حربا وقائية جاءت بكلّ المصائب والويلات على المنطقة واستنزفت العراق وإيران ودول الخليج العربي كلّها.
لا حاجة إلى العودة إلى الماضي، لكن التاريخ وحده سيحكم هل كان أمام صدّام من خيار آخر غير تلك الحرب المجنونة التي ارتدّت عليه والتي فعل نظام الخميني كلّ شيء من أجل اندلاعها.
الأهمّ من ذلك كلّه، أن إيران تستخدم الصواريخ والمسيّرات حاليا لأغراض سياسية وفي خدمة مشروعها التوسّعي إضافة بالطبع إلى تأكيد أن لا فارق يذكر بين رئيس للجمهوريّة وآخر يمكن أن يحلّ مكانه… ما دام “الحرس الثوري” يسيطر على البلد وعلى اقتصاده.
في الواقع، كانت هناك محاولات عربيّة عدّة لتنبيه الولايات المتحدة إلى خطورة المشروع التوسّعي الإيراني. لكنّ هذه المحاولات العربيّة لم تلق آذانا صاغية في واشنطن وحتّى في باريس. هل سيتغيّر شيء في ضوء قمّة بايدن وماكرون والبيان المشترك الذي يشدّد على ضرورة مواجهة الخطر الإيراني؟
كيف ستردّ الإدارة الأميركيّة على التحدّي الإيراني الذي بدأ يأخذ شكلا مختلفا في ضوء ما يشهده الداخل في “الجمهوريّة الإسلاميّة”؟ إنّه سؤال كبير يمكن أن يعني الكثير. يمكن أن يعني الكثير بالنسبة إلى النظام الإيراني نفسه الذي ما زال يبحث عن عدو خارجي غير موجود والذي يريد أن يثبت مرّة أخرى، للإيرانيين أوّلا، أنّه لا يخشى الولايات المتحدة، بل هو في مواجهة معها. هل ما زالت مثل هذه الشعارات تنطلي على أحد؟
ليس صدفة أنّ النظام الإيراني يسعى في هذه الأيّام إلى الهرب من مواجهة أزمته الداخلية عبر اتهامات، لا تمت للواقع بصلة، يوزعها يمينا ويسارا على أميركا وأوروبا والدول العربيّة الخليجيّة محملا إيّاها مسؤولية الثورة الشعبية المستمرّة منذ السادس عشر من أيلول – سبتمبر الماضي تاريخ وفاة الفتاة الكرديّة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق.
في النهاية، تنتمي الشعوب الإيرانيّة في أكثريتها الساحقة إلى ثقافة الحياة. الإيرانيون ليسوا كوريين شماليين. إنّهم يعرفون أن القنبلة النووية والصاروخ والمسيّرة لا تطعم خبزا. ما يطعم خبزا، للإيرانيين أوّلا، عودة البلد إلى أن يكون دولة طبيعيّة تهتمّ بشؤونها الداخلية بدل الاستثمار في ميليشيات مذهبيّة قضت على العراق وسوريا ولبنان وعلى جزء من اليمن..
إعلامي لبناني
العرب
—————————-
إيران الثورة في عالم آخر/ غسان شربل
ما يجري في إيران يعنيها ويعني المنطقة والعالم. صحيح أنَّ أمرَ النظام يعود للشعب الإيراني وحدَه، لكنَّ الصحيحَ أيضاً هو أنَّ إيرانَ منخرطة في توترات دولية، ومنغمسة في خرائط عدة في الإقليم. ما يريده أهلُ المنطقة هو إيران الدولة التي تلتزم الحدودَ والقوانينَ المعمولَ بها والقواعدَ المتعارفَ عليها في التعامل. لهذا تحظَى الاحتجاجاتُ الإيرانية بمتابعة واسعة؛ خصوصاً بعدما بدت أنَّها أكثرُ من غضبٍ عابرٍ، وأعمقُ من أن يؤدي الرصاصُ إلى اقتلاع جذورها. تطرح الاحتجاجات على الثورة الإيرانية سؤالاً مهماً وصعباً، هو؛ إلى متى ستتمسَّك بقرارها عدم الاعتراف بأنَّ العالم قد تغيّر؟
وُلدت الثورة الإيرانية في عالم، وهَا هي تعيش في آخر. تغيَّر العالم كثيراً في العقود الأربعة الماضية. تغيَّر إلى حدٍّ لم يعدْ معه باستطاعة أحدٍ أن يعيشَ بمنأى عن التبدلات الكبرى التي حدثت. حين انتصرت ثورة الخميني كانَ العالم يعيش في عهدة المعسكرين، وكانت الثورة تفاخرُ بأنَّها وُلدت من خارج القاموسين المتنافسين. ومن عادة الثوراتِ أن تتوهَّمَ لدى انتصارِها أنَّها جاءت لتبقى إلى الأبد. وأنَّها ستغيّر العالم. وأنَّها عثرت على حلول فشلت الثوراتُ السابقة في العثور عليها. وفي زهو الانتصار تختلطُ الأحلامُ بالأوهام.
لا تستطيع الثورة الإيرانية الاستمرارَ في تجاهل التغييرات التي ضربت المشهد الدولي في العقود الماضية. التحولات التي حصلت كانت واسعة وهائلة ولا يمكن أبداً اعتبارها شأناً يخصُّ الآخرين فقط. أميركا اليوم هي غير أميركا التي رقصت الثورة الإيرانية ابتهاجاً حين حولت دبلوماسييها في طهران رهائنَ. لا يزال «الشيطان الأكبر» يتربَّع على مقعد الاقتصادِ الأول في العالم. الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً. لم يغادر الخريطة بفعل ضربة نووية أو حرب عالمية. غادرَها بعدما أُنهك بفعل سباق التسلح والفجوة التكنولوجية وجمود النموذج والعجز عن الاحتفاظ بعلاقة عميقة مع الأجيال التي وُلدت في ظل الثورة. غادر لأنَّه لم ينجح في إحداث التحسن اللازم في حياة الناس والاستماع إلى تطلعاتهم. فتوحات الخارج لم تحصّنه ضد استحقاقات الداخل.
عندما انتصرت الثورة الإيرانية كانت الصينُ تقف عند منعطف حاسم. لم تعد أفكار ماو تسي تونغ قادرة على حماية نظام الثورة. لم تعد قادرة على حل المشكلات والتصالح مع الوقائع الاقتصادية والمستجدات. اصطدمت الثورة بالجدار، ولم يكن أمامها إلا أن تتغيّر. احتفظ ورثة ماو بالحزب كآلة لضمان الاستقرار، لكنَّهم خرقوا القواعد التي كانت تدرج في باب المحرمات. دخلت مفردات الازدهار والتقدم والاستثمار والتجارة إلى القاموس. كان لا بد من تغيير في الذهنيات والأساليب معاً. ونجح الورثة في إنقاذ الثورة عن طريق اعتماد منطق الدولة. جاء الإنقاذُ الحقيقي حين تمَّ إخراج مئات الملايين من الفقر المدقع، وحين التحقت البلاد بالثورات العلمية والتكنولوجية.
لا يستطيع أحدٌ في العالم تجاهل ثمارِ الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات. أدخلت الإنترنت تغييراً هائلاً على علاقة الفرد بالعالم. أتاحت الوصولَ إلى المعلومات التي كان الرقيب يحاول إخفاءَها عن الناس. وجاء الهاتف الذكي وهو أكبر معارض أو شاهد في التاريخ. بات باستطاعة أي مواطن أن يقرأ العالم عبر هذا الجهاز الصغير النائم في جيبه. يصوّر ويوثّق ويرسل. صار كل مواطن صحافياً يلاحظ ويسجّل ويجمع المعلومات ويبلور موقفه في شؤون الداخل والخارج.
جعل الهاتف الذكي حاملَه جزءاً من عالم مترابط بغض النظر عن الحدود الدولية وصرامة الرقابات. قال لحامله إنَّه صاحب حقوقٍ بديهية من حقّه المطالبة بها. وفي هذا السياق، تشبه الشابة الإيرانية الشابة المقيمة في دولة ثانية أو قارة أخرى. بعث الهاتف أيضاً برسالة مفادها أنَّ النماذج المفروضة لا تصلح لكل زمان ومكان. وأنَّ النماذج ليست معفاة من الاستماع إلى ما يحمله الوقت من تغييرات ومقاربات وأساليب عيش جديدة.
حاولت الثورة الإيرانية تحصينَ نفسِها ضد التغييرات الكبرى. أبقت خطَّ التماس مشتعلاً مع الغرب واعتبرت كل مطالبة بالتغيير، مهما كان محدوداً، جزءاً من مؤامرة خارجية تهدف إلى اقتلاع أعمدة النظام وركائز استمراره. رأت أنَّ من حقها أن تأخذَ من التطور التكنولوجي فقط ما يعزز ترسانتها وقبضتها وسياسة الهجوم في الإقليم.
ترجمت الثورة الإيرانية شعارَ «تصدير الثورة» إلى سياسات نجحت في اختراق الخرائط في لبنان وسوريا والعراق واليمن. لكنَّها لم تنجح في أن تقدّمَ في الخرائط التي اخترقتها نموذج استقرار أو ازدهار. بدت الاختراقاتُ باعتراف مسؤولين فيها أشبهَ بإجراءات الحماية للنظام ودوره، ولو تمَّ ذلك على حساب أمن الخرائط المخترقة وازدهارها. وسابقت إيران الثورة الوقت في الملفين النووي والصاروخي، وكأنَّها تبحث عن بوليصة تأمين لحماية الدور الجديد في الإقليم.
تصرفت الثورة الإيرانية كأنَّ المشكلة في الخارج ومعه، وأنَّ الداخلَ مضمون. تعاملت مع الاحتجاجات السابقة بشأن نتائج الانتخابات أو القضايا المعيشية وكأنَّها مجردُ محاولاتٍ يقوم بها الخارج لزعزعة الاستقرار. رفضت التوقفَ عند تململ الأجيالِ الجديدة وتطلّعها إلى العيش الأفضل ومطالبتها بإعطاء الأولوية لتحسين مستوى حياة الناس، على حساب الإنفاق على الجيوش الصغيرة الحليفة في الخارج.
إصرارُ إيران التي تنزلق حالياً نحو عزلة دولية، أو غربية على الأقل، على عدم الاعتراف بأنَّ العالم قد تغيَّر جعل الاحتجاجات التي انطلقت شرارتُها من مقتل الشابة مهسا أميني ترتدي طابعاً أعمقَ من الاحتجاجات السابقة. تأكد ذلك من الشعارات التي أطلقها المحتجون، على رغم معرفتهم بالثمن الباهظ الذي يترتَّب على إطلاقها. انتشارُ الاحتجاجات في مدن متباعدة ورفع شعار «المرأة – الحياة – الحرية» وعدم الخوف من الرصاص مهما كان قاتلاً، أعطى الانطباع بأنَّ السلطاتِ الإيرانية تواجه، في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي بالذات، تحدياً غير مسبوق.
واضح أنَّ العلاجاتِ السابقة لم تعد مجدية، وأنَّ القمعَ الواسع يؤسس لدورات أخرى من الاحتجاجات. ربما لهذا السبب وافقت السلطاتُ على إلغاء «شرطة الأخلاق» تحت ضغطِ الشارع، وأبدت استعدادَها لمناقشة موضوع الحجاب. من التسرع اعتبار ما يحدث دليلاً قاطعاً على تغيير وشيك أو قريب. لكن الأكيد أنَّ الاحتجاجات بعثت برسالة قاسية، مفادها أن لا خيار أمام حراس الثورة الإيرانية، غير الاعتراف بأنَّ عالم اليوم لا يشبه العالم الذي وُلدت فيه الثورة. وجوهر الرسالة أنَّ الوقتَ لا يرحم، تتغيَّر الثورة على أيدي جيل جديد، يقيم تحت عباءتِها، أو تتغيَّر تحت وطأة الشارع، مهما كان المخاضُ طويلاً ومكلفاً.
الشرق الأوسط»
—————————–
الإمبراطورية الخائفة من أهلها/ إبراهيم الزبيدي
تتحدث الأنباء عن تمارين عسكرية أميركية – إسرائيلية ترجَمَها بعضُ العراقيين والعرب والإيرانيين المتفائلين بأنها استعداد لضربة عسكرية مرتقبة لإيران.
ولنا أن نتساءل، إذا صحت هذه الظنون، هل يحق لنا أن نصدق بأن إدارة بايدن قررت الانحياز إلى الشعب الإيراني وإسقاط النظام؟
وهل إذا حدث فعلا ووقع الهجوم ألن يتحول إلى حبل إنقاذٍ للنظام، وإحراج انتفاضة الشعب الإيراني؟ وألن يُوحد الإيرانيين في مواجهة المعتدين؟
وإذا كانت الولايات المتحدة تنوي حقا مهاجمة إيران ألن يكون عليها، بالتزامن مع الهجوم المحتمل، أن تخوض حربها الأهم مع أذرع النظام الإيراني في العراق أولا، وفي سوريا ولبنان ثانيا واليمن ثالثا، وفلسطين رابعا، وربما في مناطق أخرى غير متوقعة؟
إن الذي جرى وما يجري في العراق، منذ أن تسلم محمد شياع السوداني رئاسة الوزارة مُنفِّذا، ونوري المالكي موجِّها وآمرا، لا يوحي بأنها في وارد الدخول إلى هذا المعترك.
فمن غير المعقول أن تكون، بكل جبروت مخابراتها وقواعدها وأقمارها التجسسية، لم ترصد إجراءات الزحف المبرمج للهيمنة العسكرية والأمنية والسياسية والمالية والاقتصادية على المفاصل الحساسة في الدولة العراقية، لحساب النظام الإيراني المحاصر والمضطر لاتخاذ العراق قاعدةَ انطلاقهِ المحصنة والمهيمَن عليها كليا ضد أي هجوم محتمل.
فالعراق تمَّ، ويتم قضمه، قطعة قطعة، لوضعه، كلِّه، في قبضة الموكَّلين العراقيين بإدارة المستعمرة العراقية لحساب ولاية الفقيه.
إن الذي فعلته حكومة حزب الدعوة الجديدة، وما هي ماضية في فعله، يذكّر العراقيين بما تعودوا على رؤيته في الانقلابات العسكرية المتعاقبة، يوليو 1958، فبراير 1063، نوفمبر 1963، يوليو 1968، ثم يوليو 1979.
فقد جرى تسريح كبار ضباط الجيش والأمن والمخابرات، إما لعدم ثقة بولائهم لإيران، أو لإخلاء مواقعهم ومنحها لموالين أشداء، ثم استبدلوا عددا كبيرا من ذوي الدرجات الوظيفية المدنية العليا والمتوسطة، خصوصا في المؤسسات السيادية الحساسة، بآخرين من أعضاء حزب الدعوة والأحزاب والفصائل المتآخية معه.
ولا تفسير لإنشاء شركة تابعة للحشد الشعبي للتجارة والاستثمار، على طريقة ما جرى للحرس الثوري الإيراني، سوى الرغبة في المصادرة الكلية للتجارة والمال والاقتصاد، بالتزامن مع السيطرة على جميع مراكز الفعل الأمني والعسكري في البلاد.
وشيئا فشيئا يجري، حاليا، وسيجري لاحقا، تقزيم سنة الحكومة، ووضعهم أمام خيارين، إما القبول بأن يكونوا نتوءا عرضيا في الوضع السياسي الجديد، لا يطالب ولا يعارض ولا يشاكس، أو عودتهم إلى حقبة تهم الإرهاب، فالاعتقال، أو النفي والإبعاد.
وكردستان العراق هي الأخرى لم تفلت من العقاب. فقد دخلتها القوات الإيرانية وقوات حكومة المالكي تمهيدا لترويضها وإعادتها إلى بيت الطاعة الإيراني في النهاية.
وفي تطور جديد بدأت السلطة الجديدة باعتماد سياسة منع الكلام المخالف باعتقال المتوفر في العراق من الصحافيين والمحللين والمعلقين، وإرهاب المقيمين منهم في الخارج.
ولأن الإمبراطورية الإيرانية خائفة من أهلها، وتتوقع الأسوأ الآتي في قادم الأيام فهي أصبحت أكثر احتياجا إلى العراق، بموقعه الجيوسياسي وأمواله وجيوشه وميليشياتها التي خبأتها فيه من سنين.
والظاهر أن مطلوبها، في المحصلة النهائية، هو تحويل العراق إلى مركز تجمع وانطلاق لمضايقة دول الخليج العربي وتهديد أمنها لمنعها من دعم التظاهرات، ومن سماحها للطائرات الإسرائيلية والأميركية باستخدام أجوائها في عمليات محتملة ضدها.
ألم يقل المرشد الإيراني المريض لضيفه رئيس وزراء الإطار التنسيقي الشيعي الإيراني، خلال استقباله في طهران إن “أمن العراق هو من أمن إيران”!
وها، بعد شهرين من الاغتيال والاعتقال والإخفاء والتهديد بفؤوس فدائيي الباسيج وخناجره وسيوفه وكواتمه، ورصاص الحرس الثوري الحي، تجرع النظام السم واضطر لإلغاء شرطة الآداب، ومراجعة قانون الحجاب، عملا بنصيحة الأميركيين.
حتى أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تناسى تهديداته الجهنمية السابقة، وراح يلوح للمتظاهرين بإمكانية تعديل بعض فقرات الدستور.
أليس هذا بيانا مكتوبا بالحبر السري يعترف فيه النظام بخوفه من استمرار الانتفاضة، وبعجزه عن القضاء عليها؟
نعم إنه ضعف لا بد أن يتبعه ضعف آخر، وبلا توقف، ومن المؤكد أن يستثمره المنتفضون، ويوقنوا بنصرهم، ويتشجعوا على الصمود حتى سقوط العدو.
ورغم أن التظاهرات الشعبية الإيرانية المتصاعدة تحاصر النظام وتهدد بقاءه، إلا أن أحدا من الأوروبيين والأميركيين الباكين على حقوق الإنسان في إيران لم يقدم لها سوى بيانات الشجب والاستنكار الكلامي الفاضي، وسوى مطالبة النظام بالرفق بالمتظاهرين.
وعلى ذمة موقع (إيران إنترناشيونال) فقد “شددت” وزارة الخارجية الأميركية على ضرورة أن ينتبه النظام إلى رغبة الشعب الإيراني في التغيير.
أليس في هذا القول طعمُ النصيحة المخلصة للنظام بضرورة تعديل سلوكه، مقابل النجاة من السقوط؟
ومن مجمل المراقبة والتدقيق لا يبدو أن هناك تصميما أميركيا عمليا حقيقيا على معاقبة النظام على قمعه الدامي لشعبه، ولا على تمدده في الإقليم، ولا تهديده الملاحة الدولية، ولا استمراره في تهريب السلاح والذخيرة إلى الحوثيين وحزب الله اللبناني، ولا استهدافه مراكز ومواقع اقتصادية سيادية حيوية في دول الجوار، ولا اختطاف السفن التجارية، ولا تهديداته المتكررة بغلق المضيق، ومنع تدفق الإمدادات النفطية إلى الدول التي تحتاج إليه.
والرفض الوحيد الحقيقي الأميركي – الإسرائيلي – الأوروبي الحازم هو لسعيه إلى امتلاك سلاح نووي، فقط لا غير.
ويبدو أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان فهم اللعبة وفضح السر حين قال إن “واشنطن تدعم الاحتجاجات الأخيرة من أجل إرغامنا على الامتثال لمطالبها المتعلقة بالمفاوضات النووية”.
وتأسيسا على ذلك يبقى الفعل المنتظر الأخير، أرادت الولايات المتحدة أم لم ترد، وتراخى النظام أو تشدد، لن يكون في النهاية إلا للشعب الإيراني، أولا، وثانيا، للشعب العراقي الذي يرى ويسمع، ويدفع الثمن، وفي ساعة مباركة قادمة لا بد أن يثور.
كاتب عراقي
العرب
————————
في مواجهة جميع الأعداء
مايكل يونغ
فلاديمير فان ويلغنبرغ صحافي ومؤلّف هولندي مقيم في إربيل ومتخصص في الشؤون الكردية. شارك مع هارييت ألسوب في تأليف كتاب بعنوان The Kurds of Northern Syria: Governance, Diversity, and Conflicts(أكراد شمال سورية: الحكم والتنوع والصراعات)، صدر في العام 2019 عن دار نشر أي. بي. توريس، ومع مايكل نايتز في تأليف كتاب بعنوان Accidental Allies: The U.S.–Syrian Democratic Forces Partnership Against the Islamic State(حلفاء عرضيون: الشراكة بين الولايات المتحدة وقوات سورية الديمقراطية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية). أجرت “ديوان” مقابلة معه مطلع كانون الأول/ديسمبر لمناقشة الهجمات التي تنفّذها الحكومة الإيرانية ضدّ المناطق الكردية في سياق الاحتجاجات المُندلعة في جميع أنحاء البلاد منذ أسابيع، إضافةً إلى التهديد التركي بإطلاق عملية عسكرية جديدة ضدّ القوات الكردية في شمال سورية.
مايكل يونغ: العامل الكردي هو من الأبعاد التي لا تُسلَّط عليها الأضواء بالقدر الكافي في الاحتجاجات الإيرانية. كانت مهسا أميني، التي أشعلت وفاتها الاحتجاجات، كردية، وتدخّل النظام الإيراني عسكريًا في المناطق الكردية بعد اندلاع الاحتجاجات. هلا تشرح لنا ما هي طبيعة العلاقة اليوم بين الجمهورية الإسلامية والأكراد، مع الإشارة إلى أنه في العام 1979، بعيد انطلاق الثورة، اندلعت انتفاضة في المناطق الكردية الإيرانية؟
فلاديمير فان ويلغنبرغ: في الواقع، الاسم الحقيقي لمهسا أميني هو جينا أميني، لكن لم يُسلَّط الضوء على هذه المعلومة بسبب القيود المفروضة على إطلاق أسماء كردية على الأشخاص في إيران. وعلى الرغم من أن الأكراد الإيرانيين ليسوا معروفين جيدًا في الغرب ولا يحظون بالاهتمام نفسه كما الأكراد في العراق وسورية الذين ذاع صيتهم من خلال معاركهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن لديهم تاريخًا طويلًا من النضال في سبيل الحصول على الحكم الذاتي داخل إيران، ويشكّلون تيارًا كرديًا ذا نزعة قومية شديدة. أُنشئ الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وهو من الأحزاب الكردية الإيرانية الأساسية، في العام 1945. وبعد عامٍ، أسّس جمهوريةً كردستانية لم تعمّر طويلًا في مهاباد بقيادة زعيمه الكاريزماتي قاضي محمد، إذ لم تصمد هذه الجمهورية سوى سنة واحدة. ومن الأحزاب الكردية البارزة الأخرى حزب كومله الاشتراكي-الماركسي الذي أسّسه مثقّفون أكراد في خريف 1969. وخلال الثورة ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، أمِل الأكراد الإيرانيون بالحصول على شكل من أشكال الحكم الذاتي، لكن بعد سيطرة الإسلاميين، لم يكن آية الله روح الله الخميني مستعدًا لمنح الأكراد أي حقوق على الإطلاق. وقد تواصل القتال بين القوى الثورية الكردية والقوى الأمنية الإيرانية حتى العام 1983. ولم تسمح الجمهورية الإسلامية الجديدة للأكراد بالمشاركة السياسية الحرّة، على الرغم من وجود أكراد في الحكومة والبرلمان الإيرانيَّين.
اغتالت إيران أيضًا عددًا من القادة الأكراد بعد العام 1979، من بينهم زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عبد الرحمن قاسملو في النمسا خلال مفاوضات السلام مع الجمهورية الإسلامية في العام 1989، وخلفه صادق شرفكندي في ألمانيا في العام 1992. وقد تسبب ذلك بفراغ على مستوى القيادة لدى الأحزاب الكردية الإيرانية، وبمزيد من الانقسامات. في نهاية المطاف، انتقل حزب كومله والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني إلى كردستان العراق في ثمانينيات القرن العشرين، خلال الحرب الإيرانية العراقية. علاوةً على ذلك، عانى الحزبَين من الانشقاقات والانقسامات الداخلية، على الرغم من قيامهما مؤخرًا بتوحيد صفوفهما من جديد، وقد أقدم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني على هذه الخطوة قبل احتجاجات 16 أيلول/سبتمبر التي اندلعت بعد وفاة أميني، فيما أعاد حزب كومله توحيد صفوفه بعد اندلاع الاحتجاجات.
فضلًا عن ذلك، ثمة حزب الحياة الحرة الكردستاني الذي أُنشئ في العام 2004، وهو من فروع حزب العمّال الكردستاني في تركيا. ومن الأحزاب الأخرى حزب الحرية الكردستاني الذي تأسس في العام 1991، وهو الأصغر حجمًا، ومقرّه في كردستان العراق، وقد أدّى دورًا مهمًا في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية والقوات العراقية في بردي في تشرين الأول/أكتوبر 2017، بعد استفتاء الاستقلال في كردستان العراق في أيلول/سبتمبر 2017. وأبدى الأكراد الإيرانيون أيضًا تضامنًا واسعًا مع الاستفتاء. وفي العام 2018، أنشأت خمسة أحزاب كردية إيرانية مركزًا للتعاون من أجل تنسيق أنشطتها على نحوٍ أفضل.
في 8 أيلول/سبتمبر 2018، شنّ الحرس الثوري الإسلامي في إيران أول هجوم صاروخي عبر الحدود على الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في كويه، ما أسفر عن مقتل ثمانية عشر شخصًا على الأقل. فضلًا عن ذلك، أُعدِم رامين حسين بناهي، العضو في حزب كوملة، في اليوم نفسه. وقبل يوم من الهجوم، لقي ثلاثة مقاتلين من مجموعة تابعة لحزب الحياة الحرة الكردستاني مصرعهم في اشتباك. وقد اعتُبر الهجوم بمثابة رسالة موجّهة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية ومفادها أنه بإمكان إيران أن تضرب الآن خصومها خارج الحدود الإيرانية، وكذلك رسالة موجّهة إلى الأحزاب الكردية التي أرادت إقامة علاقات مع الولايات المتحدة. اندلعت احتجاجات واسعة في إيران عقب مقتل أميني، وانطلقت احتجاجات واسعة النطاق داخل محافظة كردستان الإيرانية. وقد عمدت إيران، بهدف تحويل الأنظار عن أوضاعها الداخلية، إلى شنّ هجمات بالطائرات بدون طيار والصواريخ على حزب الحرية الكردستاني، وحزب كومله والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني منذ 16 أيلول/سبتمبر، وقصفت حدود إقليم كردستان العراق، حيث يتمركز أيضًا مقاتلو البشمركة التابعون للأحزاب الكردية الإيرانية.
يونغ: كما ذكرتَ آنفًا، شنت إيران أيضًا هجمات على مواقع كردية إيرانية داخل العراق. ما مدى قوة هذه المجموعات في العراق، وما هي علاقتها بالأكراد العراقيين الذين يرتبط حزباهما الأساسيان عادةً بعلاقات جيدة مع إيران؟
فان ويلغنبرغ: خلال الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن العشرين، فرّ آلاف الأكراد الإيرانيين إلى العراق، ولا تزال أعداد كبيرة منهم تعيش في المخيمات، ومنها مثلًا المخيمات في كويه. علاوةً على ذلك، تملك معظم الأحزاب الكردية الإيرانية قواعد ومعسكرات (ومقاتلين) في إقليم كردستان. فحزب كومله مثلًا لديه قاعدة قرب السليمانية تعرضت لهجوم، في حين طالت الهجمات الأخيرة الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في كويه، وحزب الحرية الكردستاني في بردي (وهي أقرب إلى كركوك). في ما خلا حزب الحياة الحرة الكردستاني التابع لحزب العمّال الكردستاني، والذي يعمل في أراضٍ خاضعة لسيطرته على طول الحدود، تتمركز باقي الأحزاب الكردية داخل مناطق خاضعة لسيطرة الحزبَين الكرديَين العراقيَين، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. في العموم، كانت لهذه الأحزاب علاقات جيدة مع الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني خلال السنوات الأخيرة، على الرغم من أنه سادت بين الطرفَين أيضًا خلافات وتشنجات خلال الحرب الإيرانية العراقية.
طالبت إيران بنزع سلاح الأحزاب الكردية الإيرانية، أو حلّها، وهدّدت بشنّ عمليات عابرة الحدود. في هذا الإطار، يتمثّل الخيار الأفضل بالنسبة إلى إيران في نقل الأحزاب الكردية الإيرانية خارج البلاد، كما حدث مع منظمة مجاهدي خلق المعارِضة الإيرانية، التي انتقلت إلى ألبانيا من العراق، حيث كان تتخذ مقرًا لها بعد العام 1986. لكن حتى الآن، لم يرضخ أكراد العراق للضغوط المُمارسة عليهم من أجل حلّ الأحزاب، واتفقوا مؤخرًا مع بغداد لإرسال قوات إضافية إلى الحدود مع إيران.
يونغ: ما احتمالات تدخل إيراني على الأرض في العراق؟
فان ويلغنبرغ: من الصعب تحديد ذلك. فاحتمال قيام إيران، عند شعورها بالتهديد جرّاء أي اضطرابات داخلية، بشنّ هجوم بريّ محدود عابر للحدود، ممكن دائمًا. وخلال السنوات القليلة الماضية، نفذّت تركيا هجمات عدّة في كردستان العراق ضدّ حزب العمّال الكردستاني. لكن الاحتمال الأكثر ترجيحًا على ما يبدو يتمثّل في أن تواصل إيران استهداف الأحزاب الكردية الإيرانية بالطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية، التي تُعدّ أقل كلفة وتخلّف الأثر التهديدي نفسه وتُبقي حكومة إقليم كردستان تحت الضغط. لا تشكّل الأحزاب الكردية الإيرانية في الوقت الراهن تهديدًا وجوديًا لإيران ولا يمكنها منع حملة القمع المتواصلة في محافظة كردستان الإيرانية، التي أسفرت عن مقتل الكثيرين. لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن مزاعم الحكومة الإيرانية بأن الأحزاب الكردية انفصالية غير صحيحة. فعلى سبيل المثال، لطالما روّج الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني للديمقراطية في إيران والفدرالية في كردستان. وامتنعت الأحزاب الكردية عن الانخراط عسكريًا في الاحتجاجات، خشية أن تستخدم إيران ذلك لإحداث انقسامات داخل الحركة الاحتجاجية (مستغلةً المشاعر القومية الإيرانية ضد الأكراد). وسبق أن شهدنا توترات في الشتات الإيراني بين أكراد وفرس على خلفية أعلام ورموز كردية.
يونغ: يواجه أكراد سورية احتمال حدوث تدخل عسكري تركي جديد في شمال سورية. ما احتمالات حدوث ذلك، نظرًا إلى أن الولايات المتحدة وروسيا ترغبان على ما يبدو في تجنّب مثل هذه النتيجة؟ وما الخطوات التي تقوم بها روسيا تحديدًا؟
فان ويلغنبرغ: لا يمكن إعطاء جواب قطعي هنا. فمن جهة، قد تنفّذ تركيا عملية محدودة بالقرب من منبج وكوباني. لكن كلما طال انتظار الأتراك لإطلاقها، كلما بات احتمال حدوثها قريبًا مستبعد. ومن جهة أخرى، قد تشنّ تركيا هجومًا بريًا في الربيع، حين تصبح الظروف الجوية أفضل، وسيكون هذا قريبًا من انتخابات حزيران/يونيو 2023. تجدر الملاحظة في هذا السياق أن الحزب الحاكم بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان فقد الدعم الشعبي ويتعيّن عليه حشد أعداد إضافية من الناخبين القوميين.
لكن يبدو أن روسيا والولايات المتحدة تعارضان أي تدخّل بري، على الأقل علانيةً. طالبت قوات سورية الديمقراطية، وهي عبارة عن تحالف بين مجموعات مسلحة تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية، اتخاذ موقف أقوى، وأكدّت أنه لا يكفي لردع تركيا. علاوةً على ذلك، تحاول روسيا استخدام التهديد التركي لبناء علاقات أوثق بين دمشق وأنقرة ضد وحدات حماية الشعب، أو إجبار وحدات حماية الشعب/قوات سورية الديمقراطية على التخلي عن مزيد من الأراضي لصالح الحكومة السورية. وتريد دمشق أن تغادر القوات التركية شمال غرب سورية، في حين تريد أنقرة وضع حدّ لمشروع الحكم الذاتي الذي يقوده الأكراد السوريون من قوات سورية الديمقراطية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية. أضف إلى ذلك أن دمشق وأنقرة على حدّ سواء ترغبان في إنهاء الشراكة بين الولايات المتحدة وقوات سورية الديمقراطية. وتريد تركيا إعادة السوريين إلى سورية وسط تنامي العداء التركي ضدّ اللاجئين السوريين، على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية.
كانت المشاعر المعادية للاجئين أيضًا إحدى الأسباب التي جعلت حزب العدالة والتنمية يخسر إسطنبول وأنقرة لصالح حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البلدية الأخيرة. ويريد حزب الحركة القومية، الشريك في ائتلاف حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، أن يتصالح حزب العدالة مع الرئيس السوري بشار الأسد، لكن القاعدة الإسلامية للحزب ترفض ذلك. لكن بعد اللقاء الذي جمع أردوغان بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بات هذا الخيار البديل ممكنًا أكثر، إذ إن الاجتماع كشف عن استعداد الرئيس التركي للتصالح مع خصومه السابقين. وصرّح أردوغان بأنه قد يجتمع مع الأسد حين يصبح الوقت مناسبًا. في هذا السياق، قال المبعوث الرئاسي الروسي الخاص إلى سورية ألكسندر لافرنتييف لوكالة الأنباء الروسية تاس يوم الاثنين إن الاجتماع يتطلّب تحضيرًا، لأن أردوغان طالب الأسد بالتنحي سابقًا.
يونغ: هل يمكن أن تواصل الولايات المتحدة احتضان وحدات حماية الشعب، التي تعتقد أنها حليف قيّم ضد أي جماعة ناشئة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، نظرًا إلى معارضة تركيا الشديدة لهذه الوحدات؟
فان ويلغنبرغ: يمكن للولايات المتحدة منع أي توغّل تركي من خلال ممارسة ضغوط اقتصادية وفرض عقوبات. فاقتصاد أنقرة في حالة هشة وأردوغان بحاجة إلى أصوات، لكن في الوقت نفسه يحتاج الأميركيون والأوروبيون إلى التعاون التركي حول الملف الأوكراني. لذلك، فالوضع مختلف عما كان عليه في العام 2019، عندما تمكّنت الولايات المتحدة من الحدّ من توغّل تركيا في رأس العين وتل أبيض. علاوةً على ذلك، تخشى أوروبا من إمكانية أن تسمح تركيا للاجئين السوريين بالتوجّه نحو أوروبا. وحتى لو شنّت تركيا عملية بالقرب من كوباني ومنبج، سيكون من الممكن أن تبقى القوات الأميركية في محافظتَي الحسكة ودير الزور. قد يفرّ الأكراد في كوباني إلى الرقة والحسكة، أو يتوجهون نحو المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. مع ذلك، سيكون من الصعب على وحدات حماية الشعب وقوات سورية الديمقراطية إبقاء علاقاتهما مع الولايات المتحدة، لأن عددًا كبيرًا من قادة قوات سورية الديمقراطية هم من كوباني. وفي حال وقعت عفرين وكوباني بيد الأتراك، سيكون منطقيًا أكثر أن تحسّن قوات سورية الديمقراطية علاقتها مع روسيا ودمشق من أجل منع أي توغّل تركي. لكن من المستبعد أن تعترف دمشق بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي المحلي، في حين طالبت روسيا قوات سورية الديمقراطية، كما يُزعم، بسحب وجودها العسكري من الحدود إلى الطريق الدولي M4، الذي يمتّد بموازاة الحدود مع تركيا بين اللاذقية وسراقب، وتسليم المنطقة الخاضعة لسيطرتها للحكومة السورية.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.
