منوعات

ريتشارد بلغراف: زيارة إلى الشيخ سليمان المرشد.. “الرب العلوي”

ترجمة أزدشير سليمان

هذه وثيقة أنثروبولوجية وسياسية غير عادية. يروي كاتبها “قائد سرية الخيالة” ريتشارد بلغراف، تفاصيل زيارته، رفقة الرائد B والكابتن S، إلى عرين سليمان المرشد “الرب العلوي” كما يسميه. الطابع الاستشراقي المعياري لهذه الوثيقة بيّن، وكاتبها، مُستعيراً صوت الراوي الكونرادي في “قلب الظلام”، يصّور السياق السياسي والجغرافي والاجتماعي والتاريخي المُحايث لتلك الزيارة. وبرغم اقتضابها، لا يفارقنا الشعور بكثافتها وثرائها وحمولتها البلاغية والمجازية المواربة، فثمة في كل جملة وكل خلاصة، ما يمكن التريث عنده ومساءلته. أقل ما يوصف به سرد كهذا بأنه سرد شائك وملتبس. ولعل الحيرة تراود المرء إن كان هذا الالتباس متأصلاً في حيواتنا ووقائعنا، أم أنها مهمة كولونيالية أخرى “مرة أخرى تبعاً لكونراد”.. ومرة أخرى الأسئلة المتصلة بتواريخنا واجتماعنا وجماعاتنا “المتخيلة” والواقعية (المترجم).

في حزيران 1945 كان القضاء العلوي في محافظة اللاذقية في حالة غليان. وكنا، بقوامنا المؤلف من نصف دزينة من عناصر الإشارة، القوات البريطانية الوحيدة في المنطقة، لذلك كان وصول المدمرة H.M Musketeer ورسوها في المتوسط بالنسبة إلى الرائد B وبالنسبة إلي شخصياً، أمراً مُرحباً به في حالة طوارئ كهذه. لم يكن ثمة وقت لتضييعه في وضع قائدها، الكابتن S في الصورة وبسرعة بالغة استوعب أساسيات وضع سياسي شديد التعقيد. كان من الواضح أن علينا اتخاذ خطوات لإبقاء العلويين هادئين في هذا الشجار بين الوطنيين السوريين والفرنسيين، وإلا فإن جهودنا لمنع إراقة الدماء لم تكن لتنجح لفترة أطول. أسرد قصة أفعالنا في هذه الزاوية غير المعروفة من بلاد الشام، كمثال على عملية سياسية مشتركة غير عادية قام بها ممثلو جميع الفروع الثلاثة للخدمة.

يشكل العلويون طائفة دينية في الإسلام، ويبلغ عددهم نحو 350.000 نسمة، ويسكنون الجبال في الداخل مباشرة على بعد 100 ميل من ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​في سوريا. إنهم أقلية لا يستهان بها في السياسة السورية، حيث يصل عددهم إلى ما يقرب من 10 في المئة من السكان. العلويون، في التقسيم الرئيسي للإسلام إلى طائفتين كبريَين، سُنّة وشيعة، أقرب إلى الشيعة، بينما الغالبية العظمى من سكان سوريا هم من السنة وينتمي جميع القادة الوطنيين تقريباً إلى تلك الطائفة. لذلك، كان من المحتم أن يكون العلويون متشككين إلى حد ما في حكومة دمشق. ما زالت الحياة الاجتماعية للعلويين خاضعة للنظام الاقطاعي، كما أن معتقدهم ما زال سرياً: مزيج غريب، إسلامي إلى حد كبير، لكنه يستمد خصائص معينة من المسيحية- عقيدة التثليث على سبيل المثال- ومن الوثنية وعقائد ما قبل المسيحية –الإيمان بالتناسخ واستخدام البساتين لدور العبادة على سبيل المثال. من بين أنبيائهم المسيح ومُحمد وعلي، لا تُقبل نساؤهم في الشعائر الدينية ولا يُنظر إليهن ككينونات روحية. للعلويين ولع متسلقي الجبال بالقتال، وقد مكّنهم قضاؤهم الجبلي من الحفاظ على هويتهم عبر قرون من الحكم الأجنبي، كما أن مستوى معيشتهم متدنٍّ وجميعهم فقراء باستثناء زعمائهم الإقطاعيين، ولعل أهم هؤلاء الزعماء في وقت كفاح سوريا الأخير من أجل الاستقلال، هو سليمان مرشد، الذي غالباً ما يشير إليه الأوروبيون بـ”الإله”.

سليمان مرشد لم يزعم أمامي أبداً أنه “إله” بأي شكل من الأشكال. من ناحية أخرى، يُقدر أن حوالى 50.000 شخص يعتبرونه تجسيداً للإله ويمكن القول إنهم يعبدونه بمعنى أنه سيدهم المطلق.

سليمان أفندي، كما يُعرف محلياً، رجل داهية وقد علم أنني ذكرت في مناسبات عديدة أنه من “العار” أن يتظاهر الرجل بأي من صفات الله. وأوضح لي لاحقاً أنه كان “رب” أو “سيد” بمعنى أنه “سيد الإقطاعية”. ومع ذلك، أعتقده وجد في بعض الأحيان أنه من المجزي بالنسبة له أن يكون “الرب” بمعنى كونه كليّ القدرة وبمعنى إمكانية إفلاته من العقاب. تقول القصة أن اثنين من المشايخ العلويين الفقراء، أعلنا أن فتى مُحتضراً من الرعاة يمثل تجسداً لعليّ. كانت فكرتهما بناء قبر له وجعله مزاراً مميزاً بشكل خاص لجذب أعداد كبيرة من المتعبدين. غير أن الفتى “سليمان مرشد” نجا، وبمساعدة واحدة أو اثنتين من “المعجزات” الحاذقة التي ستُكسبه لقب “صاحب الحذاء الفوسفوري”[1] في البحرية الملكية، بدأ في بناء سمعته بوصفه تجسداً إلهياً. يُزعم أنه أخرج الماء من صخرة بواسطة أنبوب مطاطي يسري في كمه، واكتسب العديد من الأشياع بواسطة هذه العجائب. بعد ذلك، اختفى الشيخان من القصة، وعاش سليمان حياة متقلبة، زاد خلالها بشكل كبير من حيازاته من الأراضي، وبالتالي ثروته – فالجبال العلوية تزرع تبغ اللاذقية الذي كان معروفاً ذات يوم- بطرق قوية إلى حد ما. في وقت من الأوقات، كان على الجانب الخطأ بالنسبة لسلطات الانتداب الفرنسي، وعانى فترة من النفي، لكنه حصل في ما بعد على تفضيلهم وأصبح في الوقت المناسب نائباً في البرلمان السوري.

عندما تم إرسالي إلى اللاذقية في تشرين الأول 1944، كان سليمان أفندي ما زال نائباً، لكنه كان ينتمي إلى المُعارضة، كما تم وضعه في الإقامة الجبرية من قبل السلطات السورية في دمشق ولم يُسمح له بالعودة إلى جباله الأصلية. كان لديه عدد مُرضٍ من الزوجات، واحدة في كل قرية من قراه المختلفة، لكن زوجته الرئيسية، أم فاتح، كانت في ذلك الوقت تمثل “الرب الغائب” وتستمتع ببذخ في سكنهم الجبلي في جوبة برغال[2]. ثم حصل خلاف مؤسف في الرأي بين أتباع أم فاتح وسلطات الحكم المحلي، حيث عانى رجال الدرك التابعون للأخيرة من تقهقر على أيدي أتباعها الذين تبين أنهم مسلحون بشكل جيد للغاية. كان هذا الاستهزاء العلني بسلطتهم أمراً لا يحتمل بالنسبة لحكومة دمشق، وقد أرسلوا قوة كبيرة من الدرك تحت قيادة القائد المتمرس محمد علي. كانت الإجراءات اللاحقة معقدة، وكان هناك الكثير من النشاط السياسي، لكن الفرنسيين أرسلوا قوات من العلويين والأفارقة إلى جوبة برغال لمنع إراقة الدماء، وظلوا ماكثين هناك خلال الأسابيع التالية، ما أثار اشمئزاز محمد علي، الذي كان واثقاً من هزيمة المتمردين. في هذه الأثناء، عاد فاتح، الابن الأكبر لسليمان أفندي، إلى منزله وتمكن “مستخدماً لغته الفرنسية” من التحدث بطلاقة مع مختلف المسؤولين السياسيين الفرنسيين الذين جلبتهم مهامهم إلى جوبة برغال. عندما اندلع القتال في دمشق، واتضح أن السوريين مصممون على الرهان بكل ما لديهم من أجل الاستقلال التام، وجد سليمان مرشد نفسه في موقف صعب للغاية. وبعد قدر معين من المساومة السياسية، وقف في مجلس النواب السوري وأعلن عن تغيير كامل في موقفه، واعترف بأنه استرشد بشكل خاطئ بنصائح خارجية، ووضع نفسه وجميع أتباعه تحت تصرف الوطنيين السوريين. بعدما التف على هذا النحو حول قضية الاستقلال، لم يعد من الممكن احتجازه في دمشق، وبالتالي عاد إلى موطنه في جبله الشاسع. بالإضافة إلى القوة الفرنسية المغربية، كان الجبل يضم الآن “ذراعاً” بريطانية ممثلة بالكابتن N، الذي كان يخيم هناك مع جيب ولاسلكي متصلاً مع الجميع، وإن كان يجد واجباته في التنسيق الفرنسي أقل بهجة مما هي عليه في العادة. لا بد أن تفسيرات سليمان أفندي لموقفه المتغير لمختلف الأطراف المهتمة، فرضت أعباء عليه، على الرغم من براعته الكبيرة.

