شعر

البَلَشُون الأبيض (*)/ ديريك والكوت

ترجمة: غريب اسكندر

—————————–

1. حربي الأولى

كانت هذه حربي الأولى مع المشاجرات المزمجرة

للرجال الذين ينقلون البضائع

في عز الظهيرة، بينما النوارسُ تطلقُ أصواتَها الرتيبةَ

في شتائم غير مفهومة من دون أن تصلَ الحالُ إلى صَفَعات،

الرجالُ الأقوياءُ الذين يُدوِّمون براميل سمك القُدّ

ويجرون أكياسَ الرزِ، كانت لهم ألقابٌ ثابتةٌ،

مَن كان بإمكانه أن يرفعَ بيدٍ واحدة هذه الأسلاكَ الهائلة،

بإمكانه أن يرفعَ رَفرَفةَ الأجنحة ويصدها بكلتا ذراعيه

ليجعلها تنتظر بينما الكلاباتُ والرافعاتُ

تتأرجحُ قريباً منه. أكلوا وقت الغداء في ظل

أكوام البضائع المربوطة بالأَناشِيط والأحزمة،

متجاهلين النوارس وخبزها المتكلس.

بعد ذلك سيُجرحُ أحدهم بشدة، آخر سيفقدُ ساقَهُ

بسبب الرَّمّ والسكري. وستراه منكمشاً إلى لقبه، غير فخور بالتسول،

وسيجأر كشاحنةٍ مسرعةٍ في بدايةِ شرابِه.

—————————–

2. أُفُق واحد

ربما يحيَا فقط على أُفُق واحد

مع طواحين الهواء وأبراج النواقيس والغَرانِيق الفضولية،

مع مُرُوج الحَور الرَجْراج ونِطَاقها الساحر،

ومع تماثيل الفُرُوسِيَّة ونافورات الماء المزركشة،

فعندما تهدأ المدينةُ وتشرعُ حركةُ الأشجار

نرى الريف الجَذِل من القطار مع أكوام التبن

وبحيرات البط والغربان على السور

لحضور جنازة عضو مجلس محلّيّ.

مطرٌ شعائري يهطلُ على المقاهي والأرصفة

فتتفتح المظلاتُ ويكسو ضبابٌ رَقِيقٌ الشوارعَ

حيث تتَأرْجحُ الكاتدرائيةُ في انعكاسه.

كلُّ رذاذة تسبيحةٌ صامتةٌ،

والقسُ الملتحي بِجبتهِ المُغَبَّرة

حامي اللاتينية وأرامل السرو

كان شاهداً على أسراب الزَّرازِير التي حفظت

التاريخ في رماديته الخالدة

والبَوارِج التي تَتَالَتْ على طول القنوات.

هذا هو طقسُ الشعرِ، هذا هو وطنُهُ الحقيقي،

لا حَيثُ يمتدحُ النخيلُ نفسَهُ

وترقصُ الأشرعةُ في بهجةٍ لا معنى لها

وتسابقُ النوارسُ زبدَ الموج.

—————————–

3. رَعَوِيّة

في هديرِ الخريفِ الصامت، في الطبقة العالية

لصوت الحَوَر الرجراج، وجَهِير السنديان،

في آريا سكولْكِل الفضية المدهشة،

وأشجار الحَوَر تنشدُ مع إيقاعات غامضة،

جدْ حباً لما ليسَ أرضَكَ، للبلد المتوهج

في شرقي بنسلفانيا مع دي.في.دي يشتغلُ

في سيارة جيب عنابية مستأجرة،

سخاءٌ خريفي لا ينفدُ في لوحة إيكنز

يُجَدِّفُ السيِّدُ في مركبه الشراعي الصغير

وكلما افترقت الأشجارُ نتفاجأ بصفاء النهر

متدفقاً عبر البتولا المبقعة بالثلج

حيثُ ينسلُ الصيادون الهنود.

احترقت البلادُ من شرارة نبوءة واحدة،

جذواتُها تتقدُ، غيومها دخان في الظلام المطبق

محرقةٌ تمورُ في هذا الفرن الذهبي

الذي كانت تفنى فيه القبائلُ، فالدَين مازال مستحقاً،

بينما يصرُّ برجُ البلد الأبيض على مطاولة السماء.

—————————–

4. الضوء

عندما يَسَّاقَطُ الضوء على الشجيرات أقصَى سُوفْرَيه، يكون مُتَنَاسِقاً، ويُسمَّى بِاسْمِ المكان الذي يَسَّاقَطُ فيه- برقُوق الخنازير والأفوكادو، القُلقاس، التانْيا، والبطيخ، وبين التلال، هناك الأزهار البُرْتُقَالِيَّة والقِرْمِزيّة دائمة اللون التي تميِّزُ حدودَ الكاكاو.

توقفنا هناك، كنا نقودُ سياراتِنا في ذُهُول يَمْتَدُّ

عبر اكتمال يخلقُ نفسَهُ، مثل الضوء

الذي سمّى جدران بَلدَة لو مارْكِه على الساحل الأدرياتيكي المقضوم،

ذلك ما جعلني تيّاها مثل صقر تعصفُهُ الريحُ، أو شعار النسر على لاكويلا،

أو حيثُ غديرٌ ينشدُ، خُلْسَةً، بصوتٍ مبحوح «بيتون فلور، بيتون فلور»،

تَتَكَلَّمُ أشجارُ الأرز والسرو والدردار لغةً واحدةً،

أوراقٌ من كتابٍ أمين تتَفَتَّحُ في الصيف،

فتوقفتُ كي أصغي إليها.

—————————–

5. هواءٌ أزرق

أخرجُ من الأستوديو إلى هواءٍ أزرقَ لا حدودَ له،

إلى بحرٍ يُبَيِّضُهُ الزبد،

مرتعشاً ثانيةً من إخفاق آخر.

ويبدو أنَّ مِرآتي تريدُ وجهاً آخر.

وعند توقفي المعتاد، عَكَّرَ فرحي مقطعٌ منمَّقٌ في اللوحة،

فج جداً، فارغ جداً، حيثما ذهبت الفرشاةُ، أبقِهِ!

فنسبةُ السكرِ منخفضةٌ في الدم. في المرة المقبلة ربما سيغمى عليَّ.

والآن ما هذه الزَّخْرَفاتُ التي أخذت مني شهوراً

رسماً وتخطيطاً وبناءً وجعلتني أؤمن إيماناً عميقاً

بأنَّه عندما يُحَلِّقُ الشبابُ تنامُ المواهبُ الضعيفة.

وأما هذه الأشكالُ المستطيلةُ لناسِك

فهي مأخوذة بالضبط من إلغريكو، جُمجُمَتُهُ – وجهُهُ المقتبس –

حسناً، للتقليدِ جماليتُهُ الخاصة،

تقديراً أكثر مما هو سرقة، كما يقولون في هذه الأيام.

اللوحاتُ الفاشلةُ تديرُ وجوهَها الخَجْلى إلى الجدار كخطايا.

يمرُّ مُرَبَّعٌ من أشعةِ الشمسِ ببطءٍ

على أرضيةِ الأستوديو فأحسدُ صبرَه.

—————————–

6. عَدُوّي

لعلَّ عَدُوّي يهدأ بهذهِ الأمواجِ

لأنَّها جميلةٌ حتّى لشَرّهِ،

لعلَّ الرذاذَ يباركُ قلبَهَ كما باركَ قلبي؛

يقولون هنا أنَّ الشريرَ يضربُ زوجتَهُ

عندما تسطعُ الشمسُ خلالَ خيوطِ المطرِ الناعمِ جداً.

ليس قلبي مَن يغفرُ لعَدُوّي رغباتِهِ الماديةَ الفاحشةَ

بل تفتحُ ورقةٍ أو وثبةُ حمامةٍ مرقَّشةٍ،

تدخلُ مواكبُ الأمواجِ بأرديتها البيضاء الجُون

كما يدخلُ التائبون تحت قُبَّةِ مذبح؛

الجمالُ إذن لا يخلقُ إدانةً ولا نجاةً

كما تقولُ تعاليمُ كنيسةِ عَدُوّي،

بل الباسيليكيات بملائكتها المُتهاوين

وقديسيها المُعَذّبين وتمرداتُ سَحَابَةٍ أرجوانية؛

وبما أنَّني صاحبُ قضيةٍ فسأشاركُ أعدائي جمالَ العالمِ

على رغم أنَّ جشعَهم يُدمِّرُ براءةَ جزيرتي الآدمية.

يَتَحوَّلُ عَدُوّي إلى ثعبان عندما يكونُ في جداريةٍ جصية،

وهو في كلَّ حَراشِفِهِ وسُمِّهِ ورأسِهِ المبهرج

جزءٌ من جَمَالِ الجزيرةِ؛ فلا يحتاجُ إلى توبة.

—————————–

7. في الدغل

في الدغل صَهْوَةٌ سمراء

فرسٌ امتدتْ رقبتُها في صهيل مُرتَعِش كأنه خارج للتو

من عمل ليوتشيلو أو ماريني،

في صباح يبدو مالحاً على طريق يؤدي إلى الشاطئ.

حيثُ رذاذٌ خفيفٌ يحملني إلى أمكنة أخرى –

إنَّه الضبابُ ذلك يعني أنها تمطر في مونتشي،

وربما على الشوارع المرصوفة بالحصى لـ(هنا تتوقف الذاكرة).

ماذا كان ذلك الفندقُ ذو الواجهة البحرية الذي يواجهُ سيراكوز؟

سيعودُ كلُّ شيء كما عادتْ ملامحُ وجنتيها،

والتمَاثُلُ الأصيلُ لوجهها، كلُّ شيءٍ سيعود،

الوهمُ الذي صليتُ من أجلهِ وكنتُ سأخسرُهُ،

والصوتُ المُضطَرِبُ كنغمةِ تشيلو منخفضة،

واسم مُتَنَزَّه.. ساعديني، يا إلهة الشعر!

مَن كان يفكرُ أنَّ هذا سيحدثُ،

والفندقُ الأصفرُ الباهت، والآن، يا يَسُوع! اسمها؟

فقط شمسُ الواجهةِ البحرية بقيتْ على حالها بالنسبة إلى رجلٍ عجوزٍ يجلسُ على مَقعَدٍ الأمواجُ ليست جديدةً عليه.

—————————–

8. مفكرة العام الماضي

لم تبهتْ صفحةُ أرقامِهم في مفكِّرة العام الماضي،

فها هي تنتصبُ مع عناوينهم

في مَلاحِق صامتة كأنَّها أبوابٌ مغلقة،

وذكرياتُنا بغضبٍ تجابَه النسيانَ

بينما دَلِيلُ عناوينهم يتنَامَى

والمِزولةُ الفاغرةُ فمَها تتحداكَ أن تتصل بهم؛

لكنْ، لا في مقدورهم شرحَ غياباتِهم

بسبب مواعيدهم المتداخلة

(ولا إنكار أنَّ كلَّ ما بقي لهم من نفس واحد طويل سيحتويه قوسا شاهدة القبر المغلقان).

الأرقامُ كالأزهار يُرهِقُها المطرُ

أو تُذْبِلُها الشمسُ حتّى تتوقفَ تأثيرات المناخ

أو تعيدُ الأرقامُ ترتيبَ نفسِها مرةً أخرى.

طعناتٌ أُطلقتْ من كُدّاس؛

وحتّى الزَّبَد الذي يُدَوِّمُ لمعانَهُ فوقَ صخورِ البحر اختفى،

لكنَّ الأرقامَ تُبقي أشكالَها ووجوه مَن أحببنا وفقدنا وبَجّلنا واختزلناها إلى صدى نتصفّحه سريعاً

من ألمٍ جديدٍ إلى آخر سنعتادُهُ كالحصى،

أو إلى بحر مُرقِّم أجَشّ.

—————————–

9. النوارس

تحطُ النوارسُ مثل راياتٍ على الأوتاد

بينما أمواجٌ متباهيةٌ تستعرضُ جحافلَها في هذا الضوء اللطيف

عند خليج رودني الهلالي

حيثُ تزورُ الذاكرةُ ثانيةً منطقتين:

الأولى فينيسيا السائلة

ثُمّ ستوكهولم الزرقاء الصلبة.

في كليهما يبتسمُ ملاكٌ عند خَرِير النافورات

ذوات الرؤوس الأسدية،

أحواضُها مضيئةٌ بثرثرة الماء

وأسئلته المتكررة؛

وعندما يكون إحداها صامتاً، وعنيداً،

يكون الآخر صائتاً.

أعبّرُ عن إخلاصي وامتناني لكليهما،

لشبكة الضوء التي رقصت على جدران الغرفة،

والأسلاك والأعمدة، وللجَنادِيل المتمايلة

ولقباب القصور والمعابد المجهولة،

لسانتا ماريا ديلا سالوت،

وفي شمس صيفية، لمرور عبّارات ستوكهولم البيضاء، المتخفية والمتجهة نحو الجزر.

ففي يومٍ كهذا، كلُّ توهجٍ له الجمالُ نفسُهُ.

—————————–

10. كُنْ سعيداً لأبسطِ المسرات

كُنْ سعيداً لأنَّكَ في العاصمة الآن، كُنْ سعيداً لأبسطِ المسرات – لسِرْبِ بَلَشُوناتٍ بيضاءَ يتلقنُ الكلمةَ الأخيرةَ،

لنشيدِ بحرٍ ما أنْ يُعيدَ إلى رأسي أسئلةً حتّى يمحوها، مبطلاً بذلك الصوتَ الشَّيطَانيّ الذي مَسَّني مؤخراً؛

الصوتَ المجهولَ،

إنُّه يوسوسُ بالطريقة التي يوسوسُ فيها إِبلِيسُ إلى مَمسُوس يَهْذِرُ وهو ينظرُ إلى يديهِ اللعينتين

فقد احتجزَ كبحرٍ يَدورُ في مَحَارة،

أو كهديرِ تصفيقٍ يسبقُ الممثلَ

مع شك يتزايد، إلى درجة الرعب، بأنَّ ربيعَهُ قد مضى.

وإذا كان ذلك صحيحاً بأنَّ موهبتي قد ذبلتْ، وأن قليلاً هو ما تبقى منها،

إذا ما كان هذا الرجلُ على حقٍ فإذنْ لا يوجدُ شيءٌ آخر أعملُهُ سوى التخلي عن الشِّعرِ كما نتخلى عن امرأةٍ نحبُها لأننا لا نريدُ الإساءةَ إليها، وعلى الخصوص مني؛

لذلك اذهبْ إلى حافة المُنحَدَر وحَلّقْ عليه،

ترفّعْ عن الغِيرة والضّغينة والبَذَاءَة

كسُمُوّ فِرْقَاط على صخور بارِل أوف بِيف.

فكُنْ ممتنّاً لأنَّكَ كتبتَ بشكل جيد في هذا المكان،

ودَعْ القصائدَ المُمَزَّقةَ تُبْحِر عنكَ

مثلَ سِرْبِ بَلَشُونات بيضاء في تَنَهُّد طويل وأخير للاِنعِتاق.

—————————–

11. فان خوخ

أشجارُ الصفصافِ بأغصانِها الشائكةِ في لوحةٍ لفان كوخ، مزارعٌ مخطَّطةٌ، وجسورٌ، وقنواتٌ، وزَخَّةٌ من الغُدَافين، رجلٌ بقَبْقَابِهِ وعَرَبَتِهِ، وعبّاراتٌ في المَرسى؛ وموطنُ نصفِ أسلافي في كتبٍ على طاولةِ القهوة؛

مَرّةً في زيارة غامضة، رأيتُ طواحينَ هواءٍ وسدوداً،

وهيكلاً عظمياً منقوشاً ببُؤسٍ شَمَالِيّ حادّ

يتفجرُ في لونٍ أصفر وجنونٍ.

فأقلّبُ أوراقَ الإِرثِ وتَشَنُّجاتِهِ،

الأيامَ التي رسمتُ فيها في أتُّون الظهيرة.

كلُّ ذلك كان مُنْذُ زمنٍ طويلٍ

قبلَ أنْ أصبحَ أكثرَ دراية في الحبِّ ومعاناتِهِ،

وذعرِ حقلٍ بنَعِيقٍ صاخِب ونَشَاز.

—————————–

12. كلُّ هذا حَدَث

كلُّ هذا حَدَثَ عندما أَشحْتُ بوجهي، بَهجَةٌ مشتتةٌ عن قصد،

نَفْحَةٌ فوضويةٌ على الصفحةِ الأولى لكتابٍ جديد،

انحِلالُ رسمٍ مُتَعَفِّنٍ شممتُ رائحتَهُ،

المِراحُ الشديدُ الذي مَرَّ بظَرَافَة

ما زلتُ لا أصدقُ الطريقةَ التي تخلتْ فيها موهبتي عني

كما تتخلى امرأةٌ عن رجلٍ يكبرها كثيراً،

فظننتُ أنَّ البنفسجَ هو مَن جابَهَ السيارةَ المُصَفَّحةَ،

ظننتُ أنَّها كانت رائحةَ جلدِ فَرَسٍ مُبَلّلٍ،

أو صَوْتي، أُذُنِي التي لها شَكْلُ مَحَارَة،

كلُّ هذا حَدَثَ عندما أدرتُ رأسي لثانيةٍ واحدةٍ فقط عن الصفحة. فلم أتَمَكَّن أنْ أدركَ – إمّا بسببِ الموهبةِ أو مَوْتِ ما شُغِفتْ به –

لا صَوْتَ العَنْدَلِيبِ فَحَسب، بل هَدِيلَ اليَمامِ أيضاً.