——————————
الغزو الرّوسي كمحفّز لإيران وتركيا ضدّ الأكراد/ عبدالوهاب بدرخان
حشد “الحرس الثوري” الإيراني قوات مدرّعة ووحدات خاصة، مهدّداً باجتياح إقليم كردستان العراق لإنهاء وجود أحزاب كردية إيرانية معارضة فيه، ما لم يقم الجيش العراقي والبيشمركة بهذه المهمة، أقلّه بإبعاد تلك الأحزاب عن الحدود التي بات “الحرس” يشترط أن يتولّى الجيش تأمينها مع البيشمركة، لا أن تنفرد الأخيرة بذلك، ما يشير إلى تراجع غير مسبوق في الثقة بين طهران وأربيل، وحتى بينها وبين السليمانية التي اعتُبرت دائماً أقرب إليها.
في الوقت نفسه، تواصل تركيا حشد قواتها على الحدود مع سوريا استعداداً لعملية عسكرية برّية هدفها توسيع “المنطقة الآمنة” وإبعاد أكراد “قوات سوريا الديموقراطية” إلى عمق 30 كيلومتراً في الشمال السوري. لكن العملية التركية واجهت منذ بدء الحديث عنها رفضاً روسياً – إيرانياً وممانعة أميركية لا تزال حتى الآن لفظية. غير أن ظروف حرب أوكرانيا وحاجة موسكو إلى تسهيلات كثيرة تقدمها أنقرة بدّلتا الموقف الروسي، فأصبح أقرب إلى قبول الأمر الواقع وإلى نقل الشروط التركية إلى الأكراد، وبالتالي نصحهم بالموافقة عليها، وصولاً إلى مصارحتهم بأن أميركا وروسيا لا ترغبان في مواجهة الجيش التركي، بل إن روسيا لن تستطيع منع العملية التركية متى بدأت.
لا جديد عملياً في هذه التطوّرات بالنسبة إلى الأكراد، إذ اعتادوا على أن تتوصّل الدول إلى تسويات في ما بينها على حسابهم، وقد عاشوا خلال المئة عام الماضية يغتنمون الفرص التي تلوح لتحقيق حلمهم بـ”دولة مستقلّة” معترف بها، أو لإقامة “كيانات مستقلة” على طريق هذه “الدولة”، لكنهم عانوا أيضاً خيبات أمل طوال تلك الحقبة من كل القوى الدولية التي دعمتهم وظنّوا أنها تدعم هدفهم الاستراتيجي، ثم اكتشفوا أنها استخدمتهم لتحقيق أهداف ضد الدول الأربع (تركيا، إيران، العراق وسوريا) التي يشكّلون جزءاً من سكانها. والواقع أن نمط الاستخدام والخذلان مرشّح للاستمرار، فالأكراد يستغلّون استخدامهم في تطوير قدراتهم ما دام لا خيارات أخرى متاحة لهم، أما القوى الدولية والإقليمية فتستثمر خذلانهم في تحصيل مكاسب اقتصادية أو استراتيجية مع الدول المعنية.
معروفٌ أن “الحرس” الإيراني يتذرّع بأن الاحتجاجات الشعبية في كردستان إيران تبرّر الذهاب إلى العراق لتصفية المعارضين الأكراد، متجاهلاً أن الاحتجاجات باتت تشمل جميع الأقليات الأخرى (البلوشية والآذرية والعربية) التي تعاني التهميش والاضطهاد والبطش، بل إن قضايا “المرأة والحياة والحرية” تستحث جانباً كبيراً من الفرس أنفسهم.
لكن كردستان إيران تبقى بالنسبة إلى طهران مهد هذه الاحتجاجات التي اندلعت بعد مقتل الشابة الكردية مهسا أميني تحت التعذيب لدى “شرطة الأخلاق” (منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي)، وهذا كافٍ لإقلاق سلطات الملالي التي لا تنسى أن كردستان إيران كانت، تاريخياً (جمهورية مهاباد 1945)، مصدر الحراك في مختلف مواطن الأكراد في الدول الأربع كما في المهاجر. لذلك تركّز السلطات الآن على إخماد انتفاضة الأكراد، ظنّاً بأنها فقط نتاج تحريض من قيادات الأحزاب المعارضة (الحزب الديموقراطي الكردستاني وهو أقدمها، وحزب “كوملة” اليساري، و”حزب الحياة الحرّة”/ “بيجاك”، ومنظمة “خبات” القومية) اللاجئة منذ الثمانينات في كردستان العراق وتعرّضت مقارها ومعسكراتها أخيراً لقصف إيراني كثيف. الأرجح أن ضرب المعارضين في العراق لن يكسر الانتفاضة داخل إيران، لكن طهران تتخذها ذريعة للإيحاء بأن أزمتها خارجية بحتة، وتنتهزها فرصة لتصفيتهم.
يسود الدوائر الدبلوماسية اعتقاد بأن غزو روسيا لأوكرانيا بات “مُلهماً” لدول أخرى، لذلك يثير التهديد باجتياح إيراني برّي المخاوف في أربيل كما في بغداد، لأنه مرشح لتقويض الوضع القائم بين الإقليم والدولة العراقية الاتحادية، وبالتالي كان لا بد من الرضوخ للتهديدات والشروط التي حملها قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني ولم تزعج حكومة محمد شياع السوداني التي تتوزّع ميليشيات إيران معظم حقائبها، إلا أنها أقلقت أكراد الإقليم إزاء حملة تأمين الحدود التي قد تتسبّب بقتال كردي – كردي ما دامت البيشمركة ستشارك فيها. لكن المفارقة التي انكشفت في السياق أن إيران لا تدفع باتجاه “إنهاء وجود كل الجماعات المعارضة لدول الجوار على الأراضي العراقية”، بل تريد أولوية لتأمين حدودها من دون أن تكون معنية بالحدود التركية، لأن “الحشد الشعبي” (أي إيران) يدعم وجود “حزب العمال الكردستاني” (بي كي كي) وقتاله المزمن ضد الجيش التركي انطلاقاً من شمال العراق.
الاجتياح التركي لشمال سوريا ليس مجرّد تهديد، فله سوابق في عمليات “درع الفرات” (2016) و”غصن الزيتون” (2018) و”نبع السلام” (2019)، وتسعى أنقرة هذه المرّة إلى الوصل بين “مناطقها” وتوسيع رقعتها. في كل مرّة كانت تجد سبيلاً للحصول على موافقة أميركية و/ أو روسية، أو على صمت وتغاضٍ، وفيما هي تنسّق مع موسكو تقول إنها “لا تطلب إذناً من أحد”، ما يُفهم بأنه موجّه ضد الأميركيين الذين يدعمون أكراد “قسد” الذين قاتلوا تنظيم “داعش” وتعتبرهم أنقرة “إرهابيين” بسبب وجود “حزب العمال الكردستاني” في صفوفهم، وقد اتهمته بالضلوع في تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول. ما يستدعي التساؤل هنا: لماذا لم يحاول الأكراد الانضباط في مناطق سيطرتهم، ولماذا لم يهتم الجانب الأميركي بضبطهم لمعالجة الهواجس التركية، وهل وعدهم بدعم إقامة “كيان” خاص بهم، وإذا كانت هناك فعلاً تعهّدات أميركية وروسية لتركيا منذ 2019 بالعمل على انسحاب الأكراد من تل رفعت ومنبج وعين العرب/ كوباني فماذا كانت دوافع عدم تنفيذها؟
تخشى واشنطن تداعيات العملية التركية وأثرها على وجودها في شمال شرقي سوريا وعلى محاربة “داعش”، خصوصاً أن لا قنوات حالياً للتفاهم مع روسيا على حدود التحرّك التركي. من جانب آخر تبدو تركيا مندفعة إلى عمليتها البرّية كجزء من تفاهمها مع روسيا على إجراء مصالحة بينها وبين النظام السوري، لكنها تتطلّع إلى مصالحة مشروطة أولاً بالتزام دمشق ضبط الأكراد وعدم استخدامهم ضدّها، وثانياً باستمرار الوجود التركي في الشمال إلى حين التوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة السورية. وإذا نجحت تركيا بتغليب الأمر الواقع وإبعاد خطر “قسد” عن أراضيها، فليس واضحاً ما سيكون عليه ردّ الأكراد، إذ إنهم هدّدوا بالتخلّي عن محاربة “داعش” وبإطلاق مقاتليه المعتقلين لديهم، لكن سيخسرون عندئذ كل دعم أميركي، كما أن رضوخهم لمطالب الأتراك (والروس) سيُفقدهم التمدّد الجغرافي الذي حقّقوه بين 2015 و2019 وسيُضعف موقفهم في أي تفاوض مع النظام الذي رفض أطروحاتهم لحل سياسي والضمانات التي يريدونها للوضع العسكري والإداري الذي أنشأوه في مناطقهم.
النهار العربي
————————–
عندما سجّلت كيت ميليت للعالم أصوات الثائرات على “تشادور”1979/ نزار آغري
في 16 يناير/كانون الثاني 1979، حمل الشاه الإيراني حقيبته وترك إيران منهياً حكم السلالة البهلوية التي استمرت قروناً. بعد أسبوعين، أي في الأول من فبراير/شباط، حطت طائرة آتية من باريس، في مطار مهرآباد، في طهران، وعلى متنها آية الله الخميني.
كانت التجمعات والمسيرات والمظاهرات العارمة قد أجبرت الشاه على التنحي عن السلطة. شارك الجميع في ذلك: طلاب المدارس والجامعات والعمال وأهل البازار والفلاحون ورجال الدين والموظفون. كذلك شاركت الأقليات القومية والدينية: الكرد والبلوش والزرادشتيون والمسيحيون والبهائيون. كان للنساء دور فعال، بل حاسم، في ذلك الحراك التاريخي. في السادس من شباط نقلت صحيفة كيهان عن مساعد الخميني صادق قطبزاده، أن “النساء يتمتعن بالحرية في الإسلام”. في 25 شباط تشكل “جمعيت زنان مبارز” (اتحاد النساء الثوريات)، وأصدر بياناً قال فيه أن الإتحاد مفتوح لكل النساء مهما كانت توجهاتهن السياسية أو الفكرية. تحدث الخميني إلى مجموعة من النساء وطالبهن بالمشاركة إنهاض البلد.
في أربع جهات الدنيا كانت الأنظار مشدودوة إلى بلد الفردوسي و…فروغ فرخزاد. تقاطر ناشطون ومثقفون وصحافيون وكتّاب من بلدان كثيرة. وفي نيويورك لم تستطع كيت ميليت أن تكبت نفسها. كانت تتحرق للذهاب إلى البلد الذي “هزت فيه النساء عرش الطاغية”. هكذا وصلت هي وصديقتها صوفي كير إلى مطار مهرآباد في 4مارس/ آذار، للمشاركة في احتفال اليوم العالمي للمرأة في الثامن من الشهر. رأت أن ثمة بداية بزوغ للحركة النسوية في إيران، أول حركة نسوية مستقلة في بلد إسلامي، حيث “أكثر النسويات نضجاً”.
كيت ميليت، هي الكاتبة اليسارية الأميركية والناشطة النسائية المدافعة عن حقوق النساء. شبهتها مجلة “تايم” بماوتسي الحركة التحررية النسوية. كتابها الشهير، “سياسات الجنس”، أشبه بمانيفستو الحركة النسوية، على غرار المانيفستو الشيوعي لكارل ماركس.
نزلت كيت في فندق شيراتون وقد عبّرت على الفور عن امتعاضها من الطابع الغربي الحديث “المقرف” للفندق. جاءت لتكون شاهدة على انبثاق حركة تحررية للنساء في إيران، على روح الكفاح ضد “الشاه والإمبريالية والروح الغربية”. جاءت وهي تحمل رسائل من كل الحركات النسائية في العالم (يبدو أن أممية نسوية كانت تتشكل في تلك الآونة).
سقط الشاه، لكن سرعان ما سقطت الآمال التي كانت اختمرت في أعماق الإيرانيين. أحكم الإسلاميون، بزعامة الخميني، قبضتهم على البلاد وبدأت آلة القمع تعمل من جديد.
في 6مارس/ آذار، بعد يومين من صول كيت، نشرت صحيفة اطلاعات، المحافظة، افتتاحية دعت فيها إلى الفصل بين الذكور والإناث. لا مدارس أو جامعات مختلطة بعد اليوم. طالبت بضرورة ارتداء النساء للتشادور. أوردت شعار الإسلاميين: “يا رو سري يا تو سري” (إما حجاب على الرأس أو ضربة على الرأس). في اليوم التالي قال التلفزيون الإيراني إن الاحتفال بيوم النساء هو مؤامرة امبريالية معادية للإسلام. أقام الحزب الشيوعي الإيراني “توده”، احتفالاً بالمناسبة، لكنه استنكف عن دعوة كيت ميليت والناشطات الغربيات الأخريات إليه. انسحب الإتحاد النسائي الإيراني احتجاجاً. حزب “كوملة” الكردي أقام احتفالاً للنساء في المدن الكردية. شاركت النساء في المسيرات المطالبة برفع القيود عن النساء في كل المدن الكردية. وسرعان ما جرى حظر الحزب الشيوعي واعتقال قياداته، وعلى رأسهم الزعيم التاريخي نورالدين كيانوري، وإعدامهم لاحقاً، وسحقت الحركة القومية الكردية وجرت إعدامات ميدانية في مدن مهاباد وسنندج وسقز.
بدأت الصور العملاقة للخميني تغزو الجدران وظهرت كالفطر الشعارات الرهيبة الداعية إلى سحق كل الأعداء: “الموت لأمريكا، الموت للشيوعيين، الموت لإسرائيل، الموت لأعداء الثورة، الموت لأعداء الإسلام”. لكن الحركة النسائية استمرت. انطلقت مظاهرات شملت كل الميادين: طالبات الجامعة، النساء الممرضات، الطبيبات، القاضيات، الشرطيات، مضيفات الطيران، المعلمات. سارت المظاهرات إلى ساحة فردوسي ثم إلى وزارة الخارجية، هناك ألقت كيت ميليت كلمة طالبت فيها بتحرير النساء ورفع القيود عنهن.
عقد نائب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، عباس أمير انتظام، مؤتمراً صحافياً أعلن فيه طرد الناشطات الغربيات، كيت ميليت وصوفي كير ورفيقاتهما. بالفعل تم طردهن في 18 آذار 1979. غادرت كيت طهران محملة بعشرات، بل مئات، الأشرطة التي سجلت فيها لقاءاتها ومشاهداتها. تحدثت بدهشة وإعجاب عن النساء اللواتي “كن قاومن الشاه وخاطرن بحياتهن في فعل ذلك وحين جاء الخميني وأتباعه طلبوا منهن العودة إلى المطبخ والاهتمام بأزواجهن وأولادهن”. رفع الإسلاميون شعار “نه شرقي، نه غربي، جمهوري اسلامي”، فرفعت الحركة النسائية شعار “آزاي نه شرقيست، نه غربيست، جيهانسيت” (الحرية ليست شرقية ولا غربية بل هي عالمية).
كانت كلمة “آزادي” تتردد على ألسنة ملايين النساء في طول إيران وعرضها وكانت كيت ميليت تحمل آلة التسجيل وتدوّن كل شيء، كل صوت. بعد وصولها، أصدر آية الله الخميني، زعيم الثورة، فتوى يقضي بضرورة قيام النساء اللواتي يعملن في الدوائر الرسمية بارتداء “التشادور”. قبل ذلك بثلاثة أيام كانت الحكومة الانتقالية برئاسة مهدي بازركان أكدت أن النساء لا يصلحن لشغل مناصب في سلك القضاء لأنهن “سريعات الانفعال”. وبعد الدعوات للنساء للمشاركة مع الرجال في الانتفاض ضد حكم الشاه، راحت تتبلور أكثر فأكثر ميول الفصل بين الرجال والنساء في الفضاء العام وبين الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات. بل إن الحكومة المؤقتة اعتبرت المدارس المختلطة شراً يجب التخلص منه. قالت أن المدارس المختلطة تتحول إلى “مراكز بغاء”، وأصدرت أخيراً مرسوماً بالفصل بين الجنسين.
كان الشاه قام بإصلاحات جذرية في مجالات كثيرة، بما في ذلك ما يتعلق بوضع النساء. كان يحلم بأن يحقق ثورة تمدينية شاملة أو ما سمّاه “تمدن بزرك” – التمدن الكبير. أول إتحاد نسائي في إيران تأسس العام 1966 وكانت له فروع في كل المدن. بعد عودة الخميني من المنفى وبدء التضييق على النساء، شرعت الحركة النسائية في رص صفوفها والاستعداد للنزول إلى الشارع من جديد.
أول كلمة سمعتها وتعلمتها ميليت كانت “آزادي”. وهي الكلمة التي ترددت في 8مارس، يوم المرأة العالمي. هذه الكلمة، الشعار، الأمل، الحلم، الرمز، الأيقونة، كانت الصرخة الأكثر عاطفية، كانت محملة بالمعاني والمشاعر والأحاسيس والرغبات. كانت المظاهرات تنطلق من جامعة طهران وتتوجه إلى ميدان آزادي، ساحة الحرية التي أصبحت ملتقى كل المظاهرات اللاحقة. “لست بارعة في الهتافات”، قالت ميليت في كتابها “الذهاب إلى إيران” الذي كتبته بعد عودتها من طهران، “لكني اليوم مأخوذة بهذه الدفقات الهادرة التي تندف آزادي من حناجر النساء مثل السنونو في يوم ربيعي”.
لم يكن شعار الحرية مطلباً من المطالب. كان مضمون النشاط كله، مغزى العيش، حلم الجميع. صرخت النساء: “انقلاب نكرديم تا به عقب بركرديم” (لم نقم بالثورة كي نرجع إلى الوراء)، وقلن: “آزادي بايد نبايد ندارد” (ليس ثمة يجب أو لا يجب في الحرية). لم تنهض النساء للثورة على الشاه كي يقعن تحت ظلم الثورة الجديدة. كي يُدفع بهن إلى المطبخ ويحبسن في التشادور والحرام.
حين طُردت ميليت، أصدرت سيمون دو بوفوار بياناً في 19مارس في باريس: “تضامني الكامل مع كيت ميليت وكل الرفيقات الموجودات الآن في طهران. أشاطر آراء كيت ميليت ورغباتها. لتكن الثورة صوت النساء، نصف الجنس البشري. النظام الجديد أيضاً سيصبح طاغياً إن أهمل رغبات النساء ووضع جانباً مطالبهن”. وكان التلفزيون الرسمي للحكم الجديد وحكومة الخميني يتجاهلان مظاهرات النساء في اليوم العالمي للمرأة.
في 13 سبتمبر/أيلول2022، جاءت مهسا أميني برفقة شقيقها كياروش أميني إلى طهران قادمة من بلدة سقز في محافظة كردستان الإيرانية. لم تكد تنزل من الباص حتى لاحقتها دورية شرطة الأخلاق بسبب “حجاب بد” (الحجاب السيء)، أي أنها لم تكن ترتدي الحجاب بالشكل المناسب. أخذوها للتحقيق، لكنها لم تعد أبداً. ماتت. كأن التاريخ يعيد ذاته: المدن الكردية تنتفض، سنندج ومهاباد وبوكان وكرمانشاه و…سقز، المدينة التي ولدت فيها مهسا أميني. النساء، كلهن، يرمين الحجاب عن رؤوسهن، يكوّمن أغطية الرؤوس ويشعلن فيها النار. يرفعن القبضات نحو الشمس ويرقصن أمام النار.
منذ ذلك اليوم وحتى الآن لم تتوقف التحركات النسوية، وغير النسوية، في إيران. عادت كلمة “آزادي” تنطلق من الحناجر. الشعار الذي رفعته النساء في مدينة سقز أول الأمر باللغة الكردية: “آزادي، جين، جيان”، طار إلى كل المدن الإيرانية وأصبح بالفارسية: آزادي، زن، زنكي. ثم حلّق في سماء العالم. تحرر المرأة هو تحرير للحياة.
كيت ميليت توفيت في 6سبتمبر/ أيلول2017 (الشهر الذي ماتت فيه مهسا أميني). وبالطبع سيمون دو بوفوار رحلت منذ زمن طويل. الناشطات النسويات في الغرب منشغلات بأمور أخرى. لا عزاء للنساء في إيران.
المدن
————————–
إيران:خاتمي يعلن تأييده للاحتجاجات..ورئيسي يخشى المصير السوري
أعرب الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي عن تأييده للحركة الاحتجاجية التي أشعلتها وفاة الشابة مهسا أميني، واصفاً شعارها الأبرز “امرأة، حياة، حرية” ب”الرائع”.
وتهزّ احتجاجات إيران منذ نحو ثلاثة أشهر إثر أميني بعد توقيفها بتهمة خرق قواعد اللباس
الصارمة المفروضة في الجمهورية الإسلامية.
وأعرب خاتمي، وهو إصلاحي شغل منصب الرئيس من العام 1997 حتى 2005، لكن المؤسسة الحاكمة أسكتته منذ سنوات، عن تأييده للحركة الاحتجاجية. ووصف شعار “امرأة، حياة، حرية” بأنه “رسالة رائعة تعكس التحرّك باتّجاه مستقبل أفضل”.
وقال في بيان أوردته وكالة “إسنا” الإخبارية عشية “يوم الطالب”، إنه “يجب ألا يتم وضع الحرية والأمن في مواجهة بعضهما البعض”. وأضاف “يجب ألا يُداس على الحرية من أجل المحافظة على الأمن.. وينبغي عدم تجاهل الأمن باسم الحرية”.
وتحدّث خاتمي أيضا ضد توقيف طلاب قادوا الاحتجاجات التي اندلعت في أنحاء إيران منذ 16 أيلول/سبتمبر. وقال إن فرض القيود “لا يمكن أن يضمن في نهاية المطاف استقرار وأمن الجامعات والمجتمع”.
كما دعا خاتمي في بيانه المسؤولين إلى “مدّ يد العون للطلاب” والاعتراف “بجوانب الحوكمة الخاطئة” بمساعدتهم قبل فوات الأوان.
من جهتها، نددت شقيقة الزعيم الإيراني علي خامنئي بقمع المحتجين في أنحاء البلاد ودعت الحرس الثوري لإلقاء السلاح، حسبما ورد في رسالة نشرها ابنها المقيم في فرنسا.
وانتقدت بدري حسيني خامنئي، المقيمة في إيران، المؤسسة الدينية منذ عهد مؤسس الجمهورية الإسلامية الراحل آية الله الخميني حتى حكم شقيقها. وكتبت في الرسالة التي نشرها نجلها محمود مرادخاني على “تويتر”: “أعتقد أنه من المناسب الآن أن أعلن أنني أعارض تصرفات أخي وأعبر عن تعاطفي مع كل الأمهات اللائي يبكين بسبب جرائم الجمهورية الإسلامية، منذ عهد الخميني إلى عصر الخلافة الاستبدادية الحالي (في حكم) علي خامنئي”.
وجاء في الرسالة أيضًا: “على الحرس الثوري والمرتزقة التابعين لعلي خامنئي إلقاء أسلحتهم في أسرع وقت ممكن والانضمام إلى الشعب قبل فوات الأوان”.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني، اعتقلت السلطات الناشطة فريدة مرادخاني، ابنة بدري حسيني خامنئي، بعد أن دعت الحكومات الأجنبية إلى قطع جميع العلاقات مع طهران.
وفيما كان خاتمي وشقيقة خامنئي يدعمان الاحتجاجات، شكر الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الطلاب على “منع انتقال أعمال الشغب” إلى الجامعات، وذلك خلال زيارة قام بها الى جامعة في طهران بمناسبة “يوم الطالب”.
وشكر رئيسي الطلاب الذين التقاهم في طهران على “بصيرتهم”. وقال: “أشكر الطلاب الأعزاء والمدركين الذين لم يسمحوا بوجود أعمال شغب في الجامعة”، مستخدماً المصطلح الذي تستخدمه السلطات للإشارة إلى التظاهرات.
وأضاف “من قتل أقاربنا بطريقة شائنة وجبانة يسعى إلى إحداث بلبلة. الطلاب والأساتذة يدركون ذلك”. وقال إن “الأعداء يحاولون تعطيل عمل الجامعات” داعياً إلى “بذل قصارى جهدنا لبث روح الأمل في الشعب”.
وقال رئيسي “إن الأميركيين يسعون إلى تدمير إيران القوية واستبدالها بإيران الضعيفة وجعلها مثل سوريا لكنهم أخطأوا في الحسابات”.
وأفاد مجلس الأمن القومي، أعلى هيئة أمنية في إيران، السبت، بأن أكثر من مئتي شخص قتلوا في الاضطرابات. وذكر عميد إيراني الأسبوع الماضي أن أكثر من 300 شخص قتلوا في الاضطرابات، بينهم عشرات عناصر الأمن.
بدروها، أعلنت منظمة “حقوق الإنسان في إيران” ومقرها النروج في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، أن 448 شخصا على الأقل “قتلوا بأيدي قوات الأمن خلال الاحتجاجات المتواصلة في أنحاء البلاد”. وتم توقيف الآلاف، بينهم شخصيات بارزة من ممثلين ولاعبي كرة قدم.
——————————-
“تايم”: نساء إيران بطلات العام 2022
خصّت مجلة “تايم” الاميركية، “النساء الإيرانيات” بالتكريم، واعتبرتهن “بطلات العام 2022″، وضمت 9 ايرانيات الى لائحتها لأقوى 100 امرأة في العام 2022.
ونشرت مجلة “تايم” الأميركية تقريراً أشارت فيه إلى تظاهرات النساء، وانضمام الطالبات الإيرانيات إلى الاحتجاجات، ومكافحتهن للحرية وحقوقهن. واستندت “تايم” إلى استطلاع آراء القراء حول شخصية العام.
وأدلى أكثر من 3.9 ملايين صوت من القراء برأيهم في الاستطلاع، وحصل المتظاهرون الايرانوين على 28% من الأصوات، ويعتقد هؤلاء أن النساء الايرانيات هن المجموعة الأكثر تأثيراً في هذا العام.
وبدأت الاحتجاجات في ايران، بقيادة النساء ومن أجلهن، على شكل موجة من الحزن على مهسا أميني (22 عاماً)، والتي توفيت في حجز شرطة الآداب الإيرانية بعدما تم احتجازها بتهمة “الحجاب غير اللائق”.
وقالت “تايم” إنه في الشهر الرابع للاحتجاجات، “تحولت الاحتجاجات إلى حركة وطنية تطالب بحرية الاختيار لملايين النساء في إيران، اللواتي يمقتن تطبيق الحكومة الإلزامي والوحشي في كثير من الأحيان، للشريعة الإسلامية”.
وكانت الاحتجاجات ملفتة أيضاً لحجمها وسرعتها غير المسبوقة، والطريقة التي ركزت بها أصوات النساء الإيرانيات اللواتي نزلن إلى الشوارع لترديد “زين، زيان، آزادي” (المرأة، الحياة، الحرية)، فضلاً عن إحراق الحجاب في الأماكن العامة، والتعبير عن استيائهم للمطالبة بالتغيير.
على الرغم من تصنيف البلاد بالقرب من أسفل اللائحة من حيث التكافؤ بين الجنسين على مستوى العالم واستمرار الحكومة في تقييد حقوق المرأة، إلا أن المرأة الإيرانية لديها تاريخ طويل من النشاط السياسي الذي تجاوز حدود البلاد المحكوم بنظام الملالي.
————————–
حدود التوافق والتنافس بين إيران وروسيا في سورية/ عبد الله تركماني
المحتويات:
مقدمة
أولًا. السمات العامة للعلاقات الإيرانية – الروسية في سورية
ثانيًا. حدود التوافق والتعاون في سورية
ثالثًا. حدود التنافس والتعارض في سورية
رابعًا. مستقبل سورية في منظور كل من روسيا وإيران
المراجع
أولًا: السمات العامة للعلاقات الإيرانية-الروسية في سورية
تنطوي العلاقات الروسية-الإيرانية في سورية على مظاهر توافقية وتنافسية، في آن واحد، وهي محددة، كيفيًا وزمانيًا، بحسب تغيّرات المصالح الإستراتيجية والتكتيكية لكلٍّ من الدولتين، تبعًا لاختلاف الأهداف النهائية في سورية. وستساعدنا معرفة السمات السياسة العامة لتلك المظاهر، وأهداف كلّ من الدولتين من الصراع في سورية ومساره المستقبلي، في التنبؤ بوجهات تطور الصراع وسيناريوهاته.
إنّ إيران وروسيا شريكان في مصالح عديدة، ثنائية وإقليمية ودولية، تترك آثارها على علاقاتهما في سورية، وهي علاقات براغماتية مبنيّة على المصالح. ولكل منهما رؤية مستقلة ومصالح خاصة، وهذا ما يرفع احتمال افتراق رؤى ومصالح كلا الطرفين، ربما إلى درجة الاصطدام، على ضوء متغيرات قادمة.
تكمن أهمية سورية بالنسبة لروسيا في موقعها المهمّ على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وبحكم حدودها المشتركة مع العراق والأردن ولبنان وإسرائيل وتركيا، ولطالما طمحت روسيا إلى الوصول إلى المياه الدافئة، منذ زمن الإمبراطورية الروسية، خاصة في عهدي بطرس الأكبر وكاترين الثانية. وتربط روسيا تدخّلها في سورية بالملفات الدولية: أوكرانيا، العقوبات على روسيا، العزلة الدولية، مشكلاتها الاقتصادية، النفوذ في الشرق الأوسط، إضافة إلى وهم بوتين في إعادة بعث الإمبراطورية الروسية القديمة.
أما بالنسبة إلى إيران، فتكمن أهمية سورية في وقوعها في عمق الحزام الشيعي الذي يمتد من إيران عبر العراق مرورًا بسورية وصولًا إلى لبنان، إضافة إلى رغبتها في تأمين طريق مستقبلي لمواردها الطاقية إلى أوروبا.
وقائع الصراع في سورية لم تأتِ موافقة للهوى الإيراني تمامًا، إذ إنّ روسيا ربطت خطواتها بإحكام مع تنفيذ مطالبها، وهي على منحيَين: الأول ما يتعلق بإحكام قبضتها بالتدريج على ما تبقى من مؤسسات النظام المنهار ولا سيما مؤسسة الجيش أو بناء مؤسسات جديدة تتبع لها، والثاني ما يتعلق بتطبيق الاتفاقات التي عقّدتها مع إسرائيل، وتنفيذ اتفاقاتها مع الإدارة الأميركية، عندما كانت تجد في ذلك فائدة لها.
ثانيًا: حدود التوافق والتعاون في سورية
يتجلى التوافق الروسي-الإيراني في سورية من خلال تفاوت المدى الزمني للتوافقات بين المديَين المتوسط والطويل، ويبدو أنّ توافق مصالحهما، في مواجهة العقوبات الغربية، عاملٌ ضاغطٌ عليهما في سورية، أي إنّ موجبات التوافق الروسي-الإيراني في سورية لا تزال قائمة، وهي حاجة كل منهما إلى الآخر، للضغط على الغرب بصورة أساسية، والتعاطي مع العقوبات المفروضة على كليهما، كلٌّ من طرفه، إضافة إلى مصالحهما في سورية. وعلى هذا الأساس، فإنّ كلًا منهما حريص على ألا يدفع بالآخر خارج موجبات التحالف بينهما.
فمنذ الانخراط العسكري الروسي المباشر، في أيلول/ سبتمبر 2015، تعززت العلاقات الروسية-الإيرانية، بعد أن تكيّفت الدولتان مع تحديات التعاون العسكري المشترك دفاعًا عن نظام بشار الأسد، من خلال إنشاء قنوات تنسيق بينهما أخذت طابعًا مؤسسيًا، بل طابعًا عمليًا، حين عملت وحدات النخبة لدى “حزب الله” المسماة “قوات الرضوان”، بالتنسيق الكامل مع الطيران الروسي، في مواقع عدة، خاصة في أثناء اجتياح حلب في أواخر عام 2016. وفي الواقع، وقفت إيران إلى جانب النظام منذ بدايات الثورة، ولم يتغيّر موقفها طوال السنوات الإحدى عشرة.
وفي حين أنّ هذا الدعم الإيراني كان بعيد المدى للنظام ورأسه، فإنّ روسيا كانت متمسّكة بحمايتهما، وهذا يشير إلى أنهما متوافقان مبدئيًا، ولكنهما قد يتعارضان، على المدى الطويل، إذا ما تغيّرت معطيات صراعهما مع الغرب.
أما بالنسبة إلى حدود التمسّك ببقاء بشار الأسد على رأس السلطة، لضمان سيطرة ضباط علويين على المفاصل الأمنية لسورية، فيتوافق الطرفان في المدى المتوسط، لكنهما قد يتعارضان على المدى البعيد. وقد شددت روسيا، طوال مراحل الصراع المختلفة، على ضرورة تأجيل النقاش حول مصير بشار الأسد. وكانت الخارجية الروسية تؤكد، منذ العام 2012، أنها غير متمسكة بالأسد شخصيًا، لكنها تخشى سقوط الدولة السورية. وما إن بدأت موازين القوى تتغير على الارض لصالحها حتى بدأت تبرر موقفها بالقول بأنّ “مصير الأسد يُحدده الشعب السوري من خلال الصناديق”، ما يعني أنه لا بدَّ أن يكون جزءًا من العملية الانتقالية، وأنّ حكمه سيدوم.
في المقابل، أصرّت إيران، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، على تمسّكها بالأسد، وعبّرت عن ذلك علانية، من خلال التزامها السريع وغير المحدود بدعم النظام، عسكريًا وماليًا، بما يمكّن من استمرار سيطرة علويين على المفاصل الأساسية للسلطة. أما بشار الأسد، فهو يراقب كلًا من روسيا وإيران كيف ستتفقان أو تختلفان بشأن مستقبله.
وفي الواقع، تشكل المعركة في سورية بالنسبة إلى إيران معركة وجودية، حيث أدى الدخول العلني بعد عام 2012، وإحضار الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية إلى سورية، إلى إلغاء خيار التراجع أو الانسحاب، إذ أصبح يعادل هزيمة إيران نفسها. وكان دور إيران داخل سورية متعدد الأبعاد، والأبرز فيه التدخل في الخريطة الديموغرافية-الطائفية، من خلال تحشيد الشيعة السوريين، على محدودية عددهم في سورية، وتنظيمهم في حرب النظام على السوريين، عبر مقولات الدفاع عن الشيعة وحماية المراقد الشيعية. وفي هذا السياق، نلمس توافقًا روسيًا-إيرانيًا، سيمتد طويلًا ما دام الطرفان يواجهان عقوبات الغرب، ويتعاونان في الحرب الروسية على أوكرانيا.
منذ بداية الحراك الشعبي، وقفت إيران إلى جانب النظام السوري، وخصّصت ميزانية ثابتة تشمل مصروفات تشغيله كلها، فضلًا عن الموازنات الكبيرة للميليشيات المقاتلة، حتى إن مهدي طائب، رجل الدين البارز المقرّب من مرشد الجمهورية الإسلامية خامنئي، وهو رئيس مقر “عمّار الاستراتيجي” لمكافحة الحرب الناعمة الموجهة ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منحَها أهمية استراتيجية قصوى بين المحافظات الإيرانية، إذ قال: “سورية هي المحافظة الـ 35، وتعدّ محافظة استراتيجية بالنسبة لنا. فإذا هاجمَنا العدو بغية احتلال سورية أو خوزستان، فالأَولى بنا أن نحتفظ بسورية”[1].
هذا بالتأكيد اعتراف صريح، يعني “أنّ علينا أن نتوقع صراعًا مريرًا مع إيران الخامنئية، وليس مع الأسد فحسب، قبل أن نحرر بلادنا من حكم الطغمة القاتلة، ونتحرر مما يحتمل أن يتحول إلى احتلال أو استعمار إيراني، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة”[2].
أما روسيا فدعمها المالي المباشر إلى النظام محدودٌ جدًا، وإنما تدعم الوحدات العسكرية، والميليشيات التي تأتمر بأمرها، إضافة إلى تزويدها النظام بالأسلحة المدفوعة الثمن، وهي ترحب بمساعدات إيران للنظام. وتقدر التقارير أنّ إيران أنفقت في سورية ما وصل إلى 30 مليار دولار، منذ العام 2011، وليس في برامج مرشدها استردادها مباشرة، بل تحويل تلك المليارات إلى أرصدة بشرية ومساحات نفوذ إمبراطوري [3].
أما بالنسبة إلى موضوع عودة اللاجئين إلى سورية، فإنّ روسيا تستخدمه كأداة ضغط لتحقيق مصالحها، وخاصة الإيحاء بأنّ رؤيتها للحل في سورية قيد التحقق. ولذلك دعت إلى مؤتمر دولي لعودة اللاجئين والمهجرين السوريين، عقد في دمشق في نهاية عام 2020، وأصبح تقليدًا روسيًّا تكرر في عامي 2021 و2022، بهدف إظهار أنفسهم قوة متحكمة في سورية، وإعادة تأهيل النظام ليكون مقبولًا أكثر على المستوى الدولي. مع العلم أنّ المنظمات الدولية لحقوق الإنسان (المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش) أكدت أنّ الظروف لا تسمح بعودة اللاجئين، بل إنها وثقت حالات اعتقال وتعذيب من قبل السلطات السورية بحق العائدين. وشددت (هيومن رايتس ووتش) على أنّ “سورية أبعد ما تكون عن توفير الأمن والسلامة للعائدين”[4].
وهكذا، يبدو واضحًا أنّ ثمة مؤشرات عديدة تشير إلى أنّ حدود التوافق الروسي-الإيراني واسعة جدًا، خاصة اتفاقهما على الاستمرار في دعم نظام بشار الأسد، وقد بدت هذه المؤشرات أكثر وضوحًا، بعد الانخراط الإيراني في الحرب الروسية في أوكرانيا، وشعور الطرفين بأنهما أكثر عرضة للعقوبات الغربية.
ثالثًا: حدود التنافس والتعارض في سورية
برزت تعقيدات العلاقات الروسية-الإيرانية في سياقات عديدة؛ إذ تشير التجارب التاريخية إلى صعوبة التعايش بين قوتين خارجيتين محتلتين في جغرافيا واحدة، وهذا ما بدأ يظهر جليًا على طبيعة العلاقة بين روسيا وإيران في سورية، فقد استطاع بوتين أن يمنع إيران من أن تفرض عليه سرعة الخطوات التي تناسِبُها، والجبهات التي تفضّلها، حتى إنه ترك مقاتليها من دون غطاء جوي ليُقتلوا، حين حاولت فعل ذلك، كما حصل أثناء حصار حلب في أواخر عام 2016. وهكذا، تتعدد مظاهر التنافس، الذي يمكن أن يصل إلى حدِّ التعارض، لكنّ كلا الطرفين يعمل على إخفائه، لأن في ظهوره إلى العلن إضعافًا لكليهما.
فبينما تنخرط روسيا في الحرب مع أوكرانيا، تحاول إيران استغلال فرص انشغالها، لتعزيز وجودها في سورية، خاصة عند الحدود العراقية-السورية، محاولة ضمان الخطّ الواصل بين طهران ولبنان عبر العراق وسورية. وكذلك في منطقة الجنوب السوري، حيث يشكو النظام الأردني من خطر وصول الميليشيات الإيرانية إلى عقر داره. على الجانب الآخر، من غير المرجّح أن تتخلى روسيا عن مكاسبها في سورية، التي كانت نافذتها لإعادة ترسيخ وجودها في الشرق الأوسط.
يظهر تنافس الطرفين واضحًا في المؤسستين العسكرية والأمنية؛ حيث يعاني جيش النظام عجزًا كبيرًا بشريًّا ولوجستيًّا، مما أفسح في المجال لكل من موسكو وطهران بتأسيس تشكيلات رديفة، أظهرت التنافس والتعارض بينهما. فبعد أن اعتمد الروس لتدخلهم العسكري المباشر في سورية على الوجود الإيراني العسكري والميليشياوي على الأرض، شرعوا في خطواتهم الخاصة من أجل هيكلة مؤسسة عسكرية منضبطة، من خلال حلّ الفصائل المحلية العاملة ضمن ما يسمى “الدفاع الوطني” ذي الطابع الطائفي.
وتشير الوقائع على الأرض السورية إلى تعاظم دور الفيلق الخامس، الذي أعلنت روسيا تشكيله ضمن صفوف جيش النظام، في بداية تدخلهم العسكري المباشر في أيلول/ سبتمبر 2015. مما حجّم دور ميليشيا “الدفاع الوطني” التي شكلت رديفًا مهمًا لجيش النظام خلال السنوات السابقة، وهذا الأمر يعكس تنافسًا بين موسكو وطهران على امتلاك النفوذ الأكبر على قوات النظام، لا سيما أن ميليشيا “الدفاع الوطني” تشكلت بأمر إيراني نفّذه الضابط السابق في الحرس الثوري الإيراني حسين همداني، الذي قتل في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 قرب حلب [5].
وقد أجبرت موسكو الأسد على إجراء بعض التغييرات، لتحجيم نفوذ إيران على الجيش السوري والأجهزة الأمنية، لصالح قادة معروفين بولائهم لموسكو. وقامت بتشكيل قوات شبه عسكرية، يُختار عناصرها بعناية من قبل روسيا، مثل الفيلق الخامس، لتعزيز قدرة الوحدات القتالية التي تعمل تحت إمرة الأسد. وقد كان التنافس بين روسيا وإيران يتحوّل إلى صراع ساخن بين الحين والآخر، حيث كانت مدن حلب واللاذقية ودير الزور، طوال عام 2019، ساحةً للعديد من النزاعات؛ فمثلًا “تصاعدت الاشتباكات في 6 آب/ أغسطس 2019، في حيّ الحمدانية غربي مدينة حلب، واستُخدمت فيها قذائف الهاون، ما تسبب بإصابة مدنيين” [6].
وعلى مستوى الأجهزة الأمنية، يتحكم مكتب استخبارات الجيش الروسي، الموجود في منطقة المهاجرين بدمشق، في بعض هذه الأجهزة، ومنها المخابرات العسكرية. أما الإيرانيون من جانبهم، فيعملون بواسطة مكتب استخبارات الحرس الثوري في دمشق بمنطقة المزة، حيث يلعب الدور الأهم في شراء ولاءات ضباط بعض الأجهزة. ووجد الطرفان في “الشركات الأمنية” الخاصة مدخلًا لتعزيز مصالحهما. ولكن ثمة تقدير استخباري، من قبل الخبير في شؤون الشرق الأوسط وسورية في “الوكالة السويدية لأبحاث الدفاع” آرون لوند، يؤكد أن “ليس من السهل على روسيا أو أي حكومة أخرى أن تخترق الأمن السوري” [7].
على الصعيد الاقتصادي، تعتقد روسيا وإيران أنهما استثمرتا كثيرًا من الأموال والإمكانات في سورية، وأنه لا بدَّ من حصول كل منهما على التعويض الكافي. ويبرز تضارب المصالح بينهما في ملف الصراع على مينائي اللاذقية وطرطوس في الساحل السوري، وفوسفات البادية، وقطاعات الطاقة والزراعة والسياحة، ويصل ذلك إلى حدِّ التنافس الشديد.
ويمثل الساحل السوري نموذجًا للتنافس بينهما، فهو من جهة محسوب باعتباره مركز سيطرة المؤيدين للنظام، ويشكل مركزًا لاهتمام كلا الطرفين، سواء لأهميته الجيوسياسية، أو لاعتبارات اقتصادية وديموغرافية. روسيا ترسخ وجودها في مينائي اللاذقية وطرطوس، وقد تدخلت لإيقاف عقد استثمار ميناء اللاذقية الذي كان سيمنح لإيران، إضافة إلى استحواذها -روسيا- على أكثر من عقد للتنقيب عن الغاز في المياه الاقتصادية السورية لشرق المتوسط، حيث تطمح إلى أن تكون لاعبًا مؤثرًا في “منظمة دول غاز شرق المتوسط”. إضافة إلى استحواذها على مناجم الفوسفات الطبيعي في منطقة خنيفيس في البادية السورية.
ويتصادم ذلك المسعى مع المساعي الإيرانية الرامية إلى استكمال خط الغاز باتجاه أوروبا عبر البحر المتوسط، وتأمين طريق التواصل بين طهران – بغداد – دمشق – الساحل السوري، لإيصال السلاح إلى ذراعها “حزب الله”. إلا أنّ الوجود الإيراني على الساحل السوري يشكل مصدر قلق بالنسبة إلى روسيا التي تريد أن تكون صاحبة القوة الرئيسية على الساحل الشرقي للمتوسط، الواعد بحقول عملاقة من الغاز غير المكتشف حتى الآن، وهو ما يضمنه لها ميناءا اللاذقية وطرطوس [8].
أما الأسد فإنه يحاول، من خلال منح امتيازات مختلفة لكلا الطرفين، مسك العصا من الوسط بين حليفيه اللذين يدين لهما بالبقاء في السلطة. لكنّ الامتيازات التي حصلت عليها موسكو في سورية أثارت انزعاج طهران، وقد أعرَب حشمت الله فلاحت بيشة، رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي، في أثناء زيارة قام بها إلى دمشق في أيار/ مايو 2020، عن امتعاضه بشأن الامتيازات الممنوحة لروسيا، مشيرًا إلى أنّ على إيران “استعادة أموال شعبها التي أنفقتها على سورية، بالتزامن مع الواقع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه البلاد، فإيران أعطت ما بين 20 و30 مليار دولار للنظام السوري، ويجب استعادة هذه الأموال التي تعود إلى الشعب” [9].
وكانت طهران قد وقّعت خمس مذكرات تفاهم مع وفد الحكومة السورية الذي زار طهران، في 17 كانون الثاني/ يناير 2019، تضمنت استثمارات مهمة في الطاقة والصناعة والزراعة والثروة الحيوانية وميناء في اللاذقية، كي يكون لإيران موطئ قدم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وفي مجال الاتصالات، حصلت إيران على إحدى أهم الاستثمارات بتشغيل الهاتف المحمول الثالث في البلاد، بحيث تكون حصة الجانب السوري 20%، في مقابل 80% لشركة إيرانية [10]. وعلى الرغم من الكم الكبير من الاتفاقيات التي أبرمتها، فإنّ جزءًا كبيرًا منها لا يزال حتى الآن “حبرًا على ورق”. وقد تحدث الباحث الاقتصادي السوري كرم الشعار عن “مماطلة رئيس النظام السوري”[11]. وعلى هذا الصعيد طالب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي رأس النظام السوري، في 10 تموز/ يوليو الماضي، بضرورة “تنفيذ الاتفاقيات بين البلدين ومتابعتها بجدية”، بما يؤكد ما ذكره كرم الشعار، إذ إنّ “مخرجات الاتفاقات الموقعة ما تزال بطيئة وضعيفة”.
يظهر التنافس الروسي-الإيراني في منطقة شرق الفرات المهمة، على صعيد تحقيق التواصل البري بين إيران وسورية عبر العراق، وهي المنطقة التي توجد فيها حقول النفط والغاز الأهم في سورية. فكل طرف يسعى لبناء الميليشيات المحلية المقربة منه، وذلك بهدف السيطرة على الأرض، وبلوغ الأهداف التي تنسجم مع توجهاته.
على الصعيد الثقافي والتدخل في معتقدات السوريين، يظهر تنافس الطرفين وتناقضهما، إذ يبدو أن ثمة تنافسًا على أطفال سورية وشبابها، وقد افتتحت روسيا ثانوية في الغوطة الشرقية، وبدأت تقديم منح دراسية لتعلم اللغة الروسية. وفي الوقت الذي اتجهت فيه إيران إلى دعم انتشار اللغة الفارسية في الساحل السوري، فإنّ السلطات السورية، تحت ضغط من موسكو، أغلقت مدارس عدة تمولها إيران في الساحل السوري، بحجة أنها لا تلتزم بالمناهج الرسمية [12].
وتركّز إيران على عملية تشييعٍ تنطوي على إيجاد نسخة سورية لـ “حزب الله”، حيث تم تهجير سوريين في المناطق المتاخمة للبنان، بهدف إنشاء مراكز شيعية، إضافة إلى اهتمامها بدعم المعاهد الشرعية في دمشق وحمص ومنطقة القلمون، بدعم مباشر من الملحقية الثقافية الإيرانية في سورية. وقد تحوّلت مناطق داخل سورية إلى محميات إيرانية بامتياز، خصوصًا في دمشق وريفها، مثل بلدة السيدة زينب، جنوب دمشق، مثلًا. وتسعى طهران إلى نشر اللغة الفارسية بين السوريين لتكون اللغة الثانية لهم، فقد افتتح قسم اللغة الفارسية في جامعة تشرين باللاذقية، في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، وبذلك تصبح جامعة تشرين ثالث جامعة سورية، تُدرّسُ اللغة الفارسية كاختصاص مستقل، بعد جامعتي دمشق والبعث في حمص[13].
ويبدو أنّ العلاقات بين شيعة إيران وعلويي سورية ظلّت متوترة، إذ إنّ هناك كثيرًا من العائلات العلوية الوازنة عشائريًا في الطائفة التي لا تخاصم آل الأسد، ولكنها ترفض تدخّل إيران في مناطقها دينيًا، وترفض سعيها لنشر التشيع.
من ناحية حياد روسيا تجاه الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية، فقد كان رهان إسرائيل هو على تمكّن روسيا من تنظيف سورية من أي خطر على إسرائيل، من إيران وميليشياتها. وهكذا كان الانخراط الروسي مع إسرائيل مظهرًا من مظاهر التناقض بين الطرفين، إذ لم يكن مقبولًا من جانب إيران التي تستخدم ذراعها “حزب الله” كسلاح ضغط على حدود إسرائيل. ولعلَّ أكثر ما يثير امتعاض طهران ما بدا أنه ضوء أخضر من موسكو لتل أبيب لضرب الأهداف الإيرانية في سورية، خاصة منذ تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، في 16 آب/ أغسطس 2019، بأنّ “إيران ليست حليفة لموسكو”، وأنّ بلاده “لا تستخف بأية طريقة بأهمية التدابير التي من شأنها ضمان أمن قوي لإسرائيل، وهي من أهم أولويات روسيا”[14]. لذلك كان هناك خط هاتفي مشفّر يربط قاعدة حميميم بمركز قيادة سلاح الجو الإسرائيلي منذ سنة 2017، وتساعد الآلية الطرفين في تجنب التداخل بين الإجراءات الروسية والإسرائيلية.
وكانت هناك مشكلة أساسية بين الروس والايرانيين، بعدما شرعت إسرائيل باستهداف مكثف للوجود الإيراني، في الجنوب السوري، وفي وسط وشرق وغرب سورية، حيث تحاول منع التمركز الإيراني فيها. وهكذا، فإنّ طموحات البلدين تختلف، روسيا التي لا تزال تحتفظ بنفوذ ووجود عسكري ليست متحمسة لطموحات طهران الإقليمية، ولم تفعل شيئًا يُذكر لإحباط الضربات الجوية الإسرائيلية ضد الأهداف والمصالح الإيرانية في سورية، لكنها، في الوقت نفسه، لم تعمل لاحتواء نفوذ طهران بالطريقة التي كانت تريدها إسرائيل.
ولم تكتفِ إيران بالتغلغل في الجيش وقوات الأمن، وانتشار التشيّع، بل رعت صناعة مخدرات الكبتاغون وتهريبها، ما يسمح لإيران و”حزب الله” والشبكات السورية، المدعومة من ماهر الأسد خاصة، بجني العائدات. وحوّلت سورية إلى مصنع للمخدرات ومركزًا لتجارتها في المنطقة.
وعلى صعيد العلاقة بين الأطراف الضامنة في آستانة، روسيا وإيران وتركيا، ليست الأمور سالكة، ففي الوقت الذي تتعزز المصالح المشتركة بين روسيا وتركيا، تجد إيران نفسها منافسة لتركيا في الإقليم، وهنا تظهر العلاقات التنافسية بين روسيا وإيران، خاصة أنّ الحسابات الموضوعية تظهر أنّ تركيا يمكنها أن تخدم إستراتيجية روسيا في سورية أكثر بكثير من إيران، بحكم جوار تركيا مع سورية، وبحكم العلاقات التاريخية، وكون غالبية السوريين مسلمين سنّة، بينما إيران ونظامها الديني دولة غير مقبولة على العموم في سورية.
في الواقع، سمحت العلاقة الروسية-الإيرانية في سورية بتحوّل المساهمة الإيرانية في دعم النظام ضد معارضيه إلى مشروع إيراني ذاتي لتحقيق الهلال الشيعي، الذي استغرق بناؤه نحو ثلاثة عقود من العمل. فقد لعبت إيران دورًا حاسمًا في اتباع النظام الحل الأمني، والتحريض الطائفي، ودفع الحراك إلى حمل السلاح.
في المقابل، تحاول روسيا أن تستميل بعض أطراف المعارضة، خاصة منصات موسكو والقاهرة وحميميم وبعض الشخصيات، الذين يتسمون بالمرونة تجاه النظام، لكنّ إيران اعتبرت جميع معارضي الأسد إرهابيين. وعلى الرغم من أنّ التدخل المباشر الروسي شكل خطرًا على المعارضة، فإنه زعزع أسس المشروع الإيراني، حيث لم يعد لإيران وحدها حق تقرير مستقبل النظام أو الحل المقبول أو غير المقبول من طرفه. وتبقى روسيا مضطرة إلى الحفاظ على شكليات الشرعية الدولية، وتحرص على أن يكون الحل عن طريق إبرام اتفاق بين المعارضة والنظام، ولكن وفق شروط موسكو، لذلك كانت خطتها إضعاف المعارضة، سياسيًا وعسكريًا، لإرغامها على توقيع اتفاق يلائم رؤيتها ورؤية النظام.
من جانب آخر، تريد روسيا كسب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كحليف إلى جانب قوات نظام الحكم في سورية، مما قد يفضي إلى فرض تسوية بين النظام و(قسد) تؤدي إلى احتواء الأخيرة في صفوف قوات النظام. وبذلك تمتلك روسيا أوراق ضغط على إيران، عبر الاقتراب من منطقة العمليات الإيرانية في سورية والعراق، أي الحاجز الأمني الإيراني الممتد من العراق وحتى لبنان، وهو ما سيتيح لموسكو تقويض المصالح الإيرانية في سورية، إذا ما استدعت الحاجة لذلك، وهنا سيظهر التعارض بين المشروعين الروسي والإيراني.
رابعًا. مستقبل سورية في منظور كل من روسيا وإيران
تستهدف روسيا إعادة تأهيل الأسد ونظامه، واستعادة سلطة الدولة المركزية وحصر السلاح بيد الدولة، لذا هي منخرطة أكثر من إيران في تحديد معالم النظام السياسي القادم في سورية، لناحية شكل هذا النظام ومضمونه وآليات عمله، إضافة إلى الدستور المرتبط به، وهي تستثمر في بناء منصات سورية تابعة لها، بهدف تأمين النفوذ الروسي لاحقًا، ويترافق ذلك أيضًا مع استثمار في الأجهزة الأمنية والجيش.
وقد عطلت روسيا عمل مجلس الأمن وقراراته بشأن سورية، حيث استخدمت حق النقض 13 مرة لقرارات تتعلق بإدانة النظام السوري، أو السماح لمحكمة الجنايات الدولية في التحقيق في جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية. ومع أنها وافقت على القرار 2254، فإنها من الناحية العملية نجحت في تعطيل الجهود الدولية لإيجاد حل سياسي من خلال مؤتمر جنيف.
في المقابل، يبدو أن تركيز إيران ينصبّ على استنساخ تجربة مماثلة لما فعلته في لبنان والعراق، لناحية توطين صناعة الميليشيات المسلحة الموالية لها، وإعادة تشكيل الديموغرافيا، وتكوين حاضنة طائفية داعمة لها في بعض المناطق، وذلك لكي تضمن من خلال هذه الأدوات مصالحها ونفوذها مستقبلًا، بغض النظر عن مصير الأسد.
في الآونة الأخيرة، أثرت ظروف الحرب الأوكرانية بشكل سلبي في دور روسيا المهيمن في سورية، وحاولت إيران استغلال الوضع وتوسيع نفوذها العسكري في الجنوب والشمال الشرقي، غير أنّ التدخل الإيراني في حرب أوكرانيا يؤكد توجه طهران إلى تعميق تحالفها مع موسكو، في مواجهة الغرب الذي يعتبر البلدَين في موقع العداء والمواجهة معه.
يشكل الوجود العسكري الإيراني في سورية مصدر تهديد كبير لمصالح روسيا، وخاصة في المستقبل، إذ لن تسمح الدول الخليجية والأوروبية، بضغط من الإدارة الأميركية، بانطلاق عملية إعادة الإعمار من دون حل سياسي يخرج إيران من سورية، مما يفقدها إمكانية الفوز بعوائد اقتصادية كبيرة من العملية. ولكن روسيا تحتاج إلى قوات إيران وميليشياتها إلى حين الوصول إلى حل، أو إيجاد بديل لميليشيات إيران.
وفقًا لخبرات إيران في العراق ولبنان، تنظر إيران إلى الوصول إلى حل سياسي في سورية، كخطر يهدد مصالحها، اعتقادًا منها أنّ أي اتفاق سلام لإيقاف الحرب سيؤدي إلى تقاسم السلطة على أساس عرقي-مذهبي، سيكون بالطبع عرضة لشلل سياسي، لذلك فإنها تفضل ألا تكون هناك سلطة مركزية، لأنها تريد المحافظة على الأرض السورية جسرًا لجماعاتها في لبنان. ولكن تبقى إيران، مع كل جهودها في سورية واستثماراتها، الشريكَ الأصغر لروسيا، لذلك تشعر بالقلق من الحل السياسي. وهي تخشى من مرحلة ما بعد الصراع، وتدرك أنّ أسد ما بعد الحرب لن يكون هو ذاته أسد الحل العسكري الأمني. وتعلم موسكو أنّ إيران مع بقاء الأسد وبقاء نظامه بأركانه كافة، لأنها تعلم أنّ أي تغيير في تركيبة الحكم سيعني نهايته، وأنها مع حلّ عسكري، وضد أي حل سياسي، وضد الوصول إلى أي اتفاق مع المعارضة، بل تريد هزيمة المعارضة كليًا، وأن يأتي أفرادها صاغرين قابلين شاكرين لما يعطى لهم.
يبدو أنّ الخلاف بين روسيا وإيران لن يصل إلى حد كسر العظم، على المدى المنظور على أقرب وجه، بل سيجد طريقه نحو التفاهم والتقاسم التوافقي للمغانم، مرورًا بتفهم موسكو لمصلحة إيران في سورية؛ إذ ليس من مصلحة موسكو خسارة تحالفها مع طهران وورقة الملف السوري، ما دامت توظفهما في صلب لعبة التنازع على النفوذ مع الغرب في أوكرانيا. وفي المقابل، ليس من مصلحة إيران مناكفة روسيا على حضورها ودورها في سورية والمشرق العربي، ما دامت تستمد منها الدعم والحماية. ويمكن ملاحظة تقارب العلاقات بين إيران وروسيا، بعد استخدام صواريخ باليستية وطائرات مُسيّرة إيرانية الصنع في الهجمات على مدن أوكرانية.
ويبدو لنا أنّ الخلافات بين الطرفين يمكن أن تتصاعد، كلما اقتربت المسألة السورية من الحل، ذلك لأنّ من مصلحة روسيا التعاطي مع مصالح المحور الخليجي الذي يرفض تمدد النفوذ الإيراني من جهة، وهو القادر على دعم إعادة الإعمار من جهة ثانية.
إن الصراع في سورية لا يمكن فصله عن محاولات روسيا توسيع نفوذها وتعزيزه في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وهذا يعني بقاء الصراع السوري عالقًا، من دون حلول، إلى حين توصل الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى طريقةٍ لوضع حد للحلم الإمبراطوري الروسي في أوكرانيا.
مراجع الورقة:
ديمتري ترينين: روسيا وإيران (انعدام الثقة في الماضي وتعاون في الوقت الحاضر)، مركز كارنيغي/ موسكو 8 أيلول/ سبتمبر 2016، ترجمة: سمير رمان،15 كانون الأول/ ديسمبر 2016.
د. علي حسين باكير: التباين الروسي – الإيراني حول مستقبل سورية – ورشة عمل “محددات العلاقات الإيرانية – الروسية وتجلياتها في سورية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة ومركز الدراسات الإيرانية (إيرام)، أنقرة- 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2017
رحيم الله فرزام (مركز الدراسات الإيرانية): تباين الطرق في سورية بين روسيا وإيران – مركز حرمون للدراسات المعاصرة، قسم الترجمة 21 حزيران/ يونيو 2020.
المجلس الروسي للشؤون الدولية بالشراكة مع معهد الدراسات الإيرانية (اليورو آسيوية): نقاط الخلاف والاتفاق بين طهران وموسكو في سورية – ترجمة: ربى خدام الجامع، موقع تلفزيون سوريا 25 كانون الأول/ ديسمبر 2020.
رنا باروت: العلاقات الإيرانية – الروسية خلال الأزمة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 23 أيلول/ سبتمبر 2021.
رنا الخطيب: المأزق الروسي – الإيراني في سورية، مبادرة الإصلاح العربي، تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
لانا رواندي فدائي: تاريخ العلاقات الروسية – الإيرانية واتفاق فيينا النووي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
حسام السعد وطلال المصطفى: محددات الوجود الإيراني في سورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 12 آذار/ مارس 2018.
– اعتمدت في إعداد الورقة على بعض مخرجات “وحدة دراسة السياسات”، في مركز حرمون للدراسات المعاصرة:
* الصادرة في 18 حزيران/ يونيو 2016، تحت عنوان “حزب الله اللبناني في مواجهة الاستحقاقات المؤجلة”.
* الصادرة في 18 نيسان/ أبريل 2017، تحت عنوان “التغيير الديموغرافي في سورية: من السياسة العشوائية إلى السياسة الممنهجة”.
* الصادرة في 25 حزيران/ يونيو 2017، تحت عنوان “إيران الفارسية تتلطى وراء إيران الشيعية”.
– جوزيف ظاهر (أستاذ العلوم السياسية – جامعة لوزان بسويسرا): استراتيجيات التغيير الديموغرافي في سورية، مركز الجزيرة للدراسات، 9 حزيران/ يونيو 2017.
– المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية: التهجير في سورية: تصنيفه – آلياته – أهداف الأطراف الفاعلة فيه، أعد البحث الناشط همام الخطيب، إشراف المحامي أنور البني.
-عبدالله تركماني: التغيير الديموغرافي في سورية سياسة منهجية، ورشة عمل “محددات العلاقات الإيرانية – الروسية وتجلياتها في سورية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة ومركز الدراسات الإيرانية (إيرام)، أنقرة – 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2017
-أحمد بن ضيف الله القرني: آفاق التخادم الاستراتيجي الروسي – الإيراني في سورية، مركز الدراسات والبحوث الإيرانية، 18 حزيران/ يونيو 2020.
[1] (رجل دين إيراني يصف سوريا بالمحافظة الإيرانية الـ 35) العربية، النشر 15 شباط 2013، الزيارة: 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/OzC5Ma
[2] برهان غليون، (في معنى أن تكون سورية محافظة إيرانية) مركز الجزيرة للدراسات، النشر 24 شباط/ فبراير 2013، الزيارة 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط: https://2u.pw/tEtXPa
3 عدنان عبد الرزاق، (النظام السوري يواصل الاقتراض بشراهة: ديون كارثية)، العربي الجديد، النشر 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الزيارة 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الرابط: https://2u.pw/T0O0Zx
4 لما فقيه، (الإعادة القسرية للسوريين من قبل السلطات اللبنانية غير قانونية وغير آمنة)، هيومن رايتس ووتش، النشر 6 تموز 2022، الزيارة 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/HEj24m
[5] مراد القوتلي، (ميليشيا “الدفاع الوطني” مهددة بفعل الجهود الروسية لحلها والاستعاضة بـ “الفيلق الرابع”)، السورية نت، النشر 01 كانون الأول/ ديسمبر 2015، المشاهدة 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/BSVvGm
[6] عمر يوسف، (حلب بعهدة إيران.. هل حُسم الصراع مع روسيا على المدينة؟)، الجزيرة، تاريخ النشر 8 آب/ أغسطس 2019، شوهد بتاريخ 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022: https://2u.pw/IWQxxX
[7] أمل رنتيسي، (هل يستطيع الروس إزاحة الأجهزة الأمنية في سورية؟) صحيفة عنب بلدي، النشر 17 كانون الثاني/ يناير 2021، الزيارة 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/HIzoQg
[8] في 27 آذار/ مارس 2018، صادق مجلس الشعب السوري على عقدٍ يسمح للشركة الروسية “ستروي ترانس غاز”، بحقّ استثمار واستخراج الفوسفات من البادية في منجمي الشرقية وخنيفيس، كما أعطى روسيا حق استثمار ميناء طرطوس والأراضي المحيطة به لمدة 49 عامًا. وكانت شركة “سيوز نفط” الروسية قد بدأت بأعمال الحفر والتنقيب عن النفط في ريف مدينة اللاذقية والمياه الإقليمية السورية، بموجب الاتفاقية الموقعة بين الطرفين عام 2013، بعد الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية.
[9] أحمد بن ضيف الله القرني، (آفاق التخادم الاستراتيجي الروسي – الإيراني في سورية)، مركز الدراسات والبحوث الإيرانية، النشر 18 حزيران/ يونيو 2020، الزيارة 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/8E1k6O
[10] (إيران والنظام السوري.. الاتفاقيات الاقتصادية “برسم المتابعة”)، موقع السورية نت، النشر 13 آب/ أغسطس 2022، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط: https://2u.pw/cQbOrJ
[11] ضياء عودة، (صور و”اتفاقيات على ورق”.. ماذا تريد إيران من الاقتصاد السوري)، موقع تلفزيون الحرة، النشر 17 كانون الثاني/ يناير 2022، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/vixfef
[12] عهد فاضل، (حقيقة إقفال مدارس تابعة لإيران في الساحل السوري)، العربية نت، النشر 11 تموز/ يوليو 2017، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/4bBsqH
[13] (اللغة الفارسية تغزو الجامعات السورية)، المدن، النشر 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/LPwHYl
[14] (نائب وزير الخارجية الروسي: أمن إسرائيل أولوية لنا)، سي إن إن العربية، النشر 24 كانون الثاني/ يناير 2019، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/NSt
مركز حرمون
————————-
====================
تحديث 11 كانون الأول 2022
—————————
إيران السلطة تتراجع خطوة إلى الوراء/ بشير البكر
تتراجع السلطة في إيران خطوة إلى الوراء، من أجل احتواء الاحتجاجات الشعبية، بعد أكثر من شهرين من المظاهرات الواسعة التي شملت المحافظات كافة، وارتفاع أعداد القتلى إلى أرقام قياسية. وحسب تقارير مختلفة صادرة عن جهات عديدة، منها منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ومصادر إعلامية محلية وخارجية، فإن العدد تجاوز 450 قتيلا حتى الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، من بينهم أكثر من 60 قاصرًا، وذلك نتيجة التدخل من الحكومة لإنهاء الاحتجاجات بطرق مختلفة، شملت استخدام أساليب قمعية، مثل الغاز المسيل للدموع وإطلاق النار. وأول قرار ملموس في تكتيك التراجع أمام الموجة الشعبية الواسعة هو حلّ المدّعي العام في إيران شرطة الأخلاق ومراجعة قانون الحجاب. وهما خطوتان غير فوريتين، إلا أنهما على درجة عالية من الأهمية. ويريد النظام منهما امتصاص جزء من غضب الشارع وتقسيمه بين من يطالبون بالحريات الشاملة وآخرين يقفون عند الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الاحتجاجات الحالية، بسبب مقتل الشابة الكردية مهسا أميني في 22 سبتمبر/ أيلول الماضي على يد “شرطة الأخلاق” التي ضربتها وعذبتها بذريعة عدم ارتداء الحجاب بطريقة سليمة. ومن المعروف أن هذا الجهاز سيئ السمعة، ولعب دور وصاية على المجتمع الإيراني من الناحية الأخلاقية، بالإضافة إلى توليه مهام أمنية ذات طابع قمعي من أجل حماية النظام والدفاع عنه، وقد جرى تغيير اسمه عدة مرات منذ تأسيسه في عهد الرئيس الأسبق، محمد خاتمي، وجرى استخدامه خلال 15 عاما كأداة قمع في كل المظاهرات الاحتجاجية السابقة، وخصوصا الأكثر دموية في 2019 – 2020 التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1500 شخص.
ليس التوجّه نحو تقديم تنازلات منحة أو رضوخا بطيبة خاطر من النظام، بل هو عملية محسوبة لعدة أسباب. الأول، استنفاد غرض الموجة القمعية الأولى التي سبق تجريبها، وأثبتت جدواها في المناسبات الاحتجاجية التي شهدتها إيران في الأعوام الماضية. ونظرا إلى أن القمع الدموي والقتل بالرصاص الحي لم يوقفا الاحتجاجات الحالية، بل زادا من حدّتها، ويمكن للاستمرار في هذا النهج أن يوسّع دائرة الاحتجاجات أكثر كما هو حاصل، على نحو خاص في مناطق بلوشستان التي تعاني من تمييز شديد، وكردستان مسقط رأس الشابة أميني. الثاني، انخراط أطراف أوسع من المجتمع الإيراني، فبعد أن كانت المظاهرات تقتصر على الفتيات، بدأت تشارك فيها طالبات الجامعة وأمهات وفاعلات ثقافيا وإعلاميا يحظين بمكانة رمزية، وظهرت مواقف تحدٍّ لأعمال القمع والنظام ساهمت في تحطيم بعض حواجز الخوف. الثالث، الدعم الدولي الذي تلقاه الاحتجاجاتـ والذي تمثل بممارسة ضغوط سياسية، وفرض عقوبات اقتصادية أميركية أوروبية بسبب إفراط النظام باستخدام القوة.
لن تكون النتيجة لصالح النظام في جميع الأحوال، سواء حلّ في القريب العاجل الشرطة الأخلاقية وأجرى مراجعة قانون الحجاب أم لا، ويكفي الحركة الاحتجاجية أنها باتت على يقين بأن بعض مطالبها الأساسية يمكن أن يتحقق بفعل التضحيات والضغط. ويدرك المتظاهرون، في الوقت نفسه، أن تكتيك السلطة يهدف إلى وقف الاحتجاجات، ما يمنح النظام وقتا للاستراحة والتفكير، من أجل هجوم أوسع لاجتثاث جذور الحركة الاحتجاجية، مهما كلف ذلك من اعتقالات وقمع وإراقة دماء، كما حصل في مرّات سابقة. ولذا، المواجهة مرشّحة لأن تأخذ أطوارا جديدة، يرتفع فيها منسوب القمع أكثر، ويزداد الضغط على النظام الذي سيبدأ بالتشقّق كما تفيد مؤشرات عديدة داخل المؤسسة الدينية التي ليست كلها على قلب رجل واحد، ولا تؤيد خط الحل الأمني الذي يمثله المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي صاحب السجل القمعي، والحرس الثوري المرشّح للانخراط أكبر في عمليات القمع في الفترة المقبلة.