كان هذا هو الحال حين عقدنا مؤتمرنا في المدمرة Musketeer H.M. وكانت مشكلتنا، بما أن البريطانيين كانوا في نهاية المطاف مسؤولين عن الحفاظ على القانون والنظام، هي كيفية إقناع القادة العلويين، خصوصاً أكبر مثيري الشغب، سليمان مرشد، بأنه لا شيء يمكن كسبه من خلال أعمال العنف. لم نكن متأكدين من أنه قدّر تماماً حقائق الوضع، إذ تنتقل الأخبار ببطء في جبال العلويين، ولم يكن من المرجح أن يخبره أصدقاؤنا الفرنسيون أن البريطانيين قد تحركوا بقوة لضبط الفوضى التي انجرفت إليها الأمور. كما لم يكن بوسعنا التأكد من أن تمسكه اللفظي بقضية الاستقلال كان أكثر من مجرد خدعة للخروج من دمشق – فقد غادرها بسهولة قبل أن يقصفها الفرنسيون. كنا قلقين للغاية من أنه لا ينبغي أن يدعم أياً من الطرفين بالأفعال، إذ كان بإمكانه وضع آلاف الرماة الأقوياء في الميدان، وكان الوطنيون يزعمون أنه يمتلك أسلحة وقنابل يدوية. وهكذا قررنا الصعود إلى جوبة برغال لزيارة “الرب” شخصياً وأرسلنا رسالة لاسلكية إلى “ذراعنا” لتحضيره لوصولنا.

انطلقنا في سيارتي جيب، قبل اشتداد حرارة النهار، صباح الأحد. قاد الرائد B، من البعثة الأمنية البريطانية، السيارة الأولى رفقة القائد S، وتبعتُهما مع القائد محمد علي ممثلاً عن السلطات السورية المحلية في الجيب الثانية. حدّقت إلينا القوات السورية التي يقودها الفرنسيون أثناء مرورنا بالمواقع الدفاعية على التل الذي يُشرف على اللاذقية من جهة البر. كان قيظ الصيف قد بدأ بالفعل في حرق السهل الساحلي الذي تلون بظلال من الأصفر والبني حيث تفرعنا عن الطريق الرئيسي وسلكنا المسار الوعر الذي يؤدي إلى التلال العلوية. صعدنا بسرعة، متجاوزين المكان الذي أُجبرت فيه شاحنة محملة بالدرك السوري على الاستسلام لبعض “قوات” مرشد بعد معركة استمرت ساعتين. لم يسعني إلا أن أتفق مع محمد علي أنه كان مكاناً مثالياً لكمين. سرعان ما خرجنا من الحرارة الرطبة للسهل الساحلي وبدأنا نتنفس الهواء الجبلي البارد المعطر برائحة السنديان والأشجار العطرية والشجيرات التي يستخدم دخانها لإعطاء تبغ اللاذقية لونه الأسود المميز. تقول القصة إنه قبل حوالى مئة عام، عندما كانت بريطانيا العظمى تستورد معظم التبغ العلوي، كان لدى القرويين في سنة واحدة محصول وفير، أكثر بكثير من الكمية المطلوبة للشحن. قاموا بتخزين الفائض، ولأنهم لم تكن لديهم مساحة كافية، علقوه في أسقف منازلهم. في العام التالي ولأن محصولهم كان سيئاً، قرروا تضمين فائض العام الماضي، لكنهم وجدوا أنه أسود تمامًا من دخان حرائق الخشب. لذلك أخفوه في وسط بالاتهم، تاركين التبغ الأشقر في الخارج. كانت مفاجأتهم كبيرة عندما ورد خبر من إنكلترا يفيد بأن نوعاً جديداً من التبغ الأسود كان موجوداً في وسط البالات، وأن مدخني الغليون وجدوه رائعاً، وأن عليهم إرسال كل ما في وسعهم منه.

تجري عملية التدخين الآن في مبان خاصة في الجبال، حيث يتم رفع التبغ على ظهر البعير إلى المستويات التي تنمو فيها الأشجار وتعالج هناك لأشهر قبل أن يتم نقلها إلى اللاذقية للشحن.

تأرجحنا في طريقنا عبر الممر الضيق الذي تشرف عليه القلعة الصليبية المدمرة في قلعة المهالبة[3]، إحدى سلاسل حصون الفرنجة التي تغطي هذه الجبال. على الرغم من أن الطريق المباشر لسليمان أفندي يبلغ طوله أقل من 30 ميلاً، إلا أنه يرتفع 4000 قدم ولا يمكن عبوره سوى بالسيارات. أمتعني محمد علي بقصص المناوشات الماضية، وأشار إلى المواقف الدفاعية العريقة في الصخور. كان يعرف سليمان مرشد جيداً، بعدما جاء مرة لاعتقاله، وجعله يمشي طوال الطريق. وقف الرائد B على قمة حادة، وامتد منظر رائع عند أقدامنا. كان بإمكاننا رؤية منازل جوبة برغال في قاع وعاء ضخم من الأرض المزروعة والمصاطب، التي تبعثرت في المنحدر الإضافي، حيث كان منزل الرب، الذي يشبه الصندوق مطلياً باللون الأبيض وأعلى من باقي المنازل. من جميع الجوانب، ارتفعت التلال المغطاة بالصخور، وبلغت ذروتها في قمة سلسلة جبال العلويين على ارتفاع 500 قدم فوق القرية. كان الأمر أشبه برؤية [4]”Shangri La” في الهواء الذي كان لا يزال نقياً ، لكنها كانت أكثر وحشية وعظمة حجرية من تخيلاتي عن هذا الوادي المثالي.

أخبرنا الرائد B الذي كان قد زار جوبة برغال من قبل، وأنه من الأفضل التوقف عند هذه النقطة أيضاً حيث أبقى سليمان مراقباً حاملاً لنظارات ميدان بشكل دائم على سقف بيته وكان المسار المتعرج شديد الانحدار ملتفاً، بدءاً من القرية في كل ياردة من طوله. بعدما منحنا “الرب” وقتاً للتعرف علينا، نزلنا وسرعان ما وصلنا إلى حيث الكابتن N الذي كان يخيم في بقعة شاعرية وسط الأشجار والصخور على بعد بضع مئات من الأمتار من القرية. أخبرنا أن سليمان كان ينتظرنا وأن الفرنسيين قد أُبلغوا بزيارتنا. قررنا إجراء مكالمة مجاملة إلى الأخيرين الذين كانوا يخيمون في منازل مدمرة لزعيم منافس في أسفل القرية، والذي كان قد انحاز بشكل غير حكيم إلى الدرك، ما تسبب بحرق منازله من قبل رجال الرب الذين خرجوا لنصرته. استقبلنا بعض الضباط الفرنسيين ببرود شديد، وبعدما اخبرونا أن قائدهم كان بعيداً غادرنا. تذكرتُ العشرات من المناسبات السعيدة والأخوية التي قضيتها مع أصدقائي الفرنسيين وندمت على هذا الاجتماع المتكلف للغاية. قدنا في شارع القرية، وهو عبارة عن سلسلة متوالية من الانحناءات القاسية والمنحدرات الصخرية شديدة الانحدار التي تشبه مجرى النهر أكثر مما تشبه طريقاً، ولدى دوراننا حول زاوية حادة توقفنا في فناء منزل الرب.

كان سليمان مرشد، رفقة ابنه فاتح والعديد من أتباعهما، واقفاً على الدرج وحيّانا بالترحيب السوري المعتاد “أهلاً وسهلاً”. جرمه الضخم ووجهه المكتنز المحمر، شهدا على تمتعه بأشياء الحياة الجيدة، بينما عكست عيناه المرواغتان الصغيرتان مستوى ذهنياً مُحيراً إلى حد ما. في الواقع، استغرقه الأمر أكثر من ساعة ليتخفف من الحذر الشديد في ما يتعلق بالطريقة التي كانت تهب بها الرياح سياسياً. قدمتُ القائد S بصفته قبطان “المدمرة” التي كانت ترسو في ميناء اللاذقية أدناه، وأعطيتُ بعض المؤشرات على حجمها وقوتها والغرض من زيارتها للأراضي العلوية. اكتشفتُ لاحقاً أن سليمان مرشد اقتنع من الشائعات المحلية أن المدمرة Mttsketeer يمكن أن تطلق وابلاً من القذائف على منزله في جوبة برغال، وهو وهمٌ سعيد أحجمتُ عن تبديده.

تمت استضافتنا في صالون يحتوي على كراسي وأرائك وطاولات من الطراز الريفي الفرنسي في القرن التاسع عشر، كل منها مع حصائرها المطرزة مرتبة حول الجدران بالطريقة السورية. أخفت عباءة فاتح الجزء الأكبر من جسده أكثر مما فعلت بذلة والده الأوروبية التي يكملها الطربوش الأحمر، وهي الزي المعتاد للسياسي السوري. كانت المحادثة متكلفة في البداية، إذ ترك الرب المبادرة بعناية لنا، ولفاتح، لنوشي حديثنا ببعض الفرنسية المنمقة. بدا أن سليمان يفضل التحدث من خلال ابنه باللغة الفرنسية، بدلاً من العربية مباشرة، وربما كان يعوّل على فاتح لجعل عباراته دبلوماسية قدر الإمكان. علمنا في ما بعد أن حذره قد زاد بشكل كبير بسبب اعتقاده أن الخطوط الذهبية المعلقة على كتفي القائد S الذي كان يرتدي البذلة الصيفية الخاصة بالبحرية الملكية، تشير إلى أن القائد S كان ضابطاً فرنسياً. لذلك كان من المستحيل عملياً على سليمان مرشد، الذي تخلى مؤخراً عن ارتباطاته الفرنسية علناً، والذي كان يعرف أن البريطانيين يؤيدون استقلال سوريا بشدة، أن يقرر ما سيقوله لزواره البريطانيين عندما بدا أنهم بصحبة ضابط فرنسي وكذلك محمد علي من الدرك السوري. مع ذلك، ثابر حتى النهاية بشكل جيد، وذاب الجليد تدريجياً، جزئياً بفضل الويسكي السخي، الذي داوم علي سليمان، قائد جيش سليمان مرشد، الرجل الصلب ذو العيون الناعسة، على سكبه للحاضرين. بعد تناول عدد لا يحصى من حبات الفستق ووجبة صغيرة من المازة، مثل الطماطم، والبيض المسلوق، واللحوم المقلية، وما إلى ذلك، وتماماً كمقبلات للغداء، سمعنا الدبكة والتصفيق الإيقاعي من خارج نافذة مفتوحة. سألنا فاتح إذا كنا نرغب في مشاهدة الرقص وخرجنا إلى الشرفة.

كانت ثلاثون فتاة علوية، بملابسهن المحلية ذات الألوان الزاهية، والتي تتكون من سلسلة من التنانير، والشالات ذات الأنماط الزهرية المتناقضة، مع سراويل قطنية مطبوعة ضيقة عند الكاحل، يؤدين “الدبكة” بأذرع متشابكة في نصف دائرة طويلة. رددن نوعاً من النشيد، بينما غنى دليلهم أبياتاً مرتجلة، وكبحن رقصتهن البطيئة بنعالهن الجلدية الشاكة في الفناء المترب. وقفت حولهن حلقة من الشجعان العلويين المعجبين، وقد تخلوا عن بنادقهم لهذه المناسبة، وصفقوا بأيديهم في الوقت المناسب وحثوا الراقصات. هؤلاء الفتيات ذوات العيون الجريئة تمايلن، قفزن وضربن الأرض بأقدامهن بإيقاع رتيب منظم، فيما أطرت الخلفية الوعرة للجبال المشهد برمته ومنحته خلوداً وحيوية جاعلة منه مشهداً لا يُنسى. قام فاتح، في البداية، بترجمة الكلمات التي كن يرددنها تكريما للقائد S، الذي كانت هويته قد ثبّتت في ذلك الوقت. كان من الممتع مشاهدة وجه القائد يستمع إلى الترجمة:

“جاء الأدميرال البريطاني الوسيم والشجاع بسفينته العظيمة التي أغرقت كل القوات البحرية الألمانية والإيطالية. بنظرة عينيه، ازدهرت جميع زهور الجبال العلوية واشتعلت قلوب جميع الفتيات العلويات”. وأكثر من ذلك بكثير لإحداث التأثير ذاته.

كانت مأدبة الغداء هائلة، وتتابعت أطباق اللحوم، لكن النبيذ المزروع في كروم مرشد متبوعاً بالشمبانيا الفرنسية، ساعدا إلى حد ما في التخفيف من أثرها. تناولنا قهوتنا جالسين على صف من الكراسي على طول حافة الشرفة، في حين ضاعف الراقصون، الذين كانوا يؤدون عروضهم لمدة ساعتين على الأقل، جهودهم لاهثين. انتهزتُ الفرصة لإجراء محادثة هادئة حول واقع الوضع السياسي مع سليمان مرشد، الذي كان يجلس بجواري، وكان الآن في مزاج أكثر انفتاحاً. وجدتُ أنه يتمتع بروح الدعابة، وكان سريعاً في استيعاب أي فارق بسيط في ما أردتُ نقله إليه. واتفق على أن من الحكمة التزام الهدوء في جباله والحفاظ على علاقات جيدة مع الجميع، خصوصاً السلطات المحلية السورية، إلى أن يتم حل القضايا الأكبر في المشكلة السورية، وبعد ذلك تعهدتُ بتقديم المشورة لمحافظ المقاطعة لإيلاء الاهتمام المتعاطف لتسوية شؤونه. لقد اعتبرتها مجاملة عندما قال في نهاية حديثنا: “كما تعلم، أعتقد أنه يجب أن نكون شركاء، يجب أن نعمل بشكل جيد معاً”. ثم ألقى محمد علي كلمة، تعامل فيها بحكمة مع المشاكل المحلية الحرجة وأكد لأتباع مرشد أن الحكومة السورية تعتبرهم جميعاً أبناءها وليست ضدهم شريطة أن يكونوا مخلصين. بدوا مشوشين وغير عابئين بهذا التغيير المفاجئ من وضع المتمردين إلى وضع الأطفال. ومع ذلك، عندما نهض مرشد وقال بضع كلمات مفادها أنه يجب عليهم الآن اتباع الحكومة السورية والنضال من أجل الاستقلال، كان يمكن للمرء أن يشعر بمدى قوته من خلال قبولهم الكامل للوضع الجديد. قام أحدهم بتسليم الراقصة الرائدة في الدبكة، العلم السوري، بدلاً من المنديل الملون الذي كانت تلوح به، وقررنا المغادرة من دون الرغبة في دعم جانب واحد دون الآخر في هذا الشجار، وإنما الرغبة فقط في منع المزيد من إراقة الدماء. غادرنا جوبة برغال صاعدين من تلك الفسحة بين الجبال ومثقلين بوجبة غداء كبيرة جداً آملين أن يحل الهدوء فيها حاملين ذكريات يوم لا يُنسى.

رابط المقال: e: http://dx.doi.org/10.1080/03068374608731210

[1]- ضرب ما من معجزة أو صنيع خارقٍ ما قام به سليمان المرشد على ما تحدثنا المرويات الشعبية. “م”

[2]- قرية في جبال العلويين. “م”

[3]- قرية في جبال العلويين “م”

[4]-  Shangri La شانغري لا، هو مكان خيالي وُصف في رواية الفردوس المفقود التي كتبها الروائي البريطاني جيمس هيلتون العام 1933 . وصف هيلتون شانگري-لا على أنها وادٍ أسطوري، متناغم، يمكن الذهاب له بسهولة عن طريق دير، ويقع بالقرب من الطرف الغربي لجبال كونلون.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى