الناس

عن موت المهاجرين في البحر -ملف مقالات وشعر ورثاء-

أعرفُ المُهرّب والهاربين: عن “تابوت أرواد البحري”/ أحمد حاج حمدو

أنا واحدٌ من السوريين الذين استغلّهم مهرّبو البشر، وقد وُضعت في قاربٍ متهالك وبائس حتّى إنّه كان أشدّ بؤساً من حياتي عندما قرّرت الرحيل، وبسبب هذه التجربة، صرت أعرف المهرّبين جيداً، أعرفهم حين يكذبون، ولكن لم أختبرهم حين يصدقون، أعرف كيف يخدعون اليائسين أشباهي في التوابيت البحرية.

قبل أن أحكي ما لديَّ من معلومات ووقائع وشهادات حصلتُ عليها لهذا التقرير، أريد أن أقول إنّني أعرفهم جميعاً، أعرف المهرّب جيداً كما أعرف الهارب.

أنا واحدٌ من السوريين الذين استغلّهم مهرّبو البشر، وقد وُضعت في قاربٍ متهالك وبائس حتّى إنّه كان أشدّ بؤساً من حياتي عندما قرّرت الرحيل، وبسبب هذه التجربة، صرت أعرف المهرّبين جيداً، أعرفهم حين يكذبون، ولكن لم أختبرهم حين يصدقون، أعرف كيف يخدعون اليائسين أشباهي في التوابيت البحرية.

 آخر هذه التوابيت كان القارب الذي انطلق من شمال لبنان، وغرق قرب جزيرة أرواد السورية وهو في طريقه إلى الشواطئ الإيطالية وراح ضحيّته أكثر من 100 غريق في حصيلة غير نهائية، لقد أعادهم المهرّب ليموتوا على شواطئ البلاد التي هربوا منها.

كما أنّني أعرف المصطلحات الفضفاضة التي يستخدمها المهرّبون عند إقناع اللاجئين بدفع الأموال واعتماد الرحلة، سمعتُ الكثير عن جملة “الطريق دهب” و”ما بطالعك حتّى أتأكد أنو البحر متل قالب الزبدة” في إشارة إلى تأكّد المهرّب من ارتفاع الموج وسرعة الرياح واتجاهها، لكنّه لا يفعل أي شيء من هذا القبيل، ولا يرافق اللاجئين في رحلتهم فهو غير مضطر لوضع نفسه في المخاطرة ذاتها، جل ما في الأمر أنّه يدرّب أحد اللاجئين على قيادة القارب مقابل إيصاله إلى الضفاف الأخرى مجاناً.

وبالحديث عن الضفاف الأخرى، أنا أعرف الهاربين الذين تأكّد غرقهم في فاجعة السفينة الغارقة قرب جزيرة أرواد، والبالغ عددهم أكثر من 100 شخص في إحصاء غير نهائي، وأعرف الذين ما زال مصيرهم مجهولاً، لأن خفر السواحل السوري الباحث عنهم متهالك، وأعرف الذين نجوا ويخضعون للعلاج في المستشفيات حالياً، لذلك فإنني أعرف الـ160 شخصاً الذين كانوا على متن القارب المكلوم، سواء كانوا سوريين أو لبنانيين أو فلسطينيين.

على أقل تقدير، أنا متأكّد من أنّني شاركتُ السوريين منهم المشاعر ذاتها عندما نجوت من غارة جوّية أو برميل متفجّر أو قذيفة هاون، وتحمّلت معهم ملل ساعات الانقطاع الطويل للكهرباء، أكلت معهم من خبز المخابز الاحتياطية، ووقفت وشاركتهم الأحاديث المملّة على طابور الخبز.

لديَّ يقين بأنّني رقصت معهم على الأغنية ذاتها في أحد الأعراس الشعبية، وطأطأت رأسي لثلاث ليالٍ في عزاء سوريٍ تقليدي، معهم، وأكاد أجزم أنّني حيّيت “حزب البعث” الذي كان سبباً في هروبي وهروبهم إلى عُباب البحر، وذلك خلال الوقوف على تحيّة العلم الصباحية في المدرسة الابتدائية السورية، وربما نكون جميعنا قد انتظرنا معاً على مضض حلقة المسلسل الإذاعي السوري الأسبوعي “حكم العدالة” التي تنتهي دائماً بانتصار الضحية وندم الجاني على ما اقترفته يداه.

أعرف اللبنانيين منهم، ومعظمهم من طرابلس وعكار، ومنهم سائق التاكسي الطرابلسي الذي نقلني من ساحة النور إلى طريق الضنّية، أعرف حي القبّة وساكنيه وأصحاب متاجره البسيطة، هناك حظيت باللقاء الأول بمن أحببت، وفي باب الحديد اشتريت الخاتم الذهبي!

المعلومات التي توفّرت حتّى الآن، وتمكّنا من جمعها من أقرباء لثلاثة أشخاص سوريين كانوا على متن المركب المنكوب أكّدت بشكلٍ متطابق أن القارب انطلق من نقطة قريبة من ميناء طرابلس، لكن الانطلاق لم يكن بالسفينة المنكوبة مباشرةً لأن اقترابها من الشاطئ كان من شأنه أن يُفشل الرحلة، ويجعل المهاجرين يمتنعون عن الصعود، لذلك سعت شبكة التهريب إلى نقلهم بسفن سريعة وصغيرة على دفعات نحو القارب المنكوب الذي كان ينتظرهم بعيداً من الشاطئ. كان الانطلاق بحدود الساعة الخامسة والنصف من فجر يوم الثلاثاء (20 أيلول/ سبتمبر)، وكان الاتفاق يقضي بأن المهرّب جهّز باخرة متينة وضخمة، عرض صورها عليهم، على أن يضع على متنها 70 شخصاً لتنطلق إلى إيطاليا، ولكن عند تجمّع المهاجرين، اكتشفوا أنَّ عددهم يزيد عن 160 شخصاً ووجدوا أنفسهم داخل مركب متوسّط الحجم ومتهالك ومصنوع من الخشب، لقد كان أشبه بتابوت بحري.

في تلك اللحظة عند الوصول إلى نقطة التهريب يختلف الاتفاق، وتتغيّر كل وعود المهرّب، وليس أمام الشخص سوى الصعود طوعاً أو كرهاً، لا يمكن التراجع بعد اكتشاف نقطة التحميل.

حصل المهرّب المدعو “أبو علي” بحسب دعوات من كانوا يغرقون، على نحو ستة آلاف دولار أميركي من كل شخص، أي أنّه كان يخطّط لربح يصل إلى مليون دولار أميركي من هذه الرحلة، كانت كل المعطيات تشير إلى أن القارب سيغرق، بما في ذلك ارتفاع موج البحر وسرعة الرياح، وصغر حجم القارب وتهالكه، إضافةً إلى عدد الركاب الكبير.

سار القارب باتجاه الشمال الغربي في عمق البحر بعيداً من أي شواطئ أو جزر قريبة من أجل تسهيل مهمّته وجعلها مختصرة، ولو كان ذلك على حساب إمكانية إنقاذ الأرواح عليه من شواطئ قريبة في حال غرقه، وبعد نحو ثلاث ساعات من المسير، أدرك الركّاب أن القارب غير جاهز لهذه المهمّة، حاولوا التواصل مع المهرّب لإعادتهم إلى طرابلس، بعضهم تنازل عن المبلغ مقابل العودة فقط ولكن المهرّب لم يتجاوب معهم وقرّر متابعة الرحلة.

بعد بضع ساعات أخرى من المسير، وتحديداً عند ظهر يوم الثلاثاء، تجمّعت المياه على المحرّك بسبب عدد الركاب الكبير الذي سبب ضغطاً على القارب، فتوقّف المحرّك عن العمل، وتوقّف القارب وسط البحر، فيما الأمواج مرتفعة جداً ولا نقطة إنقاذ قريبة. بدأ الركّاب يحاولون تفريغ المحرّك من المياه ولكن بسبب وقوف القارب وعدم تحرّكه بين الأمواج، تمايل يميناً ويساراً لبضع دقائق قبل أن يميل الميلة الأخيرة وينقلب مبعثراً معه العشرات.

المعلومات المُتوفرة، إضافة إلى تحليل بحّار قابله “درج” تؤكّد أن المركب غارق لا محال، فلو افترضنا أن وزن كل شخص وسطياً هو 70 كيلو غراماً، فسيكون وزن 160 شخصاً على متن القارب نحو 11 طناً، تضاف إليه أمتعة وأطعمة ومياه شرب تكفي لأسبوع في البحر.

