أبطال «ملونون» لماضٍ أبيض… أو الحاضر بوصفه «منصّة عرض»/ محمد سامي الكيال
أثار وصول ريشي سوناك وزير الخزانة البريطاني السابق من أصول هندية، إلى رئاسة حزب المحافظين، وبالتالي توليه المنتظر لمنصب رئاسة الوزراء في بريطانيا، كثيراً من الاستحسان بين المتحمسين لتجربة «التعددية الثقافية» على النمط الأنكلوساكسوني. فبعد السجال الحاد، الذي انطلق من الهند أساساً، عقب وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ووصلت أصداؤه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حول الماضي الاستعماري المشين للإمبراطورية «التي لا تغيب عنها الشمس»، ونهبها القاسي لأجيال من الصنّاع والفلاحين الهنود، ها هو أحد أحفاد الضحايا يصل إلى سدة الحكم في بلاد المستعمِرين السابقين. هل توجد مصالحة مع الماضي والذاكرة أكثر من هذا؟ كثيرون رأوا أن على الأكاديميين الهنود، الذين بذلوا جهداً استثنائياً في حساب القيم التي انتُزعت من الهند، وجعلت بريطانيا الإمبراطورية التي نعرفها، أن يعيدوا النظر في أحكامهم، فالليبرالية البريطانية المتأصلة، التي تدعم قيم التعدد والتسامح، قادرة على إصلاح نفسها دوماً، وأثبتت مجدداً أنها النموذج الواجب التعميم في العالم الغربي بخصوص التعامل مع «الملوّنين»، القادمين من المستعمرات السابقة وأشباه المستعمرات.
إلا أن سوناك ليس «ملوّناً» عادياً، فقد لقّبته الصحافة البريطانية غالباً بـ«المليونير»، كما أن عائلته واجهت كثيراً من الاتهامات باستغلال الملاذات الضريبية. الأكيد هنا أن رئيس الوزراء المقبل لم يكن يحتاج أو ينتظر «التمكين» الليبرالي كي يكون حاله أفضل من أغلب أبناء جلدته، أو لكي يصل إلى الصف الأول بين نخب البلد، الذي بات يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، تؤثر في مستوى حياة الطبقات الوسطى والدنيا، من كل الألوان. حتى في عز العصر الكولونيالي كان أفراد العائلات الملوّنة الثرية، من الموالين المخلصين للعروش الاستعمارية، ينالون «التمكين» الكافي لتحصيل كثير من الامتيازات. ليس طبعاً لدرجة تولي الحكم في المركز الاستعماري. وربما كان هذا هو «الجديد»، الذي أتت به الليبرالية الأنكلوساكسونية في عصرنا.
يُذكّر هذا «الجديد» باتجاه بات سائداً إلى حد ما في الثقافة الجماهيرية المعاصرة Pop culture وهو إنتاج أعمال فنية، في السينما ومنصات العرض، يلعب فيها «المهمشون»، من ملونين ونساء وغيرهم، أدوار البطولة ضمن أحداث تاريخية أو فانتازية، رغم عدم اتفاق هوياتهم مع سياقات تلك الأعمال. فنرى ملوكاً سوداً على عروش غربية، وسيدات مسيطرات في مجالات حُرّمت طويلاً على النساء. سوناك سيمسي «ملكاً» مسيطراً في الواقع، وليس على إحدى منصات العرض ذات الاشتراك المدفوع، فهل كانت تلك الأعمال الفنية بشارة لتغيير فعلي يتحقق في حاضرنا؟ أم أن الواقع نفسه بات «منصة عرض»، تبثّ ما لا نهاية له من الأحلام الزائفة؟
تصحيح الماضي
من أبرز الانتقادات «اليسارية» لنمط «التمكين» الذي تقدمه منصات العرض، أنه يخفي أو يُجمّل واقع الاضطهاد والتمييز، الذي تعرّض له في الماضي ملايين من البشر على يد «الرجل الأبيض». سينشأ جيل جديد لا يعرف شيئاً عما عاناه أسلافه، ويظن أن حضور الملونين والنساء كان طبيعياً دائماً، وبالتالي فهي عملية مسح ذاكرة، وغسيل ممنهج لقذارة التاريخ، يقوم بها «الرجل الأبيض» نفسه. كثير من الليبراليين يقدّم حجة مضادة، وهي أن إبراز أبناء الهويات المهمشة في الأعمال الفنية سيساعد في تطبيع دورهم الجديد في المجتمعات الغربية، ويساهم في القضاء على العنصرية المتوارثة والصور النمطية، عبر تصحيح العلامات والرموز التي تصدّرها أعمال الثقافة الجماهيرية. أما مظالم التاريخ فيمكن توثيقها بشكل متوازن، من خلال المناهج الدراسية في المدارس والجامعات.