—————————–

13. على شاطئ الذاكرة

على شاطئ الذاكرةِ يتجمعُ العشبُ البحريُّ في تاجياتٍ متشابكةٍ وأكاليلَ مُترمِّلةٍ؛

والجَيَشَانُ الأطلَسِيُّ في تنهدات كاس-إن-باس، تتصعّدُ الزّفَرات،

تتجمعُ شحناتُ البضائع بتموجها الصافي كبِرْكةِ زنبقٍ

والأوراقُ وسيقانُ النباتِ السميكةُ

والأخاديدُ التي تتفتحُ دونما انقطاع لتغذيةِ الأمواجِ المُزْبِدةِ التي ترغو أعاليها كفرسانٍ أفارقة؛

أما الشاطئُ الأبيضُ الذي يجذبُكَ

فهو أعمقُ مِنَ المدِ؛

وإذا ما هدأتِ الروحُ مرةً،

سيكون شاطئُها الآخرُ داكار. خيولٌ تصهلُ

في أيْكةٍ مليئةٍ بالسياح، حفيدتُك إحداهم؛

أما حقولُ الأعشابِ البحرية فهي بعيدةٌ كغينيا.

تخفقُ النوارسُ أجنحتَها مثل أشرعةٍ لعبورِ المياهِ المنفصلة

حيثُ قعقعةُ القواقع والهياكل العظمية.

فيا لوزن الزمن الذي يقضيه طفلٌ راكبٌ

ويا لجهل الأكاليل الجيّاشة،

كما لو أنَّ بإمكان هذه الصورة أنْ تُكفِّرَ عن قرون:

الحصانُ، الفتاةُ المشرقةُ، ورملُ الأعشابِ المتآكلة!

—————————–

14. نهارٌ قاتمٌ يُشْرق

نهارٌ قاتمٌ يُشْرقُ، فالغيمُ مثل فانِلَّة داكنة،

مع ذلك ثمة إبحارٌ مُتَقَطعٌ أكثر من المعتاد،

ناقلةٌ رَمَادِيّةٌ مُتَقَشِّرِةٌ ترسو وسطَ القناة،

يغشاها البعدُ ورذاذُ ضوءِ الشمس.

فلم يقفوا أبداً في طريقهم إلى الشمال الأقصى

أو يبدو أنّهم ينتظرون حتى أرسلَ بصمتٍ

شعلةَ الضوءِ في إشَارَة إلى شقائي الدائم،

موجةٌ تخفقُ بجناحيها بالضد من هذا النَّصِيب الفِردَوسِيّ الذي علقت به

فوسط السلطعونات الغارقة وهياكل النَّخِيل المُضَلَّعة

يبدو المشهدُ وكأنَّه مشاعل مُتَجَمِّدةٌ

وفي كلِّ طيفِ ناقلةٍ راسيةٍ ثمة شابٌ يحلمُ في الرحيل

في أنْ يطوفَ جميعَ موانئ العالم

مخربشاً اسمَهُ على الشاطئ،

مختبئاً في المرافئ المُتَدَاعِية بلحيةٍ بيضاء كقنفذ بحر

وبشرةٍ مُتَصَدِّعةٍ كجِلْد مدبوغ:

وعندما تتحطمُ الصواري وتتساقطُ الصواعقُ

سيكون قد شاهدَ العالمَ في أسوأ حالاتِهِ الجوية،

فيخمد كناقلةٍ تَتَقَشّرُ وسط البحر.

—————————–

15. نِعْمَةُ الفَشَل

في حَمِيمِيّةِ داخل السيارةِ الجِلدِيّ عبرَ حقولِ القصَبِ

وأنا مُحَمَّلٌ بعُذُوبةِ النجومِ العجلى،

تأملتُ نِعْمَةَ الفَشَلِ، وكيف أنَّها لا تُثْمِرُ سِراً أو عِبرَةً

أو عتباً بينما ألمُها يبقى،

فكم زاوِيَة تُعَمِّدها الآن تُخفي أزمةً ما.

تَمُرّ مثلَ سفينةٍ نافذةُ دَيْرِ مونت سانت بنديكت المضاءةُ

على تَلّةٍ في ليلةِ يرتفعُ فيها القمرُ كمِنجَل

من ذلك القصب الذي يتوَاطَأ وينحني

كي يضيءَ ناسِكاً جاثماً في صَوْمَعَتِهِ الجَنينِيَّة كما أفعلُ مع أشعاري.

ها أنتَ تسيرُ باتجاهِ صرخاتٍ وعناقاتٍ من شأنِها أنْ تُريحكَ

في حين يُنكرُ الراهِبُ على نفسه الحُبَّ الذي يمكن أنْ يُسببَ له التنافي.

وتتذكرُ أولئك الذين دعموكَ وأولئك الذين قاتلوكَ

كانوا أقوى من الخشب أو الحجر، لكنَّكَ كنتَ على بَصِيرة

حيثُ أضواءُ لندن وحاناتها، المسارحُ والكاتدرائيات

التي تنسابُ مع الكأس كما تنسابُ ريحٌ لَيْليّةٌ في قصَب،

الفرحُ الغادِر حيثُ تسقطُ نجمةٌ، يعني حتّى أقَلَّ الآن،

فما قد تركتَهُ وراءَكَ هو شفقةُ السماءِ الصامتةُ فوقَ سانت بول،

بينما ترتفعُ من ذلك الطريقِ المليءِ بأوراقِ البرسيمِ

مدينةُ المحبةِ التي تُعيدكَ إليها كابنٍ لها.

—————————–

16. عند الغسق

تمتطي هياكلُ اليُخوت البيضاء مياهَ المَرسى البُرتُقاليّةَ عند الغَسَقِ،

وتُقَهْقِهُ تحتَ أقواسِ أشرعتِها سلاسلُها في البحر المُلوَّن؛

حاولْ أنْ تصلَ إلى هناك قبلَ أنْ يُومِضَ الضوءُ الأخضرُ من الصارِي

الذي تُضِيئُهُ مقدمةُ المركب بالوَهج، بينما يتدلَّى الغسق

مُعَلَّقاً مع المِنَصَّة والحبالِ والسماء اللَيلكيّة الشاحبة

بسَحَابتِها الطافحةِ كزَبَدٍ لَمَستُه الشّمسُ،

عندما تسطعُ النجومُ كي تشاهدَ مَوتَ المساء.

في هذهِ السّاعةِ البُرتُقاليّةِ يُقرأ الضوءُ كما يُقرأ دانتي،

ثلاثةُ أسطرٍ في وقتٍ واحد بتوترِها المُتمَاثِل،

باراتٌ هَادِئةٌ تتموَّجُ من باراديسو

بينما يكتبُ زَورَقٌ أسطراً صنعَها

وزنٌ من ضرباتِ مِجْدافِهِ الضَّئِيل،

فتَسَمَّرنا، حتّى كأننا لا نكاد نتحدث.

أسعدُ إنسانٍ هو مَن يَشْربُ النبيذَ الآنَ

مع شريكِ حياتِهِ تحتَ النُّجومِ المُتلألئة

والمصباحِ المنحني الثابِت عند نهاية المرفأ.

—————————–

17. غيمةٌ وسط أطرافِها المُتهرِّئة

هذه الصفحةُ غيمةٌ وسطَ أطرافِها المُتهرِّئة

رأسٌ بَحرِيٌّ يبدو منكسراً من الجبال

يختفي مُجَدّداً ثم يظهرُ من سماءٍ زرقاءَ الآن

بحراً مُخَدّداً وجزيرةً كاملة بحافَّاتِها الحمراءَ ووديانِها

بظلالِها الهابطةِ وطرقِها المتعرجةِ التي تربطُ قرى الصّيدِ

بالسّيلِ الأبيض الصامتِ للأمواجِ المتكسِّرة على طول الساحل،

حيثُ النوارسُ تصطفُّ كسهم في المرفأ الواسعِ بمدينةٍ لا ضَجِيجَ فيها،

تقتربُ شوارعُها مثلَ كتابٍ تقرأُهُ الآن،

سفينتانِ سياحيتانِ، ومركبانِ شراعيانِ، وأخرى قاطرة، وقواربُ الأَسْلاف،

وبينما غيمةٌ تغطي الصفحةَ ببطءٍ وتكون بيضاءَ مرةً أخرى

يقتربُ الكتابُ من نهايتِه.