 ولا ننسى أن القارب كان يحمل مادة مازوت تكفي للإبحار لأكثر من 1800 كيلومتر حتّى الوصول إلى إيطاليا، وهو ما يُعادل نحو 3 أطنان من المازوت، استناداً إلى تقدير حجم القطعة الخشبية التي كانت تبحر، والتي تحتاج إلى ما لا يقل عن 8 ليترات من المازوت في كل ساعة مسير، هكذا، حملت تلك القطعة الخشبية المهترئة نحو 15 طناً. المركب كان غارقاً لا محال!

من يقرأ هذا المقال ليس بحاجةٍ إلى سؤال عن سبب تحميل الناس بهذه الطريقة لأن الإجابة بدهية، العرف العام بالمهرّبين يقوم على لغة الأرقام لا الأرواح، فعلى سبيل المثال يدرك المهرّب جيداً أن القارب لن يعود، سواء تم الإمساك بالقارب في المياه اللبنانية أو اليونانية أو القبرصية أو حتّى في حال نجحت الرحلة ووصلت إلى إيطاليا، في جميع الحالات لن يعود القارب، لذلك فإن المهرّب ليس بصدد شراء قارب حديث ومتين بمبلغ يصل إلى 300 ألف دولار في رحلة رأسمالها مليون دولار، إنّها خاسرة في عرف المهرّبين.

حتّى الآن لا رواية كاملة تشرح بالتفصيل ما حدث خلال ساعات الليل والنهار الطويلة التي أمضاها الركاب حتّى بدأت الجثث تتدفّق قرابة جزيرة أرواد السورية، لكن الأكيد أن أكثر من مئة شخص حتى الآن دفعوا ثمن القهر والفقر وجشع المهرّبين، وخسروا حياتهم، فيما تستعدّ قوارب موت جديدة للانطلاق… وكأنّ شيئاً لم يكن!

درج

—————————–

رسالة من غرقى قارب طرابلس: “كنا نريد النجاة لكننا متنا”/ مناهل السهوي

ككل الغرقى لم نمتلك، نحن المهاجرين غير الشرعيين، حقَّ الدفاع عن خيارنا في ركوب البحر، بعضكم يدرك أن هذا الخيار ليس نابعاً عن جهل أو لا مبالاة بحياتنا أو حياة أطفالنا، إنما عن يأس من الوطن ورغبة في حياة كريمة، ما يدفع الإنسان إلى المخاطرة بحياته… والموت أحياناً.

لسنا من اختار الغرق… ولم نختر وضع أرواحنا على قارب خشبي أو الاختناق في مياه غريبة. لا شيء، لا شيء حرفياً في هذه البلاد، وجملة “بناكل من التراب وما بركب بالبحر”، ليست سوى كلام فارغ، لو كان التراب يؤكل لما جاع الآلاف، قبل أن تلومونا لأننا ركبنا البحر ولسوء حظنا غرقنا، يجب أن تصوبوا الأخطاء وترددوا اسم القاتل الحقيقي والأول، هل تملكون الجرأة؟ وإن كنتم لا تملكونها، كونوا أكثر رحمة، قبل أن تقولوا عنا: “هؤلاء الجهلة”، لماذا لا تعيدون تعريف الجهل في الحالتين السورية واللبنانية؟ هناك فرق شاسع بين فقدان الأمل والجهل، وقبل أن تقولوا: “هنن قتلوا حالهن، ما حدا قلهن يركبوا البحر”، فلنتذكر أن المجتمع الدولي شاهد مآسي السوريين من دون أن يسعى إلى حل إنساني أو سياسي حقيقي. يحقُّ لنا أن نختار لمرة بعد عقود من حياة القمع والفقر والهزيمة.

أسباب لركوب البحر

هل يسمى التنفس حياةً؟ هل الفتات والخوف من كل شي، يصنّفان حياة؟ هل جربتَ انتظار دورك لتحصل على ربطة خبز جاف؟ هل جربت العيش من دون غاز للطبخ ومن دون كهرباء ووقود للتدفئة؟ وإذا وجِد فهو بالكاد يكفي، ويجب أن تفكر في كل مرة تتجرأ فيها على فتح أسطوانة الغاز، لأنها إذا نفدت فلن تحصل على غيرها بسهولة…

إن كنتَ تجد هذه حياةً طبيعية، فاتركْ الآخرين يبحثون عن رغيف خبز طازج وعن صباح يستيقظون فيه من دون خوف.

أكنت في يوم طالباً جامعياً عاجزاً عن الوصول إلى أي مصادر علمية؟ إذ أنه وبسبب العقوبات لا يستطيع الطلاب السوريون الوصول إلى أي مصادر في جامعات العالم، وحتى امتحانات اللغات، التي تطلبها جميع الجامعات في العالم، غير متاحة، وعلى الطلاب السفر إلى دول الجوار لإجراء الاختبار وهو ما يكلفهم مالاً وجهداً؟ ولو احتجنا حاسوباً محمولاً فعلى عائلاتنا بيع كل ما تملك أو سيتوجب علينا سحب قرض عقاري، سيتحول سداده إلى عبء إضافي، ناهيك عن معاناة المواصلات في كل يوم، إذ نصل إلى مدارسنا وجامعاتنا منهكين من التزاحم والوقوف في الحافلة، بعدما دُهست إنسانيتنا على الطرق، وهكذا يضيق كل شيء على أعناقنا، أسعارُ الكتب المرتفعة وكذلك لوازم الدراسة الأخرى والعيش في غرفة جامعية لا تصلح حظيرة للحيوانات. هل جربتم أن تشاركوا غرفة لا تتجاوز بضعة أمتار مع عشرة أشخاص آخرين، وإن لم يكفِ ذلك لتسمحوا لليائسين بالبحث عن فرصة حياة، فنطمئنكم أن لائحة أسباب الهرب لا تنتهي، فحتى عندما ينهي الشباب تعليمهم عليهم الالتحاق بالخدمة العسكرية، التي قد تطول لفترة لا يعلمها غير الله، ليعيش خريجو كليات الآداب والطب والهندسة والعلوم برواتب بخسة، ما يجبرهم على الاستعانة بعائلاتهم مادياً. هؤلاء الشباب يمتلكون للمصادفة أصدقاء من سنهم، يعملون في مهن كريمة ويحصلون على رواتب جيدة لكن في مكان آخر، في المكان الذي يركب أترابهم البحر محاولين الوصول إليه. قد لا يكون ذلك كافياً لمن يلوموننا حين نركب البحر ونخاطر بحياتنا، هل تعلمون أننا لو أردنا ارتياد المواصلات فعلينا الانتظار أحياناً لساعات وقد يسقط أحدنا بعد تشبثه بباب الحافلة فتدهسه وتكمل طريقها!

أسباب إضافية للمخاطرة بحيواتنا

قد لا يكون هذا كله كافياً بالنسبة إليك، لكن هل جربتَ الذل؟ أن تعيش حياتك بطولها مذلولاً لموظف الفرن والعسكري على الحاجز والموظف الحكومي ومعتمد الغاز ورسالة البطاقة الذكية، التي تخبرك بوصول حصصكم من الأرز والسكر نوعية النخب العاشر.

قبل أن تلوم شاباً خاطر بحياته، هل جربت أن يتطاول صاحب سلطة لم يتجاوز العشرين سنة على والدتك لأنها قالت له إن قدميها تؤلمانها ولا تستطيع المشي؟ حسناً لم تجرب إذاً أن تُذلّ والدتك العجوز، لو جربت ذلك ربما ستعيد التفكير بأسباب رحيلنا.

إن لم يوقفك كل ذلك عن لومنا، فربما الأرقام تفعل ذلك، فبحسب صحيفة “قاسيون“، ومع بداية فصل الشتاء وصل متوسط الحد الأعلى لتكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد إلى 3.5 مليون ليرة سورية، بينما الحد الأدنى يبلغ نحو مليوني ليرة سورية، فيما الحد الأدنى لراتب الموظف، بعد الزيادة الأخيرة للأجور، فهو 150 ألفاً، ولنعتبر أن العائلة بأكملها تعمل، وهو أمر صعب، فيصبح دخل العائلة المكونة من خمسة أشخاص هو 750 ألفاً، أي أقل من نصف تكاليف المعيشة في حدها الأدنى، في حال كان كل الأفراد عاملين، أمّا إذا كان الوالدان فقط يعملان فهنا نحن أمام معضلة حقيقية، كيف يمكن لرب أسرة يستلم 200 ألف كحد أقصى، بينما يحتاج إلى نحو مليوني ليرة، ألّا يفكر بالسفر والمخاطرة بحياته وحياة أطفاله بينما يموت جوعاً!