العربي الجديد
——————————–
الحجاب السياسي في إيران/ فاطمة ياسين
ظهر التوجه الديني بشكله المتشدّد على السياسة الداخلية في إيران عام 1979، بعد تعليمات روح الله الخميني بضرورة الالتزام بمعايير الحشمة والمظهر الإسلامي، وهو ضمناً يعني أن تلتزم النساء بالحجاب، ويلتزم الرجال بألبسة مغلقة من دون قمصان بأكمام قصيرة أو ملوّنة. لم يوجد في ذلك الوقت جهاز رسمي يتبع الدولة، يتأكد من تطبيق توجيهات الخميني، بل جاء التطبيق طوعيا، ولكن كان هناك من الناس العاديين من ينبّه سيدة تسير في الشارع على لباسها أو شعرها، وقد تمارس الشرطة هذا العمل من دون تكليف رسمي، وسُجّلت حوادث كثيرة ضرب فيها رجالٌ نساء يسرن في الشارع من دون أن يحترمن تعليمات الخميني، وقد تعرّض بعضُهن لإلقاء أحماض حارقة على وجوههن، أو الطعن بالسكاكين أو حتى إطلاق النار، واستمرّ الحال كذلك حتى العام 1983، حين صدر قانون يطلب من النساء، وبشكل رسمي، ارتداء ملابس فضفاضة وطويلة وتغطية الرأس، حتى لو كنّ داخل سيارة، وترافق القانون مع قائمة عقوباتٍ بحق المخالفات تتضمّن الغرامات المالية وصولا إلى الجلد!
قبل وصول رجال الدين إلى الحكم في إيران، كان الوضع مختلفا جدا، ففي وقتٍ مبكّر من القرن العشرين عام 1939، أصدر رضا بهلوي، والد الشاه محمد رضا بهلوي، قانونا يمنع فيه ارتداء الحجاب بشكل رسمي، باعتباره موروثا متخلفا لا يجاري حضارة القرن العشرين، وشجّع على ارتداء الملابس الغربية والقبعات، ووصل الأمر إلى استخدام القوة لضبط القانون وخلع حجاب النساء في الشارع! وقد أجبر التشدّد في التطبيق بعض النساء أحيانا على التحرّك في الليل لقضاء بعض الحوائج خوفا من الالتقاء بالشرطة، والتعرّض للتعنيف بسبب الحجاب. خفّف نظام الشاه الابن من إجراءات المنع القسري للحجاب، حين نفي الوالد خارج البلاد عام 1940، بعد أن ناصر ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وقد شاع بعد ذلك الحجاب بصورة أكبر، وانتشر بشكل واسع، ليس بوصفه التزاما دينيا في المقام الأول، ولكنه تعبير عن رفض النظام الملكي الديكتاتوري المتمثل في الشاه الكاره للحجاب.
خلال الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات، بدأت تتشكّل قوات شبه رسمية للانخراط في الحرب العراقية الإيرانية، لكن بعضا منها كان يمارس “الحسبة” بشكل علني، من دون معارضة من الدولة، وكانت هذه القوات تتبع غالبا لجهات في وزارة الداخلية، ومن دون تدخّل من القضاء، ما يجعل سلوكها يتخذ طابعا تنفيذيا. في أوائل التسعينيات، تشكّل في إيران ما سميت “غشت إرشاد”، وهي قوات شبه عسكرية مختلطة تقوم بالرقابة المباشرة على السلوك والملابس، وكانت موجهة، بشكل أساسي، نحو النساء، جهتها المرجعية هي وزارة الداخلية، من دون أي إشراف قضائي. وتوسَّع عمل هذه الشرطة مع قدوم أحمدي نجاد، ليعكس عناوينه المتشدّدة بجعل “غشت إرشاد” ذراعا رسمية من أذرع الشرطة، ووصل تعداد أفرادها إلى سبعة آلاف منتسب، يمارسون جميعا عملية مراقبة لباس السيدات في الشوارع والأماكن العامة.
كان موقف الشاه الأب من الحجاب وضرورة منعه سياسياً في جوهره، فقد كان يرغب بالتقرّب من العالم المتقدّم وجر تقاليده لإحلالها مكان التقليد الإسلامي الذي كان يتّبعه الشارع الإيراني. وقد رد الشارع بدوره بالمبالغة في لبس الحجاب تحدّيا لهذا القرار، وظهر لاحقا في قرارات الخميني، ومن جاء بعده، التمسّك برمزية الحجاب وفرضه عنوة، في تأكيد سياسي على الوجه الإسلامي لإيران، وكان رد الشارع معاكسا أيضا في تحدّيه الحجاب. وبعد حادثة الطالبة الكردية، مهسا أميني، وتحرّك الشوارع، أضحى حرق الحجاب وتمزيقه شعارا هاما. التقط النظام الإشارة، فأصدرت إحدى هيئاته قرارا بعدم قانونية شرطة الأخلاق، ما يعني أن النظام الحاكم يرغب بامتصاص النقمة الشعبية العارمة. وفي كل ذلك التاريخ الطويل للحجاب الإيراني، كان الجانب الديني واضحا باعتبار الحجاب معلماً إسلامياً، ولكنه وسيلة تُضمر السياسة بشكل أساسي.
العربي الجديد
———————————
تهديد ضعيف: حركة الاحتجاجات في مواجهة صلابة النظام الإيراني
أربكت الحركة الاحتجاجية القيادة الإيرانية التي اتخذت عدة إجراءات فاقمت الوضع بدلًا من السيطرة عليه. ورغم ذلك لا يواجه النظام الإيراني تهديدًا وجوديًّا بفضل تمتعه بقاعدة داخلية من الداعمين المستعدين للدفاع عن بقائه.
المعروف أن شرطة الأخلاق الإيرانية قامت باعتقال الفتاة من أصول كردية، مهسا أميني (أو، جينا أميني، كما تسمى بالكردية)، مساء الثلاثاء، 14 سبتمبر/أيلول الماضي (2022)، بالقرب من محطة مترو الشهيد حقاني بالعاصمة، طهران. طبقًا للمصادر الرسمية، كان عدم التزام أميني بالحجاب هو السبب خلف اعتقالها؛ وهو شأن قانوني بحت، نظرًا لأن إيران أقرت قوانين خاصة باللباس، وفرض الحجاب، منذ 1983، بعد أربع سنوات فقط على انتصار الثورة الإسلامية. وقد ظلت مسألة الحجاب واحدة من أقانيم تعبير نظام الجمهورية الإسلامية عن نفسه طوال العقود الخمسة الماضية من عمر الجمهورية. في 2020، نُقل عن المرشد الأعلى، السيد خامنئي، قوله: “النساء المحجبات بشكل غير مناسب، يجب أن يشعرن بعدم الأمان”.
كانت أميني، التي لم تتجاوز الثانية والعشرين، عند اعتقالها بصحبة شقيقها الذي أُبلغ، بعد احتجاجه على تصرف شرطة الأخلاق، أن شقيقته ستنقل إلى مركز الشرطة لأخذ إفادتها، ومن ثم يفرج عنها. بعد يومين، في 16 سبتمبر/أيلول، أُعلن رسميًّا عن وفاة مهسا أميني. ولم يلبث إعلان الوفاة، الذي لم يُستقبل بأي درجة من التصديق من عائلة الفتاة، أو قطاعات واسعة من الرأي العام الإيراني، أن أطلق حركة احتجاجية واسعة النطاق، لم تشهدها إيران منذ ما عُرف بالثورة الخضراء في صيف 2009. واجهت سلطات جمهورية إيران الإسلامية الحركة الاحتجاجية بقبضة أمنية شديدة، وبعد أن عجزت قوات الأمن عن إخماد حراك المحتجين، سارعت السلطات إلى استدعاء قوات الباسيج، شبه العسكرية.
وجدت الحركة الاحتجاجية مساندة واضحة من المعارضة الإيرانية في الخارج، ومن عدد من الدول الغربية. كما أصبحت مادة لاحتفال وسائل الإعلام الغربية، التي لم تتوقف عن نشر التقارير اليومية عن أماكن الاحتجاج، وصوره، وعن إجراءات القمع التي تنفذها أجهزة الأمن. ولم يكن غريبًا، أن تطلق الحركة، بعد أن تجاوزت شهرها الثاني، التساؤلات حول ما إن كان نظام الجمهورية الإسلامية بات مهددًا.
ارتباك وقبضة أمنية شديدة
ليس ثمة شك، لعدد كبير من الإيرانيين، والدوائر الحقوقية في الخارج، أن مهسا أميني قُتلت على يد شرطة الأخلاق، ولم تمت بصورة طبيعية، أو بمرض مزمن مسبق. نقلت أميني بعد اعتقالها إلى مركز شرطة الأخلاق؛ وتقول نساء كن محتجزات بالمركز للسبب نفسه إنهن شاهدنها تتعرض للضرب والاعتداء بعد أن ردت على عبارات الإهانة التي وجهت لها. والمؤكد، أن أميني نقلت بعد عدة ساعات من مركز الشرطة إلى مستشفى كسرى، الذي وضع على موقعه الإلكتروني خبرًا يفيد بأن الفتاة كانت بالفعل في حالة موت دماغي عندما وصلت المستشفى. ولكن إدارة المستشفى سارعت بعد ذلك، ربما بضغط من جهات حكومية، إلى إزالة الخبر برمته من الموقع.
وزارة الداخلية، التي تولت التحقيق في موت أميني، أعلنت بعد أيام من وفاتها أن ليس ثمة ما يشير إلى أنها تعرضت للتعذيب، مرجحة وفاتها بسكتة دماغية، نجمت ربما عن حالة مرضية سابقة. ولكن أهل الفتاة، سيما شقيقها، قالوا إنهم تعرضوا هم أيضًا لضغوط رسمية للقول بأنها كانت تعاني من مرض مزمن، أشاروا إلى وجود كسور وإصابات في جثمانها. كما أن مجموعة قرصنة إلكترونية حصلت على صورة أشعة للجثمان، أُخذت بعد الوفاة، تكشف عن إصابات في الرأس ونزيف في المخ.
الواضح، بالطبع، أن مقتل أميني أصاب وزارة الداخلية بالارتباك. نقت الوزارة في البداية بأن شرطة الأخلاق ارتكبت خطأ جسيمًا، ولم تأمر بمحاسبة المسؤولين عن موت الفتاة، بل سارعت إلى نشر تقرير إثر تحقيق رأى الكثير من الإيرانيين أنه لم يكن مستقلًّا بأي معيار من المعايير. ثم اعترفت بشكل غير مباشر لاحقًا، بعد ثلاثة شهور على انطلاقها، من خلال قرار تعليق عمل شرطة الأخلاق.
مهما كان الأمر، لم يلبث مقتل أميني أن أطلق ردَّة فعل شعبية واسعة النطاق، كان عمادها في الغالب الشباب والنساء. اندلعت حركة الاحتجاج في البداية في بعض أحياء طهران، وفي مدينة سقز الكردية، مسقط رأس أميني؛ ولكن سرعان ما انتشرت إلى معظم مدن إيران الأخرى، مدن كردية وفارسية وآذرية وعربية وبلوشية. ولأن الارتباك لم يزل سيد الموقف في أوساط النظام، فقد لجأت السلطات إلى الاستعمال المفرط للقوة، حسب تعبير المفوض الأممي السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك. والحقيقة أن سيرة وزير الداخلية، أحمد وحيدي، ترجح منذ انطلاق الاحتجاجات أن يلجأ إلى القبضة الأمنية. وصل وحيدي، الذي يُعرف بتصلبه، إلى وزارة الداخلية بعد تاريخ حافل في الحرس الثوري، وقيادة قوات القدس، ووزارة الدفاع. خلال عمله في الحرس وقوات القدس وُجِّهت له اتهامات بإصدار أوامر اغتيال معارضين إيرانيين في الخارج، وبالمسؤولية عن تفجير الأرجنتين الشهير.
أطلقت قوات الأمن النار على محتجين في الشوارع، حسب منظمة العفو الدولية، وليس في طهران وحسب. كما اقتحمت حرم الجامعات وبيوت نشطين عرفوا بمعارضة النظام، أو تم التعرف عليهم في التظاهرات والتجمعات، ولاحقت محتجين في محطات القطار والحافلات العمومية. مع أوائل ديسمبر/كانون الأول، تخللت الصدامات بين المحتجين وقوات الأمن والباسيج أعمال عنف، وقد أوقعت، طبقًا لمصادر المعارضة ومنظمات حقوقية، ما لا يقل عن 450 قتيلًا، أغلبيتهم العظمى من المحتجين. كما أشارت تقارير إلى أن 26 محافظة، بين المحافظات الإيرانية الإحدى والثلاثين، شهدت سقوط قتلى. كان نصيب محافظة سيستان-بلوشستان، ذات الأغلبية السنية، التي سقط فيها 128 قتيلًا، النصيب الأكبر مقارنة ببقية محافظات البلاد. كما كان عدد القتلى في يوم الجمعة 30 سبتمبر/أيلول، الذي أطلق عليه المحتجون يوم الجمعة السوداء، والذي بلغ 90 قتيلًا، الأكبر منذ اندلعت حركة الاحتجاج.
وقد ذكرت تقارير أخرى أن عدد المعتقلين زاد عن 18 ألف معتقل، بينهم 40 من غير الإيرانيين، يرجح أن أغلبهم من الإيرانيين حاملي الجنسيات الأجنبية، وأن ما يقارب الألفين من المعتقلين قُدِّموا للمحاكمة فعلًا. وكان إمام جمعة زاهدان، مولاي عبد الحميد إسماعيل، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة في إيران، حذر السلطات في خطبة الجمعة 3 ديسمبر/كانون الأول من استخدام قانون الحرابة ضد المعتقلين، الذي يعني الحكم بالإعدام.
الذي تشير إليه جملة هذه التطورات أن الحركة التي أطلقها موت، أو مقتل، الفتاة أميني، قد تحولت بالفعل، وخلال فترة وجيزة، إلى حركة معارضة واحتجاج ذات طابع قومي. يبدو أن ثمة دوائر في النظام حسبت في البداية أن ردود الفعل ستكون محصورة بالمنطقة الكردية، كون الفتاة أميني من أصول كردية، ولكن ما حدث أن الاضطرابات شملت كافة أنحاء البلاد، بما في ذلك مناطق الأغلبية الفارسية والأذرية، والعربية والكردية والبلوشية، وبما في ذلك مدن تعرف بمحافظتها وتقاليدها الإسلامية الراسخة. وعلى الرغم من افتقاد الحركة الاحتجاجية إلى قيادة مركزية، رفع المحتجون في تظاهراتهم، أو كتبوا على الأسوار في الشوارع الرئيسة، شعارات مشتركة: “الموت للديكتاتور”، و”المرأة، الحياة، الحرية”.
هذا ما دفع النظام في 4 نوفمبر/تشرين الثاني إلى تنظيم تظاهرة لأنصاره في العاصمة، طهران، لإظهار المعارضة الشعبية للحركة الاحتجاجية والأهداف التي رفعتها، والتوكيد على أن النظام لا يزال يتمتع بدعم قاعدة شعبية واسعة. ولكن، وبالرغم من أن تظاهرة التأييد كانت حاشدة بالفعل، فقد اعتبرها كثيرون داخل إيران وخارجها مؤشرًا آخر على الخوف والارتباك. وليس ثمة شك في أن تدخل المرشد الأعلى، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي عرف بحرصه على تجنب الخوض في مسائل محل انقسام وطني، وفر دليلًا آخر على شعور النظام المتفاقم بالأزمة. هاجم خامنئي المحتجين بلغة بالغة الحدة، واصفًا إياهم بمثيري الشغب، والعملاء، وتوعدهم بدفع الثمن. كما أشاد خامنئي بقوات الباسيج وتضحياتها لحماية الشعب، واعتبر أن وجود الباسيج في الساحة دليل على أن الثورة الإسلامية بخير.
توالي الحركات الاحتجاجية
لم تكن هذه حركة الاحتجاج الشعبي الأولى ضد قيادة الجمهورية الإسلامية. شهدت إيران حراكًا احتجاجيًا معارضًا واسع النطاق في 1999 وفي 2003، ولكن أحداث يونيو/حزيران-يوليو/تموز 2009 كانت ضخمة بصورة مشابهة للأزمة الحالية، دفعت أحداث 2009 أوساطًا غربية، رسمية وغير رسمية، إلى الاعتقاد بأن النظام الإسلامي في إيران أوشك على السقوط. وما إن أخذت حركة الاحتجاج الحالية في التصاعد والانتشار، لم يكن غريبًا أن تستدعى ذكرى ما عرف في 2009 بالثورة الخضراء، وما مثلته لمصير النظام وعلاقته بشعبه. الحقيقة أن ثمة خلافات جوهرية بين الأزمتين، على الرغم من بعض التشابه.
اندلعت أحداث 2009 على خلفية اتهامات وجهت للنظام بتزييف نتائج الانتخابات الرئاسية، بهدف تأمين فوز مرشح النظام آنذاك، أحمدي نجاد، بفترة رئاسية ثانية. كان أحمدي نجاد، بحساب الأصوات وتوزيعها، سيفوز على أية حال، ولكن حالة من الارتباك والخوف من الخسارة سيطرت على دوائر القيمين على العملية الانتخابية، ودفعتهم إلى التلاعب بصناديق الاقتراع في عدد كبير من المراكز الانتخابية، وبصورة مكشوفة في بعض الأحيان. بمعنى، أن ارتباك السلطات الحاكمة، أو قطاع منها، وذهابها إلى تبني قرارات وإجراءات مثيرة لاستفزاز المواطنين، كان المشترك الرئيس بين أحداث 2009 والأزمة الحالية. بغير ذلك، فليس ثمة مشتركات ملموسة أخرى.
عبَّرت أحداث 2009، التي قادها رئيس الحكومة الأسبق، حسين موسوي، ورئيس البرلمان الأسبق، حجة الإسلام مهدي كروبي، ودعمها رجل النظام التاريخي، حجة الإسلام رفسنجاني، عن انقسام بالغ الحدة في نخبة النظام الحاكمة. وعلى الرغم من مشاركة عناصر سعت إلى إسقاط النظام في تظاهرات 2009، فإن التوجه الرئيس للحركة كان إصلاح النظام وإعادة بنائه وليس إسقاطه. ولأن الحركة اندلعت على خلفية من التدافع على السلطة وقيادة البلاد، ضمت التظاهرات إيرانيين من كافة الأعراق والطوائف، ومن مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، بمن في ذلك ذوو التوجه الإسلامي.
أما الأزمة الحالية، فلم تشهد انقسامًا فعليًّا في النخبة الحاكمة. كان الإصلاحيون أُبعدوا كلية عن مراكز القرار وخسروا معظم مقاعدهم البرلمانية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة. ولكن، وعلى الرغم من أن أصواتًا إصلاحية أعربت عن القلق للطريقة التي تصرفت بها القوى الأمنية مع المحتجين في الشهرين الماضيين، فليس ثمة دعم إصلاحي واضح وصريح للحراك الشعبي. ولأن هذا الحراك يرفع شعارات راديكالية، ويدعو إلى إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، فمن المستبعد، حتى إن شعر الإصلاحيون بالسعادة لتأزم علاقة المحافظين بالشعب، أن تصدر عن الإصلاحيين أصوات مؤيدة للمحتجين.
ولا يقل أهمية في الاختلاف مع أحداث 2009، أن الحراك الحالي لا يزل مقتصرًا، وإلى حدٍّ كبير، على الشباب وطلاب الجامعات. سُجلت مشاركات اجتماعية وعمرية أوسع نطاقًا في بعض المدن والبلدات الكردية والبلوشية والعربية، ولكن الحراك الشعبي في مدن الثقل الإيراني الرئيسة، مثل طهران وتبريز وشيراز وأصفهان، لم يشهد مشاركة الآباء والأمهات، ولا شهد اضرابات للمهنيين وإغلاقًا للأسواق.
هل بات النظام مهددًا؟
الحقيقة، أن الحراك الشعبي الحالي، ومهما طال أمدًا، لا يشكل تهديدًا وجوديًّا لنظام الجمهورية الإسلامية. ومن المستبعد أن يؤدي هذا الحراك إلى انحدار البلاد إلى حرب أهلية مشابهة لما شهدته سوريا، كما توقع البعض. وترجع محدودية أثر هذا الحراك، حتى الآن على الأقل، إلى عدة أسباب:
أولها، بالطبع، أن هذا الحراك لا يزال شبابي الطابع، لم يجد دعمًا وتأييدًا من الشرائح الاجتماعية الأخرى ذات الثقل السياسي والاقتصادي، أو لم يجد مثل هذا الدعم والتأييد حتى الآن. إضافة إلى ذلك، فالمؤكد أن أجهزة أنظمة التحكم والقمع الرسمية لا تزال متماسكة، تمتلك القدرة والإرادة على مواجهة المحتجين في كافة أنحاء البلاد. صحيح أن النظام اضطر إلى نشر قوات الباسيج بعد أن اكتشف عجز قوات الشرطة والأمن الداخلي عن مواجهة المحتجين. ولكن الواضح، أن ليس ثمة دلائل تشير إلى تضعضعٍ ما في ولاء قوات الأمن، ولا في ولاء قوات الباسيج. في المقابل، تظهر هذه القوات تمسكًا صارمًا بالنظام، والتزامًا بالدفاع عنه وعن وجوده.
تتداول أوساط الدراسات الإيرانية تقديرات متفاوتة لتعداد قوات الباسيج؛ والأرجح، على أية حال، أنها تعد بالملايين وليس بمئات الآلاف. وكما في كافة دول الشرق الأوسط التي شهدت ثورات شعبية في العقدين الماضيين، تكشف حركة الاحتجاج الإيرانية عن انقسام حقيقي في صفوف الشعب الإيراني. ولكن، وبخلاف ما شهدته مصر أو تونس، مثلًا، فإن القطاعات الموالية للنظام في إيران تبدو أكثر استعدادًا للتضحية من أجل بقائه واستمراره. وبالنظر إلى أن عشرات الملايين من الإيرانيين ينضوون في أجهزة النظام العسكرية وشبه العسكرية والمدنية، فإن هؤلاء وعائلاتهم يقومون بدور بالغ الحيوية في تعزيز قدرات النظام على الحكم والتحكم، على السواء. بمعنى، أن سيطرة النظام ليست سيطرة فوقية، كما كان عليه الأمر في أواخر عهد الشاه، بل تتخلل مفاصل وأعراق المجتمع الإيراني.
بيد أن ذلك لا يعني أن هذه الموجة من الحراك الشعبي المعارض ستخمد وتنتهي بدون أثر يذكر. الواضح، أن الهوة التي بدأت في الاتساع بين النظام وقطاعات شعبية كبيرة في 2009، تزداد اتساعًا. وأن جيلًا بأكمله من الإيرانيين، أو بالأحرى معظم أبناء هذا الجيل، لم تعد تربطه أية علائق ولاء بنظام الحكم، ولا بقيمه ومقولاته. حاول النظام إقناع الإيرانيين بأن حركة الاحتجاج ليست سوى أداة أجنبية للضغط على الجمهورية الإسلامية وتركيعها، في الوقت الذي تواجه فيه إيران عقوبات وحصارًا غربيًّا.
ولكن، ولإدراك قادة النظام بأن خطاب المؤامرة الخارجية لم يُجْدِ نفعًا، وأن الهوة التي تفصل السلطة عن الشعب آخذة في الازدياد، ذهبوا في النهاية إلى تقديم بعض من التنازلات للحركة الشعبية، أشرنا إليها سابقًا، وهي قرار النائب العام، في 4 ديسمبر/كانون الأول، بتعليق عمل شرطة الأخلاق، وتشكيل لجنة لمراجعة معايير وطرق تطبيق قانون الحجاب.
————————————–
الانهيار المقبل للنظام الإيراني: لكن متى؟/ رهف الدغلي
تشهد الأشهر الأخيرة سلسلة من الاحتجاجات والاضطرابات المدنيّة المستمرة ضد النظام الإيراني، حيث بدأت الاحتجاجات التي ظهرت بشكل أساسي بين الإيرانيين الأصغر سنًا، في 16 أيلول/ سبتمبر 2022، كردّة فعل على وفاة مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عامًا، بعد أن اعتقلتها “شرطة الأخلاق” في طهران. نشر النظام الإيراني الشرطة وفِرق مكافحة الشغب وضبّاطًا من الحرس الثوري الإسلامي، لمواجهة النساء والرجال الذين يتظاهرون في الشوارع. ووفقًا لـ جافيد رحمن، مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان، فقد اعتُقِل ما لا يقل عن (14,000) متظاهر، حتى أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر. ومن بين هؤلاء المحتجزين ناشطون في مجال حقوق الإنسان ومحامون وصحفيون وطلبة[1]. تتميز الاحتجاجات الأخيرة عن سابقاتها في إيران، من حيث إنها تتمحور حول قضايا اجتماعية ذات أهمية كبرى، وهي التمييز ضد المرأة، وتدخّل السلطات في الحريات الفردية والخيارات الشخصية. كما تختلف عمّا سبقها أيضًا في أن النساء هنّ القوة المحركة خلف اندلاع الاحتجاجات واستمرارها. أصبح “الحِجاب” كمعيار/ رمز للباس الإسلامي، بعد أن فُرِض بالقوة على النساء منذ الثورة الإيرانية عام 1979، رمزًا أيديولوجيًا للولاء للنظام، وبذلك، غدت احتجاجات النساء الإيرانيات الأخيرة ضد الحجاب رفضًا لأحد أهم رموز الدولة.
كانت المشاعر والمواقف السياسية الدقيقة التي غذّت هذه الاحتجاجات موضعَ نقاش؛ فشعار “المرأة، الحياة، الحرية”، الذي انتشر بسرعة خلال التظاهرات، يركّز على مفهوم تهميش النساء. ومع ذلك، سيكون من غير العدل تجاهل مخاوف الإيرانيين الذين يعارضون بشدة ممارسات النظام المستبدة. كان تاريخ إيران مليئًا بالاحتجاجات، على الأقل منذ الثورة الدستورية عام 1906، وكانت أهداف تلك الاحتجاجات عديدة ومتنوعة. على سبيل المثال، في تموز/ يوليو 1999، تحوّلت الاحتجاجات الطلابية الشاملة التي بدأت كتظاهرات سلمية بعد إغلاق النظام لصحيفة (سلام Salam) إلى دعوات للخلاص من الحكم الإسلامي، وأسفر ذلك عن اعتقال أكثر من (1,200) واختفاء (70) طالبًا. وفي عام 2009، اندلعت انتفاضة أخرى بسبب الاعتقاد المنتشر بين الشباب الإيرانيين، بأن النظام مستمر في تزوير الانتخابات للبقاء في السلطة. دفعت هذه الحركات كثيرًا من المعلّقين إلى القول بأن الشباب الإيراني أصيب بخيبة أمل عميقة من قيادة البلاد، وأنهم سيُحدثون تغييرًا اجتماعيًا وسياسيًا في نهاية المطاف[2].
تثبت الانتفاضات الحالية أنها أكثر انتشارًا وأطول أمدًا، مقارنة بالحركات الطلابية في العقود السابقة. ومن المحتمل أن تكون صورة وفاة مهسا أميني، كرمز ملموس للظلم ومصدر للغضب، قد أسهمت في إطالة مدة هذه الاحتجاجات. ومن المعقول أيضًا الافتراض أن استمرار الاحتجاجات ونموها مرتبطان بتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وبشعور الإيرانيين المولودين بعد الثورة الإسلامية بالاغتراب والتهميش وانعدام الآفاق. إيران بلد شاب، فغالبية من هم على قيد الحياة اليوم من البالغين وُلِدوا بعد عام 1979[3]، وبالتالي، فهم لا يمتلكون سوى قليل من المعرفة أو الاهتمام بالسياقات الاجتماعية التي أدّت إلى الثورة الإسلامية أو بالفساد والطغيان الذي ارتبط بالأنظمة السابقة. على عكس الجيل الأكبر سنًّا، لا يرى الإيرانيون اليوم سوى قليل من التبرير للسلطة الحالية، وارتباطهم بها بسيط أيضًا. إنّ العنف والقمع الواسعين اللذين يمارسهما النظام ضد المتظاهرين -تحت ذريعة أن تظاهراتهم هي “أعمال شغب مخططة” صنعها الغرب، وأنها قامت على “عداوة الله”[4]– لم يفعلا شيئًا يُذكر في تقريب الشباب الإيرانيين من النظام. في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر، وافق رئيس القضاء الإيراني، غلام حسين محسني إيجئي، على التطبيق الواسع لعقوبة الإعدام، كعقوبة على الاحتجاج السلمي العادي[5]. ومن الواضح أن النظام يعدّ الاحتجاجات تهديدًا، أو على الأقل يراها إهانة بالغة. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الأهداف النهائية العملية التي تهدف هذه الحركة الاحتجاجية إلى تحقيقها؟ وهل ستتمكن من تحقيقها أم لا؟
فهم منطق التمرد: الجامعات الإيرانية كموقع للمنازعة
القيادة الإيرانية، مثلها مثل معظم الأنظمة الاستبدادية، لا تعتمد على الإكراه المادي وحدَه، للاحتفاظ بسلطتها، فقد انخرطت في استراتيجيات ثقافية مدروسة لبناء الهيمنة وكسب قلوب الجماهير وعقولها. ويشمل ذلك تنظيم استعراضاتٍ واسعة، مثل المسيرات الكبيرة التي تملأ شوارع المدينة وساحاتها، بالموالين الذين ينادون بحبّ الزعيم وحياته. كما يُشرف النظام على الاحتفالات الكبرى للمناسبات الدينية الشيعية، حيث أصبح الولاء للدولة مؤسسيًا، وينتشر من خلال المدارس (المدارس الإسلامية). ولعلّ الأهم من ذلك أن النظام بذل جهودًا متواصلة كي “يُثورن” الثقافة الإيرانية، من خلال أسلمة الجامعات وتأطيرها ضمن مواقع التلقين، أكثر من تركها ساحة للتفكير النقدي. في عام 1981، بعد مدة قصيرة من استيلاء الخميني على السلطة، أسس مكتب “الثورة الثقافية”، الذي تضمنت مهمته اختيار وتدريب المحاضِرين في الجامعات، لغرس الثقة والإيمان في “ولاية الفقيه” (العقيدة التي استُخدمت في تبرير الحكم الإسلامي)[6].
مُنِح مكتب الثورة الثقافية، والمجلس الأعلى للثورة الثقافية، وهو المنظمة التي خلفته، سلطةَ سنّ قوانين بشكل مستقل عن البرلمان الإيراني (المجلس)، كما مُنِح سلطة معاقبة انتهاكات هذه القوانين، التي ركزت بشكل عام على الجرائم السياسية أو “الأخلاقية”، مثل عدم اتباع قواعد اللباس الإسلامية والسلوك التي أقرها المجلس. وبذلك أصبح طلاب الجامعات هدفًا بارزًا لمثل هذه النشاطات. وفقًا لقانون المجلس الأعلى للثورة الثقافية عام 1987، بخصوص “تنظيم الحفاظ على قواعد أسلمة مؤسسات التعليم العالي والحفاظ عليها”، طُلب من الجامعات فصل الرجال عن النساء في صفوفٍ منفصلة (أو على الأقل صفوف جلوس منفصلة)، وفُرِضت كثير من أشكال التمييز المماثلة والقيود على حريّة تكوين الجمعيات والسلوك والفكر على المجتمع الأكاديمي الإيراني[7]. وتكثفت عملية الأسلمة، بعد فوز محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية عام 2005، حيث راجع النظام بعد ذلك مناهج الجامعات ومقرراتها وكتبها “لتطهير” محتوياتها. أثرَّت مثل هذه المراجعات في جميع أنماط المواد الأكاديمية، من ضمن ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخ والقانون وعلم النفس[8].
لم يكن قرار النظام استهداف مؤسسات التعليم العالي مفاجئًا، نظرًا إلى الدور البارز للجامعات في تعريف ملايين الطلاب على وجهات نظر عالمية أوسع وعلى مهارات التفكير النقدي. اعترفت القيادة الإيرانية نفسها بأنها كانت تَعُدّ السيطرة على الجامعات نقطة مركزية لأجندتها في الأسلمة[9]. وفي فترة الثمانينيات والتسعينيات، نجحت هذه الجهود في القضاء على الحركات الطلابية والنقد الفكري المستقلّين تقريبًا. وساد جوّ من الإحباط وانعدام الأمن والخوف على الحياة الأكاديمية في إيران، وهاجر كثيرٌ من العلماء والطلاب ممن كانت لديهم الموارد للسفر إلى بلدان أخرى، حيث تُحتَرم حرية التعبير بشكل أكبر. تزامنت “هجرة العقول” هذه مع تآكل حاد في جودة التعليم الإيراني، حيث شغل الموالون السياسيون ذوو المؤهلات الأكاديمية الضعيفة مواقعَ المحاضرين بشكل متزايد. لكن على مدار العقدين الماضيين، بدأت الحركات الطلابية في الظهور من جديد، بعد أن أصيب عدد متزايد من الشباب الإيراني بخيبة أمل من هذا الوضع، وأصبحوا يرفضون عملية النظام في التلقين أو غسيل الأدمغة.
نزعة الولاء الإيراني والموروثات الثقافية للاستبداد
لفهم التحديات التي تواجهها حركة الاحتجاج الإيرانية بشكل أفضل، من المهمّ النظر في كيفية استغلال التنشئة/ التربية الاجتماعية في ظل الأنظمة الاستبدادية، وكيفية التأثير القاعدي في سلوكيات المواطنين ومواقفهم. في تحليل مثل هذه الأسئلة في السياق الإيراني، غالبًا ما يلجأ المعلّقون إلى المفاهيم المختزلة للصراع الطائفي وشبكات الرعاية، كإطار تفسيري لديناميكيات السلطة في البلاد[10]. وأرى أن القضية المركزية الأكبر هي المدى الذي تبنّى فيه الإيرانيون، من مختلف المواقع الاجتماعية، الأيديولوجيات السياسية أو أطر الشرعية التي يروّجها النظام. من الحجج الشائعة في دراسات المواقف العامة تجاه الحريات المدنية، أن التعليم والتواصل السياسي يؤثران في مستوى دعم المواطنين لمثل هذه المعايير[11]. تروّج الأنظمة غير الليبرالية والاستبدادية لإدامة عملية مماثلة من التنشئة الاجتماعية، غالبًا من خلال السعي إلى ربط سردياتها السياسية المفضلة بالقيم الأخرى التي يحتفظ بها السكان، وفي إيران، يُنفّذ ذلك بشكل ملحوظ، من خلال ربط بقاء النظام مع بقاء الهوية الدينية الشيعية[12].
ربما من الصعب دراسة تأثير جهود التنشئة الاجتماعية هذه في الأنظمة الاستبدادية، حيث لا يمكن عدّ الأساليب المعتادة للاستطلاعات والمقابلات موثوقة، عندما يخشى الناس التعبير عن آرائهم بدقة أو التعبير عن النقد السياسي. كما أنه من الصعب للغاية قياس التأثير طويل المدى للتلقين العقائدي في مجتمع معين، حيث لا توجد مجموعة تحكم/ ضابطة لقياس كيفية تطور المواقف العامة، في غياب مثل هذا القناعة السياسية. ومع ذلك، هناك أدلة تشير إلى أن بعض شرائح المجتمع الإيراني على الأقل قد تبنّت بقوة سرديات النظام. على سبيل المثال، بينما سارع كبار المسؤولين الإيرانيين إلى احتواء الاضطرابات، تمكنوا من تجميع مجموعات كبيرة من النساء بسرعة، معظمهن يرتدين الشادور chadors الأسود التقليدي (غطاء الجسم بالكامل)، لتنظيم احتجاجات مضادة. وأظهر البث التلفزيوني الخاضع لسيطرة الدولة تلك النساء، وهنّ يرددن: “نقف وراء المرشد الأعلى”، ويُلوحنّ بالأعلام والملصقات الايرانية. ومن المستبعد أن تكون تظاهرات الولاء هذه قسرية تمامًا أو غير حقيقية.
تستهدف دعاية النظام باستمرار الإيرانيين الشباب. على سبيل المثال، في وقت مبكر من عام 2022، قامت وسائل الإعلام الحكومية بحملة جُنِّد فيها الأطفال لأداء أغنية وطنية بعنوان “تحية للقائد”، في المدارس والساحات والملاعب في جميع أنحاء البلاد. بدا أن هذا الجهد يهدف إلى جعل الأغنية “فيروسية”، بينما انتقدها النقاد على أنها محاولة لغسل دماغ الأطفال الضعفاء. إضافة إلى الاستفادة من الإيمان الديني وخلطه مع الولاء السياسي، فإن الجهود الدعائية المنتشرة في إيران تُقدّم سرديات مغرية، تتّهم فيها القوى الخارجية (عادةً، الولايات المتحدة)، بدلًا من الإشارة إلى الآفاق الكئيبة والمتراجعة لشباب البلاد، وإلى السياسات القمعية والمعايير التي سنتها القيادة الإيرانية. في حين تُظهر الاحتجاجات الحالية تفنيدًا متزايدًا لجهود التلقين هذه، سيكون من غير الحكمة التقليل من مدى ترسّخ سرديات النظام، التي أوصلت إلى ولاء عاطفي بين مؤيديه، حتى عند بعض شرائح السكان الشباب. نظرًا إلى مدى هذه الدعاية، يتحدث كثيرون عن التحديات التي سيواجهها المتظاهرون المناهضون للنظام، حتى لو تمكنوا من التأثير في الهياكل السياسية الرسمية للبلاد واختراقها. غالبًا ما تتطلب مثل هذه الموروثات الثقافية الاستبدادية عقودًا من المشاركة المدنية، وتوطيد المجتمع المدني، للتغلّب عليها.
إن المقارنة الواقعية للوضع الحالي في إيران هي مع الوضع في سورية، حيث تمكنت حركة معارضة قوية لأكثر من عقد من تحقيق القليل غير المواجهة العنيفة ضد الموالين للنظام. وإضافة إلى ذلك، يبدو أن كثيرًا من المعارضة في سورية مدفوعٌ ببعض الأفكار “الثورية” نفسها، ووجهات النظر القوية للعالم التي نُشِرت على مدى عقود في وسائل الإعلام الحكومية البعثية السورية[13]. كما جادل فريد هوليداي، يجب أن يأتي التغيير الحقيقي -في مثل هذه السياقات- من الاحتمال الصعب لإنهاء مثل هذه النظرات الاجتماعية، وإيجاد مسارات بديلة للتنمية الثقافية والسياسية[14]. هذا ليس تغييرًا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها.
آفاق العمل اللاعنفي لإطاحة الأنظمة الاستبدادية
وجد الباحثون عمومًا أن الاحتجاج السلميّ أكثر نجاحًا في خلق انتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية الفعالة والسلام الداخلي طويل الأمد، مقارنة بالانتفاضات العنيفة[15]. وبالفعل، إن هذا الانقسام واضح للغاية. توصّل أحد التحليلات إلى أن المقاومة اللاعنفية كانت عاملًا حاسمًا في (50) عملية انتقال وطني ناجحة إلى الديمقراطية، من أصل (67) عملية، وذلك بين عامي 1973 و2005[16]. ومع ذلك، من اللافت للانتباه أن مثل هذه الحركات ليست ناجحة حتميًا، في بورما والصين، حيث تظاهر مئات الألوف من الناس العاديين من أجل انتخابات حرة، وحقوق الإنسان، ولإنهاء الفساد، قُمِعت الحركات بشكل حاسم. وفي أماكن أخرى، مثل المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وإندونيسيا، شهدت التحولات السلمية نحو الديمقراطية نجاحات معتدلة كانت بطيئة في الترسّخ، حتى بعد تحقيق الإصلاحات المؤسسية. غالبًا ما تهدد نتائج الحركات المناهضة للاستبداد بالانزلاق نحو القومية الإثنية أو البلقنة، وهو احتمال يعتقد بعض المعلقين أنه محتمل بالنسبة إلى سورية[17].
على الرغم من ارتفاع حصيلة القتلى والاعتقالات، فشلت إجراءات النظام الإيراني حتى الآن في قمع التظاهرات. قال أحد المتظاهرين في إحدى جامعات طهران: “لم نعد حركة بعد الآن، نحن ثورة تلد أمّة”[18]. ومع ذلك، فإن الاستبداد الإيراني الحالي راسخ بقوة. في حين يبدو أن أكثر المتظاهرين صراحةً قد توحّدوا حول مطلب ترسيخ العلمانية وإنهاء الحكم الإسلامي، فقد لا يشارك هذا الهدف العدد الأكبر من الإيرانيين الذين ينبع تعاطفهم من الغضب من الظروف الاقتصادية أو من انتهاكات الشرطة. في الاستطلاعات الأخيرة الأكثر مصداقية، يواصل الغالبية العظمى من مواطني الدولة إعطاء قيمة عالية لهويتهم الدينية[19]. إذا لم تستمر الاحتجاجات الأخيرة في المطالبة بمزيدٍ من الأمن الاقتصادي أو إصلاحات مدروسة داخل النظام، ودعت إلى إطاحة الحكم الديني كاملًا؛ فهل ستلقى هذه النتيجة ترحيبًا من عامة الشعب؟!
ربما تكون السيناريوهات الأكثر ترجيحًا هي إمّا أن تهدأ الأحداث من دون تنازلات كبيرة من النظام (كما حدث مع الاحتجاجات السابقة)؛ وإما أن تكون هناك إصلاحات طفيفة في مجالات، مثل ضبط قواعد الملبس، والتي ستكون مرضية لمعظم الجمهور، إلى جانب استمرار الوحشية ضد أولئك الذين سعوا إلى تغييرات أوسع. ومع ذلك، من الممكن أن تستمر الاحتجاجات في التصاعد، وهي نتيجة قد تُغرق البلاد في صراع أكبر. كما لاحظ غييرمو تريجو Guillermo Trejo، الذي يبدو دقيقًا في ما يتعلق بأنظمة الشرق الأوسط الأخرى، مثل سورية، فإن “استراتيجية الحوكمة المثالية في الأنظمة الاستبدادية المنغلقة هي مكافأة الموالين، وقمع المواطنين والحركات المستقلة”[20]. إن نواة الموالين القمعيين والمغسولة أدمغتهم تمامًا، الذين يحافظون على النظام الإيراني، لديهم قوة هائلة واستعداد لاستخدامها، والشيء الوحيد الذي يبدو مؤكدًا في الوقت الحالي هو أن الاستبداد في إيران لن يُهزَم بسهولة أو بسرعة، بسبب الاضطرابات المدنية.
[1] –https://cnn.it/3HhMSTg
[2] – See Asef Bayat, Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East (USA: Stanford University Press, 2013): 12.
[3] – Jared Cohen, ‘‘Iran’s Young Opposition’’ , The SAIS Review of International Affairs 26 (2): 2006, pp. 3-14.https://www.jstor.org/stable/26999316
[4] – https://bit.ly/3UDKfyd
[5] – https://iranhr.net/en/articles/5578/
[6] – Council for the Islamization of Universities. (2009). Activities of the Promotion Committee. Retrieved August 13, 2011, from: http://iuec.ir/uploads/14_187_eghdamat%20faliatha.pdf
[7] – Laila Asadi, (2011, August 8). Multiple gender discrimination to restrict female entry to university. Retrieved August 11, 2011, from: http://asre-nou.net/php/view.php?objnr=16650
[8] – Bazarkar. (2011, September 11). Recruiting seven thousand faculty members by 2012. Retrieved August 23, 2011, from: https://bit.ly/3W1pjCm
[9] – Mehr News Agency. (2010, March 16). Emphasis of minister of higher education for confrontation with secularism at universities. Retrieved June 24, 2011, from: http://www.mehrnews.com/fa/ NewsDetail.aspx?NewsID=1052688
[10] – See, for example, Kayhan Barzegar, ‘Iran and the Shiite Crescent: Myths and Realities’ , The Brown Journal of World Affairs 15 (1): 2008, pp. 87-99.
[11] – V. Key, 1961. Public opinion and American democracy (New York: Knopf, 1961), pp.340-41.
[12] – Mahmood Sariolghalam, ‘”The Shia Revival: A Threat or An Opportunity,” Journal of International Affairs 60, no. 2 (Spring/Summer 2007): 205.
[13] – Alexander George, On Foreign Policy: Unfinished Business (Boulder: Paradigm, 2006) , p. 8; Jack Snyder, “Introduction: New Thinking About the New International System,” in Coping with Complexity in the International System, ed. Robert Jervis (Boulder: Westview Press, 1993), pp. 1–23.
[14] – Fred Halliday, Revolution and World Politics, pp. 135, 157. It is worth noting that even Halliday somewhat prematurely predicted the end of the Islamic Republic in Iran in a 1994 article: Halliday, “An Elusive Normalization: Western Europe and the Iranian Revolution,” Middle East Journal 48 (Spring 1994), p. 326
[15] – See Mauricio Rivera Celestino and Kristian Skrede Gleditsch, “Fresh Carnations or All Thorn, No Rose? Nonviolent Campaigns and Transitions in Autocracies,” Journal of Peace Research 50, no. 3 (2013), pp. 385–400; and Erica Chenoweth and Maria J. Stephan, Why Civil Resistance Works: The Strategic Logic of Nonviolent Conflict (New York: Columbia University Press, 2011).
[16] – Adrian Karatnycky and Peter Ackerman, How Freedom Is Won: From Civic Resistance to Durable Democracy (Washington, DC: Freedom House, 2005).
[17] – https://bit.ly/3VHNdCV
[18] – https://bit.ly/3VOMCz
[19] – https://bit.ly/3BlZmFA
[20] – Guillermo Trejo, Popular Movements in Autocracies: Religion, Repression and Indigenous Collective Action in Mexico (Cambridge University Press, 2012) , p. 31.
مركز حرمون
—————————–
تهديد ضعيف: حركة الاحتجاجات في مواجهة صلابة النظام الإيراني
أربكت الحركة الاحتجاجية القيادة الإيرانية التي اتخذت عدة إجراءات فاقمت الوضع بدلًا من السيطرة عليه. ورغم ذلك لا يواجه النظام الإيراني تهديدًا وجوديًّا بفضل تمتعه بقاعدة داخلية من الداعمين المستعدين للدفاع عن بقائه.
المعروف أن شرطة الأخلاق الإيرانية قامت باعتقال الفتاة من أصول كردية، مهسا أميني (أو، جينا أميني، كما تسمى بالكردية)، مساء الثلاثاء، 14 سبتمبر/أيلول الماضي (2022)، بالقرب من محطة مترو الشهيد حقاني بالعاصمة، طهران. طبقًا للمصادر الرسمية، كان عدم التزام أميني بالحجاب هو السبب خلف اعتقالها؛ وهو شأن قانوني بحت، نظرًا لأن إيران أقرت قوانين خاصة باللباس، وفرض الحجاب، منذ 1983، بعد أربع سنوات فقط على انتصار الثورة الإسلامية. وقد ظلت مسألة الحجاب واحدة من أقانيم تعبير نظام الجمهورية الإسلامية عن نفسه طوال العقود الخمسة الماضية من عمر الجمهورية. في 2020، نُقل عن المرشد الأعلى، السيد خامنئي، قوله: “النساء المحجبات بشكل غير مناسب، يجب أن يشعرن بعدم الأمان”.
كانت أميني، التي لم تتجاوز الثانية والعشرين، عند اعتقالها بصحبة شقيقها الذي أُبلغ، بعد احتجاجه على تصرف شرطة الأخلاق، أن شقيقته ستنقل إلى مركز الشرطة لأخذ إفادتها، ومن ثم يفرج عنها. بعد يومين، في 16 سبتمبر/أيلول، أُعلن رسميًّا عن وفاة مهسا أميني. ولم يلبث إعلان الوفاة، الذي لم يُستقبل بأي درجة من التصديق من عائلة الفتاة، أو قطاعات واسعة من الرأي العام الإيراني، أن أطلق حركة احتجاجية واسعة النطاق، لم تشهدها إيران منذ ما عُرف بالثورة الخضراء في صيف 2009. واجهت سلطات جمهورية إيران الإسلامية الحركة الاحتجاجية بقبضة أمنية شديدة، وبعد أن عجزت قوات الأمن عن إخماد حراك المحتجين، سارعت السلطات إلى استدعاء قوات الباسيج، شبه العسكرية.
وجدت الحركة الاحتجاجية مساندة واضحة من المعارضة الإيرانية في الخارج، ومن عدد من الدول الغربية. كما أصبحت مادة لاحتفال وسائل الإعلام الغربية، التي لم تتوقف عن نشر التقارير اليومية عن أماكن الاحتجاج، وصوره، وعن إجراءات القمع التي تنفذها أجهزة الأمن. ولم يكن غريبًا، أن تطلق الحركة، بعد أن تجاوزت شهرها الثاني، التساؤلات حول ما إن كان نظام الجمهورية الإسلامية بات مهددًا.
ارتباك وقبضة أمنية شديدة
ليس ثمة شك، لعدد كبير من الإيرانيين، والدوائر الحقوقية في الخارج، أن مهسا أميني قُتلت على يد شرطة الأخلاق، ولم تمت بصورة طبيعية، أو بمرض مزمن مسبق. نقلت أميني بعد اعتقالها إلى مركز شرطة الأخلاق؛ وتقول نساء كن محتجزات بالمركز للسبب نفسه إنهن شاهدنها تتعرض للضرب والاعتداء بعد أن ردت على عبارات الإهانة التي وجهت لها. والمؤكد، أن أميني نقلت بعد عدة ساعات من مركز الشرطة إلى مستشفى كسرى، الذي وضع على موقعه الإلكتروني خبرًا يفيد بأن الفتاة كانت بالفعل في حالة موت دماغي عندما وصلت المستشفى. ولكن إدارة المستشفى سارعت بعد ذلك، ربما بضغط من جهات حكومية، إلى إزالة الخبر برمته من الموقع.
وزارة الداخلية، التي تولت التحقيق في موت أميني، أعلنت بعد أيام من وفاتها أن ليس ثمة ما يشير إلى أنها تعرضت للتعذيب، مرجحة وفاتها بسكتة دماغية، نجمت ربما عن حالة مرضية سابقة. ولكن أهل الفتاة، سيما شقيقها، قالوا إنهم تعرضوا هم أيضًا لضغوط رسمية للقول بأنها كانت تعاني من مرض مزمن، أشاروا إلى وجود كسور وإصابات في جثمانها. كما أن مجموعة قرصنة إلكترونية حصلت على صورة أشعة للجثمان، أُخذت بعد الوفاة، تكشف عن إصابات في الرأس ونزيف في المخ.
الواضح، بالطبع، أن مقتل أميني أصاب وزارة الداخلية بالارتباك. نقت الوزارة في البداية بأن شرطة الأخلاق ارتكبت خطأ جسيمًا، ولم تأمر بمحاسبة المسؤولين عن موت الفتاة، بل سارعت إلى نشر تقرير إثر تحقيق رأى الكثير من الإيرانيين أنه لم يكن مستقلًّا بأي معيار من المعايير. ثم اعترفت بشكل غير مباشر لاحقًا، بعد ثلاثة شهور على انطلاقها، من خلال قرار تعليق عمل شرطة الأخلاق.
مهما كان الأمر، لم يلبث مقتل أميني أن أطلق ردَّة فعل شعبية واسعة النطاق، كان عمادها في الغالب الشباب والنساء. اندلعت حركة الاحتجاج في البداية في بعض أحياء طهران، وفي مدينة سقز الكردية، مسقط رأس أميني؛ ولكن سرعان ما انتشرت إلى معظم مدن إيران الأخرى، مدن كردية وفارسية وآذرية وعربية وبلوشية. ولأن الارتباك لم يزل سيد الموقف في أوساط النظام، فقد لجأت السلطات إلى الاستعمال المفرط للقوة، حسب تعبير المفوض الأممي السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك. والحقيقة أن سيرة وزير الداخلية، أحمد وحيدي، ترجح منذ انطلاق الاحتجاجات أن يلجأ إلى القبضة الأمنية. وصل وحيدي، الذي يُعرف بتصلبه، إلى وزارة الداخلية بعد تاريخ حافل في الحرس الثوري، وقيادة قوات القدس، ووزارة الدفاع. خلال عمله في الحرس وقوات القدس وُجِّهت له اتهامات بإصدار أوامر اغتيال معارضين إيرانيين في الخارج، وبالمسؤولية عن تفجير الأرجنتين الشهير.
أطلقت قوات الأمن النار على محتجين في الشوارع، حسب منظمة العفو الدولية، وليس في طهران وحسب. كما اقتحمت حرم الجامعات وبيوت نشطين عرفوا بمعارضة النظام، أو تم التعرف عليهم في التظاهرات والتجمعات، ولاحقت محتجين في محطات القطار والحافلات العمومية. مع أوائل ديسمبر/كانون الأول، تخللت الصدامات بين المحتجين وقوات الأمن والباسيج أعمال عنف، وقد أوقعت، طبقًا لمصادر المعارضة ومنظمات حقوقية، ما لا يقل عن 450 قتيلًا، أغلبيتهم العظمى من المحتجين. كما أشارت تقارير إلى أن 26 محافظة، بين المحافظات الإيرانية الإحدى والثلاثين، شهدت سقوط قتلى. كان نصيب محافظة سيستان-بلوشستان، ذات الأغلبية السنية، التي سقط فيها 128 قتيلًا، النصيب الأكبر مقارنة ببقية محافظات البلاد. كما كان عدد القتلى في يوم الجمعة 30 سبتمبر/أيلول، الذي أطلق عليه المحتجون يوم الجمعة السوداء، والذي بلغ 90 قتيلًا، الأكبر منذ اندلعت حركة الاحتجاج.
وقد ذكرت تقارير أخرى أن عدد المعتقلين زاد عن 18 ألف معتقل، بينهم 40 من غير الإيرانيين، يرجح أن أغلبهم من الإيرانيين حاملي الجنسيات الأجنبية، وأن ما يقارب الألفين من المعتقلين قُدِّموا للمحاكمة فعلًا. وكان إمام جمعة زاهدان، مولاي عبد الحميد إسماعيل، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة في إيران، حذر السلطات في خطبة الجمعة 3 ديسمبر/كانون الأول من استخدام قانون الحرابة ضد المعتقلين، الذي يعني الحكم بالإعدام.
الذي تشير إليه جملة هذه التطورات أن الحركة التي أطلقها موت، أو مقتل، الفتاة أميني، قد تحولت بالفعل، وخلال فترة وجيزة، إلى حركة معارضة واحتجاج ذات طابع قومي. يبدو أن ثمة دوائر في النظام حسبت في البداية أن ردود الفعل ستكون محصورة بالمنطقة الكردية، كون الفتاة أميني من أصول كردية، ولكن ما حدث أن الاضطرابات شملت كافة أنحاء البلاد، بما في ذلك مناطق الأغلبية الفارسية والأذرية، والعربية والكردية والبلوشية، وبما في ذلك مدن تعرف بمحافظتها وتقاليدها الإسلامية الراسخة. وعلى الرغم من افتقاد الحركة الاحتجاجية إلى قيادة مركزية، رفع المحتجون في تظاهراتهم، أو كتبوا على الأسوار في الشوارع الرئيسة، شعارات مشتركة: “الموت للديكتاتور”، و”المرأة، الحياة، الحرية”.
هذا ما دفع النظام في 4 نوفمبر/تشرين الثاني إلى تنظيم تظاهرة لأنصاره في العاصمة، طهران، لإظهار المعارضة الشعبية للحركة الاحتجاجية والأهداف التي رفعتها، والتوكيد على أن النظام لا يزال يتمتع بدعم قاعدة شعبية واسعة. ولكن، وبالرغم من أن تظاهرة التأييد كانت حاشدة بالفعل، فقد اعتبرها كثيرون داخل إيران وخارجها مؤشرًا آخر على الخوف والارتباك. وليس ثمة شك في أن تدخل المرشد الأعلى، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي عرف بحرصه على تجنب الخوض في مسائل محل انقسام وطني، وفر دليلًا آخر على شعور النظام المتفاقم بالأزمة. هاجم خامنئي المحتجين بلغة بالغة الحدة، واصفًا إياهم بمثيري الشغب، والعملاء، وتوعدهم بدفع الثمن. كما أشاد خامنئي بقوات الباسيج وتضحياتها لحماية الشعب، واعتبر أن وجود الباسيج في الساحة دليل على أن الثورة الإسلامية بخير.
توالي الحركات الاحتجاجية
لم تكن هذه حركة الاحتجاج الشعبي الأولى ضد قيادة الجمهورية الإسلامية. شهدت إيران حراكًا احتجاجيًا معارضًا واسع النطاق في 1999 وفي 2003، ولكن أحداث يونيو/حزيران-يوليو/تموز 2009 كانت ضخمة بصورة مشابهة للأزمة الحالية، دفعت أحداث 2009 أوساطًا غربية، رسمية وغير رسمية، إلى الاعتقاد بأن النظام الإسلامي في إيران أوشك على السقوط. وما إن أخذت حركة الاحتجاج الحالية في التصاعد والانتشار، لم يكن غريبًا أن تستدعى ذكرى ما عرف في 2009 بالثورة الخضراء، وما مثلته لمصير النظام وعلاقته بشعبه. الحقيقة أن ثمة خلافات جوهرية بين الأزمتين، على الرغم من بعض التشابه.
اندلعت أحداث 2009 على خلفية اتهامات وجهت للنظام بتزييف نتائج الانتخابات الرئاسية، بهدف تأمين فوز مرشح النظام آنذاك، أحمدي نجاد، بفترة رئاسية ثانية. كان أحمدي نجاد، بحساب الأصوات وتوزيعها، سيفوز على أية حال، ولكن حالة من الارتباك والخوف من الخسارة سيطرت على دوائر القيمين على العملية الانتخابية، ودفعتهم إلى التلاعب بصناديق الاقتراع في عدد كبير من المراكز الانتخابية، وبصورة مكشوفة في بعض الأحيان. بمعنى، أن ارتباك السلطات الحاكمة، أو قطاع منها، وذهابها إلى تبني قرارات وإجراءات مثيرة لاستفزاز المواطنين، كان المشترك الرئيس بين أحداث 2009 والأزمة الحالية. بغير ذلك، فليس ثمة مشتركات ملموسة أخرى.
عبَّرت أحداث 2009، التي قادها رئيس الحكومة الأسبق، حسين موسوي، ورئيس البرلمان الأسبق، حجة الإسلام مهدي كروبي، ودعمها رجل النظام التاريخي، حجة الإسلام رفسنجاني، عن انقسام بالغ الحدة في نخبة النظام الحاكمة. وعلى الرغم من مشاركة عناصر سعت إلى إسقاط النظام في تظاهرات 2009، فإن التوجه الرئيس للحركة كان إصلاح النظام وإعادة بنائه وليس إسقاطه. ولأن الحركة اندلعت على خلفية من التدافع على السلطة وقيادة البلاد، ضمت التظاهرات إيرانيين من كافة الأعراق والطوائف، ومن مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، بمن في ذلك ذوو التوجه الإسلامي.
أما الأزمة الحالية، فلم تشهد انقسامًا فعليًّا في النخبة الحاكمة. كان الإصلاحيون أُبعدوا كلية عن مراكز القرار وخسروا معظم مقاعدهم البرلمانية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة. ولكن، وعلى الرغم من أن أصواتًا إصلاحية أعربت عن القلق للطريقة التي تصرفت بها القوى الأمنية مع المحتجين في الشهرين الماضيين، فليس ثمة دعم إصلاحي واضح وصريح للحراك الشعبي. ولأن هذا الحراك يرفع شعارات راديكالية، ويدعو إلى إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، فمن المستبعد، حتى إن شعر الإصلاحيون بالسعادة لتأزم علاقة المحافظين بالشعب، أن تصدر عن الإصلاحيين أصوات مؤيدة للمحتجين.
ولا يقل أهمية في الاختلاف مع أحداث 2009، أن الحراك الحالي لا يزل مقتصرًا، وإلى حدٍّ كبير، على الشباب وطلاب الجامعات. سُجلت مشاركات اجتماعية وعمرية أوسع نطاقًا في بعض المدن والبلدات الكردية والبلوشية والعربية، ولكن الحراك الشعبي في مدن الثقل الإيراني الرئيسة، مثل طهران وتبريز وشيراز وأصفهان، لم يشهد مشاركة الآباء والأمهات، ولا شهد اضرابات للمهنيين وإغلاقًا للأسواق.
هل بات النظام مهددًا؟
الحقيقة، أن الحراك الشعبي الحالي، ومهما طال أمدًا، لا يشكل تهديدًا وجوديًّا لنظام الجمهورية الإسلامية. ومن المستبعد أن يؤدي هذا الحراك إلى انحدار البلاد إلى حرب أهلية مشابهة لما شهدته سوريا، كما توقع البعض. وترجع محدودية أثر هذا الحراك، حتى الآن على الأقل، إلى عدة أسباب:
أولها، بالطبع، أن هذا الحراك لا يزال شبابي الطابع، لم يجد دعمًا وتأييدًا من الشرائح الاجتماعية الأخرى ذات الثقل السياسي والاقتصادي، أو لم يجد مثل هذا الدعم والتأييد حتى الآن. إضافة إلى ذلك، فالمؤكد أن أجهزة أنظمة التحكم والقمع الرسمية لا تزال متماسكة، تمتلك القدرة والإرادة على مواجهة المحتجين في كافة أنحاء البلاد. صحيح أن النظام اضطر إلى نشر قوات الباسيج بعد أن اكتشف عجز قوات الشرطة والأمن الداخلي عن مواجهة المحتجين. ولكن الواضح، أن ليس ثمة دلائل تشير إلى تضعضعٍ ما في ولاء قوات الأمن، ولا في ولاء قوات الباسيج. في المقابل، تظهر هذه القوات تمسكًا صارمًا بالنظام، والتزامًا بالدفاع عنه وعن وجوده.
تتداول أوساط الدراسات الإيرانية تقديرات متفاوتة لتعداد قوات الباسيج؛ والأرجح، على أية حال، أنها تعد بالملايين وليس بمئات الآلاف. وكما في كافة دول الشرق الأوسط التي شهدت ثورات شعبية في العقدين الماضيين، تكشف حركة الاحتجاج الإيرانية عن انقسام حقيقي في صفوف الشعب الإيراني. ولكن، وبخلاف ما شهدته مصر أو تونس، مثلًا، فإن القطاعات الموالية للنظام في إيران تبدو أكثر استعدادًا للتضحية من أجل بقائه واستمراره. وبالنظر إلى أن عشرات الملايين من الإيرانيين ينضوون في أجهزة النظام العسكرية وشبه العسكرية والمدنية، فإن هؤلاء وعائلاتهم يقومون بدور بالغ الحيوية في تعزيز قدرات النظام على الحكم والتحكم، على السواء. بمعنى، أن سيطرة النظام ليست سيطرة فوقية، كما كان عليه الأمر في أواخر عهد الشاه، بل تتخلل مفاصل وأعراق المجتمع الإيراني.
بيد أن ذلك لا يعني أن هذه الموجة من الحراك الشعبي المعارض ستخمد وتنتهي بدون أثر يذكر. الواضح، أن الهوة التي بدأت في الاتساع بين النظام وقطاعات شعبية كبيرة في 2009، تزداد اتساعًا. وأن جيلًا بأكمله من الإيرانيين، أو بالأحرى معظم أبناء هذا الجيل، لم تعد تربطه أية علائق ولاء بنظام الحكم، ولا بقيمه ومقولاته. حاول النظام إقناع الإيرانيين بأن حركة الاحتجاج ليست سوى أداة أجنبية للضغط على الجمهورية الإسلامية وتركيعها، في الوقت الذي تواجه فيه إيران عقوبات وحصارًا غربيًّا.
ولكن، ولإدراك قادة النظام بأن خطاب المؤامرة الخارجية لم يُجْدِ نفعًا، وأن الهوة التي تفصل السلطة عن الشعب آخذة في الازدياد، ذهبوا في النهاية إلى تقديم بعض من التنازلات للحركة الشعبية، أشرنا إليها سابقًا، وهي قرار النائب العام، في 4 ديسمبر/كانون الأول، بتعليق عمل شرطة الأخلاق، وتشكيل لجنة لمراجعة معايير وطرق تطبيق قانون الحجاب.
——————————-
======================
تحديث 14 كانون الأول 2022
————————
3 أسباب لـ«الشلل» السوري و«غضب إيران» أحدها/ إبراهيم حميدي
لا خلاف في أن الأزمة الاقتصادية في سوريا غير مسبوقة. لكن، ما هي أسبابها الفعلية والجديدة؟ ولماذا لا تساهم إيران في حلها كما جرت العادة في العقد الماضي؟ وهل يؤدي إلى «تنازلات سياسية» من دمشق؟
خلال السنوات الأخيرة، قيل أكثر من مرة، إن الأزمة الاقتصادية بلغت «حداً غير مسبوق». لم يكن هذا كلاماً مبالَغاً فيه. كان صحيحاً، كما هو الحال الآن. وبالفعل، غاص السوريون في عمق جديد وهوة سوداء من المعاناة، امتدت في جغرافيا البلاد، خصوصاً في مناطق سيطرة الحكومة وعاصمتها، ومع قدوم فصل الشتاء. أسعار مرتفعة، فقر جاف، لا كهرباء، خبز قليل، مشتقات نفطية نادرة، لا مدخرات، تحويلات خارجية قليلة من المغتربين، وشوارع فارغة إلا من متسولين وباحثين عن الهجرة.
يتحدث البعض حالياً عن «شلل» في دمشق. بلغت الأمور حد أن مؤسسات حكومية باتت تفكر في إغلاق أبوابها أو تقليص ساعات العمل وتمديد ساعات العطل، وخفضت جامعات ساعات التدريس أو أوقفتها، بل إن مستشفيات لها علاقة بالحياة والموت، تخطط لتقليص «ساعات العمل». ولم يكن ما حصل في السويداء وما كتب على وسائل التواصل الاجتماعي من شخصيات سورية بارزة، إلا صرخة معبرة عن العمق الجديد الذي وصلت إليه الأزمة.
– لماذا تفاقمت الأزمة الآن؟
طوال أمد الحرب، عرفت البلاد القصف والهجرة والتهجير والخطف والاختطاف والسجن والفساد وسوء الإدارة والعقوبات الغربية والعزلة السياسية والحصار وندرة المساعدات الخارجية والاستثمارات. هذه كلها أمور ليست جديدة. الجديد، هو ثلاثة أمور ساهمت في دفع سوريي الداخل إلى حافة جديدة، هي:
أولاً، الحرب الأوكرانية؛ إذ إن انشغال روسيا بهذه الحرب قلّص من إمكانيات اهتمامها بسوريا وتقديمها مساعدات، على قلتها، سواء ما يتعلق بالمشتقات النفطية أو الحبوب والمواد الإنسانية. كما أن الحرب نقلت اهتمام الدول الغربية والدول المانحة من سوريا إلى دول أوروبية قريبة منها جغرافياً وإنسانياً. وكان هذا واضحاً في تغير اتجاه المساعدات الإنسانية، وتراجع وفاء الدول المانحة بالتزاماتها بموجب مؤتمر بروكسل للمانحين الذي عقد في ربيع العام الماضي إلى الثلث، مقابل زيادة الدعم العسكري والإنساني للأوكرانيين.
ثانياً، القصف التركي. فالحملة الأخيرة من القصف التركي على شمال شرقي سوريا، ركزت على البنية التحتية للنفط والغاز، لإضعاف أعمدة «الإدارة الذاتية» التي تعتقد أنقرة أنها «كيان كردي» قرب حدودها ويهدد أمنها القومي. يُضاف إلى ذلك، أن دمشق فرضت حصاراً على مناطق نفوذ «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) و«وحدات حماية الشعب» الكردية في حلب، ومنعت إدخال المواد الغذائية، فردت «قسد» بتخفيض أو وقف تزويد مناطق الحكومة بالمشتقات النفطية، علماً بأن «أثرياء الحرب» والوسطاء كانوا يقومون بنقل عشرات الآلاف من براميل النفط الخام والمشتقات النفطية عبر صهاريج من مناطق «قسد» شرق الفرات إلى مناطق الحكومة غرب البلاد.
ثالثاً، غضب إيران وانشغالها. فمنذ 2011، قامت طهران بتقديم كل أنواع الدعم إلى دمشق، من ميليشيات وخبراء ومقاتلين، وأسلحة وذخيرة ودعم عسكري، وخبرات للالتفاف على العقوبات الغربية، و«خطوط ائتمان» لتمويل المواد الغذائية والمشتقات النفطية، والكثير من السفن الحاملة للنفط ومشتقاته. الجديد أن هذا توقف. فالقيادة الإيرانية وعدت القيادة السورية بحاملات نفط ومشتقاته، لكن السفن لم تصل، بل إنها لم تنطلق من إيران. في السابق، كانت السفن تصل إلى السواحل السورية رغم الإجراءات والتوقيفات والملاحقات الغربية. هذه المرة، لم تصل بعد، وتأخرت في الإقلاع (هناك كلام عن سفينة جديدة في الطريق).
طهران مشغولة باحتجاجاتها وتراجع احتمالات توقيع الاتفاق النووي. أيضاً، طهران غاضبة، ودمشق لا تعرف السبب. هل للأمر علاقة فعلا بالتطبيع العربي مع دمشق؟ هل له علاقة بالاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمواقع وأسلحة إيرانية في سوريا؟ هل له علاقة بالتوازنات الداخلية ومراكز القرار في دمشق واتجاهاتها؟
كلها تكهنات، لا جواب واضحاً فيها. وفي موازاة البحث السوري عن تفكيك «اللغز الإيراني»، هناك أسئلة أخرى تُطرح في عواصم غربية: هل ستقود الأزمة الاقتصادية العميقة إلى انهيارات سورية كبيرة؟ هل تسفر عن تنازلات سياسية من دمشق لم تقدمها أوقات نكسات عسكرية حصلت في السنوات السابقة، وتقلص مناطق السيطرة الحكومية؟ هل تسهِّل على دمشق قبول مقاربة «خطوة – خطوة» المعروضة عليها أممياً، أي مقايضة مرونة سياسية داخلية مقابل إغراءات اقتصادية أو سياسية خارجية؟ هل تعزز مواقع مسؤولين سوريين راغبين بالإصلاح والبحث عن حلول من بوابة تنازلات جيوسياسية؟ هل يجد «أثرياء الحرب» من كل ذلك مصدراً إضافياً للفساد وتجميع ثروات جديدة؟
بانتظار ولادة أجوبة واضحة واتجاهات محسومة، نهارات السوريين تزداد قسوة، ولياليهم تزداد سواداً.
الشرق الأوسط
——————————–
لماذا وضعت إيران بيضها في سلّة روسيا؟/ مروان قبلان
لسنوات طويلة كان “عدم الثقة” الملمح الرئيس للعلاقات الروسية – الإيرانية. وحتى وقت قريب، كانت إيران تشكّك في نيات موسكو، وتشكو سلوكها اتجاهها. وكانت روسيا استخدمت إيران وقتا طويلا ورقة مساومة في علاقتها بالغرب، وأيدت جميع قرارات مجلس الأمن المتصلة ببرنامج إيران النووي، بما فيها القرار رقم 1929 لعام 2010، والذي فرض عقوباتٍ شديدة على إيران. وامتنعت روسيا عن بيع إيران أسلحة متقدّمة حتى عام 2016 (ما بعد الاتفاق النووي)، علما أن إيران سددت ثمن بعضها، واضطرّت حتى إلى رفع دعوى ضد موسكو أمام محكمة في باريس طالبت فيها بردّ ثمن الأسلحة ودفع الفوائد. وعندما تدخّلت روسيا في سورية بتشجيعٍ من إيران، صارت إيران تشكو من وجود تنسيق روسي – إسرائيلي ضدّها، تسمح روسيا بموجبه لإسرائيل باستهداف الوجود العسكري الإيراني في سورية. وآخر مناسبة تظهر فيها إيران استياءها من سياسات روسيا نحوها برزت عندما حاولت روسيا ربط موافقتها على إحياء اتفاق إيران النووي في مارس/ آذار الماضي، بإعفاء تجارتها مع إيران من العقوبات الغربية عليها، وقد سبق لوزير خارجية إيران السابق، جواد ظريف، أن اتهم في مقابلته المسرّبة الشهيرة نظيره الروسي، سيرغي لافروف، بمحاولة تعطيل التوصل إلى اتفاق عام 2015 النووي.
وعندما غزت روسيا أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، نأت إيران بنفسها عن الخطوة الروسية، وامتنعت مرتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت إلى جانب روسيا (صوّتت إلى جانبها أربع دول فقط، هي وسورية وبيلاروسيا وإرتيريا وكوريا الشمالية)، لكن هذا كله تغير في شهر يوليو/ تموز الماضي، عندما بدأت الاستخبارات الأميركية تتحدّث عن شحن إيران أعدادا كبيرة من الطائرات المسيّرة إلى روسيا، قبل أن يتطوّر التعاون بينهما، ليشمل إرسال صواريخ بالستية متفاوتة المديات، ولتصبح إيران بذلك مصدر إمدادٍ رئيس للسلاح لروسيا، فضلا عن إرسال مستشارين إيرانيين إلى القرم للمساعدة في التدريب على استخدام طائرات الكاميكازي. وقد اعتبر الاتحاد الأوروبي أن إيران تحوّلت نتيجة ذلك إلى شريك فعلي في حرب روسيا على أوكرانيا (واستطرادا على أوروبا) ويتجه بناء عليه إلى فرض عقوباتٍ قاسية عليها.
السؤال الذي يثير حيرة في عواصم الغرب هو لماذا قرّرت إيران أن تدعم موسكو في حربها على أوكرانيا، وما الذي تجنيه من التحالف مع حليفٍ دأب على بيعها عند كل منعطف، ويتّجه فوق ذلك إلى خسارة الحرب، ولماذا تخاطر إيران بمعاداة أوروبا ودفعها إلى التماهي مع الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، منها؟ لا توجد إجابات قاطعة عن هذه الأسئلة، لكن الأرجح أن إيران قرّرت دعم روسيا، بعد أن فقدت كل أمل بإمكان الاستفادة من موقفها الأولي في حرب أوكرانيا، عندما ظنّت أن حاجة الغرب إلى الطاقة ستدفعه إلى رفع العقوبات عنها. وحصل التغير في الموقف الإيراني على الأرجح بسبب زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الرياض منتصف يوليو/ تموز الماضي، حيث استنتجت طهران أن واشنطن قرّرت اختيار تحالفاتها التقليدية بدلا من الانفتاح عليها. وجاء التعبير عن ذلك في أثناء زيارة الرئيس الروسي بوتين طهران، بعد يومين فقط من قمة الرياض الأميركية – العربية، لحضور قمّة مسار أستانة، وفيها قرّرت إيران تغيير موقفها من حرب أوكرانيا.
قامت الحسابات الإيرانية على الأرجح حول أن خسارة روسيا الحرب سوف يؤثر سلبا عليها، ويسمح بالاستفراد بها لاحقا، في ضوء فشل محاولة حل أزمتها مع الغرب، ومن المحتمل أيضًا أن إيران طلبت، في مقابل دعمها موسكو في أوكرانيا، الحصول على دعم روسي مماثل في سورية يلغي التفاهمات مع إسرائيل، ويؤمن حماية للوجود العسكري الإيراني فيها. وربما تأمل طهران أيضا في الحصول على تعاون روسي أكبر في تطوير صناعاتها الدفاعية، كما تشير إلى ذلك تقارير المخابرات الغربية. وربما لعب اعتقاد طهران أن الغرب، بتأييده الاحتجاجات، ربما يسعى إلى إطاحة نظامها، دورا أيضا في حسم القرار لصالح تحالفها مع موسكو. … مهما تكن أسبابها، الواضح أن طهران وضعت كل بيضها في السلة الروسية وهو أمرٌ لم يسبق أن فعلته، وقد ينطوي على مخاطرة كبرى، تتضح أبعادها خلال الشهور القليلة المقبلة.
العربي الجديد
———————————
======================
تحديث 22 كانون الأول 2022
—————————
السُنّة كطائفة ذات احتياجات خاصة/ عمر قدور
مرّ كتفصيل عابر خبرُ انضمام النساء في إقليم بلوشستان إلى المظاهرات المعادية للحكم الإيراني، بعد خمسة أسابيع من المظاهرات العارمة التي أطلقها مقتل الكردية الإيرانية مهسا أميني. في اليوم الأخير من شهر أيلول، الذي أُطلقت عليه تسمية يوم الجمعة الدامي، قُتل اثنان وتسعون شخصاً في الإقليم بسبب مشاركة “رجاله” في الانتفاضة ضد الملالي التي عمّت إيران، وبرز منذ ذلك الوقت إمام جامع زاهدان بوصفه الشخصية الأبرز للمعارضة.
تأخرت مشاركة نساء البلوش حتى يوم الجمعة الأول من الشهر الحالي، وشوهد للمرة الأولى العشرات منهن يحملن الشعار الشهير: امرأة.. حياة.. حرية. التبرير الذي جرى تداوله للتأخير، ولقلّة المشاركات في المظاهرات، هو كون الإقليم السُنّي محافظاً ما يستبعد المشاركة الواسعة في المطالب التي يتضمنها الشعار. أما انتقاد إمام جامع زاهدان حكمَ الملالي فصوَّبَ على اتهام المتظاهرين بـ”المحاربة”، وهي تهمة عقوبتها الإعدام، وتحاشى الإمام تبنّي مطالب المتظاهرين الخاصة بحريات النساء، وهو ما حاولت السلطة ترويجه على سبيل “الإساءة” له.
إلى جانب كردستان إيران، دفع الإقليم السنّي الضريبة الأضخم من الدماء، واستسهال قتل المتظاهرين فيه أتى استئنافاً لتاريخ من تهميشه من قبل سلطة تعتمد دستوراً يعتبر المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة إلى الأبد. لكن الإقليم يبدو كأنه يستأنف التمييز الممارَس ضده من السلطة، ليتميز بأن من يقود احتجاجاته إمام، ويُفهم أن هذا الأخير لا خلاف له مع الملالي حول حريات النساء، ومعارضته إياهم مصدرها مظالم من نوع آخر. نحن، بعبارة أخرى، إزاء تكريس القناعة بأن السُنّة طائفة ذات احتياجات خاصة، ليس من بينها على الإطلاق المفهوم العميق والواسع للحريات الفردية.
وفق ما سبق، كأنّ هذه سمة أصيلة ومستدامة لدى السُنّة، ويمكن إعادة صياغة ذلك بمختلف العبارات، منها ما نصادفه هنا أو هناك لجهة وجوب مراعاة “المجتمعات السُنّيّة”، ويُفهم من هذه الإشارة وجوب مراعاة حساسياتها تجاه قضايا الحريات. منها أيضاً ما نصادفه هنا أو هناك من النظر إلى الإسلاميين، بمختلف تدرجاتهم، كممثّلين شرعيين للسُنّة، والسائد اعتبار أنهم يحتكرون تمثيل هذه الفئة بحيث لا يجوز لأحد من أبنائها مشاركتهم ادّعاء التمثيل، ما لم يكن منافساً لهم على الأرضية الأيديولوجية نفسها.
من وجهة النظر هذه، ثورة السُنّة لا يمكن أن تكون ثورة حريات، وهي في أقصى أحوالها ثورة لإصلاح أحوال الاستبداد، بما يجعله متناسباً مع تأويل كل جماعة إسلامية للنص الديني. نتحدث بالطبع عن صورة نمطية لا يرفض تعميمها من يدّعون تمثيل السُنّة، ويأتي الرفض غالباً من بعض النخب على خلفية رفض نظرة الغرب “الاستشراقية” التي ترى المجتمعات الإسلامية غير مؤهَّلة للحداثة، ومنها القبول بحرية غير مشروطة للأفراد.
لا يندر لدى البعض ذاته انتقاد ما يراه استشراقاً غربياً، ثم يكون من دعاة مراعاة الخصوصية السُنية عندما لا يكون خطابه موجَّهاً إلى الآخر الغربي. وقد تأتي الدعوة إلى مراعاة الخصوصية من مثقّفين “غير سُنّة” يتعاطفون مع السُنّة كقوم لهم احتياجات خاصة، أو من مثقّفين ذوي منبت سُنّي يرون أنفسهم في مقام النخبة المتفردة بمغادرتها تلك الخصوصية الحتمية لغيرهم.
في الحديث عن الخصوصية، لا يندر عدم التمييز بين جانبين؛ الخصوصية الثقافية والخصوصية الحقوقية. الأولى كما نعلم مركَّبة ومعقَّدة، وغير قابلة للقياس، وتأتي دعوات الحفاظ عليها غالباً مع الخوف من ذوبانها في ثقافات مهيمنة، أي من موقع الإحساس بالضعف والخوف. في الثانية، التي تظهر كاشتقاق بديهي من الأولى، تنص الخصوصية على أن المعنيين قاصرون بالمعنى القانوني، ولا يناسبهم ذلك الشطط الحقوقي الذي يحصل عليه آخرون في ثقافة مغايرة. بحسب هذه النظرة، يترواح الأمر بين محاذير الاستخدام السيء للحرية، وبين كون هذا النوع من “السوء” لا مهرب منه.
الطريق الثالث الذي ينادي به البعض، أو يتمناه، هو كسْرُ تلك الحلقة المفرغة بدخول متدرج إلى الحريات الفردية، مع أولوية مطلقة للحريات الجماعية وفي رأسها الحرية السياسية. ومع أن أولوية الانتقال الديموقراطي ملحّة حقاً في معظم بلدان المنطقة إلا أن فصلها عن قضية الحريات ككل “الفردية منها تحديداً” يظهر في معظم الأحيان كمطالبة بحرية مشروطة، أي على الطرف المقابل من الذين يشترطون للانتقال السياسي مجتمعاً جاهزاً بأكمله لتقبّل كافة الحريات، أو ما صار دارجاً تسميته بالهندسة الاجتماعية. ننوّه هنا بأن فكرة الإجماع على الحريات غير متوفرة في أيّ من المجتمعات الغربية، وشبهة الإجماع مصدرها الحماية القانونية للحريات.
في مثال بلوشستان الذي انطلقنا منه يبرز العامل السياسي كردّ فعل، لا على حكم الملالي فحسب بل على تهميش تاريخي أصاب البلوش من قبل القوميين والإسلاميين. للمفارقة، التعارض مع حكم الملالي هو رد فعل على تمييزهم المذهبي والعرْقي ليس إلا، ولولاه من المرجح أن يكون البلوش من أشد أنصار الملالي، ولا يُستبعد حينها وقوفهم على الضد من انتفاضة باقي الشعوب الإيرانية، ومنها الشيعة الفرس.
نقصد بمثال بلوشستان أن الرابط بين المطالبات السياسية وبين قضية الحريات ليس حتمياً، وإن التقيا في ظرف ما، فضلاً عن أن موقع البلوش كأقلية لم يخرج بهم عن الصورة النمطية السائدة عن السُنّة. وهو ما يعيدنا إلى السؤال عمّا يبدو تسليماً عاماً بأن السُنّة طائفة ذات احتياجات الخاصة، وأنهم غير جاهزين بعد لتقبّل حرية غير مشروطة، وكونهم “غير جاهزين بعد” قولٌ عمره مئة عام، ارتبط في بدايتها بالسؤال عما جعل الغرب يتقدم بينما تأخر المسلمون، ولم يغب نهائياً هذا الربط الذي يجعل من قضية الحريات بضاعة تنافسية أكثر مما هي ضرورة محلية.
واستحضارنا مثال بلوشستان لا يرمي إلى تعزيز تلك الصورة النمطية عن السُنة، بل نرمي إلى مساءلة بديهية أن يكون الإقليم محافظاً اجتماعياً بسبب سُنّيته، وأن تتناقل وكالات الأنباء والصحف هذا التفسير بلا اعتراض عليه، بينما تثور حساسيات دينية أو مذهبية إزاء ما هو أدنى بكثير من هذا التفسير المهين، أكان صحيحاً أو افتراءً. بالطبع لا نرمي أيضاً إلى أي مغزى سلبي باستخدام تعبير “احتياجات خاصة”، وهو يحظى بكامل تعاطفنا في الحقل الفردي، لكن الحال مختلف تماماً عندما يوضع على الضد مما نراه نزوعاً بشرياً أصيلاً إلى الحرية.
المدن
——————————–
إيران: “جنة” مفروضة من النظام يراها الشعب جهنّم على الأرض/ سامر القرنشاوي
كما كل مشاريع الإسلام السياسي، جوهر الجمهورية الإسلامية في إيران خلقُ عالم ٍ، شاء المؤمنون أم أبوا، يكون طريقاً للجنة، أو بمعنى آخر قلب الدنيا سبيلاً للآخرة حسبما يرى أصحاب المشروع ومنظّروه، وفي الحالة الإيرانية، فقهاؤه.
بعد ثلاثة أشهر من انطلاقتها، وعلى الرغم من القمع المطّرد، تتواصل الاحتجاجات في إيران. عدا أحكام إعدامٍ نُفذت بالفعل بحق متظاهرين، نعرف أن أكثر من عشرين آخرين مهددون بالمصير نفسه بناء على اعترافات يتردد أنها انتزعت تحت التعذيب ومن خلال محاكمات يصعب وصفها بـ”العادلة”.
التقديرات الموثقة للقتلى حتى الآن تقارب الخمسمئة، تقديرات أخرى يصعب التحقق منها تصل بالرقم إلى ألف وثمانمائة. الأصوات التي تدعوا للاستماع إلى المتظاهرين، بما في ذلك من الجناح الأكثر اعتدالاً داخل النظام، ممثلاً برئيس الجمهورية الأسبق محمد خاتمي، لم تلق أذناً صاغية، بل حتى الخبر الذي انتشر أن ما يعرف اصطلاحاً بـ”شرطة الأخلاق” قد تم تعليق عملها أو حلها لا يبدو دقيقاً، هذا إذا كان صحيحاً أصلاً. لكن لا غرابة في تصلب مواقف الخامنئي (المولود عام 1939 و الذي شغل منصب المرشد الأعلى منذ عام 1989 ) ، فالمرشد، عبر نزع حق الترشح للإنتخابات من خلال هيئات مختلفة يسيطر هو عليها بحكم منصبه، أقصى بشكل مستمر الأصوات الأقل تشدداً داخل النظام عبر محطات مختلفة كان أبرزها انتخابات الرئاسة عام 2009 التي آمن كثيرون في إيران أنها زوُرت لصالح محمود أحمدي نجاد ضد مير حسين موسوي المحسوب على الجناح المعتدل داخل النظام. لكن أنى لمن يُعتقدُ أنه تجسيدٌ للصواب المطلق بالتخلي عن سبيله؟
يزدي وجنتي: أصوات المنطق الحاكم
مطلع العام 2021 توفي رجل الدين القريب من الخامنئي محمد تقي مصباح يزدي. اليزدي كان معروفاً بولائه لولاية الفقيه، إلى الحد الذي يُنسب إليه قوله أن الولي الفقيه “يُكشف” عنه، وأن انتخابه من قبل مجلس الخبراء (الخاضع فعلياً لرغبات الولي الفقيه) ليس إلا وسيلةً لذلك “الكشف ” (التعبير يذكر بما يقال عن انتخاب بابا الفاتيكان). لذلك ربما غير مستغربٍ أن يزدي صرح في العام 2014 أن الشعب الإيراني “لا يستحق أن يكون له زعيم” مثل آية الله خامنئي الذي تشكل قيادته “نعمة”. فعند يزدي، بحسب مقال منشور له (في موقع شبكة فجر الثقافية ، فبراير/شباط عام 2017) :”ليس هناك أي تفاوت بين ولاية النبي والأئمة المعصومين … [حسب العقيدة الاثناعشرية] وبين ولاية الفقيه، وهذا هو ما يعبّر عنه بـ”ولاية الفقيه المطلقة”. الولي الفقيه، الخامنئي كان أم غيره، إذاً “نعمة إلهية”، فمن ذا الذي يرفض نعمةً إلهية ناهيك أن يسائل أوامرها؟ وفي المقال نفسه يرد يزدي على ما يعتبره خطأ شائعاً: “إنّ تقسيم الحكومة إلى … نوعين : ليبرالي وفاشستي هو مغالطة، إذ أنّ هناك قسماً ثالثاً للحكومة يمكن أن نتصوره ، لا يحكم فيه رئيس الدولة على أساس رغبات وأذواق الناس (الحكومة الليبرالية )، ولا على أساس رغباته وذوقه الشخصي (الحكومة الفاشستية )، وإنّما على أساس رغبة وإرادة الله تعالى، والتبعية للقوانين والأحكام الإلهية، ونظام ولاية الفقيه هو النوع الثالث، وعليه لا يكون فاشستياً. متسقاً مع موقفه هذا، الذي يرى الولي الفقيه ممثلاً لإرادة الله على الأرض، عادى يزدي كل الإصلاحيين داخل منظومة الجمهورية الإسلامية وعلى رأسهم محمد خاتمي، الرئيس الأسبق وموسوي مرشح الرئاسة عام 2009 وغيرهم. بل إنه، وبعد أن كان مؤيداً متحمساً له، عادى بقوة، أحمدي نجاد لأنه خالف الولي الفقيه في أمور. لا مخالفة للولي الفقيه، حتى ولو من رئيسٍ محسوب على تياره المتشدد.
النتيجة هي ما نراه اليوم في شوارع إيران: “جنة” مفروضة من النظام يراها قطاعٌ واسعٌ من الإيرانيين، إن لم يكن غالبيتهم الكاسحة، وبالذات الأصغر سناً منهم، جهنم على الأرض.
يزدي كان مقرباً من خامنئي وكان له دور فكري تنظيري مهم. أما أحمد جنتي (المولود 1927 ) رجل دين محافظ آخر قريب من الخامنئي، وكان أيضاً قريباً من يزدي، فأحد أوسع رجالات النظام نفوذاً (رئيس مجلس صيانة الدستور، الهيئة الأقوى في بينة الجمهورية الإسلامية، منذ 1992 إلى اليوم، بتجديدٍ لست دورات متتالية من الخامنئي ومنذ 2016 رئيس مجلس الخبراء المنوط به اختيار الولي الفقيه، و، نظرياً، مراقبة أدائه). تساءل جنتي عام 2001، في وقت خلافاتٍ مع الإصلاحيين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية آنذاك محمد خاتمي: “ماذا ينقص إيران لتطبيق الأحكام الإسلامية كما تفعل حركة (طالبان) في أفغانستان … النظام الإسلامي عليه مسؤولية أخذ الناس إلى الهداية حتى ولو بالقوة ليضمن لهم آخرتهم يوم الحساب” (طبقاً لمقالٍ منشور في صفحة الاندبندنت العربية للكاتب حسن فحص، شهر يوليو/تموز 2022). الولي الفقيه يمثل الامام المعصوم على الأرض، ويملك صلاحيته وإن لم يكن (أي الولي الفقيه) معصوماً. هذا ما يقوم عليه الدستور الإيراني و”الجمهورية الإسلامية”. الولي الفقيه مشغول بضمان آخرة الناس، شاؤوا أم أبوا، وهو في هذا لا يعبر عن الجمهورية الإسلامية في إيران فقط، ولا عن قرائتها هي للفقه الشيعي الاثناعشري (الخلافية بين فقهاء المذهب) فقط، بل عن الإسلام السياسي كله، سني وشيعي على حد سواء.
في أغنية أصبحت نشيد الانتفاضة الجارية خير تعبير عن الأزمة التي سببها هذا المنطق، منطق جر الناس بالقوة إلى الهداية، حين خلق واقعاً كان الحجاب فيه فتيلاً لحريق يكاد يأكل الجمهورية الإسلامية. من عشرات آلاف التغريدات التي جالت بلاده في خضم الانتفاضة الجارية، نسج الموسيقي الإيراني الشاب شيروان حاجيبور ما أصبح أنشودة هذا الحراك . قُبض على حاجيبور لبضعة أيام ثم أطلق سراحه بكفالة في الرابع من أكتوبر /تشرين الماضي ، لكن أغنيته بقيت الخلفية لجل ما يجري إذ عددت ببلاغة أسباب الحنق على الجمهورية الإسلامية. “براي” (بسبب أو لأجل بالفارسية) موجودة على الإنترنت لحناً وغناءً ونصاً وترجمةً. “الزقزقة” (ترجمة أخرى لtweet) الأهم التي ضَمّنْها حاجيبور في نص الأغنية و الأبلغ في التعبير عن المشهد هي هذا السطر (بالفارسية): “براي إين بهشت إجباري”: “ضد هذه الجنة المفروضة”.
كما كل مشاريع الإسلام السياسي، جوهر الجمهورية الإسلامية في إيران خلقُ عالم ٍ، شاء المؤمنون أم أبوا، يكون طريقاً للجنة، أو بمعنى آخر قلب الدنيا سبيلاً للآخرة حسبما يرى أصحاب المشروع ومنظّروه، وفي الحالة الإيرانية، فقهاؤه. من ثم الهوس بالصورة الأخلاقية التامة التي من أركانها تغطية جسد المرأة، و بينما في ذلك المسعى ذكورية غير خافية، وتجاهل تامٍ لدور الرجل الموازي في “غض البصر” الحاضر بقوة في الفقه، ولنتذكر أن الإسلام السياسي في سياق آخر، تحديداً أفغانستان-طالبان (السنية)، أجبر الرجال على إطلاق لحاهم وعوقب كل من تجرأ على ارتكاب موبقة قص اللحى. قبل السخرية من هذا المنطق تذكر أن خلق صورة مثالية متكاملة للمجتمع، ولو بزيٍ واحد، لا تقتصر على الإسلام السياسي. الشيوعيون في أكثر من بلد، أشهرها الصين تحت حكم ماو زيدونج (ت 1976) ، عمموا ارتداء زيٍ معين كعلامةٍ على الولاء للشيوعية الصينية وقائدها (ما عرف ببدلة ماو)، و الويل لمن لا يظهر الولاء! كذلك الجمهورية الإسلامية، أو على الأقل بعض القائمين عليها، يرون فيما يبدو، في خلع غطاء للرأس تهديداً وجودياً لها. علماً أن الرواية التي بين أيدينا تقول إن الشابة الكردية-الإيرانية مهسا أميني، التي أشعل موتها هذه الإنتفاضة، قُبض عليها فقط لأن حجابها لم يغطِ رأسها كما يجب. رعب الحاكم وثورة المحكومة (ومن ورائها المحكوم) في رمزية الفعل.
الحُكم باسم “الإسلام” وما يرتبط به من سيطرة رجال الدين قائمٌ على فهمٍ للمجتمع لا-تاريخاني بامتياز (أي خارج التاريخ تسجيلاً وتغيراً). المجتمع “النموذجي (الأسوة)” (التعبيران من نص الدستور الإيراني، كما يرد مترجماً للعربية في موقع وزارة الخارجية الإيرانية) الذي تُجبر فيه المرأة خصوصاً على تغطية شعرها والكل عموماً على سلوكٍ مُعين، بل فرض شكلٍ و أزياءٍ محددة، وحيث “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” (مرة أخرى حسبما يخبرنا الدستور الإيراني) من أركان الدولة والمجتمع، التصورُ-الهدف هذا يقوم على إعتقادٍ في مجتمعٍ مثالي يفترض أنه وُجد في التاريخ يوماً ما؛ الصواب هو إعادته للحياة. في الجمهورية الإسلامية بالذات انتهى هذا إلى خلق واقع مبكٍ مضحك كما سنبين، لكن قبل النظر في المُعاصر من الظروف لندقق أولاً فيما يفترض أنه سبق. أي قراءة الأدب والتاريخ العربي والمسلم على التوالي، في قرونهما الأولى، وستجد مئات الأمثلة لمجتمعٍ بشري عادي يختلط فيه الصالح والطالح ، والورِع والفاسق، من ثم، مثلاً لا حصراً، ما بين أيدينا عن زهد وتقوى الحسن البصري وعن (نقيضه) أبي نواس، وما يتواتر عن آل البيت من أقوال وأفعالٍ مثالية وما نقرأ من روايات في ثنايا بعض كتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي مما لا يسمح به أي نظام رقابة اليوم، أو ما يتواتر عن غرام الأمين، أخو المأمون وشريكه في الخلافة العباسية، بالغلمان دون النساء، والوصف نفسه عن الفقيه قاضي المأمون والمتوكل، يحيى ابن أكثم. قطعاً لم تؤيد قيم المجتمع آنذاك سلوكيات كهذه لكنها غضّت النظر عنها، وفرق كبير بين الرضوخ لوجودِ ممارسةٍ مرفوضة ودفعها للإستتار والموافقة عليها، تماما مثلما يوجد فرق شاسع بين السكوت عن وجود ما قد يكون مرفوضاً أو ممجوجاً وقتل كل خصوصيةٍ لمنعه بالإجبار. وهذا بدوره يأخذنا إلى وجه اللاتاريخانية الثاني الأساس من طبيعة الدولة التي يريدها الإسلاميون في إيران وغير إيران.
نظم الحكم والسيطرة التي تعرفها الدول المركزية المعاصرة وصولاً إلى القدرة على الرقابة شبه الكاملة على المحكومين أفراداً وجماعات ظاهرة شديدة الجِدة في التاريخ البشري. فهل من نظّر للأحكام الفقهية (سنياً كان أم شيعياً) منذ منذ بضعة قرونٍ أو أكثر تخيل شرطةً تطارد النساء في الشوارع أو تستوقف المارة أو تجبر الرجال على حلق اللحى أو حتى تتجسس على اتصالات الناس وبيوتهم؟ قطعاً لا، فهذا لم يكن وارداً أو حتى مُتخيلاً.
هذا بدوره يجرنا إلى سؤال ربما يذهب نحو علم الكلام والفلسفة: إن كان المؤمن مُحاسباً على أفعاله ألا يلزم ذلك مساحةً من حرية الاختيار؟ و إن غُيبت هذه الحرية تماماً، كما في جنة الإسلام السياسي المفترضة، فما الحكمة من الحساب؟ هل ولي الأمر، أو الولي الفقيه، وحده هو من سيحاسب وكلنا بعد ذلك براءٌ وإلى الجنة؟ ثم ألا يعني هذا المستوى من التحكم الكامل منظومة شمولية قمعية خانقة باسم الإسلام، لا بد أن يتمرد الناس عليها إن عاجلاً أم آجلاً؟ وعلى “الإسلام” الذي يمنحها الشرعية؟ هل من طريقةٍ للقضاء على الإسلام أمضى من الحكم باسمه؟
الواقع الذي تحقق لا المرغوب الذي تبدد
الأمثلة التي ذكرنا لمجتمعاتٍ مسلمة مبكرة عرفت كل ما هو معتاد في أي مجتمع بشري، قد يرد عليها مؤمنٌ بولاية الفقيه بأنها لم تعرف حكم أئمة آل البيت حسب الاعتقاد الشيعي (الاثناعشري) الصحيح، من ثَم فسادها. فكيف كان حكم الولي الفقيه في إيران؟ في العام 2012، بعد ثلاثة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية وشرطة أخلاقها، شنت هذه الجمهورية الإسلامية نفسها حملةً لمكافحة الدعارة. لم تنه الحملة الأزمة، تقديرات العاملات في الدعارة في طهران وحدها حسب تقارير عديدة تلت هذه الحملة لم يقل أبداً عن عشرة آلاف امرأة، بالرغم من العقوبات الصارمة التي توقعها الدولة على كل متورطٍ ومتورطة في هذا النشاط . علماً أن هذه الأرقام لا علاقة لها بالزواج المؤقت، أو زواج المتعة، الذي يحلله فقهاء اثناعشريين وتقبله الدولة في إيران وإن انتقده بعض رجال الدين من المذهب نفسه كغطاءٍ لممارساتٍ غير مقبولة. و من أشهر من قُبض عليه داخل بيتٍ للدعارة، في عهد الرئيس الأسبق نجاد، رئيس شرطة طهران، تحديداً عام 2008. أما بالنسبة للخمور فالصورة ليست أفضل. في العام 2012 أيضاً أصدرت وزارة الصحة في الجمهورية الإسلامية تحذيراتٍ من تفشي ظاهرة إدمان الكحول بالرغم من أن أي تعاملٍ مع المشروبات الكحولية مُجرّمٌ ويُعاقب عليه. في عام 2015 افتتحت وزارة الصحة 150 مركزاً في مختلف أنحاء البلاد لعلاج إدمان الكحول. ولأن غرام الإيرانيين التاريخي بالخمر لا طرق قانونية لإرضائه يعتمدُ الاستهلاكُ الواسع للكحول على مصدرين: التهريب والإنتاج المحلي (غير المراقب طبعاً)، الأول الآتي عبر حدود البلاد الغربية تجارة تقدر بعشرات الملايين من الدولارات سنوياً، والثاني يتسبب في العديد من حالات التسمم والوفاة سنوياً (حسب تقرير نشرته مجلة Atlantic Monthly الأمريكية، مبني على مصادر طبية في المستشفيات الإيرانية في 27 مارس/ آذار 2020 خلال الشهرين السابقين فقط على النشر، ومع بدء وباء كوفيد-19 بلغت حالات التسمم بالكحول 2197 حالة توفى منهم 214). علماً أننا لم نذكر الفساد في تركيبة الجمهورية الإسلامية الذي لا تنتهي الروايات عنه. إذاً، بعد أربعةِ عقودٍ من حكم الجمهورية الإسلامية، لم ينجح فرض فضائل الأخلاق بالقوة.
قبضة حديدية على أساسٍ مهزوز
الطريق الذي ارتآه الرئيس الحالي، الفقيه، والقاضي السابق، إبراهيم رئيسي، لإصلاح الأمور لم يكن إلا المزيد من الإجبار، وكأن الاستمرار فيما فشل سبيلٌ للنجاح، و في هذا اتفاق مع تاريخ رئيسي نفسه وخلفيته، ومع الخط الذي أكد عليه مؤسس الجمهورية الإسلامية واستمر عليه مرشدها الحالي. الرئيس الحالي للجمهورية الإسلامية (ومن ثم الرجل الثاني فيها بعد المرشد الأعلى) محسوبٌ على الجناح المتشدد في الجمهورية الإسلامية. ولد أواخر عام 1960 لأحد رجال الدين في مشهد و انضم في سنٍ مبكرة إلى قضاء الجمهورية الإسلامية الوليدة وترقى فيه بسرعةٍ شديدة. بعد توليه منصب المدعي العام في مدينة كرج غرب طهران، في عام 1989 تولى منصب المدعي العام في طهران (قبل أن يتم ثلاثين عاماً). الفترة والدور الأهم ربما في حياة رئيسي كانت في 1988 حينما تولى مع ثلاثة قضاة آخرين النظر في ملفات آلاف المعتقلين السياسيين بعد محاولة من منظمة مجاهدي خلق، التي كانت متمركزةً في العراق، غزو البلاد من الغرب. القضاة الأربعة عُرفوا لاحقاً بلجنة الموت، تقديرات من تسببوا في إعدامهم تتخطى الخمسة آلاف في أقل تقدير. لم تحقق الجمهورية الإسلامية أبداً في أحكام هذه اللجنة لكن قراراتها التي تكاد تكون إبادةً جماعية تؤشر إلى الطريق الذي أوصل الجمهورية الإسلامية إلى حيث هي اليوم. ممن أعترضوا بشدة على هذه الإعدامات، وكان هذا قبيل وفاة الخميني، نائبه والرجل الثاني في النظام آنذاك، حسين علي منتظري. كان الجدل حاداً في هذا الأمر ما أدى إلى الإطاحة بمنتظري من نيابته للمرشد الأعلى، ومن ثم من موقعه كخليفةٍ منتظر للخميني، وحل مكانه رئيس الجمهورية آنذاك: علي خامنئي. بين إرث الخميني والرجال الثلاثة: منتظري، خامنئي، ورئيسي، وأفكارهم ومصائرهم نرى الدرب الذي سارت عليه الأمور. علماً أن الجمهورية الإسلامية تبقى “متفوقةً” على أي بلدٍ في العالم في عدد الإعدامات بالنسبة إلى عدد السكان (تتفوق الصين كعددٍ مطلق لأحكام الإعدام المنفذة).
خلاف منتظري مع الخميني امتد من رفضه الإعدامات بالجملة إلى اعتقاده بضرورة رد شرعية الجمهورية الإسلامية، ولو جزئياً، إلى الناس لا استمدادها فقط من ولاية الفقيه وكونه نائباً عن الامام (الثاني عشر والأخير، المعصوم، والغائب). أزمة الإطاحة بمنتظري واستبداله بخامنئي استدعت أزمةً اخرى. المعتاد أن كل اثنا عشري ملتزم يتبع مرجعاً حياً للتقليد: فقيهاً بلغ مرتبة الاجتهاد وتمكن منها. طبقاً للدستور الإيراني آنذاك كانت حيازة مقام المرجعية الفقهية وقدراتها، الدرجة الأعلى بين رجال الدين الاثناعشرية ، شرطاً لشغل منصب الولي الفقيه ساعة وفاة الخميني، وبسبب افتقاد خامنئي لهذا المؤهل الأساس، شغل المنصب بصفة مؤقتة حتى تم تعديل الدستور لإزالة هذا الشرط وبعدها ثُبت مكانه، لكن خامنئي “نودي” به مرجعاً عام 1994. كفقيه إذاً، لم يحظ خامنئي لا بمكانة الخميني ولا منتظري، وإلى اليوم يبقى إدعائه المرجعية محل خلاف. علماً أن المرجع الأوسع اتباعاً في العالم الاثناعشري اليوم هو السيستاني (الإيراني الأصل المقيم في العراق). الخامنئي افتقد مكانة وشخصية سلفه (الخميني)، وكذا مكانته العلمية، وبدلاً من التحلي بالمرونة السياسية التي يفترض أن يدفعه هذا لها ازداد تصلبه، هو والنظام مع الوقت وسط عالم يتغير سريعاً. والنتيجة هي ما نراه اليوم في شوارع إيران: “جنة” مفروضة من النظام يراها قطاعٌ واسعٌ من الإيرانيين، إن لم يكن غالبيتهم الكاسحة، وبالذات الأصغر سناً منهم، جهنم على الأرض.
درج
—————————–
العقوبات الأميركية… هل نجحت في نبذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟/ كريم شفيق
وتصاعدت وتيرة العقوبات، الأمر الذي بات حدثاً عادياً. لكن هل نجحت العقوبات، سواء الأميركية أو الغربية، في إحداث تغييرات لتعديل سلوك طهران السياسي أو الإقليمي أو الحقوقي، أو حققت أهدافها في جعل نظام “آيات الله” منبوذاً؟
مع تنامي الاحتجاجات في إيران، وظهور القمع الممنهج، بما فيه عقوبة الإعدام، التي تم توظيفها سياسياً، عادت العقوبات الأممية إلى الظهور مجدداً.
غير أنّ هذه العقوبات بحق مسؤولين وكيانات اقتصادية إيرانية تثير أسئلة كثيرة حول مدى فعاليتها وتأثيراتها.
قد اتسع بالفعل نطاق العقوبات الأميركية على إيران مع سياسة “الضغط القصوى” التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب، لتشمل أكثر من 900 كيان وفرد.
فمنذ نجاح الثورة الإيرانية، عام 1979، والتي اصطدمت سياسياً، بصورة مبكرة، مع الولايات المتحدة على خلفية احتجاز رهائن في السفارة الأميركية في طهران، بواسطة طلاب إسلاميين، فرضت إدارة الرئيس الأميركي حينذاك، جيمي كارتر، أولى العقوبات على النظام الإيراني. ونجم عن ذلك تجميد قرابة 8.1 مليار دولار من الأصول الإيرانية، بما فيها الودائع المصرفية والذهب وممتلكات أخرى.
وبينما رُفعت أجزاء من هذه العقوبات على طهران، مطلع عام 1981، إثر اتفاقات الجزائر، والتي نجحت في إنهاء أزمة الرهائن، فإنّ الإدارات الأميركية المتلاحقة لم تكف عن الاستعانة بسلاح العقوبات، مرة، بسبب الموقف من أنشطة إيران الإقليمية، وكذا التهديدات العسكرية، تحديداً في الخليج والملاحة الدولية، ومرات أخرى، بسبب مشاريعها النووية والتسليحية.
وتصاعدت وتيرة العقوبات، الأمر الذي بات حدثاً عادياً. لكن هل نجحت العقوبات، سواء الأميركية أو الغربية، في إحداث تغييرات لتعديل سلوك طهران السياسي أو الإقليمي أو الحقوقي، أو حققت أهدافها في جعل نظام “آيات الله” منبوذاً؟
وفي ما يبدو أنّ النظام في طهران، الذي يعتبر العقوبات بمثابة “حرب نفسية”، يبدو وكأنه يمتص، كل مرة، هذه الضربات المتلاحقة والمتراكمة، برغم ما تشير إليه الحقائق والأرقام الاقتصادية من خسائر هائلة في الكثير من القطاعات المالية المرتبطة بالطاقة. فضلاً عن المؤسسات الحكومية، ومنها مكتب المرشد ووزارة النفط والدفاع والاستخبارات والأمن الوطني والبنك المركزي والحرس الثوري، أو شبه الرسمية (وغير الحكومية) التابعة للمرشد الإيراني، مثل لجنة تنفيذ أمر الخميني، مؤسسة العتبة الرضوية المقدسة، مؤسسة المستضعفين للثورة الإسلامية (بنياد).
ومن بين تداعيات العقوبات الأميركية، غير المسبوقة، على الاقتصاد الإيراني، في فترة دونالد ترامب، تدني مستوياته عام 2020 إلى نحو 4.99 في المئة. ووفق وزارة الخارجية الأميركية، فإنّ صادرات النفط الإيرانية انخفضت بالتزامن مع إعادة فرض العقوبات على خلفية انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق النووي. وقد تم سحب 1.5 مليون برميل من النفط الإيراني من السوق، والذي كبد طهران خسائر بمليارات الدولارات (لا تقل عن 30 مليار دولار في اليوم).
كما نرى مع الدول الأخرى التي تواجه عقوبات (فنزويلا، كوبا، إيران…)، فإنّها تؤثر سلباً في المواطنين بسيناريوهات مختلفة، نتيجة انخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم، ونقص السلع الأساسية، وفق الأكاديمي الأميركي في جامعة فلوريدا إرك لوب.
ومع ذلك، لا يبدو أنّ هذه العقوبات تؤثر، بشكل فعال، في النخب السياسية أو النظام المستهدف، يقول لوب لـ”درج”.
ويردف: “في حالة الدول الغنية بالنفط، على وجه الخصوص، تستطيع النخب السياسية الحاكمة البقاء على عائدات تصدير السلع الأساسية، وعمليات التهريب، وغسيل الأموال. فضلاً عن الوسائل أو بالأحرى الحيل الأخرى”.
وبينما تفرض الولايات المتحدة ودول غربية أخرى عقوبات على إيران، فإنّها تصدر النفط والسلع الأخرى إلى دول داخل المنطقة وخارجها، بحسب لوب. فمن خلال وسطاء إقليميين ودوليين تسمح لإيران بالتفلت من العقوبات، مثل فنزويلا والصين. حتى لو كان ذلك مصحوباً بخسائر ربما لن تكون موجودة، لو لم تكن هناك عقوبات.
إذاً، ظلت العقوبات سلاحاً في مواجهة أنشطة إيران الإقليمية، كما حدث في عهد الرئيس الأميركي، رونالد ريجان، والذي حظر الأسلحة عام 1983، على خلفية الحرب العراقية- الإيرانية. ثم كان تصنيف إيران، للمرة الأولى، “دولة راعية للإرهاب”، بعد الاعتداء على ثكنات مشاة البحرية الأميركية في بيروت.
من بين تداعيات العقوبات الأميركية، غير المسبوقة، على الاقتصاد الإيراني، في فترة دونالد ترامب، تدني مستوياته عام 2020 إلى نحو 4.99 في المئة.
وتزامنت العقوبات في فترة الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، مع تصعيد إيران النووي. وفي منتصف التسعينات قام كلينتون بحظر التجارة الأميركية والاستثمار في إيران.
ويكاد الموقف الأميركي لم يتراجع في الفترات اللاحقة، بل دخلت العقوبات مرحلة “العقوبات الشاملة”. ودشن باراك أوباما في تموز/ يوليو 2010 “قانون العقوبات الشاملة ضد إيران والمحاسبة والتجريد من الممتلكات”. وقد وافق عليه الكونغرس، ليصبح قانوناً نافذاً. وتهدف إلى الضغط على إيران للاستجابة للمفاوضات النووية. وبينما استهدف القانون قطاع الطاقة الإيراني، والمؤسسات المالية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، ووكالاته.
راهناً، أدرج الاتحاد الأوروبي، عقوبات بحق 20 مسؤولاً وكياناً إيرانياً، بينها مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، في قوائم العقوبات ضد طهران.
وذكر الاتحاد الأوروبي في بيان، أنّ العقوبات الجديدة تستهدف المتورطين في التعامل “العنيف” مع الاحتجاجات المندلعة في إيران منذ مقتل الشابة الكردية الإيرانية، مهسا أميني. فضلاً عن مساعدة روسيا بالطائرات المسيرة في الحرب بأوكرانيا.
إذ أوضح البيان إدراج 4 أفراد و4 كيانات إيرانية إلى قائمة العقوبات المتعلقة بالحرب في أوكرانيا.
وتتضمن العقوبات تجميد الأصول وحظر السفر إلى الاتحاد ومنع الأموال أو الموارد الاقتصادية عن المدرجة أسماؤهم في القوائم.
وعليه، شدد الاتحاد الأوروبي، على ضرورة وقف (إيران) نشاطات زعزعة الاستقرار الإقليمي السياسية والعسكرية.
فيما دعا الاتحاد الأوروبي بوقف “الأعمال ومحاولات تهديد أمن وحرية الملاحة والطرقات البحرية في منطقة الخليج”.
وكان جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، قد أعلن أن التكتل سيتفق على حزمة عقوبات “صارمة للغاية” بحق إيران.
وتابع: “سنقر حزمة عقوبات صارمة للغاية”. وقال: “سنتخذ أيّ إجراء بمقدورنا لدعم الشابات والمتظاهرين السلميين”.
وبسؤال الأكاديمي العراقي المتخصص في الدراسات الدولية والعلوم السياسية، مثنى العبيدي، عن الآليات والاستراتيجيات التي تتبعها طهران لتفادي هذه العقوبات الأممية، فيجيب: “للعقوبات الأميركية على إيران تأثير كبير على مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وغيرها. وصحيح هذا التأثير قد لا يبدو ظاهراً على النظام السياسي. بل وتحاول مؤسسات وشبكات هذا النظام إخفاء هذا التأثير”.
لكن، في الواقع، القطاع الاقتصادي والصناعي في إيران قد تحمل كل منهما “العبء الكبير” جراء هذه العقوبات، وفق العبيدي لـ”درج”. ويردف: “إيقاف بيع تصدير النفط الإيراني للخارج، ومغادرة الشركات الدولية المستثمرة، وارتفاع التضخم وتراجع أسعار العملة المحلية، وتزايد البطالة والفقر، نجم عنهم تنامي السخط الشعبي إزاء النظام وسياساته. وكلها أمور تشير إلى مدى تأثير العقوبات الدولية في إيران”.
وفي مجال تخفيف وطأة العقوبات عن إيران، عمدت الأخيرة إلى انتهاج عدة طرق، منها الاستفادة من علاقاتها مع الصين والهند لتصدير النفط، والتعامل مع الشركات الدولية الصغيرة، وتجنب الشركات الكبيرة والمعروفة لتفادي تعرضها للعقوبات، كما تعتمد إيران سياسة تهريب النفط عبر ناقلات بحرية أجنبية، يقول العبيدي.
واعتمدت إيران تفعيل شبكة علاقاتها الإقليمية لجهة ضمان بقاء منافذ اقتصادية لها، كما الحال مع العراق. إذ تقوم طهران بالتبادل التجاري المفتوح مع العراق حتى أمست الأخيرة السوق والحديقة الخلفية التي تعد بمثابة “الرئة الاقتصادية” التي تنقذ الاقتصاد الإيراني. ويضاف إلى ذلك تركيا التي تمثل، هي الأخرى، منفذاً لبيع النفط الإيراني مع العراق بطرائق غير مباشرة.
تتفق والرأي ذاته، الباحثة في شؤون الصراع وبناء السلام بجامعة بغداد، آية غانم، والتي تقول إنّ العقوبات تؤثر، بشكل سلبي، في الكثير من المجالات تجاه أيّ دولة، لا سيما إذا كانت موارد هذه الدولة تعتمد على مصدر رئيسي مثل النفط.
وربما، النظام السياسي في معظم الدول التي تفرض عليها العقوبات لا يتأثر، بشكل واضح، من العقوبات على مستوى استقراره، بحكم أنّ النظام السياسي لديه الموارد التي يمكن أن يوظفها في سبيل خدمة بقاءه كمؤسسة سياسية، وفق غانم لـ”درج”. بينما من يتأثر بالعقوبات هو “المواطن. ولنا تجربة في العراق أثناء العقوبات الدولية بين عامي 1991-2003”.
وفي حين انخفضت موارد الدولة في إيران، وقد تراجعت قيمة العملة المحلية، بما أدى لتدني الأوضاع الاجتماعية، فإن إيران ركزت، مثلاً، على الصناعات العسكرية، والتي تمنحها الأولوية باعتبار أنّ الأمن هو العامل الأهم في سياستها الخارجية كونها لا تزال تملك علاقات صراعية وتنافسية مع واشنطن، وتعيش وسط بيئة مضطربة. هذه البيئة تفرض عليها أن تتجه لتعزيز عناصر الأمن على حساب العناصر الأخرى.
وتلمح الباحثة في شؤون الصراع وبناء السلام بجامعة بغداد إلى أنّ أميريكا لا ترغب بانهيار إيران مرة أو دفعة واحدة وإنّما تنخرها بشكل بطيئ.
وتختم: “استفادت إيران من التنافس الأميركي- الصيني والأميركي- الروسي في تقليل أثر العقوبات. فضلاً عن حاجة تركيا والعراق للغاز الإيراني. فحجم التجارة العراقية- الإيرانية قد أنعش السوق الإيراني. هذا التنوع في مصادر الدخل والتركيز على العلاقات التجارية وتقوية العلاقات مع الحلفاء، مثلاً، تجارة السيارات أو تجارة مواد زراعية أو تجارة طائرات مسيرة أو تصدير الغاز أو تصدير كهرباء، ساهم في تسريب فعالية العقوبات”.
————————–
إيران بين تخبط النظام وثورة الشارع!/ هدى الحسيني
في الشهر الماضي أشرت إلى زيارة قام بها علي لاريجاني وشقيقه إلى مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي بحضور نجل المرشد مجتبى، وقد أفتى المرشد بضرورة إنزال أشد العقوبات على المتظاهرين بما فيها الإعدام. وقد رددت الصحف الإيرانية المتشددة فتوى المرشد ونشرت صحيفة «كيهان» في عناوينها الرئيسية «يجب تنفيذ الإعدامات من دون تردد». وقد ساء هذا نهج كثيرين من أركان النظام الأكثر اعتدالاً وقاطعوا الاجتماعات التي دعا إليها الرئيس إبراهيم رئيسي والتزموا منازلهم احتجاجاً على ما تقوم به السلطة القمعية من تنكيل وقتل.
وكان الرئيس الإيراني أمر قوى السلطة بقيادة بور محمدي بقمع المتظاهرين بلا رحمة ولا هوادة، وقد أعلنت منظمة «هيومن رايتس واتش» عن اعتقال أكثر من 8000 شخص من المتظاهرين وعائلاتهم، ومن يشك في تعاطفهم مع الانتفاضة. وقالت المنظمة إن عدد القتلى ممن سقط برصاص الباسيج بلغ حتى بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) 237، بينهم أطفال ونساء. وقد تم إعدام مجيد رضا زهنود في سجن مشهد المركزي وإعدام محسن شكاري في طهران. كما أعلن عن وفاة ناشطة في منظمة حقوق المرأة اسمها إيدا رستمي كانت تقدم مساعدات طبية لجرحى التظاهرات وأعلن أن سبب وفاتها كان سقوطها من مبنى وارتطامها بالأرض. وأعدمت مصممة أزياء اسمها ريحانة ملايري قدمت عروضاً لأزياء نسائية غير مطابقة لتعليمات نظام الملالي، وقد تم تلفيق تهمة قتل ضدها وأعدمت من دون محاكمة. وكان تم إعدام بطل الملاكمة علي المطيري في خوزستان بعد تصديه لقوة من الباسيج اقتحمت منزله. يذكر أن المطيري مثل بلاده في الألعاب الأولمبية في كوريا الجنوبية. وقد استمر النظام بقطع الإنترنت عن كامل الأراضي الإيرانية وأصبح التواصل مع العالم الخارجي وبين المناطق الداخلية محصوراً بتسجيلات صوتية تنقل صورة ما يحدث كما كان الأمر في ثمانينات القرن الماضي. وقد تم استدعاء سفراء إيران إلى فرنسا وأستراليا والدنمارك لتبليغهم شجب ما يحدث وطلب التوقف عن ممارسة القمع والقتل والاعتداء على حقوق الإنسان. كما صرح ناطق باسم الخارجية الصينية بأن الوضع الإيراني غير مستقر ويدعو إلى القلق. والموقف الصيني أثار حفيظة النظام الإيراني الذي راقب بقلق المشاريع الموقعة بين الصين والمملكة العربية السعودية، كما أثاره الموقف البريطاني فأرسل عملاءه يكتبون على جدران السفارة البريطانية في طهران اساءات مثل: وكر الجواسيس. وقد ساعد إيرانيون شبان وصبايا السفير البريطاني سايمون شركليف على إزالة هذه العبارات.
وفي معلومات نقلتها مصادر دبلوماسية غربية قيل إن إبراهيم رئيسي حصل على تفويض من المرشد علي خامنئي بتسلم كل صلاحياته عند الحاجة لأسباب صحية تمنعه من ممارستها، وقد أودع المرشد نسخة عن التفويض مع نجله مجتبى. ومن المعلوم أن صحة المرشد غير جيدة وهو يعاني من سرطان متقدم وغير قابل للعلاج. وقد أبدت المصادر الدبلوماسية قلقاً كبيراً من الصلاحيات المطلقة لإبراهيم رئيسي الذي قام أثناء رئاسته لجهاز القضاء بإعدام الآلاف بسبب معارضتهم لنظام الملالي. وكشف رجل الدين علي منتظري في مذكراته أن إبراهيم رئيسي الذي ترأس لجنة «الموت الرباعي» أشرف على إعدام 3800 شخص، وقد استحق بموجب ذلك لقب «قاضي الإعدامات».
تمتلئ الشوارع في عشرات المدن الإيرانية بالغاضبين في الاحتجاجات الشعبية التي استمرت بالفعل لفترة أطول بكثير من تلك التي حدثت في عامي 2009 و2019.
وتدعو أعداد كبيرة من الإيرانيين إلى إطاحة رجال الدين الاستبداديين الذين يحكمون البلاد. «المرأة، الحياة، الحرية» هي صرختهم، وإطاحة نظام علي خامنئي هدفهم.
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يرفض بطبيعة الحال المتظاهرين: «علينا أن نفصل بين الاحتجاج الشرعي وأعمال الشغب»، وقال إن «الخط الأحمرللجمهورية الإسلامية هو حياة الناس وممتلكاتهم».
لكنه يعرف بالتأكيد، كما كتب أحد المراقبين، أن المظاهرات هي «أخطر تهديد للجمهورية الإسلامية منذ الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات». ويظهر رد النظام القاسي أنه يؤمن بهذا التقييم.
يسعى النظام في إيران إلى المزيد من عمليات الإعدام لمعاقبة المتظاهرين، لكن الإيرانيين صامدون. لا يزال اسم مهسا أميني على شفاههم ولا تزال ذكرى مئات القتلى الآخرين – وكثير منهم لم تُذكر أسماؤهم – في قلوبهم.
جاءت الاحتجاجات في أفضل الأوقات وأسوئها. الأفضل، لأن ثيوقراطية خامنئي، الذي يحكم منذ عام 1989، بغيضة عندما يتعلق الأمر بالمرأة واحترام حقوق الإنسان بشكل عام.
تم دعم الاحتجاجات بأعمال جريئة لم يسبق لها مثيل من قبل – مثل اختراق التلفزيون الحكومي الذي يظهر صورة لخامنئي تلتهمها النيران، ورفض المنتخب الوطني الإيراني لكرة القدم غناء النشيد الوطني في مباريات كأس العالم في قطر، وانتقاد النظام من قبل لاعب كرة قدم كردي في إيران، تم اعتقاله.
تستحق الاحتجاجات الدعم العالمي، وقد دعمتها إلى حد كبير جميع الحكومات الديمقراطية تقريبا.
وسمح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإنشاء آلية لتقصي الحقائق بهامش واسع 25 مقابل 6، مع امتناع 16 عضوا عن التصويت. وقال رئيس المجلس، فولكر تورك: «نحن الآن في أزمة كاملة في مجال حقوق الإنسان».
وذكرت التقارير الصحافية أن النظام سيحل شرطة الأخلاق، ولكن من الصعب تصديق ذلك. من المؤكد أن خامنئي يدرك التحذير الشهير لأليكسيس دي توكفيل: «أخطر لحظة على حكومة سيئة هي عندما تبدأ في إصلاح نفسها».
إنه أيضا أسوأ الأوقات، بسبب دعم الولايات المتحدة للمتظاهرين، كما أن دعم الاحتجاجات يضع المحادثات النووية على المقعد الخلفي، وربما لا يتم إحياؤها أبدا. على كلٍّ يوم الاثنين الماضي التقطت الكاميرا الرئيس الأميركي جو بايدن وهو يعترف بأن الاتفاق النووي الإيراني «ميت». في إشارة واضحة إلى أن واشنطن تخلت سراً عن آمال استعادة الاتفاق.
من جهتها، ذكرت وسائل الإعلام الغربية بشكل غير دقيق أن النظام الإيراني ألغى دوريات شرطة الأخلاق في 4 ديسمبر (كانون الأول).
في الواقع لم يقدم النظام مثل هذا التنازل. أساءت الوسائل الغربية تفسير تصريحات المدعي العام محمد جواد منتظري في 3 ديسمبر.
منتظري وردا على سؤال صحفي أشار إلى أن قوات الأمن خفضت دوريات شرطة الأخلاق في الأشهر الأخيرة، وهو بيان صاغته بعض وسائل الإعلام الغربية عن طريق الخطأ على أنه تأكيد على أن النظام ألغى الدوريات. أوضحت وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية في وقت لاحق أن منتظري أقر فقط بانخفاض الدوريات، بدلا من الإعلان عن إنهاء دورها. ولم يشر أي مسؤول إيراني آخر إلى أن النظام أنهى الدوريات.
من المرجح أن ينظر خامنئي إلى أي إصلاح من هذا القبيل على أنه براغماتية مؤقتة لضمان بقاء النظام. جادل خامنئي باستمرار بأن النظام لم يؤدلج عقول الناس بعد بما فيه الكفاية، ويصر على أن التلقين العقائدي الاجتماعي هو الحل الحقيقي للعديد من مشاكل إيران.
إن فكرة أن النظام في عهد خامنئي سيخفف من سياسات مثل الحجاب الإلزامي تتعارض بشكل أساسي مع رؤيته للمستقبل التي ترفض الإصلاح.
لا شك أن النظام الإيراني يتخبط وهو لا يستطيع استيعاب أن القمع والقتل لن يجديا في ظل أوضاع اقتصادية عالمية خانقة تهدد دولاً أكثر تطوراً واستقراراً، فكيف بإيران التي تعاني من ويلات العقوبات المستمرة منذ عقود والتي لم يواكب نظامها تطلعات الشعب وبالأخص الشباب.
فالمنتفضون لن يتوقفوا لأنه لا أمل لديهم بوجود نظام متحجر لا يؤمن الحد الأدنى من تطلعاتهم، ومع استمرارهم سيستمر إبراهيم رئيسي بأداء دور قاضي الإعدامات كما فعل من قبله كل الطغاة، وفي النهاية سينهار النظام. وقد يسرّع رحيل المرشد بتغيير النظام وعندها يكون انتقاله إلى أجله المحتوم رحمة للشعب الإيراني الذي تحمل الكثيرعلى أيدي الملالي. على كل أعلنت مجموعات من الشباب عن تشكيل منظمة شاملة «تحالف شباب الأحياء». ذكر التحالف أن أهدافه هي «تنسيق التخطيط لدفع الثورة إلى النصر وكذلك إنشاء البنية التحتية اللازمة لإدارة شؤون البلاد خلال الفترات الحرجة من انتقال السلطة». هناك كثير من عدم الوضوح في مستقبل النظام الإيراني ومستقبل إيران كدولة موحدة!
الشرق الأوسط
————————-
هل يمكن لإيران عدم مواكبة انفتاح جوارها ؟/ روزانا بومنصف
يعتقد مراقبون دبلوماسيون أن الانفتاح الخليجي على حوادث عالمية، والسعي الحثيث، ليس إلى المشاركة فيها فحسب، بل إلى استضافتها مع ما يستدرجه ذلك من تغييرات في المقاربات المجتمعية، هو من أبرز العوامل التي تثقل على النظام الإيراني المتشدد. ففي “المونديال” الذي استضافته قطر “والفورمولا وان” الذي استضافته المملكة العربية السعودية قبل أشهر والمواكبات الخليجية لحوادث ثقافية عالمية جعلتها قبلة الاهتمام والسياحة، ما يدعو فعلاً إلى الغيرة.
فالدول الخليجية دول إسلامية محافظة، ولكنها باتت تواكب المتغيرات العالمية بمجاراة مدروسة قد تكون تلقفتها نتيجة احتجاجات ما سُمّي بالربيع العربي الذي حصل في بعض الدول العربية وهز أنظمتها في العمق، ولا يزال البعض منها غارقاً في حروبه الداخلية. ولا يمكن للشعب الإيراني الذي عرف انفتاحاً حضارياً مختلفاً قبل وصول الثورة الإسلامية إلى الحكم أن يرى هذه التحولات في جواره، وليس في العالم فحسب، من دون أن يتفاعل معها ويطالب بالتغييرات في الداخل الإيراني.
وحتى لو لا تزال التوقعات الخارجية المراقبة للتطورات في إيران تستبعد أن تؤدي الاحتجاجات والقمع العنيف لها إلى تغيير في النظام في حد ذاته، أقله راهناً، فإن ما يجري لا يستهان به ويؤشر إلى مسار يصعب أن يشهد تراجعاً من دون أن يفرض تغييراً ما أو عدم تكرار في المرحلة المقبلة. ورصد هذا الواقع في المعطى الإقليمي وأهميته، لا يلغي العوامل الأخرى التي تضيّق الهامش أمام إيران التي يرى هؤلاء المراقبون أنها تشعر بالضغط نتيجة جملة أمور إلى جانب الاحتجاجات الداخلية التي لم تتوقف منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر. ومن هذه العوامل ما يعتقد هؤلاء أنه يخلق توتراً وإن غير معلن في العلاقة مع روسيا، رغم تبادل صفقات الأسلحة على وهج الحرب الروسية على أوكرانيا. فسعي روسيا إلى رأب الصدع بين النظام السوري برئاسة بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرقى إلى مصاف تخفيف الضغط عن النظام السوري واعتماده الكلي على النظام الإيراني، ما يعني احتمال تفلّته نوعاً ما من هذا النظام وحاجته الماسة إليه. فهذا جانب مختلف عما يجمع كلاً من روسيا وإيران وتركيا حول سوريا في أستانة أو في تنسيق ثلاثي لإدارة الوضع في الأراضي السورية.
والوضع لا يسهل على إيران في ضوء القمة الصينية السعودية التي عقدت أخيراً إبان زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ المملكة، واتفاقات التعاون التي حصلت بين الجانبين، وكذلك بين الدول الخليجية والصين، حتى لو كانت الصين تتولى تنفيذ مشاريع حيوية عدة في إيران. ولكن النقطة الأساس أن السعودية والدول الخليجية ككل تظهر قدرة على موازنة علاقات معقولة مع كل من الولايات المتحدة، من جهة، ومع روسيا والصين، من جهة أخرى، تماماً كما تفعل روسيا مثلاً في علاقتها بالنظام السوري ودعمه وفي علاقتها بالدول الخليجية وبإسرائيل وتركيا. وإيران متأخرة بنسبة كبيرة عن اللحاق بمسارات مماثلة عبر نسج علاقات متوازنة مع الدول الخليجية، بعيداً من العداء والاستفزاز، لا سيما في ظل مفاخرتها وتكبرها بالسيطرة على أربع عواصم عربية، فيما علاقتها المميزة بروسيا أو بالصين لا تجعلها متقدمة لدى أي منهما على الدول الخليجية. فبوابة الدول الخليجية لهذه الدول كما للولايات المتحدة تبقى أهم بكثير من البوابة الإيرانية، لا سيما أن عجزها عن العودة إلى العمل بالاتفاق النووي يقيد إمكانات تعاون متعددة.
وهذا لا يعني أن الدول العربية لا تعاني ضعفاً مخيفاً أتاح تقدم دول غير عربية في المنطقة من أجل النفوذ والمصالح، وقد تصدرت كل من تركيا وإيران وإسرائيل واجهة استباحة المنطقة في غياب الدور العربي الفاعل. ولا يمكن القول حتى الآن إن أدوار هذه الدول انحسرت أو ضعفت، ولكنها تواجه مشكلات جمة في ظل تقدم الدول العربية إلى محاولة إشغال الدور الملائم أو الواجب القيام به منعاً لتقدم أدوار الدول الأخرى.
وهذا لا يزال يحتاج إلى جهود كبيرة، لا سيما في ظل تقدم المحافظة على المصالح المباشرة للدول العربية والخليجية في ظل تحديات جمة تواجهها كذلك، ولكن المراقبين المعنيين يرون أن بداية حفر موقع بين هذه الدول أو على الأقل منعاً لتفردها بالمنطقة بعيداً من الدول المعنية يبدو أمراً واعداً قياساً إلى المرحلة السابقة، لا سيما أن عكس ما حصل حتى الآن يبدو مكلفاً وصعباً. ولكن ثمة مؤشرات يمكن الاستفادة منها وفقاً لهؤلاء، على غرار الانفتاح التركي على دول عربية كانت تخاصمها بشدة كما هو معروف، وكذلك حاجة إيران إلى علاقات مع دول الجوار الخليجي، كما أعلنت هي نفسها وتحاول تثبيته بعلاقات صداقة مع بعض الدول المنفتحة عليها.
وهذا يندرج في إطار التحولات السياسية التي يعتقد المراقبون أن أياً من الدول، لا سيما دول المنطقة، لا يمكنها البقاء في منأى عنها وحتمية السعي إلى مواكبتها بمرونة لم تظهرها إيران خاصة حتى الآن، علماً أن دولاً أقل تأثيراً وفاعلية تواجه التحديات نفسها.
النهار العربي
————————–
================
تحديث 21 كانون الثاني 2023
————————-
هواجس إيران مع حلفائها/ فايز سارة
يقودنا تأمل المبادرة التركية في الانفتاح على نظام الأسد والمصالحة معه على طريق تطبيع العلاقات بين الطرفين إلى قول، إن الإبعاد الإقليمية والدولية للمبادرة تتضمن توسيع الحضور والدور التركي في سوريا، وهو أمر لا يمكن أن يتم من دون تأثير مباشر على حضور ودور الإيرانيين والروس الذين يسيطرون على القسم الرئيس من الفضاء السوري، تاركين جزءاً منه للطرف الأميركي الحاضر مقنعاً خلف حليف محلي تجسده «قوات سوريا الديمقراطية» في شمال شرقي البلاد، وحليف أصغر قرب قاعدة التنف في الجنوب باسم «جيش سوريا الحرة» (مغاوير الثورة) سابقاً، وكله مضافٌ إلى قسم محدود في شمال غربي البلاد تحت السيطرة التركية.
وإذا كانت مخاوف روسيا من الدور التركي في حدود دنيا على اعتبار موسكو هي القوة الدافعة لأنقرة باتجاه مبادرتها السورية، إضافة إلى علاقات واسعة ووثيقة ومجرّبة بين الطرفين، فإن إيران التي لم تشارك الدور الروسي، تبدي بعض الحذر حيال المبادرة التركية، وهو ما صدرت عنه إشارات إيرانية كثيرة، أبرزها عن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان في خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق ومباحثاته هناك، حيث أشار إلى علاقات طهران – أنقرة القوية، وركز على تشاركهما في آستانة من دون أن يذكر روسيا شريكهما الثالث والأهم بأي كلمة.
دواعي الحذر الإيراني حيال المبادرة التركية في سوريا تتصل بالدور المتنامي للعلاقات الروسية – التركية، التي تعززت بقوة في السنوات الأخيرة، ليس في المستوى الثنائي فحسب، بل في مستوى علاقات تركيا بقضايا حساسة ومصيرية بالنسبة لموسكو، خاصة التقارب مع دورها في سوريا من جهة، وموقفها من الصراع الروسي في أوكرانيا وما يحيط به، وقد لعبت أنقرة أدوراً مهمة في الحالتين؛ مما جعل موسكو إلى جانب أسباب أخرى، تضغط على أنقرة من أجل توسيع دورها وحضورها في سوريا باعتبارها صديقاً وحليفاً لروسيا، يمكن أن يشغل حيزاً من فراغ الانسحابات الروسية من سوريا لتعزيز قوة روسيا في أوكرانيا.
وتستجيب مساعي التمدد التركي في المشهد السوري للطموحات الواضحة في استراتيجية تركيا وسياساتها، ويحظى تمددها ربما ببعض القبول العربي؛ لأنه يحدّ من قوة إيران في المنطقة، ويمنع بدرجة ما إحكام القبضة الإيرانية على سوريا والاستفراد بها على ما هو الحال في العراق ولبنان، وقد باتت طهران المتحكم في مسارات بلدان عدة، وخاصة في الجوانب السياسية والاقتصادية.
ومما لا شك فيه، أن إيران تدرك كل ما يحيط بمساعي وطموحات تركيا، وتراقبها بكل مجرياتها وتفاصيلها، واحتمالاتها، وتسعى إلى تحويل جهود أنقرة لتتقاطع مع مصالح إيران ونظام الأسد، ورغم حقيقة التنافس بين البلدين الجارين، فإنها تستند في مراهنتها إلى مجموعة عوامل، بينها أن تركيا شريكة لها مع روسيا في إعلان موسكو وفي آستانة، وكلتاهما رسمت حدود الموقف المشترك إزاء الملف السوري، وقد أثبتت تركيا حضورها الإيجابي في هذه الشراكة خلال السنوات الماضية، كما أن علاقات قوية تربط الطرفين وبين مؤشراتها مبادلات تجارية حجمها السنوي نحو ثمانية مليارات، يسعى الطرفان لرفعها إلى ثلاثين مليار دولار سنوياً، وأن تركيا مارست سياسة تخفيف العقوبات الدولية على حكم الملالي، وتستمر علانية في انفتاحها التجاري على إيران وخاصة لجهة استيراد النفط والغاز، وتصدير السلع والبضائع التركية.
ورغم ما يظهر من قوة علاقات إيران مع نظام الأسد الممتدة عقوداً والتي تعززت أكثر في سنوات العقد الأخير، فإن إيران بسبب ظروف داخلية وإقليمية ودولية، صارت أكثر حذراً إزاء مبادرة المصالحة التركية مع نظام الأسد، التي يمكن أن تقدم للنظام، إذا تمت دعم ومساندة تساعده في التغلب على الصعوبات والمشاكل التي يواجهها، وتساهم في تأهيله وعودته إلى المجتمع الدولي بعد كل ما ارتكبه من جرائم، لكنها في الوقت نفسه ستمثل تمدداً تركياً في القضية السورية، تعارضه طهران؛ لأنه يؤثر سلباً على الحضور والدور الإيراني.
وسط تشابك السياسات والأهداف الراهنة في المنطقة وحول الوضع في سوريا واحتمالاته، ظهرت هواجس ومخاوف إيران وخاصة حيال الأطراف ذات العلاقة والتأثير في سوريا وحولها، وركزت جهودها في أمرين، أولهما تقوية أسس وجودها في سوريا وإعطاؤه مزيداً من القوة عبر ضغوط واتفاقات تعقدها مع حكومة الأسد وسط أزمة خانقة يواجهها حالياً على المستويات السياسية والاقتصادية، وقد تم تمرير محتويات اتفاقات تتعلق بإمدادات النفط والاستثمارات، واتفاقات إملاء تخرق السيادة السورية، تعطي الإيرانيين حق المعاملة مثل السوريين، من دون إخضاعهم للقانون السوري بحيث تتم مقاضاتهم أمام المحاكم الإيرانية، والأمر الآخر فيما تسعى إليه إيران في سوريا، هو إعادة تقييم الوضع السوري وحدود مواقف نظام الأسد من المبادرة التركية في أبعادها المختلفة، وتأكيد حضور ودور إيران في سوريا بما فيه التعامل مع المبادرة التركية، وقد صدرت إشارات متعددة عن مسؤولين إيرانيين بهذا الاتجاه، يضاف إليها توجه وزير الخارجية حسين عبداللهيان إلى أنقرة في خطوة تسبق زيارة الرئيس الإيراني القريبة إلى تركيا.
خلاصة الأمر، أن إيران التي تواجه أوضاعاً داخلية صعبة، تعيش مرحلة قلق وهواجس حيال حلفائها؛ مما يدفعها إلى اتخاذ خطوات وإجراءات، أهمها في سوريا وحولها، وتدقيق في الأوضاع المحيطة ومنها المبادرة التركية حيال نظام الأسد في إطار مساعي طهران ترتيب وتدقيق بعض علاقاتها مع الأطراف الأقرب إليها وفيهم الروس وتركيا ونظام الأسد؛ حتى لا تحصل أي مفاجآت غير محسوبة تلحق ضرراً بوجود إيران في الإقليم عموماً، وفي سوريا على وجه الخصوص.
ولا يحتاج إلى تأكيد قول، أن كل التحركات والإجراءات، لا يمكن أن تطمئن إيران؛ ذلك أن الوضع في المنطقة وخاصرته الهشة في سوريا وحولها، لا يحسم من خلال إيران والثلاثة الأقرب إليها، بل إن فيه قوى فاعلة إقليمية ودولية ذات تأثير بينها بعض البلدان العربية وإسرائيل، إضافة إلى أوروبا والولايات المتحدة، وهذه كلها لا تملك أوراقاً مهمة في ملفات المنطقة والموضوع السوري فحسب، بل كلها أصبحت في صراع واسع ومعلن مع طهران، وأكثرها بات يتطلع إلى إخراج إيران من سوريا، إن لم يكن من أجل السوريين ووقف معاناتهم، فمن أجل وقف تمدد إيران وسياساتها التوسعية والعدوانية في المنطقة.
الشرق الأوسط
—————————
إيران في عنق الزجاجة/ علي العبدالله
فاجأ لقاء موسكو الثلاثي، الذي ضم وزراء دفاع وقادة أجهزة مخابرات روسيا وتركيا وسورية، النظام الإيراني، ليس لأن التحضيرات له كانت سرّية، بل لأن الأخير كان يعتقد أنه ذو مكانة رئيسة في حسابات النظام السوري، وأن هذا الأخير لن يقدم على أي خطوة سياسية من دون أخذ الضوء الأخضر منه، ومن دون أن يحجز له مكانا مميزا داخل الخطط والبرامج ونتائجها. وهذا دفعه إلى التحرّك وعرقلة الخطوة التالية في التفاهم الروسي التركي، والتي تقضي باجتماع وزراء خارجية الأنظمة الثلاثة.
اتّخذ النظام الإيراني من سورية منصّة للضغط على خصومه في الإقليم، إسرائيل، تركيا، الأردن، ودول الخليج العربي، والعالم، الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وبوابة للتحوّل إلى شريك في البحر الأبيض المتوسط، من خلال التمدّد إلى موانئها. لذا، سعى إلى تثبيت موقعه فيها عبر تكريس هيمنته وسيطرته على الدولة والمجتمع السوريين من خلال توسيع نفوذه في مؤسّسات النظام العسكرية والأمنية والاقتصادية وفي المجتمعات العشائرية، من خلال توزيع الإعانات الغذائية والطبية وتجنيد الشباب في المليشيات الموالية، والدعوة إلى المذهب الشيعي، وجلب مقاتلين من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان بأعدادٍ كبيرة، مستغلا ما يراه شرعية وجوده على الأرض السورية، جاء بدعوة النظام الحاكم، واستعداده الدائم لتقديم الدعم المالي والنفطي والعسكري وحشد المليشيات في معارك النظام ضد خصومه من المعارضين السوريين، وسعى إلى تأمين وجوده فيها عبر نسخ تجربته في لبنان: إقامة ضاحية جنوبية في منطقة السيدة زينب، من خلال إسكان أسر مقاتلي مليشياته المذهبية فيها، والعمل على تشكيل حزب الله سوري، من دون اعتبارٍ للتباين بين سورية ولبنان، حيث لا تتجاوز نسبة الشيعة في سورية النصف في المئة، وحيث إن الدعوة إلى التشيع لن تُحدِث فارقا كبيرا في التركيبة السكانية، ناهيك عما تثيره من ردود فعل سلبية ضد النظام الإيراني وأذرعه. وهذا ما عبّرت عنه ردود فعلٍ شعبيةٍ سورية حتى بين الموالين للنظام.
لم يكن اللقاء الثلاثي، بحد ذاته، ما أثار قلق النظام الإيراني، ودفعه إلى إعلان تحفّظه على استمرارية البرنامج ثلاثي الخطوات، بل إحساسه أن حلاً روسياً تركياً في شمال سورية قد دخل حيز التنفيذ، من دون اعتبار لمصالحه، هو ودوره هناك وباستخفافٍ تام برد فعله وقدرته على التأثير على هذا المسار التفاوضي والنتائج المتوقعة منه. وهذا دفعه إلى إضاءة الضوء الأحمر للنظام السوري، الطرف الأضعف بين أطراف اللقاء الثلاثي، ومطالبته بضبط حركته وموازنة خطواته وفق مستدعيات العلاقة الخاصة بينهما، لا وفق تفاهماته مع الطرفين الآخرين في اللقاء الثلاثي، والبدء بترتيبات زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سورية وتركيا، للتباحث على دوره وحصّته في التسوية المنتظرة، وهو ما حاول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان التمهيد له في زيارتيه المفاجئتين إلى لبنان وسورية، وتوجهه اللاحق إلى موسكو.
التقط النظام السوري التحفظ الإيراني باعتباره فرصة لموازنة الضغط الروسي الذي دفعه إلى التفاوض مع النظام التركي، على الضد من رغبته وحساباته، حيث يعتبر نفسه منتصرا في الصراع، وعلى الآخرين تقديم التنازلات له، فسارع لطمأنة النظام الإيراني عبر اتصال هاتفي أجراه وزير خارجيته فيصل المقداد مع نظيره الإيراني، وأرسل مساعد وزير خارجيته أيمن سوسان إلى طهران، ورفض الاستجابة لدعوات النظامين الروسي والتركي من أجل الاتفاق على تحديد موعد (ومكان) عقد المرحلة الثانية من اللقاء الثلاثي، اجتماع على مستوى وزراء خارجية الدول الثلاث، عبر وضع شروط تعجيزية لذلك، وفي مقدمها إنهاء الاحتلال التركي لأراض سورية ووقف دعم الإرهابيين، يقصد فصائل المعارضة المسلحة، وهو ما أعلنه رأس النظام بعد اجتماعه بمبعوث الرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، وكرّره بعد اجتماعه بوزير الخارجية الإيراني، اللذيْن زارا دمشق قبل أيام.
كان النظام الإيراني قد منّى النفس بتكريس نفسه قوة إقليمية عظمى باستثمار المناخ الدولي الذي ترتب على انفجار تنافس القوى العظمى وانشغالها في مواجهاتٍ مباشرة بينها، عبر اعتماده استراتيجية التوجّه شرقا وعقده اتفاقية شراكة استراتيجية مع الصين مدتها 25 عاما، تستثمر بموجبها الصين مبلغا ضخما في الاقتصاد الإيراني، 400 مليار دولار، وعمله على عقد اتفاقيةٍ مماثلةٍ مع روسيا، على خلفية تقاطعه مع النظامين الصيني والروسي، في تحدّيهما النظام الدولي غربي القواعد والنتائج، واتفاقه مع روسيا على تنشيط طريق تجاري جنوب شمال، من الأراضي الإيرانية إلى الأراضي الروسية، ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي، قطارات وموانئ على بحر قزوين، وإشراكه الهند في المشروع عبر الاتفاق معها على استثمار مبلغ 150 مليون دولار لتأهيل جزء من ميناء تشابهار الإيراني الواقع على بحر العرب، جنوب شرق إيران، واستخدامه في تجاوز منافستها باكستان وفتح طريق إلى أفغانستان، وانضمامه، النظام الإيراني، إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وسعيه إلى الانضمام إلى تجمع الدول ذات الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم (بريكس)، والدخول في حوار سياسي مع السعودية لردم الهوة وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها، واستخدام كل هذه الخطوات للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مفاوضات العودة إلى اتفاق عام 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني، المسمّى رسميا “خطّة العمل الشاملة المشتركة”، وفق شروطه.
لم تتطابق حسابات حقل النظام الإيراني مع حسابات بيدره؛ فقد دهمته التغيّرات المحلية والإقليمية والدولية، من الاحتجاجات والتظاهرات الواسعة التي انفجرت إثر قتل المواطنة الإيرانية الكردية مهسا (زينة) أميني، على يد شرطة الأخلاق، على خلفية عدم التزامها بحدود الحجاب الرسمي، والتحاق قوى اجتماعية محتقنة من سياسات النظام التمييزية والمجحفة بهذه الاحتجاجات، أعراق وإثنيات وعمّال ومعلمون ناقمون على شروط العمل والرواتب وتراجع القدرة الشرائية بسبب التضخم وانهيار قيمة العملة الوطنية، وتدنّي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والمياه، الشفة والخاصة بالزراعة، وارتفاع أسعار الوقود، البنزين والغاز المنزلي، ثلث سكان إيران الآن في فقرٍ مدقع، وطلاب أرهقتهم القيود والحدود السياسية والاجتماعية، إلى انهيار مراهنته على انتصارٍ سريع تحقّقه روسيا في عدوانها على أوكرانيا والبناء عليه في التخلص من الهيمنة الأميركية على النظام الدولي الحالي. وقد زاد الطين بلةً تريث الصين في تنفيذ مشاريع البنى التحتية، كما تقتضي اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، في ضوء خضوع النظام الإيراني للعقوبات الغربية وتخوّف الشركات الصينية من تعرّضها للعقوبات الأميركية الثانوية، وتبنّي الصين وجهة نظر دول الخليج العربي في خلافها مع النظام الإيراني، بما في ذلك حول البرنامج النووي واحتلاله الجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، كما عكستها بيانات قمم الرئيس الصيني شي جين بينغ مع قادة عرب خلال زيارته إلى السعودية، وعودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الحكم، وهو صاحب موقف مواجهة إيران في عقر دارها، خصوصا وقد بات له وجود على الشاطئ الآخر من الخليج العربي، وفّرته له اتفاقات إبراهيم التطبيعية، ومراوحة الحوار مع السعودية في مكانه وتجرّؤ قوى محسوبة من حلفائه على اتخاذ مواقف تتعارض مع توجهاته وتصوراته، تبنّي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، المحسوب على تكتل الإطار التنسيقي، العراقي (الشيعي)، لتسمية الخليج العربي، على الضد من التوجّه الإيراني لفرض اسم الخليج الفارسي، كرّر الموقف حتى بعد تبلغه اعتراض النظام الإيراني على هذه التسمية، وانخراط النظام السوري في التفاوض مع النظام التركي من دون تشاور مسبق معه.
لجأ النظام الإيراني إلى العنف العاري والمباشر في مواجهة المحتجّين والمتظاهرين، استخدم تقنيات الذكاء الصناعي الصينية المخصّصة لمراقبة الوجوه في مراقبة المتظاهرين وتصويرهم واعتقالهم لاحقا بموجب هذه الصور، بالإضافة إلى تطبيق إيراني اسمه “العين الثانية”، الذي روّجه باعتباره وسيلة ناجحة لمراقبة الأهل هواتف أولادهم القاصرين، في التجسّس على هواتف المواطنين، في إطار استراتيجية ردع حاسمة، لا مكان فيها للمساومات أو الحلول الوسط، رصاص وهراوات وغاز مسيّل للدموع، اعتقالات بالآلاف وأحكام قضائية طويلة وأخرى بالإعدام، تم إعدام أربعة محتجين من بين مائة محكوم بالإعدام، بعد محاكماتٍ قصيرة وسريعة، مع تجاهل تام لردود الفعل الحقوقية والثقافية، المحلية والدولية، التي أعلنت اعتراضها على القمع الوحشي والأحكام الجائرة، نشرت أكثر من 700 شخصية أدبية وفنية وثقافية من دول مختلفة بياناً بعنوان “انتفاضة ضد جرائم القتل التي يرتكبها النظام الإيراني”، دانوا فيه إعدام المواطنين على خلفية مشاركتهم في التظاهرات، وطالبوا مؤسّسات حقوق الإنسان والشخصيات الثقافية في العالم بالعمل لوقف عمليات الإعدام، وتجاهل الأصوات المحلية التي دعت إلى الحوار مع المحتجّين، وإجراء تغيير في بعض السياسات التي لا تلقى إجماعا وطنيا، من جهة، وانخراطه في العدوان الروسي على أوكرانيا من خلال تقديم مسيّراتٍ انتحارية لروسيا وتدريب الجنود الروس على استخدامها. من جهة ثانية، وتوسيعه شقّة الخلاف مع الدول الغربية، الخلاف مع فرنسا على خلفية الرسوم الكاريكاتورية في مجلة “شارلي إيبدو”، التي تناولت المرشد الأعلى، ومع المملكة المتحدة على خلفية إقدامه على إعدام مساعد وزير الدفاع الإيراني السابق علي رضا أكبري رغم كونه يحمل الجنسية البريطانية، من جهة ثالثة. الإعدام والعودة عن قراره تخفيف القيود على ارتداء الحجاب رسالة تحد للإيرانيين وللدول الغربية التي استضعفته واستهانت بقدراته عبر تأييدها الاحتجاجات.
لقد أحرق النظام الإيراني مراكبه، وقطع الأمل في العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الغربية، ما يعني مزيدا من التعقيدات الاقتصادية، انكماش وركود وتضخّم، والاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية الحتمية، ما وضعه أمام استحقاقاتٍ مصيريةٍ لا بد من مواجهتها وإيجاد مخارج عملية لحلها، وإلا أمضى السنوات المقبلة من مسيرته في الردّ على احتجاجات المواطنين الجائعين والمغبونين وتظاهراتهم، فالنظام الإيراني مصابٌ بتشوّه خلقي له ساقٌ قوية، تجسّدها القدرة العسكرية، وساق ضعيفة، تجسدها القدرة الاقتصادية، وما يزيد في دقّة موقفه عدم قدرة الساق القوية على حل مشكلات الساق الضعيفة.
—————————————-
من يعالج سرطان إيران في سوريا؟/ علي سفر
تفاصيل خبرية يوردها إعلام النظام، بات المراقب يشعر بأنها عادية وغير ملفتة، مثل إحياء اتحاد الكتاب العرب التابع للنظام لمهرجان شعري، بمناسبة الذكرى الثالثة لمقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، في الحرس الثوري، الذي أودت به عملية أميركية خاصة في مطار بغداد.
وأيضاً لقاء وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة الأسد، محمد سيف الدين قبل يومين، مع رئيس لجنة إمداد الإمام الخميني مرتضى بختياري.
لكن، طيلة الأسبوعين الماضيين، كان ثمة إحساس لدى كثير من السوريين، بأن العلاقة مع الإيرانيين، لم تعد كما كانت، وأن حلاوة اللسان في التصريحات الإعلامية، يتغير طعمها، حين يتعلق الأمر بمصالح طهران، التي تخوض معارك عبر وكلائها المحليين، على جبهات بلدان عربية عدة، لم تُنسها أبداً ودائع الأسد التي وعدها بها، منذ تدخلها لصالحه عسكرياً وسياسياً، عقب اندلاع الثورة السلمية، وتحولها اللاحق إلى طورها المسلح.
في السياق، جرى حديث غير مسبوق في الأوساط الإعلامية، شرقاً وغرباً، عن أن النفط الذي كان يتلقاه النظام بسعر متهاود من حليفته، بات يخضع لآلية تسعير جديدة، ستزيد العبء المالي على خزينة الدولة السورية، شبه الفارغة.
لكن مسؤولاً إيرانياً، وعبر تصريح، نقلته صحيفة الوطن المقربة من النظام، نفى ما سبق، وأكد أن الأمور مستمرة على ما هي عليه! وقد ترافق هذا التصريح مع وصول ناقلتي نفط إلى ميناء بانياس، بحمولة تقدر بمليوني برميل!
طبعاً، لن يستطيع أحد نفي حيثيات قصة رفع سعر النفط، لأن التصريح الذي هدَّأ من روع المراهنين على دعم طهران النفطي، إنما جاء بعد زيارة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق، ولم يأت قبلها.
فإذا كان الأمر مجرد خبر ملفق، فإن من يطلق مثل هذه الشائعات، لا يخترعها من عقله، وهي ليست خواطر متواردة، بل هي جزء من سلسلة خطوات، تستطيع طهران عبرها لجم بشار الأسد، الذي ظهر في الفترة ذاتها، مقبلاً على تنفيذ إملاءات موسكو، لجهة الانفتاح على التطبيع مع تركيا.
الأمر غير العادي في كل ما جرى خلال الأيام الماضية، أن أقل التحليلات بذلاً للجهد في تحري ما يجري، خلف جدران المكاتب الدبلوماسية، كان يقول التفصيل ذاته: إيران لن تسمح للأسد أن يتبع موسكو صوب تركيا، دون أن تضع نفسها في الموكب ذاته، ولهذا كان من المفهوم أن يتركز حديث الرئيس الإيراني الهاتفي مع نظيره الروسي قبل أيام على الشأن السوري، وأن نسمع في المحصلة وبعد زيارة عبد اللهيان كبير مستشاريه علي أصغر خاجي، يقول: إن القضايا السورية “لا يمكن حلها بسهولة من دون مشاركة إيران”.
ما يريده نظام الملالي السرطاني في شأن التسوية في سوريا، طالما أن عربتها تسير وفق إيقاع أستانا، سيتحقق، لا لحكمته في التعاطي مع الأزمة السورية، بل لأنه استطاع طيلة السنوات السابقة أن يرسخ طريقته في ابتزاز النظام، كسياسةٍ غير قابلة للتغيير، مع إدراك دهاقتنه، بالطبيعة المافيوزية لنظام دمشق، وبما يسمح لهم السيطرة على قطاعات أساسية في بنية جيش النظام، كالحرس الجمهوري وفرقته الرابعة على وجه الخصوص، إضافة إلى تقطيعهم مناطق سيطرة الأسد إلى حصص يعمل فيها وكلاؤهم المحليون، وبما يعطل أي محاولة لاستعادة النظام السيطرة، دون أن ينال موافقتهم، دون أن يُنسى في السياق، الحضور الراسخ لعناصر حزب الله، في دمشق وما حولها، ومناطق أخرى ذات أهمية استراتيجية.
لكن، ماذا عن استشراء هذا السرطان في الجسد السوري؟ ومن يهتم فعلياً لمعالجة سوريا منه؟
الدولة العربية المعنية باستعادة سوريا إلى عالمها العربي، ما تزال تراهن حتى اللحظة على إمكانية حدوث ذلك، فترسل للأسد مراسيلها، فيستقبلهم بابتسامة يهوذا، ويودعهم بمثلها، ثم يزيد في تسليم الإيرانيين قطاعات إضافية!
ضمن الوضع الراهن، لا يبدو أن تركيا ترى ما يزعجها في الوجود الإيراني، وما يفعله، فاستراتيجيتها الحالية مبنية على ضرورة أن تختلف الأوضاع عما سبق، وبما يسمح بعودة اللاجئين السوريين من أراضيها إلى أي بقعة في بلدهم!
أما الولايات المتحدة، فهي تبدو أبعد ما تكون عن تقديم أي علاج، فهي تعرف طبيعة المرض، ولا ترى ضرراً من ديمومته، وهذا هو تفسير صمتها عن تمدد الحرس الثوري في أربعة بلدان عربية.
أما إسرائيل التي عاد نتنياهو ليحكمها، فإنها تعرف أن خطر إيران كبير في المنطقة، ولكنها لا تهتم بالمسألة إلا من جهة محددة، هي اقتراب عناصر الملالي من حدود سيطرتها، إضافة إلى إعادة إبراز خطورة البرنامج النووي، الذي بات عقدة غير قابلة للحل، على المستوى الدولي، ما سيؤدي في النهاية، في حال بقي الحال على ما هو عليه، إلى اعتماد الخيار العسكري لإنهائه وتدميره.
الأمر لا يهم تل أبيب، وهي لا تعمل لمعالجة هذا المستوى من الإعياء السوري، بل إنها تتركه، ليكمل على ما بقي في الدولة العدوة.
الأسد ابن المرض العضال، يلعب على حبال الجميع، فيكذب هنا وهناك، ثم يعيد الكَرَّة، فهو يعرف أن حلفاءه يحتاجون له، كما يحتاج هو لهم، وهم في المحصلة يمارسون ضغوطاً لا تؤثر على نظامه، بل على من يحكمهم، وهو يخاطب الإيرانيين بما يحبون أن يسمعوا، كما يفعل مع غيرهم، لكنه في النهاية، وحين يُضطر، لن يستنكف عن بيع سوريا التي نهشتها الأمراض، طالما أن المقابل هو بقاؤه بكامل الصلاحيات، حارساً على الأشلاء.
تلفزيون سوريا
————————–
سوريا بين التتريك والهيمنة الإيرانية/ هدى رؤوف
أردوغان يستفيد من العلاقات مع نظام الأسد مرتين وطهران تطالب بحق الامتياز عبر شراكة اقتصادية طويلة الأمد
تسارعت في الآونة الأخيرة خطوات التقارب بين تركيا والنظام السوري أو ما يمكن أن نسميه تطبيع العلاقات بين الخصمين التي استمرت عداوتهما نحو 10 أعوام. بدأت المحادثات باللقاء بين وزراء الدفاع السوري والتركي والروسي بموسكو في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ومن المقرر عقد لقاء الشهر المقبل بين وزيري الخارجية السوري والتركي.
الأكثر من ذلك تصريح أردوغان باحتمالية عقد لقاء قريب مع رئيس النظام السوري بشار الأسد. وفي حين يبدو أن المحادثات تتم برعاية روسية إلا أنها ليست بعيدة من التوافق مع إيران. فقال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان خلال زيارته لبيروت “نحن سعداء بالحوار الجاري بين سوريا وتركيا ونعتقد بأنه سينعكس إيجاباً على البلدين”.
عن دوافع الطرفين، يبدو أردوغان صريحاً في شأن أولويته القصوى في سوريا، لا سيما قبل الانتخابات التركية، فقد أعلن أن محددات سياسته في سوريا هي القضاء على قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية والأحزاب المرتبطة بها، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي وجبهة حماية الشعب. لذا قد تكون هذه خطوة تركية محسوبة تهدف إلى إظهار أثر للمواطنين الأتراك بأن هناك جهداً منسقاً متعدد الأوجه لمواجهة كل من الحركة الكردية وقضية اللاجئين السوريين في تركيا.
في سبيل تحقيق الأهداف التركية في سوريا وهي سياسة لا تختلف كثيراً عن السياسة الإيرانية الهادفة إلى توسيع النفوذ، اتبعت أنقرة سياسة التتريك في الشمال السوري، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية كانت عمليات التتريك جارية في شمال سوريا، كما توسع النفوذ التركي والوجود التركي في إدلب.
استثمرت أنقرة في تحسين روابط النقل للمعابر الحدودية بين البلدين وربطت بعض شبكات الكهرباء في شمال سوريا بالشبكة التركية، وعمل مقدمو الخدمة الخليوية التركية في هذه المناطق، وأنشأت تركيا أكثر من 10 مكاتب بريدية تركية في شمال سوريا، كما تدفع رواتب الموظفين العموميين في المناطق الخاضعة لسيطرتها بالعملة التركية، والليرة التركية هي العملة الأساسية في شمال سوريا. كما يتم تدريس اللغة التركية في مدارس هذه المناطق، وتم افتتاح مراكز ثقافية لتعليم اللغة التركية للكبار، ويتمركز رجال الدين المعينون من قبل مديرية الشؤون الدينية التركية في المساجد التي فتحتها تركيا أو جددتها.
لذا تمثل لهجة تركيا التصالحية الأخيرة والإشارات إلى تطبيع العلاقات مع سوريا، تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية التركية، ربما يعود ذلك إلى أنها قد تخدم أردوغان بطريقتين رئيستين. أولاً، ينظر إليها على أنها خطوات نشطة في إدارة مشكلة اللاجئين ومرحلة أولى في إعادتهم إلى سوريا، وثانياً، ينظر إلى الحوار مع الأسد على أنه ضروري في ظل الضغط الروسي في هذا السياق، كما عبرت عنه اللقاءات الأخيرة بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إطار مفاوضات موسعة بين أنقرة وموسكو.
من جهة أخرى، أعلن وزير الخارجية السوري أن بلاده لم تضع شروطاً مسبقة، لكن التطبيع مع تركيا لن يتحقق إلا عندما تفي أنقرة بثلاثة مطالب، الانسحاب من الأراضي السورية ووضع حد لدعم التنظيمات المسلحة وعدم التدخل في الشأن السوري الداخلي.
ومن ثم يمكن للأسد أن يستفيد من التطبيع مع تركيا كجزء من جهوده لإعادة ترسيخ مكانة سوريا الإقليمية وكوسيلة لإبعاد أنقرة عن التنظيمات المسلحة. ومن المحتمل أنه بسبب هذه المحادثات سيتوصل النظام السوري وتركيا إلى اتفاق متبادل المنفعة في ما يتعلق بشمال سوريا خلال الأشهر الستة المقبلة، كما من المرتقب أن تدفع روسيا إلى تحقيق نتيجة مثمرة في هذه المحادثات بسبب الرغبة في سحب تعزيزاتها العسكرية من سوريا والتحول إلى أوكرانيا.
أما إيران، فتريد هي الأخرى أن تنسحب تركيا من شمال سوريا، وسبق وذكر موقع المرشد الإيراني أن علي خامنئي وجه تحذيراً لأردوغان فور وصوله إلى إيران في زيارة سابقة لإجراء المحادثات الثلاثية بأن هجوماً عسكرياً في شمال سوريا سيكون ضاراً بتركيا وسوريا والمنطقة بأكملها، ومن ثم فإن الضغوط الأميركية والروسية والإيرانية هي ما دفعت تركيا إلى البعد عن الضربة العسكرية ومن ثم التنسيق مع النظام السوري في شأن شمال البلاد. لكن في وقت يتزامن مع التطبيع بين تركيا وسوريا، تعمل إيران على تعزيز مصالحها وإخضاع سوريا لعلاقة طويلة الأمد، ففي حين تحدثت تقارير عن محاولة إيران الحصول على امتيازات عدة في الداخل السوري وممارسة الضغوط على بشار الأسد لمنحها تلك الامتيازات، أعلن وزير خارجيتها أخيراً أن بلاده بصدد عقد اتفاق شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع سوريا في المجالات الاقتصادية، مما يعني أن سوريا أضحت واقعة بين مشروعي الهيمنة الإيراني والتركي.
—————————
زيارة عبد اللهيان “المفاجئة” لدمشق ثم أنقرة.. ماذا تريد طهران؟
ضياء عودة – إسطنبول
زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق ومن ثم أنقرة خلال الأيام الماضية لم تكن “اعتيادية” بالنسبة للكثير من المراقبين
زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق ومن ثم أنقرة خلال الأيام الماضية لم تكن “اعتيادية” بالنسبة للكثير من المراقبين
لم تكن زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق ومن ثم أنقرة خلال الأيام الماضية “اعتيادية” بالنسبة للكثير من المراقبين، كونها “مفاجئة” وتزامنت مع المضي بمحطات التقارب بين تركيا والنظام السوري برعاية موسكو، وبينما أكد المسؤول على دور بلاده في أي “حل سوري”، كان لافتا تركيزه على “أستانة”، ونية طهران تحديث صيغة هذا المسار السوري الأطول.
وتتلخص فكرة “التحديث” أو تعديل الصيغة بأن يتم إشراك “سوريا” في إشارة من طهران إلى النظام السوري كطرف رابع في “أستانة”، بعدما كان المسار مقتصرا على الثلاثي “الضامن” تركيا وإيران وروسيا، على مدى 19 جولة، ومنذ العام 2017.
وفي حين طرح عبد اللهيان هذه الفكرة على نظيره التركي مولود جاويش أوغلو في أنقرة، سبقه بالتلويح بها كبير مستشاري الخارجية الإيراني، علي أصغر خاجي، بقوله لوسائل إعلام إيرانية إنه “يجري العمل على تحديث شكل محادثات أستانة حول سوريا، تماشيا مع الظروف والمتغيرات الراهنة”.
وأشار خاجي إلى أنه تم إبلاغ النظام السوري بأهمية أن تصبح “أستانة” رباعية، وأنه “في الجولات القادمة التي سنقوم بها إلى دول أخرى من أعضاء في صيغة المسار، سنطرح هذه القضايا ونحاول أن نجعلها أكثر كفاءة وفاعلية مع استراتيجية مناسبة ترتكز على الأوضاع الجديدة في البلاد”.
وعاد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الجمعة ليردد في أثناء مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين فكرة “أهمية تنفيذ عملية أستانة، التي توظف كآلية لتسوية الأوضاع في سوريا”.
“الحراك عدّل الصورة”
وتعتبر إيران أحد حلفاء نظام الأسد الاثنين الذين قدموا له دعما عسكريا وسياسيا، ورجحوا الكفة لصالحه أمام مناهضيه، منذ عام 2011، وبينما خفت اسمها في مسار التقارب الحاصل بين تركيا والنظام السوري لصالح موسكو، جاء حراكها المفاجئ في أنقرة ودمشق ليعدّل المشهد السائد.
وأعطى التقارب الذي بدأ بأول اجتماع على مستوى وزراء الدفاع في العاصمة الروسية موسكو على أن محطاته تسير بشكل ثنائي بين الأخيرة وأنقرة، بعيدا عن طهران، التي عادت لتؤكد أن الملف السوري لا يمكن حلّه “دون وجودها”.
ولذلك يرى مراقبون تحدثوا لموقع “الحرة” أن زيارة عبد اللهيان إلى دمشق وأنقرة لم تخرج عن المعادلة المذكورة السابقة، إذ خَطت باتجاهين وبشكل مفاجئ، لكي تكون حاضرة ضمن ما يحصل، لا سيما أنها سبق وأن عرضت لعب دور “الوساطة” بين تركيا ونظام الأسد.
فيما يتعلق بـ”أستانة” يرى الباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية، الدكتور محمود البازي أن التمسك بها والدعوة لتعديل صيغتها لكي تكون “رباعية” تهدف إلى تحقيق عدة أهداف، منها “حذف الوساطات الخارجية خارج إطار المنصة”، إذ لا تريد طهران لأي أطراف ثانية أن تدخل على خط المصالحة التركية-السورية.
كما لا تريد طهران وفق ما يقول الباحث لموقع “الحرة” عقد اتفاقيات ثنائية أو ثلاثية بين تركيا وسوريا وروسيا بدونها، ولذلك “تدعو طهران الآن لتغيير التركيبة الخاصة بالمسار” والتأكيد عليه.
“إيران تحاول إعادة الدور الإيراني بالوساطة من خلال منصة أستانة”، وعلى مدى الأشهر الماضية كانت الظروف الداخلية التي شهدتها قد استدعت دخول موسكو للعب هذا الدور.
ويضيف البازي: “الإيرانيون لا يريدون اتفاقيات ثنائية خارج أستانة، كونها قد تحمل بنودا سرية وتتعارض مع مصالحهم”، وهم الفاعلون في المسار الثلاثي على الأرض، بينما يحاولون “تأمين مصالحهم عن طريق لعب دور التقارب بين أنقرة ودمشق”.
ومنذ بداية إطلاق المسار كان الهدف من “أستانة” تشكيل إطار عمل مشترك بين تركيا، إيران، روسيا لمنع تجنب اشتباك قواتهم على الأرض، إضافة إلى “ترسيم حدود النفوذ بين الثلاثة”، حسب ما يقول الباحث السوري عروة عجوب.
ويوضح عجوب أن التطور الأخير بتشجيع موسكو لتركيا لإعادة علاقاتها مع النظام السوري بدا وكأن هذه الخطوة “الثنائية” تخرج إيران من الطاولة الثلاثية، ما دفع الأخيرة لإعادة التأكيد على المسار الذي انطلق في 2017.
يقول عجوب لموقع “الحرة”: “ما نعلمه أن إيران غاضبة من النظام السوري، وترجم ذلك بامتناعها عن تزويده بالنفط وطلبها من دمشق أن تدفع ثمن الشحنات نقدا، على عكس النموذج القديم المعتمد على الديون المؤجلة”. وهو ما كشفت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.
لكن من الصعب تأكيد “الغضب” من إقصائها من عملية “المصالحة” بين أنقرة ودمشق، بينما يشير الباحث إلى أن “دخول الإمارات والحديث عن إمكانية لقاء وزراء خارجية تركيا وروسيا وسوريا في أبو ظبي خلّف امتعاضا لدى طهران بسبب التنافس الجيو سياسي مع الأخيرة”.
ويرى عجوب أن “تصور أبو ظبي بأن إيران هي حليف وحيد لكنه ليس بالضرورة جيد وأن النظام لا يملك الكثير من الحلول دفعها لفتح سفاراتها في 2018، وأن تسعى لإزاحة العلاقة بين الطرفين بشكل أو بآخر، أو من خلال تحويل علاقة التبعية إلى علاقة أقل اشتباكا”.
وعلى اعتبار أن زيارة عبد اللهيان إلى دمشق، الأسبوع الفائت، تزامنت مع زحمة التصريحات والمواقف المتعلقة بالتقارب بين أنقرة ودمشق فقد جاءت أيضا في أعقاب زيارة أجراها وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد إلى سوريا أيضا، حيث التقى بشار الأسد ونظيره فيصل المقداد.
وكانت زيارته السابقة إلى العاصمة في يوليو العام المنصرم قد جاءت أيضا في أعقاب زيارة أجراها بن زايد إلى دمشق، بعدما أعادت أبو ظبي علاقاتها مع النظام السوري، على نحو كبير.
ماذا يعني تحديث الصيغة؟
وتعتبر إيران وتركيا وروسيا دولا ضامنة لمسار “أستانة السوري”، ومنذ عام 2017 تجمع أطرافا من المعارضة السورية والنظام باستمرار، من أجل بحث قضايا ميدانية وسياسية في آن واحد.
لكن حديث المسؤولين الإيرانيين بأنه يتم العمل على تحديث صيغة المسار لكي يصبح “رباعيا” قد يحمل أبعادا وتطورات، تزيد من “إعادة تعويم الأسد” وتقلل فرص المعارضة في التفاوض، حسب المراقبين.
ويوضح الباحث البازي أن “الإيرانيون يحاولون إعادة سكة أستانة للمسار الماضي بعدما تعطل بسبب الظروف الداخلية، ولا يريدون أي مسار ثنائي قد يضر بمصالحهم”.
ويقول البازي: “ما تقصده إيران بتحديث الصيغة إلى رباعي لا يعني فرض النظام على تركيا كدولة تجلس على طاولة المفاوضات، لأن أنقرة تتفاوض على هذا الأساس منذ زمن، رغم أنها شككت بشرعية الأسد في البداية”.
ويضيف: “الرسالة الإيرانية تستهدف الأطراف الأخرى، مثل أميركا والغرب وأوروبا، بأن الحلول الخاصة بسوريا يجب أن تمر عبر النظام السوري”.
“إيران تحاول تدويل الرئيس الأسد. هناك 3 لاءات موجودة في الطرف الغربي والولايات المتحدة ويؤكدون عليها، بينما تعمل طهران على التخفيف منها”، من خلال إدخال النظام السوري كطرف رابع في “أستانة”.
وفي السابع عشر من يناير الحالي عقد الاتحاد الأوروبي جلسة بحضور ممثلي كل الدول الأعضاء، لمناقشة الأوضاع في سوريا، وشدد على مواصلة دعم الشعب السوري، والتأكيد على اللاءات الثلاث: “لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات”، طالما لم يشارك النظام بشكل فعّال في الحل السياسي.
ويشير الباحث البازي إلى أن طهران تحاول كسر أولى اللاءات من خلال إحياء مسار تطبيع العلاقات مع النظام السوري. ويضيف: “تعتقد أنه بمجرد تخفيف الأولى يمكن أن تمضي باتجاه مسار إعادة الإعمار ورفع العقوبات”.
من جهته تحدث عروة عجوب، وهو كبير المحللين في مركز التحليل والبحوث العملياتي عن هدفين من إدخال نظام الأسد كطرف رابع إلى “أستانة”، الأول لـ”تضييق الخناق على المسار التركي الروسي، والعودة إلى منصة لها تفاهماتها المسبقة وتضمن دور طهران ونفوذها”.
ويرى الباحث أن “المسار الجديد بين النظام السوري وتركيا برعاية الإمارات وروسيا قد يبعد إيران عن اللعبة”.
ويشير إلى هدف ثانٍ يتعلق بنية طهران إقصاء المعارضة: “إذا أصبح النظام كرابع إلى جانب روسيا وإيران وتركيا لم تعد المعارضة طرفا بل منفذا للمخرجات”.
ومع ذلك “من المبكر حسم إدخال النظام السوري كمطلب إيراني”، في ظل ضبابية مستقبل المصالحة مع تركيا، كما يضيف عجوب بقوله: “أنقرة وموسكو لهما رأي وتفاهماتهما الثنائية كذلك الأمر”.
ضياء عودة
الحرة
—————————–
================