يمكن تطبيق الحجة والحجة المضادة على حالة ريشي سوناك، فهو، من جهة، جزء من «المؤسسة» البريطانية، أي أحد أفراد مجتمع النخبة المالية والسياسية متعددة الأعراق، التي تحتكر لنفسها كثيراً من الامتيازات. وما تصدير وصوله إلى رئاسة الوزراء، بوصفه علامة على التسامح وتجاوز العنصرية، إلا محاولة لتبييض واقع التمييز، الذي يتعرّض له مئات الآلاف من مواطني المملكة والمهاجرين إليها. لا يشبه سوناك أبناء الأحياء المهمشة إلا في لون البشرة، إلا أنه في الواقع شديد «البياض»، دعك من ميوله المحافظة والنيوليبرالية، وإذا ظن مهمّش ما أنه يعيش في مجتمع يتيح له تحقيق إنجاز شبيه بما وصل إليه سوناك، فسيكون ضحية تضليل أيديولوجي، مهمته إخفاء الهرمية الاجتماعية والطبقية القاسية، التي يعيشها البريطانيون.
إلا أن سوناك، من جهة أخرى، ليس الحالة الوحيدة لـ«التمكين» السياسي، فقد سبقه مثلاً عمدة لندن صادق خان، السياسي العمالي الذي تربى في منازل السكن الاجتماعي، وبالتالي فالموضوع ليس مجرد تضليل أيديولوجي، بل حالة يجب استثمارها على مستوى الخطاب العام، لإظهار التغيّر الفعلي الذي تتيحه الديمقراطية الليبرالية، وقدرتها على تصحيح مظالم الماضي. يوجد اليوم سياسيون ملونون من مختلف الطبقات الاجتماعية والميول السياسية، يبرزون في صدارة المشهد، وهو ما يجب أن يدركه الجميع، سواء أنصار التمييز أو ضحاياه. أما المشاكل الاجتماعية والاقتصادية فيمكن حلّها عبر القنوات الديمقراطية القائمة.
تبدو الحجتان عتيقتي الطراز إلى حد بعيد، وربما تنتميان إلى الشرط الثقافي والسياسي للعقد الماضي، ففي عالم يملّ بسرعة من خطاباته وطروحاته الأيديولوجية، ولا يأخذها كثيراً على محمل الجد، لن يبقى الجدل حول «إنجازات» سوناك أو خان، على المستوى العرقي، مهماً جداً، ما دام البشر قد تعوّدوا على هذا النمط من التمكين، في السياسة والثقافة، ربما منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسود باراك أوباما، فيما لا يتغير شيء على المستوى البنيوي، في تلك البلدان الغارقة في أزمات غير مسبوقة. وبالتالي يبقى الحديث عن سوناك على مستوى «منصة عرض» بالمعنى الأشمل. أي مجرد «تريند» سياسي، سيزول بعد فترة قصيرة، خاصة إذا فشل في إخراج بلاده من أزمتها الاقتصادية والسياسية، وهو أمر أكثر من متوقع. ربما كان الاحتفاء بسوناك يعني ليبراليي العالم الثالث أكثر بكثير مما يعني البريطانيين والأوروبيين أنفسهم، بكل توجهاتهم.
أزمة المنصات
يمكن، للمفارقة الساخرة، توضيح مدى عَرضيّة الجدل حول عرق ريشي سوناك من خلال التذكير بأزمة منصات العرض الأكثر شهرة. فبعد فترة من الانتشار الكبير، التي جعلت كثيرين يظنون أن تلك المنصات هي «المستقبل»، تعاني علامات شهيرة في هذا المجال، مثل «نتفليكس» و»أمازون برايم»، من انكماش شديد في قيمتها المالية وحضورها الجماهيري. والأسباب تتعلق جزئياً بالمنافسة الشديدة، التي تواجهها من منصات جديدة، إلا أن هنالك عوامل أكثر عمقاً، وهي طبيعة مفهوم «التريند» نفسه، الذي تعمل عليه مثل تلك المنصات لتحقيق أرباحها.
يجب دائماً تحفيز انتباه الجمهور الملول، وابتكار تفاصيل وأحداث مثيرة للجدل، ولكن دون الدخول في قضايا تنتهك «الحساسيات» أكثر من اللازم، أو تهدد شيئاً من النظام القائم. تقدّم تلك المنصات كثيراً من الملوك السود والنساء المحاربات والتنانين الخيالية، وتنجح حتى الآن بخلق تريندات ناجحة. ولكن المشاهدين لا يشبعون، وصار إدهاشهم عسيراً، وبما أنه من السهل عليهم أن يغيّروا المنصة، ويتوقفوا عن المشاهدة في أي لحظة، فقد بات كل إنفاق ممكن، لإنتاج مزيد من الأعمال المتشابهة، غير مثير للانتباه بما فيه الكفاية. وربما كانت مشاهدة الـ»ريلز» القصيرة، على «تيك توك» و»إنستغرام»، أكثر تسلية من قضاء ساعات في مشاهدة مواسم مسلسلات، لم يعد بإمكانها قول شيء جديد.
ريشي سوناك ليس حتى تنيناً خيالياً، إنه واقعة مملة أخرى من وقائع السياسة والأيديولوجيا السائدة، تم النقاش حول حالات مماثلة لها مئات المرات، ولذلك فمن المتوقع أن يقوم الناس بـ»تمريرها للأسفل» scroll down بسرعة فائقة، ويبقى واقعٌ مزعج، يصعب تجاوزه بالسهولة نفسها.
«الطماطم الفاسدة»
ربما كان الأسلوب الأمثل لنقد المشهدية القائمة على منصات العرض السياسي المعاصرة هو «الطماطم الفاسدة»، أحد أقدم أساليب النقد في التاريخ. أي عندما كان المتفرّجون يرمون الممثلين والمهرجين والفنانين الفاشلين، بما تيسّر لهم من أغذية متعفّنة، ليوقفوا المهزلة غير المضحكة، التي أنفقوا نقودهم القليلة لمشاهدتها. أهمية هذا النوع من النقد تنبع من الرغبة بتجاوز الإشكالية الأساسية نفسها، التي تطرحها الأيديولوجيا المعاصرة: لا توجد في البنية القانونية والمؤسساتية في الدول الأكثر تقدماً اليوم ما يمنع وصول هندي أو امرأة أو مثلي إلى مناصب مهمة، وسبب غيابهم، وغياب كثيرين غيرهم من فئات مختلفة، ومن كل الألوان، هو أزمات بنيوية عالمية، طرح الأسئلة حولها أهم من الحديث الكسول والمكرر عن العرق والجنس والميل.
كيف يمكن إنتاج قول جديد في مثل هذا الظرف؟ السؤال صعب بالتأكيد، ولكن قد يكون التعبير القوي عن الملل والتبرّم خطوة أولى جيدة في هذا المجال.
٭ كاتب سوري
القدس العربي