أسباب لاصطحاب أطفالنا معنا

يلومنا البعض على اصطحاب الأطفال في رحلة الموت، لكن هل يعلم المنظرون أنه ومنذ العام 2015، وثّقت دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام مقتل أو إصابة 15 ألف شخص جراء الذخائر المتفجرة، بما يعادل مقتل أو إصابة خمسة أشخاص يومياً، وفي العام الحالي فقط مات حوالى 55 طفل بمخلفات الحرب وحدها! كما وثق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” 23 حالة اختطاف أطفال، 20 حالة منها نفذتها “الشبيبة الثورية” التابعة لحزب “الاتحاد الديمقراطي” في كل من الحسكة والرقة وحلب، ضمن مناطق نفوذ الإدارة الذاتية. لا يعني هذا أننا نرضى أن يموت أطفالنا في البحر، لكن وحين ظننا أننا نحميهم من الجوع والخطف ومخلفات الحرب، جاء البحر وأخذهم، هل نستحق اللوم لأننا خفنا على أطفالنا حتى في الوطن!

أسهل ما يفعله الخائف هو اللوم، ندرك أنكم خائفون، مثلنا، وتريدون رمي فاجعة موتنا علينا، لا تريدون النظر في الأسباب، أو تصديق الجحيم الذي نعيشه جميعاً. ولأنكم لم تجربوا حياةً كريمة، يعيش فيها الإنسان برفاهية وراحة دون الخوف من الغد، فستظنون أن الاكتفاء بهذه الحياة هو الحياة.

ككل الغرقى لم نمتلك، نحن المهاجرين غير الشرعيين، حقَّ الدفاع عن خيارنا في ركوب البحر، بعضكم يدرك أن هذا الخيار ليس نابعاً عن جهل أو لا مبالاة بحياتنا أو حياة أطفالنا، إنما عن يأس من الوطن ورغبة في حياة كريمة، ما يدفع الإنسان إلى المخاطرة بحياته… والموت أحياناً.

 عندما يكون ما خلفك ليس سوى هاوية تسحب سنوات عمرك وسعادتك ستتجه حتماً إلى آخر خيار تملكه، حين تستيقظ وتشعر بالعجز أمام عائلتك ستركب البحر، وحين تغلق دول العالم أبوابها في وجهك ستركب البحر.

————————-

 قوارب الموت في الأدب العربيّ: وطن صغير يركب البحر/ محمد ناصر الدين

«ما الذي ينبغي فعله عندما تنقلب سفينة تحمل مئة راكب، ولا يوجد على متنها سوى قارب نجاة واحد، يكفي عشرة أشخاص فقط؟ إذا كان القارب مليئاً، أعداء الحياة هم الذين يحاولون إنقاذ رُكَّاب أكثر فيغرق القارب، إلَّا أن الذين يُحبُّون الحياة ويحترمونها يُمسكون بالفأس، ويقطعون أيدي الذين يتشبَّثون بجانبَي القارب»: قد تكون هذه العبارات القاسية للكاتب العراقي والمقيم في فنلندا حسن بلاسم في روايته «قانون سولولاند» (منشورات المتوسط ـــ 2022) خير تعبير عن أدب جديد بدأ يحجز لنفسه مكاناً في التصنيفات الأدبية والروائية اليوم: فبعد رواية الحب ورواية الحرب والسفر والسيرة الذاتية وغيرها، ها هو أدب قوارب المهاجرين يقفز إلى الواجهة مع ما نسمعه كل يوم عن غرق مركَب في المتوسط وهلاك ركّابه، آخرها المركب اللبناني الذي غرق قبالة ساحل محافظة طرطوس، مودياً بحياة مئة شخص تقريباً. أدب يعبّر عن أولئك الذين تلفظهم أوطانهم لفظاً من أحشائها، بعد أن تقتل آمالهم في الحرية والخبز إلى آخر الحقوق المصادرة، وتدفعهم إلى سلسلة طويلة لها قاموسها ومفرداتها القاسية، من المهرّبين بفظاظة طباعهم وقربها إلى الرعاة والسوقة والمحتالين، إلى المراكب المضعضعة التي تنوء بأحمالها وتنكسر في العواصف، وسترات النجاة التي لا تدرأ الموت أو الغرق، والصلوات باللغات كلها حين يدنو الأجل، والصور التي تطفو فوق الماء حين تغرق المراكب، أو الجثث كجثة الطفل السوري إيلان التي لا يريد الرجل الأبيض، الطرف الأخير في السلسلة أن يراها حيّة تزاحمه على رفاهيته، فكما يقول بلاسم في الرواية ذاتها «هؤلاء الشَّمَاليُّون وأصحاب بشرة التفوُّق الأبيض يريدون أن يشبّهوا حالنا نحن اللاجئين والمهاجرين، كالجراد. يريدون أن يقولوا إنهم يخوضون حرباً ضدَّ تدفُّق أسراب الجراد من بقاع العالَم المتخلِّف، وهو يهدِّد محاصيل رفاهيَّتهم المقدَّسة. في الحقيقة، هؤلاء أبناء الرفاهية والاستهلاك الأناني هم الجراد الحقيقي والأخطر على هذا الكوكب. إنهم أخطر جراد في تاريخ البشرية». نستعرض في «كلمات» مقتطفات من الروايات العربية التي تناولت هذه الثيمة المستجدّة التي بدأت تفرض نفسها على الأدب العالمي، ولا سيما بعد فوز السنغالي محمد مبوغار سار بجائزة «الغونكور» الفرنسية عام 2021 كاعتراف بمجموع أعماله ولا سيما «جوقة الصمت» التي تناولت الموضوع ذاته

هدى بركات: «بريد الليل»

دار الآداب ــــ 2018

أعجبتني فكرة المشي على الماء، أنظر إلى أفراد المجموعة، وكلّهم من الناجين الذين تمّ انتشالهم من البحر، وفقدوا أصدقاءهم وأهلهم في القوارب الغارقة. ربما كان عليهم أن يحاولوا المشي على الماء. هذا نقص في إيمانهم أو في تربيتهم. لو كنّا من المؤمنين لمشينا، بلا القوارب وأخطارها وتكلفتها. أنا كنت انتعلت حذاءً مريحاً ومشيت، على وجه الماء إلى أوروبا أو أبعد…هههه، أو ربما جرّبت السكيت-بورد لأنه أسرع من المشي، وربما توقفت قليلاً من أجل بيكنيك لطيف على وجه الماء، تليه قيلولة تعزّز طاقتي على التزحلق.

بانكسي ــ «البحر المتوسط» (2017 ـ تفصيل)

ثمّ لماذا لا تقع أبداً قطعة القماش التي تغطي أسفل بطن المصلوب؟ سألته لأتسلّى. كان المصلوب آنذاك عارياً تماماً لإذلاله. قلت: المصلوب يكون عارياً تماماً، إذ الهدف هو إذلاله وكشف عورته، لماذا غطّوه؟ جميل أن تراعي صوَر الكنائس وتماثيلها مشاعر المصلّين والمؤمنين، فالمؤمن خجول، في طبعه، ويحب التركيز. لكن نحن الآن يعرّوننا لأتفه إجراء: يلّلا اخلعوا ثيابكم، يلّلا، كل الثياب، والكلاسين؟ نعم، كأن عضو الواحد، أو باب بدنه إن تفحّصوه، يكشف أسراراً. في أي حال، لا أحد يخجل من عري أعضائنا، لا هم ولا نحن.

عاد الإنجيلي إلى الرموز، مرتبكاً بين الجدّ والمزاح. وانتهى الأمر بأن طردناه من حلقتنا لأنّ روح الدعابة لديه ضعيفة، فوسّعت أنا دائرة معارفي، وصار يعجبني أن أسمع لغات لا أعرفها، يتحدث واحِدُهم إليّ بها وأنا أهزّ رأسي مبتسماً، ولا أفهم شيئاً.

كانوا لسبب ما، يتكلّمون معي كثيراً وطويلاً، ربما لأنهم كانوا يعرفون أنّي لا أفهم لغاتهم، إذ من كان يريدني أن أسمع كان ينظر في وجهي ويتكلّم بالإنكليزية، أو ربما اعتقدوا أنني مجنون ولو قليلاً، بسبب شكل وجهي لأنّي أعور، لذا كانوا، يبكون أمامي في الليل، أو يستحمون عراة ولا يخجلون مني.

ثم فجأة خرجنا ذات صباح للتريّض الإلزامي، فوجدنا الحقل الذي يمتد أمامنا مليئاً بالخيام الصغيرة الملوّنة وكأنها زهور نبتت في الحشيش. ثم أتت الحافلات محمّلة بالناس، مع النساء والأطفال، أنزلوهم في المساحة المسوّرة بالشريط الشائك. والتفّت حول المكان أفواج من رجال شرطة راحوا يكلّمون الناس بمكبرات الصوت ومن خلف دروع بلاستيكية، ويلقون إليهم بزجاجات الماء وصرر الثياب، واصطفّت، في جانب من الحقل، كميونات التلفزيون…شعرت بالدوار، وقلت: فسدت القعدة، ومشيت.

أكتب لك كل هذا يا أبي لأقول لك إنّي أصوّت مثل غيري مع بارابّاس، ضمير الشعب، وأعترف نهائياً ببأس القيصر. فأنا الآن مشرّد، مريض، وأعور. ليست معي نقود، وليس عندي مكان أنام فيه، وأريد العودة إلى البيت.

محمد خير: «إفلات الأصابع»

الكتب خان ــــ 2018

قبل موته بشهرين، أسقط المغادر الأخير اللافتة على الأرض، ثم غطّاها بالتراب كأنما يدفن سيرة القرية نفسها ويمحو ذكرها تماماً، وداعاً يا قرية الفقر والجوع واللاذكرى.

وفي الفجر الموعود ظهرت المراكب في الضباب، تحركوا بين العشش الصفيحية المختبئة في سواحل بلطيم، خرجوا أُسَراً وعائلات، إخوة وأخوات وخالات وعمّات وأبناء عمومة، صعدوا ببطء المركب الذي كان من لون البحر والذي كانت مقدمته تنزل تحت وطأة أقدامهم لتشرب من الموج قليلاً ثمّ تصعد، تجمّعوا تلقائياً، العائلات بجوار العائلات، والأُسر بجوار الأُسَر، على النحو نفسه الذي كانت تتوزع به البيوت في البلدة، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لم يحملوا معهم أغراضاً إلا بعض الماء والطعام، بعض البنات الصغيرات فقط حملن معهنّ عرائسهنّ الخشبية الصغيرة المصنوعة من خشب الربابة وثمار الدوم وخصلات الشعر، وصعدت القرية واكتمل العدد وانفكّ الحبْل وارتفعت المرساة ودارت الدفّة، وانسابوا في الأفق المعتم، ولم يفكّر أحدهم مرة أخرى في «وهدة»، حيث نقف أنا وبحر الآن. […] وعاد أحمد إلى «وهدة» بلا أمل، وحين وصل خُيّل إليه أن العزبة قد خلت من أشياء كثيرة، لا عربات ولا نصبات الخردوات ولا لعب الأطفال، كأنّ يداً عملاقة امتدت ومسحت شوارع القرية كما تمسح سطح طاولة، وحين زاروه في المساء لم يستطع أن يردهم، استقبلهم ونظر في الأرض لكنه وجد نفسه يقول: رأيت أبي يمشي على الماء ضحوكاً ورأيتنا نتبعه. وهتف أحدهم: الله أكبر. والتمع الفرح والعزم في أعين البقية، ونهضوا كل إلى بيته ليمضي لياليه الأخيرة فيه، وفي الليلة الموعودة، غادروا فغادر معهم نحو البحر، وتوقف قليلاً قبل مغادرة القرية يساعد شابين انتزعا لافتة العنوان وطمراها في التراب، وحين وصلوا وباتوا، وجاء القارب صعدوا جميعاً، وساعد مع من ساعد من الشباب في صعود العجائز والأطفال، ولكن قبل أن ترتفع المرساة وجد نفسه يختفي في الظلام، ومن قلب الخوص والعشش رأى المركب يبتعد بناسه وذكرياته، وطن صغير يركب البحر، ومن مكانه لاحظ أنهم لم يلتفتوا وراءهم.

أشرف الخمايسي: «جو العظيم»

دار الشروق ـــ 2018

بالإضافة إلى صيحات النوارس، وهدير الأمواج، حملت نسائم الريح إلى أذنَي الريّس زبيبة صوت بثّ تلفزيوني. فليس بعيداً عن المرفأ، خلف تجمّع صخريّ، مرتفع نسبياً، ثمة عشّة صغيرة، كعشش الصيادين، أحاط بها عدد كبير من الشباب اليافع والمتوسطي الأعمار. كانوا زهاء مئتي شخص! تتحملق أعينهم، بكامل الانتباه، إلى شاشة تلفزيون عتيق، علّقَ خارج العشّة، بإحدى قوائمها الخشبية.

وبينما يصل صوت البثّ خافتاً إلى مسمعَي الريس زبيبة استغرق المئتا شخص في مشاهدة عدد من الضفادع البشرية يعملون على انتشال جثث آدمية غارقة، فيما يقول المذيع بنبرة صوت جنائزية: «أعلن عمدة لامبدوزا عن غرق أحد قوارب الهجرة غير الشرعية، في حادث جديد وعلى متنه مئتا شخص. وكان قادماً من ليبيا قاصداً السواحل الإيطالية، هذا وقد تمكّن الغوّاصون من انتشال سبعين جثة، فيما لا يزال البحث جارياً عن باقي المفقودين».

على الفور تهلّل وجه الريّس زبيبة، ومال برأسه إلى «جو» ووضع على خشب متنه قبلة طويلة.

كم هو فعل مشين أن يبدي أحدهم السعادة حين التحاق المصائب بالآخرين، لو لم يكن معروفاً بين جميع بحّارة وربابنة المرفأ أن نقاء، وطهارة، ونبل قلب الريس زبيبة قد فاقت الحد لدرجة تشبه البلاهة والعبط وأن قبلته لـ«جو» ليست شماتة في غير «جو» وإنما ذروة شعور بالعرفان اجتاح الريس زبيبة ربّما عبّر عنه بشكل غير مناسب في وقت غير مناسب. هي إذاً رغبة جامحة في تقديم امتنانه لقاربه الذي بدأ يجوب غياهب البحر في رحلات صيد قبل سبعين عاماً، مع ذلك مستمرّ في مغالبة الأمواج، وتناوب العبور بين ضفّتي البحر المتوسط دون حادثة غرق فاضحة، بينما ها هي القوارب الصغيرة السنّ، التي لم تزل شابة لا تستطيع فعل ذلك، وتغرق بركّابها غير الشرعيين كل يوم […]. كان لتلك الصيحة المفعمة بالأجواء الأنيقة، مفعول السحر في نفوس المئتي شخص. فما إن سمعوها حتى انتقلوا بلحظة خاطفة، من مشاعر دنيئة إلى مشاعر سامية، من أوضاع حقيرة لزمتهم كمهاجرين غير شرعيّين، إلى وضع محترم تستعد معه سفينتهم لاستقبالهم بحفاوة، كأي مسافرين طبيعيّين يحملون أوراق سفر، وتصاريح إقامة رسمية. لكن، وقبل أن تنتشي أرواحهم بهذا الإحساس الفخم، برز المهرّب إلى خارج عشّته لينتزعهم من هذا الوضع الجديد، المحترم، معيداً إيّاهم إلى محبسهم في وضعهم السابق الحقير، عندما زعق فيهم كأنهم حثالة البشر: «هيا، اركضوا بسرعة يا متاعيس، قبل أن تكتشف الغربان وجودكم فتخسروا كل شيء». يعرف هؤلاء المتاعيس، لخبرتهم البسيطة المكتسبة من التعامل مع المهربين ووسطائهم، من المقصود بالغربان. لكن أحدهم، يدعى «كلام ضيف سيد طماطم»، وكان مزارعاً في قرية نائية من صعيد مصر قبل أن يغادرها للأبد، اعترض على السلوك المهين للمهرّب الفظّ بأن صاح متسائلاً باستنكار، وبنبرة مصطنعة البراءة: «أي غربان؟!». كان المهرّب سوقياً، وهي فطرة فطَر الله عليها المهرّبين جميعاً، حيث لا يولي الواحد منهم ظروف الآخرين اعتباراً. هكذا لم يفكر هذا المهرّب، ولو للحظة، في أن المعترض مجرّد مهاجر غير شرعيّ مسكين، إنسان يعاني ضغوطاً نفسية صعبة، وأن الصواب لم يكن إجابة سؤاله الاستنكاري، المتذاكي! بسخرية مريرة نهشت إحساسه نهشاً بذيئاً أجبره على التزام الصمت المطبق متجرعاً الإهانة دونما ردّ. وكان المهرّب نظر إلى شكل «كلام» فرأى أنه أقل ذكاء من بقية رفاقه المئة والتسعة والتسعين! على ذلك أجابه بتعسّف: «الغربان التي خطفت كتاكيت أمّك».

العربي رمضاني: «أناشيد الملح»

منشورات المتوسط ـــ 2019

بعد مرور أسبوع، طلبْنا من المهرّب أن يأتي. جاء مساءً. أخبرَنا عن رحلة نهاية الأسبوع أو بداية الأسبوع الذي يليه، بسبب رداءة الجوّ. وذات مساء، جاء إلينا مساعده الشّابّ الكرديّ الذي استقبلَنا أوّل يوم، طلب منّا تحضير أنفسنا، والاستعداد للرحلة. بعد ساعات طلب منّا أن نخرجَ ونرافقَه في الشارع المؤدّي إلى شارع آخر على طرف المدينة. وصلْنا إلى مكان شبه مهجور. بقيْنا هناك للحظات، ثمّ طلب منّا أن نصعد إلى حافلة كانت مركونةً بالقرب من بناية مهترئة، وجدْنا داخلها عائلات عراقية، وبعدها بلحظات، بدأ وصول أفرادٍ آخرين أفارقة وسوريّيْن، جاء مهرّب آخر، وطلب منّا أن نتفادى الضّجيج. انطلقت الحافلة بعد انتظار طويل والتحاق «النفرات» (المهاجرون الآخرون). كانت سيّارة تسبقُ الحافلة، وهي عبارة عن كشّاف، يعتمد عليها سائق الحافلة في مسيره الطويل الذي امتدّ لحوالي 200 كلم، توقّفْنا خلاله لمرَّتَيْن، الأولى بسبب حاجزٍ أمنيٍّ غَادِرٍ بعد منتصف اللّيل، والأخرى بأمرٍ من الكشّاف الذي كان يتفقّد البحر. بعد توقّفِ الحافلة في محطّة وقود مهجورة، نزلْنا للتّبوّل والتدخين. كانت الرياح باردة جدّاً. صعدْنا مجدّداً إلى الحافلة، على أصوات بكاء الأطفال. كانت أمامي طفلةٌ سورية مع أُمّها، ترتعشُ من البرد الذي منعَني من النوم، لم أكن أشعر بحركة الحافلة التي انطلقتْ وتقدّمتْ كثيراً حتّى توقّفتْ أخيراً، وسمعتُ مرافقي يُوقِظني والسائق التّركيّ الطويل الأصلع يطلب منّا النزول بسرعة، وبلهجة مشرقية «يلّا يلّا!». بعد النزول، داهمتْنا ريحٌ قوية وباردة، ابتعدْنا عن الطريق، ووجدْنا أنفسنا في حقل زيتون، والرياح وقحة لا ترحم، وعلى الشاطئ مشاريع مهاجرين من جنسيات مختلفة، لا يملكون إلّا أحلامهم بعد أن هربوا من حروبٍ وأوطان وفساد وجحيم وخيانات، ترتعش أيديهم وهي تعبث بالهاتف خلسة عن المهرّب، وتكتب آخر رسالة إلى أهل أو أحبّة قبل لفّها في كيس بلاستيكي حتّى لا يطاولها الماء. سنكون في عداد الموتى، وفريسة محتملة تُبهِج بطن بحر إيجة. ارتديْنا النّجّادات التي اشتريْناها من بسمانة، دخَّنْتُ آخر سيجارة بعيداً عن المهرّب، حتّى ظهر أمامنا قارب مطّاطيّ، وتفاجَأنا أنه صغير الحجم مقارنة بعدد الرّكّاب الذي تجاوز الثلاثين. الاحتجاج في هذه اللحظات لا ينفع، ليست باليد حيلة. صعد الأطفال الذين ارتفع بكاؤهم بفعل الصدمة ربّما أوّل الليل وتواجدهم مع غرباء، وصعدت النّساء. ثمّ بدأ المهرّب بفظاظة لا مثيل لها في تكديس النّفرات حتّى جاء دوري، دخلتُ البحر، كان بارداً جدَاً، تبلَّل جسمي، وبصعوبة حصلتُ على مكانٍ أجلس فيه. بقيْنا وحدنا رفقة البحر وهديره المُفزِع.

أبو بكر كهال: «تيتانيكات أفريقية»

دار الساقي ـــ 2008

كان الموج يأتي مثل جبال محتدمة تلطم المركب الذي أصبح مثل فقاعة ستنفجر آجلاً أو عاجلاً. همس: لماذا يوحي هذا المركب بأنه على وشك الغرق؟ وهذا الخشب الذي يئنّ، ألا يعرف أن يصمت؟ خلص بعض المهاجرين إلى يقين قاطع بأن الكارثة واقعة لا محالة. وكلما رأى وتيرة الرعب المتعاظمة، خشي أن يفقد الناس الأكثر هلعاً صبرهم ويقفزوا إلى المياه. لكنّ الخطر الحقيقي لم يكن في الموج، على الرغم من شراسته، بل كان في الثقب الذي ظهر في أرضية المركب وأخذ يتدفق عبره السيل، مهدداً بغمر المحرك. ضربات الموج العاتي وقرقعات الخشب وانخلاع أجزاء من جسم المركب الخارجي، جميعها تكفّلت بإضرام الصراخ والهذيان وانفلات الأعصاب.

محمد العون: «مراكب الليل»

دار الحضارة للنشر ـــ 2017

البحر يبدو في الظلام مخيفاً… مرعباً ، لا ضوء مطلقاً في هذه المنطقة البرية المهجورة، صوت الهدير المزمجر والرياح القوية وهي تندفع بوحشية نحو اليابسة يخلع القلب، ويجعل من فكرة وضع القدم في الماء فكرة مجنونة تؤدي إلى الهلاك المحقّق، لا توجد خلجان أو شواطئ مقوّسة نصف دائرية تهدأ عندها الأمواج وتنكسر حدتها، لتداعب الرمال برفق وهي تدخل بين طرفي القوس اللذين يرسمان الشاطئ على الخريطة ويحددان مساحته، بل يصطدم البحر مباشرة بالأرض الممتدة كخط مستقيم بكل عنفوانه وبجبروت المياه العميقة بما فيها من تيارات لا تكفّ عن التصارع حتى خط الصدام باليابسة، في هذه المنطقة لا تسمح حركة البحر العنيفة بتكوين مساحة منبسطة من الرمال تمتد داخله لمسافة كتلك التي توجد في الشواطئ، بالكاد مترين أو ثلاثة ثم تجد المياه العميقة والأمواج العالية وتيار السحب الشديد الذي يُغيب الإنسان في جوفه خلال ثوان قد لا يظهر له أثر بعدها.

على بعد عدة كيلومترات وعند سفح تل رملي تتناثر عليه بقع عشبية خضراء باهتة وبعض النباتات الصحراوية المائلة للاصفرار، ترقد عدة بيوت واطئة لها طابع بدوي، مبنية بالطوب الإسمنتي وسقوفها من ألواح الصاج وعروق الخشب. المطر يهطل بشدة والهواء يأتي من البحر في هذه المنطقة البرية بارداً كالصقيع، في غرفة بأحد هذه البيوت التي لم تدخلها الكهرباء ولا الماء بالطبع، يجلس جلال الغرباوي القرفصاء ويغطي نفسه ببطانية مهترئة وحوله أربعة عشر شاباً يرتجفون من البرد، دفع عشرة آلاف جنيه ووقّع أبوه شيكات وإيصالات أمانة بعشرة أخرى ليصل إلى هذا المكان البائس الذي سيعبر منه البحر، خرج منذ أسبوعين من عزبة عبد الواحد مصمّماً على الهجرة، المسافة بين الفقر والموت ليست كبيرة! إذا لم نعش هذه الحياة كما يجب أن تُعاش فلا داعي لها من الأصل والموت أفضل منها، نعم الموت أفضل من الحياة التي نعيشها! منذ أن كان طفلاً وهو يسمع عن جمال عبد الواحد وسعد حسين عبد المعطي والحياة الرغدة التي يعيشانها في أوروبا وما فعله كل منهما لأسرته، في المرات القليلة التي زارا فيها البلدة رآهما من بعيد وحسدهما من كل قلبه وتمنى أن يصبح مثلهما عندما يكبر، سار في التعليم حتى حصل على دبلوم التجارة ثم… لا شيء، لم يجد أمامه سوى العدم، بين الحين والآخر يعمل لعدة أيام في الحقول ثم يجد نفسه بلا حول ولا قوة فى البيت لا يجد ما يفعله، أبوه نفسه عامل أجير لا يملك شيئاً، جده عاش طوال عمره فقيراً منذ ليلة هروبه وهو شاب بامرأته وعياله من بيته تاركاً خلفه أهله وعائلته، هذا الهروب الذي لم يعرف جلال أبداً السبب فيه، لكنّ جده فتحي كثيراً ما كان يذكر أن حياته تغيرت بعد تلك الليلة التي ترك فيها بيته وبهائمه والأرض التي كان يستأجرها بما فيها من زرع…

ملحق كلمات»

———————

مقتطفات من الشعرِ العالمي: كم من الأمّهات بكين

رشيد وحتي

منذُ فجرِ التَّاريخِ، أدرك الإنسانُ أنَّ الطبيعةَ، بعناصرِها الأربعةِ، ليست فقط صديقاً للبشريَّةِ، وإنَّما كانت أيضاً، في أحايينَ كثيرةٍ، عدوَّةً له، تسلبهُ حياتَه؛ فكانتْ علاقته بالماء مزدوجةً وخاضعةً لثنائيَّةِ الحياةِ والموت: فهذا العنصرُ السَّائلُ هو في الوقتِ نفسه مصدرُ حياةٍ وموت، حتَّى قال مؤرِّخُ الإغريقِ الأكبرُ هيرودوت: «مِصرُ هِبَةُ النِّيلِ»؛ ولكن من جانب آخرَ تسبَّبَ انهيارُ سدِّ مأرِبَ في خراب مملكة سبأ. في الحقبةِ المعاصرةِ، وبالتَّحديدِ في منطقتنا في حوض المتوسِّطِ، صارَ العنصرُ المائي، بالنسبةِ إلى سكَّان الضفة الجنوبيَّةِ عنصرَ خطر، يدفعهم لخوضِ لججهِ القاتلة حلمهم بملاذٍ أحسنَ في الضِّفَّةِ الشَّماليَّةِ، هرباً من الحروب الأهليَّةِ والمجاعة والفقر والطُّغيان؛ علماً أنَّ جزءاً كبيراً مما يقع في دول الجنوب تسبَّبت فيه كولونياليات الشَّمال بنهبها لثروات الأفارقة والآسيويِّينَ وبتنصيبها وكلاءَ على شعوب القارَّتينِ. وقد خلَّد الكثيرُ من شعراء العالمِ هذه المآسي البحريَّة من خلال ظاهرةٍ صارتْ تُعْرَفُ في الصحافةِ العالميَّةِ بأسماء عديدةٍ، لكنَّها تتَّخِذُ جميعُها وجهاً واحداً هو وجه الموت: الأكتافُ البَلِيلَةُ، قوارب الهجرة السِّرِّيَّة، مياهُ الهجرةِ السَّوداء، قوارب الموت. قبل الوجه القبيح لهذه الظاهرة ذات الأبعاد السياسية والاقتصاديَّة، يحضرُنا نموذجٌ ساطعٌ وإيجابيٌّ من خلال تمويل وتسيير الشاعرِ الشِّيليِّ بابلو نيرودا، في الـرابع من آب (أغسطس) 1939، سفينةً مِنْ ميناءِ Pauillac الفرنسي، لترحيلِ 2500 لاجئ إسباني بأمان نحو تشيلي. فهل من شعراء وكتَّاب ومفكِّرين عرب وغربيين يسيرون على خطى نيرودا بالدِّفاع عن حق الجنوبيين في اللجوء بأمان إلى حيثما شاؤوا، من خلال مواقفَ وضغوط على حكَّام الضفَّة الشماليَّة للمتوسِّط، وبتمويل قوافل وسفنٍ لإجلاء الهاربين من جحيم الفاقةِ والطُّغيان وتدخُّلِ القوى الاستعماريَّةِ. ملحوظة كلُّ النصوص العجميَّة من ترجمتنا

عمل للمصوّر التايواني بو تشي

1. رامي العاشق: في ملعب البحر

[فلسطين/سوريا]

أرى البحرَ…

ثُقباً

بلا وجه عاشقةٍ وانعكاسٍ

ولا خاصرة…

يمصّ النهايات وحلاً…

وموتاً…

ولا يعرف المهتدي… آخرَهْ!

أرى الماءَ… صلباً…

لأنّي أخاف السقوطَ

وأخشى — كما قلعة الرمل تخشى — الزوالَ!

انتهينا مِراراً…

ولم نعرف الموتَ

مَنْ أخّرَهْ؟

بحثتُ — انتقاماً — عن الأصلِ… أصْلي

ولم أعرف الله كي أشكرَهْ!

2. أدهم النمريني: قارب الموت

[سوريا]

يا شَطُّ أَبكي إذ رأيتُكَ باكِيا • فمتى أراكَ بجمعِ أهلكَ هانِيا؟

لُذْ في همومِكَ ما استطعتَ فإنّني • يا شَطُّ لي عينٌ وتفضحُ ما بِيا

أنا لو مشيتُ إلى السّعادةِ ساعيا • يمشي على ظلّي الأنينُ ورائِيا

مالي سِوى ألمٍ يطوفُ بدنيتي • فالسّعدُ أصبحَ عن عيوني نائِيا

لم يبقَ لي إلّا الحروف أهزّها • في ليلتي الظّلماء تبكي حاليا

ويصيحُ في فَقْدِ الأحبةِ خافقي • ويزفُّ في خَدِّ المساءِ بُكائيا

الصّمتُ حولي لا تنامُ عيونُهُ • فضجيجُ حرفي لا يملّ ندائيا

حزناً تملّكَني المساءُ وما لهُ • إلّا التصبّر كي يطيبَ عزائيا

فَانْظُرْ لتلكَ الباكياتِ بأحرفي • يُخْبِرْنَ أنّي للأحبةِ ناعيا

فَرّوا من القهرِ الذي تَعِبوا بهِ • وَجَدوهُ في مَوجِ البحارِ مُناديا

حَزَموا حقائب موتِهم في قاربٍ • للموتِ، حينَ الموتُ أصبحَ شافِيا

بحرٌ يُنادي للأحبةِ صارخا • بالموت، لمّا الموجُ أصبحَ داعيا

تركوكَ يا شطّ الشّآم وريحهم • قَدَّتْ بحَدِّ الموجعاتِ مِدادِيا

هذي الحروف تصبُّ فوقَ دفاتري • حزناً وتروي بالدّموعِ رِثائيا

فوقَ السّطورِ تَغُصّ في آلامِها • فلقد فتحتُ لها العيون سواقيا

إن كانَ في خَدّيكَ دمعُ فراقِهمْ • فَخيوطُ دمعي قد أبانَتْ ما بيا

3. عمر هزاع: غريق على الضفة

[سوريا]

يلوّحون وما يدري بهم أحد • إلا الهدير وهذا الموج والزبد

كانوا كثيرين غرقى كنت أبعدهم • وكنت أقربهم موتاً ولا جسد

وكنت أطولهم جرماً ولا أب لي • وكنت أعرضهم جرحاً فلي ولد

وكنت؛ وحدي؛ أراهم كنت أسمعهم• حيث الفراغ أياد.. والمدى مدد

لا عاصم اليوم لا فلك ولا جبل • ولا نبيّ. ولا طوق ولا وتد

تقلّبوا في جحيم الماء أضرحة • والأرض تلطم خدّاً والعباب يد

أكان يوماً؟ ترى! أم أنّ أزمنة • من الظلام استمرّتْ؛ ما لها عدد؟!

حتّى تراخى غبار الليل عن قمر • كأنّه؛ بحبال الموج؛ منعقد

غنّى؛ لكارثة شعواء؛ ملحمة • طقوسها: الماء والإنسان والأبد

4. حسن الوفيق: قوارب الموت

[المغرب]

ما لي أرى قومي كُثُرْ • في كل درب منحدِرْ

والنار تسري فيهمُ • مثل الهشيم المستعر

والموت أضحى رغبة • والعيش أشقى من سقر

والناس تبكي حظها: • يا ليتها مثل البشر؟

جُلُّ الشباب استيأسوا • قد قَرَّروا صعب السفر

راموا كلاماً حالماً • عن سحر غرب يحتضر

خاضوا بحاراً عُزَّلاً • ألقوا بنفس في خطر

يا أمتي هل ترتضي • هذي المآسي والصور؟

ما دامت الأوطان تـ • خضع للعدو بلا نظر

والصادقون استبعدوا • من كل رأي أو أثر

لن تمطر الأقدار في • أجوائنا غير الحجر

يجني العدو ثمارنا • لكننا عُمْيُ البصر

5. وِلْيَمْ بْلِيْكْ: سفينةٌ شِراعيَّةٌ

[إنكلترا]

واقفٌ أنا على شطِّ البحرِ.

تمرُّ سفينةٌ شِراعيَّةٌ

في نسيمِ الصَّباحِ وتمضي نحوَ المحيطِ.

هي الجمالُ بِعينِه، الحياةُ بِعينِها.

أرنو إليها إلى أنْ تختفيَ في الأفقِ.

ثمَّةَ بِجانبي مَنْ يقول لي:

«ها قد مضتْ!»

مضتْ؟ إلى أين؟

مضتْ مِنْ أمام ناظِرَيَّ،

هذا كلُّ ما في الأمرِ…

صارِيَّتُها دوماً في العُلى،

بدنُها قادرٌ دوماً على نقلِ حمولتِه البشريَّةِ.

اختفاؤها مِنْ أمامِ ناظِرَيَّ يحدثُ فِيَّ،

لا فيها.

وبالذَّاتِ لحظةَ يقولُ لي أحدُهم بجانبي: «ها قد مضتْ!»

ثمَّةَ أيضاً آخرون وهم يرونها

تبزُغُ في الأفقِ قادمةً نحوهمْ،

يقولون بِفرحٍ:

«ها هيَ!»

هُوَ ذا الموتُ.

6. ثِيُوفِيلْ كوتْيِي: خِلالَ الزَّوبعةِ

[فرنسا]

المركبُ صغيرٌ والبحرُ فسيحٌ؛

والموجةُ تقذِفُنا غاضبةً نحو السَّماء،

وتُعيدُنا السماءُ نحوَ المياهِ المعتوهةِ:

لِنُصَلِّ قربَ الصَّاريَةِ المحطَّمة جاثينَ على رُكَبِنا!

بيننا وبين الموتِ، مجرَّدُ خشبةٍ.

هذا المساءَ ربَّما، فوقَ مَضْجَعٍ مُرٍّ،

تحتَ كَفَنٍ باردٍ مِنْ زَبَدٍ أبيضَ

سنذهبُ لِننامَ، يحرسُنا البرقُ!

أَيْ زهرةَ الفردوسِ، أيْ أُمَّنا العذراءَ،

الرَّؤومَ على البحَّارينَ إذا دَهَمَهُمُ الموتُ

خفِّفي وطأةَ الرِّيحِ، أخْرِسِي الشَّفْرَةَ،

وادفعي بإصبِعِكِ قارِبَنا نحو المرفأِ.

سنهِبُكِ، إنْ خلَّصتِنا،

فستاناً جميلاً مِنْ ورقٍ فضَّةٍ،

شمعةً ذاتَ جديلةٍ زهريَّةٍ تَزِنُ أربعةَ أرطالٍ،

ولِيسوعِكِ يوحناً صغيراً.

[من ديوان: إسبانيا، 1845]

7. فرناندو پسوا: بحر برتغاليّ

[البرتغال]

أيّها البحر المالح،

كم من ملحك

في دموع البرتغال!

لأنّنا عَبَرْنَاكَ،

كم من الأمّهات بكين!

كم من الأطفال ابتهلوا

للّه دون جدوى!

كم من خطيبة

لم تتزوّج،

كي تكون لنا، أيّها البحر!

أكان ثمّة من داع لذلك؟

لكلّ شيء داع

إن لم تكن الروح ذليلة

من أراد تجاوز رأس بوجادور

عليه أن يتجاوز الألم.

وهب اللّه البحر لجّة وأهوالاً.

لكنّه على البحر عكس السّماء.

[من ديوان: رسالة، 1934]

8. يانّيس ريتسوس: طَرَقات

[اليونان]

شيئاً فشيئاً تتآكل البيوتات

بالملح، الشّمس، الماء.

ذات يوم، ثمّة حيث كانت نوافذ وأناس،

لم تبق إلّا أحجار اعتلتها الرّطوبة،

وتمثال، وجهه للأرض.

الأبواب، وحدها،

تسافر على البحر،

صلبة، متمرّنة، خرقاء.

أحياناً، عند غروب الشّمس،

نراها تتلألأ في كامل استوائها

فوق المياه المغلقة للأبد.

الصّيّادون لا يلقون عليها ولو نظرة.

لقد جلسوا في بيوتهم باكرا جداً،

أمام الفانوس،

يصغون للأسماك

تنزلق من خلال شقوق أجسادهم،

يصغون للبحر يطرقهم

بألف يد (كلّها مجهولة)،

ثمّ يهوون نائمين،

والأصداف متشبّكة بشعرهم.

فجأة، يسمعون دقاً

على تلك الأبواب فيستيقظون.

[من ديوان: شهادات، 1957-1966]

9. يانّيس ريتسوس: ملحوظة ربيعيّة

[اليونان]

جسد متروك،

أحرقته الشّمس،

عار تماماً،

ما خلا ساعة اليد

التي تلمع

وسط ضربات المطرقة،

وسط الأخشاب الممدّدة،

المصقولة،

العاكسة لكلّ شمس النّهار

كشمس منمنمة،

تطفو فوق الدّم الحارق

والمتمرّد كليمونة

رماها مركب غريق.

[من ديوان: الحائط في المرآة، 1967-1971]

10. بَهْجَتْ أَيْسَانْ: الموتُ سفينةٌ بيضاءُ

[تركيا]

وأنتَ تقرأُ هذه القصيدةَ

سأكونُ ربَّما في مدينةٍ أُخرى

أُعِدُّ لِرحلةٍ طويلةٍ،

لِرحلةٍ وحدي

رحلةٍ تحكي عن خريفٍ مَرَّ بِسوءٍ

وعنْ حُبٍّ بلا أملٍ…

كَإعلاناتٍ كُتِبَتْ

على أوراقٍ شتَّتتها الريحُ

دونَ أن توزَّع…

لأنَّ الموتَ سفينةٌ بيضاءُ

تدعوها البحارُ المظلِمةُ…

فالسَّفينةُ الغريقةُ

كنجومٍ انْطَفَأَتْ

والموتُ تبدو

عناوينَ تائهةً.

11. سَانْدْرينْ ميشيلْ: سفينةُ الموت

[تركيا]

أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ

أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ

تهُزِّين الموج

فيصابُ المحيطُ بِالسُّعارِ

أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ

أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ

ففي عُرضِكِ سفينةٌ

رأفةً بِالطَّاقَمِ

أغيثي أُولاءِ البحَّارةَ

فحياتهم في خضمِّ الموج

ليستْ هيِّنةً

وتجرِفُ سفينتَهم

أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ

أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ

فأنتِ تمزِّقينَ الأشرعةَ

أوقِفي هَبَّاتِكِ

أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ

أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ

أوقِفي تأرجُحَكِ

وصيري رقيقةً ورزينةً

الزَّوارِقُ تترنَّح

حشا السَّفينةِ يتمزَّق

لِتموتَ فوقَ الماء

فَصَلُّوا، أيْ بحَّارةُ، للهِ

لقد كانوا، أيُّها المحيطُ المتعجرفُ

أبناءكَ

كانوا يحلمون بأسفارٍ

نحو ضفافٍ بعيدةٍ

طيري، أيْ أطيارَ البِحارِ

طيري، أيْ أطيارَ البِحارِ

توافَدي نحو الميناءِ

واحكي غرقَ السَّفينةِ

قولي لِلأراملِ

إنَّهم ماتوا أبطالاً

إنهم يفتحون بما فعلوا

الطَّريقَ نحو الغدِ.

المصادر

• رامي العاشق ــ «لم ينتبه أحد لموتك»، «دار ميسلون للنشر والتوزيع»، إسطنبول، 2018.

• حسن الوفيق ــ «النصر آت» ــ «مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات»، فاس، 2021.

• www.aria-ceremonie-funeraire-lyrique.com/le-voilier-william-blake

• Théophile Gautier: España, collection “Folio/classique”, Gallimard, Paris, 1981.

• Fernando Pessoa: Message, José Corti, Paris, 2018.

• Yannis Ritsos: Le mur dans le miroir, collection “Poésie”, Gallimard, Paris, 2001.

• https://lesecondsouffle.fr/la-mort-est-un-bateau-blanc

• https://short-edition.com/fr/oeuvre/poetik/le-bateau-de-la-mort

————————————–

مقابر الغرباء/ زياد ماجد

يتعاظم حضور الموت من حولنا كلّ فترة، فتنتشر النعوات على وسائل التواصل الاجتماعي ومعها التعازي وعبارات الألم والمواساة المرافِقة، بما يُنهي، سورياً وفلسطينياً (أو عراقياً ويمنيّاً) ولبنانياً على الأقل، كلّ فارق بين ما كان يُسمّى «عالم الافتراض» والواقع ويُزيل الحدود بين الموت كشأن خاص وكخبر عام، فيدعونا يومياً لنكون شهوداً على ذلك. إذ كيف للموت أن يبقى افتراضياً حين يُنبئ بنهايات فعلية ويُعلن قسوة فقدان حقيقي؟ وكيف للمشهديّة الموثِّقة وقوعَه أن تُبقي حدوداً بين عوالم خاصة وعامة اخترقتها صوَر الموتى وأسى ذويهم، وواحدنا يراهم على الشاشة الثابتة وعلى الهاتف الجوّال كل يوم؟

الأدهى والأكثر فظاعة هي أحداث هذا الموت المُعلن والمُباحة تفاصيلُه إذ تُفني أفراداً أو جماعات أو تلتهم أناساً ضافت بهم السبل في بلادهم ولفَظهم القتل والقمع والعوَز، فتاهوا في بحر أو في أرض قاسية أو وصلوا منفىً لم تحُل احتمالاته ووعوده دون لوعة الغياب ووِحشة القبر.

البحر مدفناً

ولعلّ التيه في البحر وتحوّل الأمواج إلى مقابر للأحلام والحسرات وإلى معرض للأشياء والحقائب المبعثرة، صارا أشدّ أهوال الموت حضوراً أمام أعيُننا، كمرادفَين للقهر وللغضب (العاجز) تجاه أنظمة افترست مجتمعاتها وحطّمت آمال أكثرية البشر فيها. فأن تكون المراكب الصغيرة وستر النجاة الموهومة ومخاطر الأوزان الزائدة والعتمة فوق مياه لا شيء يقي «المسافرين» من تيّاراتها وعلّو موجها أقلّ تخويفاً لهم من يوميات حياتهم في ديارهم، وأن يُؤْثِر «الهاربون» الغرق اللاحق على الإنقاذ المُفضي بهم إلى سجون بلادهم وجلّاديها، ففي الأمر ما لا طاقة لأحد على احتماله. فكيف إذا أضيفت إليه صُوَر بثّ مباشر تُظهر تخلّص أهلٍ من جثامين أحبّة قضوا خلال الإبحار ثم المنع من الرسوّ، تخفيفاً لأوزان المراكب ولتبعات تحلّل الجثامين فوقها؟ كأن في فعلهم البائس والمفجع هذا، الدافن الموتى في سرير المياه، ما يُشبه إلقاء الأضاحي القديم في الأنهر أو البحار الذي أريد له إرضاء آلهةٍ وكفّ شرّها. أو كأنهم في دفنهم البحري يحاولون تقليص مساحة الموت على الأخشاب المتهالكة المبحرة بهم، كي يصل بعض الأحياء من بينهم أخيراً إلى ضفّة الخلاص البعيدة.

هكذا يتحوّل المتوسّط في عدد من مواضعه إلى مقبرة جماعية تذوب الجثث في ملحها وتتبخّر الآمال تحت شمسها، ولا يتوقّف رغم ذلك تدفّق يائسين إليه من الشرق والجنوب لا يرون في مخاطره ما قد يكون أبشع من عيشهم السابق وأفقه المسدود أو الموت البطيء الزاحف عليهم فيه.

الموت في المنفى

على أن الغرق في البحر المتوسّط الذي لم يُعد يُثير نفس الانفعالات ولا نفس التغطية الإعلامية، لتكراره وتحوّله إلى خبر لا جديد فيه سوى أسماء الضحايا، ليس القسوة القصوى الوحيدة التي تطوي أعمار بعض الناس الفارّين من جحيم يابستهم. فثمة ما يُطاردهم في منافيهم أو في تشرّدهم، وثمّة ما يحوّل غربتهم إلى صراع مع المرارة والأوهام والانتظار والكوابيس المثيرة مصائر المتروكين في الأوطان. تلك التي تبدو بعد تركها والتحديق بها من بعيد كأنها تغرق بأكملها كما غرق «ناجون» منها مقابل شواطئها، أو كأنها تقترب ببطء من ثقب أسود هائل لا إفلات لها من جاذبيته العدمية.

والموت إن نزل بمشرّدين جدد أو حديثي اللجوء أو الغربة باغتت قسوته الأحياء في بحثهم عن حيّز لقبر، فصار المدفن الثابتَ الوحيد في حياتهم الصاخبة بالقلق والأسئلة والترحال، وصارت مشاريع الاستقرار أو العودة يوماً ترتبط تفاصيلها بمصير القبر وموقعه ومآل ساكنه النهائي.

وإذا كانت الاعتبارات المُساقة والتفكير بالموت والتعامل مع لوجستياته والبحث عن مراقد للموتى في الأرض أو في عمق البحر هي اعتبارات الأحياء في نكباتهم المتتالية، فإن الموت نفسه بات غير معزول، في ما يتخطّى الحروب وأسلحتها ووضاعة المسؤولين «المحليّين»، عمّا تفضي إليه السياسات وأصحابها في رقع كثيرة – قريبة وبعيدة – من العالم. فهذه، اقتصادية كانت أو إدارية، لا تكفّ عن تشييد الجدران والعوائق بين البشر مقابل هدمها أمام السلع وكلّ ما يمكن استهلاكه واستغلاله وجني الأرباح منه. والموت بهذا المعنى ليس بعيداً عن تداعياتها وعمّا تُحدثه من اختلالات وفروقات اجتماعية وعن كوارث بيئية، يأتي الفساد الموضعي ليفاقم أضرارها ويحوّله إلى شرور مطلقة لا «نجاة» سوى في محاولات الهروب من أتونها. وإن أضيفت إلى ذلك الحروب والنزاعات الكبرى صار مركب مثقوب أو سَير عبر الجبال والغابات أبرز ما يمكن لبؤساء ومُنتهَكين فعله أو محاولته…

قديماً، كان لمقابر كثيرة تسميات تحمل شاعرية ما أو رمزية تغلّف سرّ الموت وهالته. «مقابر الغرباء» كانت واحدة من تلك التسميات إذ تشير إلى موتى غرباء عن أرض موتهم، دُفِنوا فيها لعبور سبيل أو لمهمّة اختاروها وتنقلّوا لأجلها إلى حيث طواهم الردى على غفلة من زمنهم. وكانت تُشير أيضاً إلى مجهولين رُجّح أنهم من خارج الجغرافيا المحيطة بالمقبرة ولا مطالبة من أحد بهم أو تعرّف على رفاتهم. وكان أحياء «غرباء» بدورهم يقيمون في أطراف المقابر هذه، ينظفّون شواهدها ويسقون ما قد ينبت حولها، ويعتاشون من أشغال متفرّقة أو من أعطيات وحسنات تجعلهم حُماة القبور وساكنيها.

لكن شاعرية التسمية والرمزيّة المغلّفة سرّ الموت لم تكن مرّة أمينة إن قورنت بالمُسمّى. كانت إسقاطاً يُشير إلى اختلاف أو مسافة عن المقيمين أكانوا موتى أو أحياء. وهي الآن باتت رديفة لأكثر ما هو ضائع أو حائم أو ثقيل فوق موتى التيه والغرق والنفي.

مقابر الغرباء صارت مدافن عشوائية في البحر والبرّ، وعلى شاشاتنا وداخل عيوننا. والغرابة أو الغربة لم تعد في أصل الموتى بالنسبة إلى مكمن ثراهم ولا هي في حياتهم رعايةً لشواهد القبور وبلاطها وورودها. صارت في كونهم طُردوا من جميع الأمكنة، وفي كونهم عُنّفوا في حياتهم ليأتي مماتُهم تتويجاً للمظالم والغربة، ولو خفّفت منه أحياناً محبةُ ووفاءُ غرباء آخرين.

للغرباء ومقابرهم في أصقاع الأرض وبحارها السلام…

*كاتب وأكاديمي لبناني

القدس العربي

————————————–

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى