مراجعات الكتب

“العاقل”، إله تائه يبحث عبثاً عن الرضا/ راتب شعبو

“هل هناك أكثر خطراً من آلهة غير راضية وغير مسؤولة ولا تعرف ما تريد؟”؛ بهذه العبارة التحذيرية يختم يوفال نوح هراري كتابه “العاقل، تاريخ مختصر للنوع البشري” (Sapiens–A Brief History of Humankind)، الكتاب الذي صدر في 2011 باللغة العبرية، وترجم إلى 65 لغة، وغدا من أكثر الكتب مبيعاً في العالم. وقد شكلت هذه العبارة منطلقَ الكتاب التالي للمؤلف “الانسان الإله، تاريخ مختصر للمستقبل” الذي صدر في العام 2016.

وُفِّق القراء العرب بترجمة ممتازة لكتاب “العاقل” على يد حسين العبري وصالح بن علي الفلاحي. الآلهة التي تبحث عن الرضا ولا تدركه هي البشر، الكائنات “العاقلة” التي اتَّخذت، حسب هراري، مساراً تطورياً عبر ثلاث ثورات (ثورة ذهنية، وثورة زراعية، وثورة علمية). هكذا حسنت هذه الكائناتُ وسائل سيطرتها، ثم بدأت تعيث فساداً برفاقها من الحيوانات الأخرى، وبالنظام البيئي المحيط، وأكثر ما تسعى وراءه هو الراحة والمتع، ومع هذا فإنها لا تدرك الرضا.

في كل الأحوال، لا يمكن عرض تاريخ “غير مختصر” للنوع البشري، فهو تاريخ غامض يمتدّ لمئات آلاف السنين، ولا نملك حياله سوى الافتراضات والتكهنات ومحاولة استخلاص معانٍ من نتف يسيرة للغاية من المعطيات التي تقدمها لنا الحفرياتُ والآثار.

كتاب “العاقل” غني بالمعلومات، وإن كان لا يقدم معلومات جديدة لأهل الاختصاص، ولا يحلُّ لغزاً استعصى حلُّه، على أنه يعرض بسلاسة الأسئلةَ التي لاتزال بلا جواب شاف، مثل السؤال عن سرِّ سيطرة العاقل، وفناء الأنواع الأخرى التي تزامن عيشها على الأرض معاً. غير أن قيمةَ الكتاب لا تكمن في المعلومات، بل في المنظور الواسع وفي أسلوب العرض وطريقة التناول.

فدون أن يتخلى عن الرزانة والمنطق العلمي، يلون هراري نَصَّ كتابه بشيء من الشاعرية، مع لطشات عابرة من سخرية ذكية، كما يضمنه بعضَ القصص الحقيقية الممتعة وذات الدلالة التي تخدم الفكرة التي يطرحها، منها مثلاً قصة الهندي الأحمر الذي طلب من رواد مركبة الفضاء الأمريكية أبولو، حين علم أنهم يستعدون للصعود إلى القمر، أن يحفظوا منه عبارة بلغة قبيلته التي لا يفهمونها، كي يقولوها لأهل القمر، على أنها تعويذة تخص أفراد قبيلته، وتجلب لهم الخير إن سمعها أهل الفضاء.

ورفض الرجل أن يترجم العبارة برغم إصرار الرواد الذين حفظوا لفظَ العبارة عن ظهر قلب، كما كانت ذاكرة المعري تحفظ أحاديث الفرس دون أن يدرك معناها. على أي حال، لم يجد الروّاد على القمر من ينقلون له هذه الرسالة التي علموا لاحقاً أنها تقول: “لا تصدقوا حرفاً مما يقوله هؤلاء لكم، إنهم يريدون الاستيلاء على أرضكم”.

جذب الكتاب جمهوراً واسعاً، بوضوحه وطرافة التصورات وجدتها والأسلوب السلس للدفاع عنها، مثل اعتباره الثورة الزراعية “أكبر خديعة في التاريخ”، لأنها إذا كانت انتصرت للنوع البشري (زيادة عدد الجينومات أي زيادة عدد النسخ البشرية، لأن الاستقرار ساهم في زيادة عدد الولادات)، فإن ذلك كان على حساب الفرد. وهكذا عاش أناس أكثر في ظلِّ ظروف أسوأ. وطالما أن الإنسان عموماً لا يختار أن يعيش بصورة سيئة لمصلحة النوع، ولم يكن يدرك أصلاً أنه يخدم أو لا يخدم النوع، فإن الثورة الزراعية كانت فخاً.

والحقيقة أنه ليس الإنسان هو من دجن القمح، إنما القمح هو من دجن الإنسان، وجعله مرهوناً للطقس وللبيت ولبقعة محددة من الأرض سوف يدافع عنها ضد المعتدين في معركة حياة أو موت، لأن إنسان الزراعة لا يملك خياراً آخر، على خلاف إنسان الصيد والالتقاط.

ومثل حديثه عن “ثورة الجهل” بدل ثورة المعرفة، وسلاسة عرض فكرته بأن “اكتشاف الجهل” والاستعداد للاعتراف بالجهل، كان الأساس الأول لبروز الثورة العلمية. في حين أن التراث المعرفي ما قبل العصر الحديث، كتراث الإسلام والمسيحية والبوذية والكونفوشية، يعتبر أن كلَّ ما يهمنا معرفته عن العالم كان معروفاً بالفعل، وأن الحكمة الكلية الشمول موجودة في الكتب المقدسة أو المرويات الشفهية، وعليه فإن المعرفة تأتي عبر التبحر في هذه النصوص والمرويات القديمة، وفهمها بشكل مناسب.

من المفهوم، أمام ألمعية الكتاب والإقبال الواسع عليه، أن بعض كبريات الصحف رأت أنه واحد من بين أذكى عشرة كتب في العقد الماضي. غير أن “العاقل” لم يكن له التأثير نفسه على أصحاب الاختصاص، فهؤلاء أعطوا تقييماتٍ معاكسة لتقييمات الجمهور. أحد علماء الأنثروبولوجيا كتب أنه لم يجد في الكتاب أيَّ مساهمة جدية في المعرفة، وقال آخر إنه كتاب غير مهم أساساً، ولا يستحقّ ما لقي من إشادة، فيما رأى عالم آخر أنه أقرب ما يكون إلى الثرثرة. ولكن النجاح الشعبي الباهر للكتاب تفوق على ضعف الاعتبار الأكاديمي له، وهكذا بادر متحف إسرائيل للفنون والآثار في القدس إلى إقامة معرض مؤقت خاص بالكتاب في 2015، استمر لمدة سبعة أشهر، تضمن عروضاً فنية وآثارية توضح الموضوعات الرئيسية في الكتاب.

الحقيقة المتخيلة أو الأساطير

الانشغال بمشاكل الحاضر يجعلنا نبحث في تاريخ نوعنا عما يضيء لنا مشاكلنا، فيبدو لنا أن من أهمِّ مسارات الكتاب ومقترحاته العديدة، هو التأكيد على أن “الحقيقة المتخيلة” أو “الأساطير”، هي ما يميز الإنسان بوصفه الكائن الذي يبتكر ويؤمن بهذه الحقائق المجردة التي لا وجود واقعياً لها، ولكنها مع ذلك ليست كذباً، ذلك أن الناس يصدقونها ويؤمنون بها، كما أنها تدوم طويلاً، وربما تطول إلى الأبد، مثل الدّين والقومية وحقوق الإنسان، إلخ.

هذه أشياء توفرها اللغة ولا وجود مادياً لها، فهي تختلف عن النهر والشجرة والأسد، ولدى الإنسان ميل شديد للإيمان والتعلق بها بصورة تجعل ملايين الأفراد الغرباء الذين لا يعرف أحدهم الآخر، يجتمعون على هدف ما، ويتعصبون له بحماس شديد يصل إلى حد القتل والإبادة، في حين تقتصر الجماعات الحيوانية على بضع عشرات أو مئات قليلة من “المعارف”.

مع الحقائق المتخيلة تتسع دائرة “نحن”، الأمر الذي يعطي الجماعة التي يجمعها الخيالَ قوةَ تكافلٍ ما كانت لتتوفر لولا رابط “الأسطورة”. هكذا تتسع إذن دائرة المواجهات، فيغدو الصراع حروباً بين جماعات كبيرة لكلٍّ منها “أسطورتها” الخاصة. وهكذا تعزز كلُّ جماعة أسطورتها بثقافة مناسبة تحيل ثوابت الجماعة إلى بديهيات، وهو ما جعل هراري يسمي الثقافة “غرائز مصطنعة”.

وإذا كان هناك حقائق متخيلة أو أساطير تقصر عن استيعاب الناس أجمعين، مثل أسطورة القومية، فإن البشر ابتكروا أساطير تشمل الجنس البشري برمته، وتتجاوز حدود “نحن” و”هم”، مثل الدين التبشيري، فهو يسعى لاحتضان كلِّ من يدخل فيه، والمال الذي يعترف به الجميع، ويحافظ على قيمته بغضِّ النظر عن اليد التي تحمله، والإمبراطوريات التي تهضم كلّ أرض تؤول إلى سيطرتها، وتجمع الشعوب في ظلها.

غير أن قدرة الحقائق المتخيلة على جمع البشر وتوحيدهم، كانت أضعف من نوازع الصراع التي تغذيها طبيعة العاقل و”غرائزه” التي تدفعه، بصورة لا تتبدل، إلى الاستئثار والتملك والسيطرة. تتصارع الإمبراطوريات ثم تنهار، وتتعدد الأديان وتتصارع على حيازة البشر، وتزيد في حدة الفوارق بين “نحن” والآخرين، بدلاً من أن تحتضن البشرية وتزيل الفوارق. ويبقى المال إلى اليوم الجامع الأبرز الذي يوحد الجميع، ويعامل “معتنقيه” دون تمييز باللون أو الدين أو القومية. ولكن المال، بخاصيته الساحرة هذه، يصبح سبباً للمزيد من الصراعات للحصول عليه وتجميعه وكنزه. فالمال الذي نشأ ليكون معادلاً عاماً لكل القيم الاستعمالية، وفّر وسيلةً لتجميع الثروة وكنزها.

مع بروز الإنسان العاقل أصبحنا أمام واقعين؛ الأول واقع متخيَّل، والثاني واقع موضوعي، “ومع الوقت صار المتخيل أكثر نفوذاً من الموضوعي، وصار بقاء الأنهار والشجر… يتوقف على رحمة كيانات متخيلة مثل جوجل والولايات المتحدة”. الحقائق المتخيلة والأهداف غير المنظورة باتت مع الإنسان العاقل قوة تتفوق على سواها.

في كتابه “الأمل والذاكرة، خلاصة القرن العشرين”، يقول الكاتب الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف، إن الحدث الرئيسي في القرن العشرين هو ظهور النظام الشمولي أو الحكم المطلق، ويرى أنه “نظام سياسي مبتكر، يتلاشى فيه الفرد ويذوب في بوتقة المجتمع والدولة”، والواقع أن النظام السياسي المبتكر هو النظام غير الشمولي أو الديمقراطي.

لكن الفكرة التي يلفت النظر إليها تودوروف، وتتقاطع مع تأكيد كتاب “العاقل” على خطورة الحقيقة المتخيلة أو الأسطورة في المجال السياسي، هي أن الأنظمة الشمولية تقوم على الوعد: “نظام الحكم المطلق ينطوي على وعود بحياة ذاخرة، منسقة وسعيدة. ومع أنه لا يفي بوعده أبداً، فإن الوعد يبقى والأمل يتجدد ويستمر الاعتقاد أن الأمة ستنجو يوماً ما. بينما لا يلزم النظام الديموقراطي الحر نفسه بوعود مماثلة، بل يترك للشعب حرية البحث عن السعادة والانسجام والوفرة”.

انتظار الوعد

في الحكم المطلق يعيش الناس البؤسَ، ولكنهم يتحملون بانتظار “الوعد” أو الحقيقة المتخيلة أو الخدعة المحبوبة التي يبتعدون عنها يوماً بعد يوم. وقد يشعر الناس أن هذه خدعة، وغالباً هم يشعرون ذلك، لكنهم يتابعون التواطؤ ضد أنفسهم، ويستمرون في ما يريحهم من خسارة الأمل ومن المواجهة الثقيلة والمكلفة مع “الواقع”.

في الديمقراطية فإن وعد الناس هو واقعهم، الديمقراطية بذاتها لا تمنح الناس واقعاً جميلاً، ولا تعدهم بواقع جميل قادم، أي لا تحكمهم باسم “وعد”، بل تمنحهم سبل العمل على تحسين واقعهم. أما الحكم المطلق فإنه يطالب الناس بالطاعة والالتزام، ويمنعهم من الاحتجاج والعمل على تحسين واقعهم كي لا يعيقوا وصول الواقع الموعود الذي لا يصل. ومن المفهوم أنه حين يكون هناك وعدٌ، ينبغي أن يكون هناك “نخبة” ممن يدركون الطريق إليه ويحرسونه ويستمدون سلطة مطلقة من وظيفتهم هذه في حراسة “المأمول” الذي لا يُدرَك.

من هذه الزاوية، يبدو أن التقدم الذي حققه “العاقل” بفضل اللغة والثورة الذهنية، حمل معه شرورَه اللصيقة. الحقائق المتخيلة سمحت للإنسان أن يشكل شبكات تعاون تجمع ملايين البشر، ولكنها أتاحت في الوقت نفسه، وبالآلية نفسها، حروباً ذات تأثيرات مدمرة بين هذه الملايين. والحقائق المتخيلة فتحت البابَ لنشوءِ أنظمةِ حكمٍ ديمقراطية تحترم إلى حدّ معقول كرامةَ الإنسان وحقوقَه، ولكن، هذه القدرة على خلق الأساطير والإيمان بها، فتحت البابَ أيضاً لنشوء أنظمة شمولية تكبّل الإنسان لصالح مستقبل رغيد غير منظور.

هل سيكون بمقدور الإنسان يوماً أن يتحرر من الجوانب المدمرة لطاقته “الخيالية” أو “التخييلية”؟

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button