(*) مقتطفات من ديوان بالعنوان نفسه (البَلَشُون الأبيض) صدر حديثاً عن «دار لازورد» في بغداد

————

ديريك والكوت (1930-2017)، شاعرٌ ومسرحيٌّ أنغلوفونيٌّ، من مواليد جزيرة سانت-لوسي الكاريبيَّة. تَيَتَّم من جهة الأب صغيراً، وكبر وسط أسرةٍ خلاسيَّة فقيرة، ما اضطرَّ أمَّه إلى امتهان الخياطة كي تستطيع تأمين تكاليف مدرسته. واصل دراسته في جامايكا. بدأ نشرَ محاولاته الشعرية الأولى في أواخر أربعينيَّات القرن الماضي. وبين عامَي 1959 و1976، أدار ورشةً مسرحيَّة في ترينيداد، أخرجَ ضمنها العديد من مسرحيَّاته. بدايةً من عام 1981، استقر في الولايات المتحدة الأميركيَّة، ليصبح مدرِّساً في هارفرد ثم بوسطن. وبما أنَّ لغته الأم هي الإنكليزيَّة، وجد نفسه معزولاً ثقافياً عن الغالبيَّة الفرنكوفونيَّة والكاثوليكيَّة في الأنتيل. وسيكون للأمر صدى في شعره بتطرُّقه إلى مسألة العوائق والاختلافات اللغويَّة السَّائدة في جزر الكاريبي. وحتَّى من الناحية الأسلوبيَّة، تتضافر في قصيدته لغات ولهجات محليَّة عديدة، أكثرها استعمالاً لديه: الإنكليزيَّة، لغة المولَّدين البيض (الكريوليَّة)، الفرنسيَّة واللاتينيَّة؛ أسوة بالمزج الثقافي بين التقاليد الأوروبيَّة الكلاسيكية والعريقة منذ هوميروس حتى شكسبير، مع الفولكلور الأنتيليِّ، بحيث توافق النقاد على وسم شعره بالتأرجح بين الحداثة والخلاسيَّة. أمَّا أبرز أسلافه الذين استلهمَ منهم نفَسَه الملحمي والمِلاحيَّ فهم: إيمي سيزير، سان- جون بِرس وبابلو نيرودا. يقول عنه مواطِنه باتريك شاموازو: «كل حضارة الكاريبي تأسست على إبادة الهنود ونخاسة السُّود. ثمَّة رؤيةٌ مؤلِمةٌ جداً في أعمال ديريك والكوت، وهي رؤية هذا البحر الكاريبي المفروش بالعبيد القدامى الذين كان يُلقى بهم إلى البحر. فكثيراً ما قال الشاعر إنّ وحدة الكاريبي تحت-بَحريَّة، لأن بِساط الجثث هذا يربط بين كُلِّ الجُزر». ذاع صيتهُ بفضل قصيدته الملحميَّة «أُوْمِيرُوسْ» (1990) وهي اقتباسه لـ«إلياذة» هوميروس إلى خليطٍ من الإنكليزيَّة وإحدى اللغاتِ المحلِّيَّة لجزر الأنتيل. وتبقى السمة الأبرز لكافَّة أعماله إعطاء صورة حيَّة وحَرِكة عن ثقافات وعادات الأنتيل، بحيث لا تكاد تخلو قصيدة له عن ارتباطها بالمكان، عن تعلُّقها بوصفه حدَّ تسميته. سيفرضه تميُّزها هذا كواحد من أهمِّ الأصوات الشعريَّة لا في أميركا الوسطى فحسب وإنما في القارَّة الأميركيَّة قاطبةً، وبصفة أبرز بين الناطقين بالإنكليزيَّة فيها؛ ما أتاح له أن يكون عضواً شرفياً في الأكاديميَّة الأميركيَّة للفنون والآداب، وعضواً في أكاديميَّة الشعراء الأميركيين. سيتوَّج مساره الإبداعي، عام 1992، بحصوله على جائزة «نوبل»، ليصير ثاني زنجي يحصل عليها (بعد وول سوينكا). عام 2010، تفوز مجموعته «البَلَشون الأبيض» (الَّتي نختار منها قصائدَ ها هنا بترجمة غريب اسكندر) بـ «جائزة ت. س. إليوت».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى