البدو الجدد… أو اللجوء بوصفه مستقبلاً سياسياً/ محمد سامي الكيال
تبرز مسألة اللجوء، بكل ما يرتبط بها من نتائج اجتماعية وثقافية، بوصفها أحد أهم التحديات السياسية في عصرنا، خاصةً للدول الأكثر غنى وتطوراً. فالفرار من بلدان معينة، خاصة في شرق العالم وجنوبه، لم يعد ظاهرة عارضة أو استثنائية، بل عملية تاريخية تتسم بالثبات والاستمرارية، وكأن التوزّع الديمغرافي القديم لم يعد صالحاً للوقائع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية المستجدّة.
يحمل اللاجئون معهم ما يُفترض أنه ثقافاتهم «الأصلية» فضلاً عن قوى وخبرات، قد يمكن الاستفادة منها، أو قد تكون عبئاً على البلدان المضيفة، وهذا ما يشغل غالباً معظم الجدالات حول اللجوء: كيف يمكن التعاطي مع الاختلاف الثقافي، والاستفادة من قدرات اللاجئين، ضمن عملية «الاندماج» الصعبة؟ إلا أن هذا السؤال قد يكون قاصراً عن الإحاطة بكل جوانب ظاهرة اللجوء، بوصفها عملية تاريخية، لأنه يفترض أن البنى القائمة في البلدان المضيفة يمكن أن «تستوعب» الوافدين الجدد، وتنظّم حركتهم ونشاطهم، دون أن تتعرّض لأي تغيرات جذرية. وهذا يتطلّب أن تكون حيوية ملايين البشر، وما ينتجونه من تراكيب اجتماعية وثقافية، وأنماط من التواصل والتأقلم، أو الاحتجاج والنزاع، قابلة للتأطير ضمن قنوات ومفاهيم محددة مسبقاً. الأمر الذي يبدو متعذّراً من جوانب متعددة، ويعكس فهماً جامداً للمجتمعات، والحياة عموماً.
قد يكون من الأنسب القول إن اللاجئين لا «يحملون» معهم ثقافاتهم، بل تم بترهم واقتطاعهم من سياق ثقافي ما، قد يحاولون إعادة بنائه في بلدان جديدة، ما يؤدي إلى نشوء صيغ غير متوقعة، لن تكون مجرد تكرار لما عاشوه سابقاً؛ كما إنهم لن «يندمجوا» في أنظمة قائمة، بل سيفرضون عليها تحديات خطيرة ومتطلبات غير مألوفة، تجعل اشتغالها بأسلوبها المعتاد أمراً عبثياً وغير واقعي، ما سيوصلها إلى الانحلال والتبدد، وينتج أنظمة جديدة، ولذلك لطالما ترافقت حركات الهجرة الكبرى في التاريخ بتغيرات دراماتيكية، بدّلت صورة العالم التي عرفها المعاصرون. لماذا الافتراض أن الهجرات الواسعة في أيامنا ستؤدي لنتائج مختلفة؟
رغم هذا لا يبدو الترحيل والترحّل الواسع في عصرنا فعلاً تخريبياً لما هو قائم، بقدر ما يبدو متوقعاً، بل مطلوباً، وأحياناً مُشجّعاً عليه. ما يدفع كثيراً من اليمينيين المتطرفين، وأنصار نظرية المؤامرة في الغرب للحديث عن «استبدال سكاني كبير» تحرص عليه السلطات المسيطرة. فهل باتت الأنظمة القائمة مفتوحة ومرنة لاستيعاب تدفقات البشر فعلاً؟ وهل يمكنها السيطرة على النتائج الثقافية والسياسية للهجرات الجماعية الكبرى؟
الرهان على البداوة
تتسم النظرية اليمينية/المؤامراتية بكثير من الاتساق، الناتج غالباً عن التبسيط المبالغ فيه: تريد الحكومات الغربية المعاصرة، المرتبطة بالسلطة المعولمة للشركات الكبرى والمضاربين الماليين، انتزاع كل عوامل المقاومة والتمرّد من مجتمعاتها، عن طريق تحطيم البنى الاجتماعية الراسخة، ومنها الروابط الدينية والعائلية والوطنية؛ واجتثاث المصادر المسيحية البيضاء للحضارة الغربية، للوصول إلى تجمعات بشرية خاضعة بلا جذور، تُنتج وتستهلك كما هو مخطط لها. فيما لا تبدو «العوارض الجانبية» لهذا الاستبدال السكاني، مثل الأسلمة والفوضى وانتشار الجريمة، مقلقة لتلك السلطات، المنبتّة عن كل القيم.
من جانب آخر يوجد طرح يساري هامشي، يتحدث عن مؤامرة إمبريالية لتدمير دول الجنوب والشرق، و»سرقة عقولها» وتحويل شعوبها إلى عمالة رخيصة في الدول الغربية. لا يُعرف بالضبط ما الجهات المتواطئة في هذه المؤامرة، لكن يبدو أنها تكتّل من السياسيين والناشطين ورجال الأعمال الليبراليين، القادرين على التخطيط لعملية تاريخية بهذا الاتساع والجرأة. لا يحتاج هذا الطرح لنقد جدّي، فهو يبدو أشبه بتعليق عامي على هوامش حدث ضخم وغير مفهوم، إلا أن ذلك النمط من التعليقات، ونظريات المؤامرة، والأساطير عموماً، ليست مجرد هلاوس، بل قد تكون تعبيراً انفعالياً عن وقائع غير مفسّرة عقلياً ونظرياً.
يمكن القول إن أشد السياسيين الغربيين ليبرالية وتأييداً للهجرة يدركون مخاطرها، ويسعون إلى تقييدها وتنظيمها بأساليب مباشرة وغير مباشرة، والأمثلة كثيرة من ألمانيا والسويد، مروراً بكندا، وصولاً إلى الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة، إلا أنهم أكثر «واقعية» من أنصار طرح المؤامرة، ويدركون أن انحلال الأطر الاجتماعية والقيم القديمة، تيار لا يمكن ردّه أو عكسه، وغير مرتبط بإرادة جهة فاعلة، بقدر ما هو تحوّل بنيوي في الحاضر، سيجلب معه كثيراً من المستجدات، ومنها ملايين المهاجرين، الذي يجدر التعامل معهم على أنهم «فرصة» وليس خطراً، أي السعي لاستخلاص أكثر النتائج السياسية والاقتصادية والثقافية إيجابية من واقع اللجوء. يمكن هنا استعارة مفهوم من المفكرين الفرنسيين جيل دولوز وفيلكس غوتاري وهو «البداوة» Nomadism، الذي حاولا أن يجعلاه مقولة فلسفية Nomadology، أي التفلّت من كل تحديد مفهومي جوهراني: يبني البدوي المترحّل علاقة مختلفة مع المكان والسياق الثقافي والقيم عمّا يفهمه المستقر والمتحضّر. يعيش اختلافه، ويكرّر، على طريقته، ما وصله من أفكار وحضور ثقافي، دون أن يحوّله إلى جوهر نقيض لما هو قائم، يلزمه بمواقع معيّنة ثابتة، «يسيل» بين كل الحدود، ويتوطّن مؤقتاً في إقليم جغرافي وثقافي ما، ليتركه في ما بعد، ضارباً خيمه، أي وجوده العارض والمؤثّر في الوقت نفسه، في مكان جديد. ربما يكون هذا تبصّراً سابقاً لأوانه لوضعية اللاجئ في عصرنا. وإذا كان دولوز وغوتاري قد اعتبرا «البداوة» نموذجاً لنمط جديد للهوية، أو بالأصح نقيضاً لها، في إمكانه أن يغرق التحديدات السلطوية المألوفة بغير المألوف، ما يجعله شكلاً للمقاومة، فإن الذات «البدوية» في أيامنا قد أصبحت نمطاً مثالياً للذاتية من منظور السلطة، متسقاً مع سيلان التدفقات المختلفة، العابرة للحدود، ومنها تدفقات الأموال والبيانات والسلع.
البشر ليسوا بالتأكيد مجرد تدفق للدوال والرموز، يمكن تأويله ببساطة على شكل ربح/ريع، مثل بقية التدفقات، لكن يمكن اعتبار وجودهم وحركتهم أثراً جانبياً، له مخاطره، لكن احتماله ممكن لـ«الانفتاح» وهو ما يفهمه جيداً سياسيون وناشطون كثر. وبهذا قد يكون اللجوء، أو الترحّل/البداوة، أحد المعالم الأساسية للمستقبل، ومؤشراً مهماً لـ«التقدّم».
بدو بلا سيوف
التركيز على أن «البداوة» لا تشكّل نقيضاً مفهومياً كان ضرورياً في النسق الفلسفي لدولوز وغوتاري، للتوصّل إلى مفاهيم تعارض التمثيل والهوية، اللذين طبعا الفلسفة الغربية من سقراط وحتى هيغل: يعتمد تشكّل الهوية المترسّخة على تعارض وتمايز عن الآخر، يؤسس الذات، التي تقوم على تحديدات تمثّلها في مقولات وسياقات محددة للغاية، فيما يتمرّد البدوي على كل تحديد، يريد أن يوطّنه في إقليم معين، وفرض أحكامه وأخلاقياته المتبلّدة عليه، ربما كان هذا تفكيراً مقاوماً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عندما كانت المؤسسات الانضباطية، مثل المصنع والمدرسة والعائلة، وما يرتبط بها من قيم، محتفظة بحضورها وفعاليتها، لكنه قد يصلح في أيامنا لأن يصير الأيديولوجيا الرسمية للسلطات القائمة: الوجود العارض، غير المحدد، لمختلف الذوات المفردنة، المنتزعة من سياقاتها الراسخة، ينتج «اختلافاً» قابلاً للتسويق، لا يحتاج إلى مصنع أو منجم كي تُستخلص أرباحه. قد يثير اللاجئون والفارون كثيراً من الاضطرابات، إلا أن إعادة توطينهم ممكن دائماً في هوامش مسيطر عليها. سيوجد خزان بشري دائم من البشر، القادرين على العمل غير المستقر، وإنتاج أشكال متنوّعة من الجماليات والثقافات وأنماط التواصل. كما يمكن لمظالمهم أن تصبح مجالاً للتعاطف والتفهّم الأيديولوجي من نقّاد «المركزية الغربية» الممولين، للمفارقة، من تلك «المركزية» نفسها.
المهم هنا أن البدو/اللاجئين، غير قادرين على تشكيل ذات جمعية نقيضة لما هو قائم. وبالتالي فإن سيوفهم مُنتزعة. ويبدو أن عالمنا يرحّب بكرم بهذا النمط من البداوة.
أمم اللاجئين
الحديث عن استيعاب السلطات المعاصرة لوضعية البداوة/اللجوء، لا يعني بالتأكيد وجود مؤامرة، بقدر ما يشير إلى ظروف مستجدّة، يوجد فاعلون سياسيون، ومنتجون للثقافة والأيديولوجيا، يحاولون التعامل معها، وبالتأكيد الانتفاع منها والتحكّم بها قدر الإمكان. يبقى أن ما تنتجه حيوية البشر، وأنماط تحركهم وفعلهم، غير قابل للتطويق ضمن أي مخطط أو نموذج خطابي: قد يُحدث الفارون واللاجئون، بوصفهم أحد أهم الأشكال المستقبلية للوجود الاجتماعي، تحولات وخروقات في الوضع القائم، يصعب تخيّلها اليوم. دون أن يعني هذا أن أثرهم «إيجابي» أو «تحرري» بالضرورة. فهذا النمط من أحكام القيمة تحدده غالباً أيديولوجيات متزامنة، أو لاحقة للتغيرات الكبرى.
وبعيداً عن الأحكام فقد يكون من المفيد استيعاب أن المجتمعات المعاصرة تتحوّل تدريجياً إلى مجتمعات لاجئين، ليس فقط من الوافدين من خارج الحدود، بل حتى من «السكان الأصليين» الذين يُرحّلون تدريجياً من كل سياق اجتماعي وثقافي معروف، وربما يكون الأجدى الاعتراف بأننا جميعاً، على اختلاف أصولنا وأماكن وجودنا، لاجئون. والتصرّف، سياسياً وثقافياً، على هذا الأساس.
كاتب سوري
القدس العربي