مراجعات الكتب

روديغر سافرانسكي.. كائنٌ اسمه الزمن/ سومر شحادة

ربما يكون الزمن أكثر المفاهيم المفتوحة على أشكال التعريف المختلفة؛ الفيزياء ترى الزمن بصورة، والفلسفة تراه بصورة أُخرى، وكذلك يستخدمه الأدب وشتّى الفنون بأساليب متنوّعة. وفي حياة البشر، نادراً ما يتّفق شخصان على رؤية واحدة للزمن. أكثر من ذلك، قد يختلف مفهوم الإنسان نفسه للزمن بين فترة وأُخرى من حياتهِ. بهذه الصورة، ينشغل الفيلسوف الألماني روديغر سافرانسكي، في كتابه “الزمن”، بتحليل تلك الكلمة التي تبدو أوسع من الإدراك وأعمق من الفهم.

في الكتاب، الصادر حديثاً عن “دار فواصل” بترجمة عصام سليمان، الزمن ليس الساعات التي نقيسُ بها الوقت، وإنّما هو تجربتنا معه، شعورنا بهِ، أو كما يشرح العنوان الفرعي للكتاب: “ما يفعله بنا وما نصنعه منه”؛ وهي عبارة تشيرُ إلى طرفَين، كما لو أنّ الزمن كائن آخر، لكنّه كائن أوسع من البشر، يحتويهم حيناً، وحيناً يسيرُ برفقتهم أو يرمي بهم إلى الماضي والحاضر والمستقبل. وهذه الأطوار الثلاثة تتحرّك خطّياً من الماضي إلى المستقبل. لكن بالنسبة إلى الزمن نفسه، فهو طورٌ واحد يتمدّد أو ينكمش، لا بتأثير الكُتل المختلفة فقط كما يرى أينشتاين، وإنّما بفعل الذاكرة، بفعل الشعور والانطباع الشخصي الذي يتركه انقضاء الزمن.

غلاف الكتاب

لا يتحدّث الكتاب عن زمنٍ مطلق نهائي وبهيئة واحدة، وإنّما يتحدّث تقريباً عن إدراك البشر المحدود له. وعلى ضوء هذا، يقسّم الفيلسوف نظرتنا للزمن، فهو متعدّد، ويتوزّع على فصول الكتاب إلى زمن البداية وزمن الملل وزمن الهمّ، وغيرها من تقسيمات تمثّل إدراكنا الجزئي المرتبط بالتجربة واختلافها، لا بالزمن عينهِ. إنّه كتاب عن تجربتنا مع الزمن. وقصارى جهد الإنسان بكلّ مداركه، ألا يقع تحت سَطوة ثقلِ الزمن.

يمكن للزمن، كما يذكر سافرانسكي، أن يُستخدَم للتعذيب، إذ أنّ مراقبة دقّات الساعة الرتيبة تشبه أسلوب تعذيب مُتّبع في السجون، باستخدام صوت التنقيط المستمر في زنزانة خالية. على المرء أن يملأ أوقاته كافة، لأنّ الزمن يُخْتَبر في الملل. وزمن الملل هو الفصل الذي يبدأ به الكتاب، ثمّ ينتقل إلى زمن البداية، وكأنّما البدء هو السأم. في السياق ذاته نذكر رواية ألبرتو مورافيا “السأم”. كان السأم لدى الروائي أيضاً سابقاً على البداية، وروايته دعوة للبداية كي تفتّت الخلاء والانتظار والعيش تحت وطأة الترقّب.

لكن في كتاب سافرانسكي، الملل لا يخصّ الروائيّين، بل يعتمد صاحبُ “مُعَلّم ألماني: هايدغر وعصره” بصورة رئيسية على الفلسفة، ويذكر كلمات كيركيغارد في توصيف الملل على أنّه القوة الأصلية للثقافة والتاريخ. تشير هذه الكلمات التي تضفي على الملل صفة القوّة، إلى أنّه المحرّك الذي يُحرّر طاقة الإنسان المركونة في الانتظار. فالملل الذي يملأ الخارج، خارج الإنسان، يملأ داخله أيضاً ما لم يحرّر نفسه منه، ما لم يستعن بالمخيّلة ويستنجد بالأفكار وبالذكريات. ما لم يكن المرء جزءاً من جريان الزمن في الخارج، أو تهاديه في المخيّلة يجد نفسه مرمياً إلى عدم الفراغ ومواجهة اللا شيء. وليس سعي الإنسان إلى العمل الجديد والغرام الجديد إلا لاجتناب تجربة الفراغ القاتلة.

البدايات موجودة في الفعل اليومي بمطالعة كتاب جديد وبناء صداقة جديدة، أو في البحث عن مقهى جديد في مدينة نصلها حديثاً، والبداية مرتبطة بالشعوب ككلّ في لحظاتها الكبرى كالثورات. وهكذا، يرتبط جريان الزمن بفعلٍ آخر، وهو نسيان جريان الزمن؛ إذ لا مناص أمام الإنسان الذي يبدأ دائماً من أن ينسى بداياته المتكرّرة، لا ليعثر على بدايات جديدة وحسب، وإنّما كي يُفتَن بفكرة البداية، وكي تحرّضه على خوض غمارها. كما يرتّب سافرانسكي العلاقة بين البداية ونسيانها، باعتبارها سلطة يتناوبها الماضي والحاضر. فالمرء يعيش في متّسعٍ من انفلات السلطة بين الزمنين.

وفق تتالي فصول الكتاب، لا يتأخّر زمن “الهمّ” كي يأتي، ويوضّح المترجم الذي نقل النّص عن الألمانية، أنّ الكلمة الألمانية تعني الغمّ الناجم عن القلق والعناية، وهذا شرحٌ يبدو أنّ المترجم اهتمّ به بصورة خاصّة، لأنّه شرحٌ يوضّح الكثير في هذا الجانب؛ فالهمّ المقصود هو أن نقلق وأن نعتني، وأن يكون مطلوباً منّا أن نشمل أنفسنا أو الآخرين بالرعاية. دعك من الآخرين، فالذات مهمومة بذاتها، ولا يعرف الإنسانُ، مع مرور الزمن وتخلّي الآخرين عنه، إن كان بمقدوره الاعتماد على نفسه، وعلى رعايتها وملء فراغها. بهذه الصورة القلقة، ينطوي فهم الحياة على مسألتين هما الخشية والاهتمام، وهما تصوّران لصيقان بنموّ الزمن، وبنموّ تجربة الإنسان داخل الزمن وفي موازاته وفي حدود تراميه غير النهائية.

لا يبدو أنّ سافرانسكي المشهور باعتباره مؤرّخ الفلاسفة ترك جانباً من غير الالتفات إليه، وهو إذ ينظر إلى الإيمان على أنّه يخلّص الإنسان من الهمّ باعتقاد المؤمن أنّه في رعاية الله. لكن هذا التصوّر الإيماني يرمي بالبشر إلى همّ آخر، إذ يَنهمّ المؤمن بفكرة تسبق الخلاص، وهي أن يكون جديراً برعاية الله أساساً.

في فصلَي “الزمن الاجتماعي” و”الزمن المُدار”، يقع القارئ على رؤيتين تكمّلان بعضهما؛ فالزمن الاجتماعي يتحدّث عن السيطرة الاجتماعية للساعات خصوصاً مع توحيد التوقيت في العالم، ويتحدّث عن استنساخ الماضي وجعله جديداً دائماً عبر التقاليد، وللمفارقة؛ عبر التقنية التي تتيح إعادة حضور الفيلم والعرض المسرحي مرّات لا نهائية. بذلك لم يعد ثمّة حدث فريد لا يمكن تكراره. وفي سياق مشابه، يصوّر سافرانسكي الثورات في الزمن المُدار على أنّها تسريعٌ للتاريخ، وهو في حضور التقنية تكرار متسارع لا نهائي يستهلك محدودية الأرض والثروات التي راكمها الماضي. على هذا النحو، الزمن لم يعد يتهادى إلى النهاية، إنّما يرجوها، ويجري إليها. ويحيل هذا التصوّر المتسارع إلى ما يدعوه الكاتب – بحسب هيغل – “لعنة الاختفاء” في الفصل السادس، “زمن الحياة وزمن العالم”، وكأنّما زمن العالم هو صيرورة اختفائه.

في الفصلين السابع والثامن، “مكان العالم” و”الزمن الخاص”، ينحو سافرانسكي منحى أينشتاين في نظريته النسبية التي تقول إنّ لكلّ جسم زمنه الخاص مقارنة بجسم متحرك. فكلّ منّا يختبر انقضاء الزمن بشكلٍ مختلف عن الآخر، وما فرْضُ التوقيت على الآخر إلّا نوع من انتزاع الخصوصية. في حالة الدول يدعوه سافرانسكي احتلالاً، ويضرب مثالاً فرض الألمان التوقيت الألماني على هولندا عند غزوها. كما يمكن للزمن الخاص أن يأخذ شكل الكفاح السياسي كإضراب الحركات العمّالية بهدف العمل بساعات أقلّ (ثماني ساعات)، وكأنّ العلاقة بالزمن سجال للسيطرة عليه. لكن الوقت يمرّ ونحن نصارعه أو نصارع من أجله، فيما الإنسان في الأحوال جميعها -بحسب سافرانسكي- يقع تحت سلطان الزمن.

يقترح سافرانسكي اللغة مادّةً لتخطي حدود المكان والزمان في الفصل التاسع من الكتاب، “اللعب مع الزمن”؛ فعبر القراءة والكتابة، يتحرّر الإنسان من قيد الزمن بالانتقال بين أزمنة وأمكنة مختلفة. وهذا بمجموعهِ؛ تحرُّرٌ من سلطة الفيزياء باللجوء إلى المخيّلة التي تساعد البشر على خلق ماضٍ خاص بهم، وحياة كاملة تتجاوز أسى التقادم أو تنتج عنه.

في الفصل الأخير، “الزمن المتحقّق والأبدية”، تنضج الرؤية التي يقترحها سافرانسكي حيال الزمن، وبعد اللعب مع الزمن باستخدام اللغة، يقترح على الإنسان نسيان الزمن، ما يتحقّق في حالتَي الحبّ والفنّ. أي، إمّا أن تكون عاشقاً أو فنّاناً حتى تستطيع إدراك ذاتك الحرّة. لكنه إدراك يَتَطلّب نسيان الذات في أمرٍ آخر، وليس مثل الحبّ أو الفنّ لهما جدارة أن ينسى الإنسان ذاته فيهما، أو يرميها داخلهما، كي ينسى أنّه إنسان يتقادم، فيما الزمن يسيل، ويحملُه رويداً رويداً إلى التلاشي.

* روائي من سورية

العربي الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button