استراحة بين الشوطين: ذكريات كرة القدم في الحرب الأهلية اللبنانية/ محمد تركي الربيعو
يلاحظ في السنوات الأخيرة تنامي موجة الكتابة عن الذاكرة والسيرة الذاتية في المدن العربية، ويبدو هذا الظهور مفهوما في ظل ما تعيشه المنطقة من دمار وتحولات كبيرة، وأيضا تحول حقل الذاكرة والماضي إلى ميدان بديل للسؤال عن الحاضر، وأسباب الواقع الصعب الذي وصلت إليه الأحوال. لكن بالتوازي مع هذه الفورة، فإنّ ما يسجل عليها، أنّ هذا التراكم تحول أحيانا، وفي ظل العجالة في تدوين الماضي، إلى اشبه باليوميات الصحافية. فالرغبة في البوح وتدوين ما حدث، كان يجري على حساب السؤال حول كيفية الكتابة عن الماضي والذاكرة، وما إن كانت الكتابة عن الذاكرة مجرد تدوين لبعض الأحداث والصور الحياتية، أم أنها تحمل في المقابل فرصة لتطوير واكتشاف دروب أخرى في تدوين التاريخ الاجتماعي وتطوير الكتابة نفسها، سواء قبل الحرب أو خلالها؟
وما يسجل أيضا على بعض هذا النتاج، تورطه أحيانا في تدوين ذاكرة منحازة تجاه الماضي بالأخص. ونتيجة لذلك، ظهرت المدن العربية قبل الحرب، وكأنها مجرد سجون كبيرة، لا وجود فيها لناس يبدعون ويحبون ويفرحون ويسمعون الموسيقى ويمارسون لعبة كرة القدم. ظنا منهم أنهم من خلال خلقهم لمشهد عربي قاتم قبل الحرب، يبررون ويكتبون سردية حول ما جرى لاحقا. ولعل هذه الصورة هي التي اشتكى منها عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب، في مقالة مهمة له بعنوان «دفاعا عن الكتابة في العلوم الاجتماعية» عندما تحدث عن فقدان العرب لـ»جمالية العلوم الاجتماعية». وهذه الجمالية، لا تهمل مشاهد العنف والاستبداد أو تنفيها، بل تبحث عن التقاط صور أوسع لهذه الأحداث، بدلا من التركيز على أخبار الجنود والمعارك والأيديولوجيات حسب. ويمكن أن تكون هذه الجمالية، في حالة الذاكرة، مدخلا آخر لتوسيع هذا الحقل، ليتجاوز جانب التوثيق حسب، وينشغل بالتقاط صور صغيرة من الحياة اليومية للماضي، ويعيد توظيفها في تكوين مشروع ذاكرة أوسع.
ذاكرة كرة القدم
ربما من بين المشاريع الكتابية الجديدة عن الذاكرة، والتي تعدّ مثالاً مهماً حول جمالية الكتابة عن الذاكرة، عمل الأكاديمي ولاعب الكرة اللبناني الأسبق فوزي يمين «استراحة بين شوطين: عن كرة القدم أثناء الحرب الأهلية اللبنانية» الصادر قبل أيام قليلة عن دار المتوسط للنشر. ولا تكمن أهمية وطرافة الكتاب فقط في اختيار كرة القدم كمدخل لكتابة ذاكرة لبنان خلال الحرب، بل في خطته الكتابية حول تدوين الماضي الذاتي.
لا يحاول المؤلف أن يورط الذاكرة في مشروع قصير أو ضيق عبر تتبع العلاقة فقط بين السياسة وعالم كرة القدم خلال الحرب الأهلية، بل نراه يمرر تمريرات جانبية ماهرة، لتجاوز خط دفاع القراءة الوظيفية، ليعبر بها نحو هدف أكثر إمتاعا. ولذلك يبدو مشروعه في الذاكرة مكونا من عدة طبقات. فهو لا يشن هجمات مرتدة سريعة على الماضي ليلتقط صورا سريعة، وإنما يحاول عبر تمريرات (نصوص) قصيرة، تشكيل صورة أوسع عن ذاكرة كرة القدم الطويلة اللبنانية (اقتبس من فرناند بروديل فكرة الماضي الطويل). وهذه الذاكرة الطويلة لا تنشغل فقط بملاحقة أيادي السياسة في عالم كرة القدم، كما فعل إدوارد غاليانو في كتابه «كرة القدم في الشمس والظل» بل تسعى للحفر في التاريخ لليومي للذات والجماعة اللبنانية مع كرة القدم، ثم تعود لاحقا لترصد دور السياسة في تغيير هذه اليوميات.
طبقة أولى: الطفولة وكرة القدم
يلتقط المؤلف صوراً بسيطة وغنية في آن واحد، عن واقع كرة القدم في فترة السبعينيات في لبنان. أولى الصور ستأخذنا إلى حارة ضيقة يلعب فيها الأطفال بسراويل رياضية كانوا يشترونها من محل أحد لاعبي كرة القدم السابقين. ففي الغالب كانت هذه المهنة تدار من قبل مهتمين بتاريخ كرة القدم أو الرياضات عموما، أو قد يديرها أستاذ تربية رياضية يسعى لتحسين دخله بعد دوام المدرسة.
في الصورة الثانية نرى عائلة تتابع مباراة لكرة القدم؛ يجلس البعض على الكنبة، بينما يتمدّد الأطفال في الغالب على سجادة البيت، والأب يتابع الكرة بشكل عصبي، وكل ذلك يجري أمام قناة تلفزيونية أجنبية تنقل المباراة دون أن يفهموا لغة المعلّق.
وفي مشهد آخر، نعثر على صور لاعبي كرة القدم التي حصل عليها المؤلف في الغالب من خلال المجلات الأجنبية، إذ لم يكن الحصول عليها بالأمر السهل. وسيختفي هذا المشهد لاحقا مع قدوم عالم التواصل الاجتماعي والميديا، الذي وفر صور آلاف اللاعبين على شاشتنا، لكنه في المقابل أزاحهم من جدران غرفنا. وتشكّل هذه المشاهد الطبقة الأولى والأصلية من علاقتنا بكرة القدم، وغالبا ما نبدأ بالحديث عنها عندما نسترجع ذكرياتنا مع كرة القدم.
طبقة ثانية: جمالية كرة القدم
يستكمل المؤلف حديثه من حارته «تركية» (مدينة طرابلس) التي تبدو شبيهة بحارات كثيرة في المشرق العربي، إن لم نقل الشرق الأوسط. أطفال يلعبون بالكرة أمام منازلهم، يفتحون أبواب بيوتهم، ليجدوا أنفسهم أمام الملعب فورا، وفي الغالب يحاولون في مبارياتهم تقليد حركات أحد لاعبي كرة القدم. ونكتشف معه من خلال يومياته في كرة القدم أن فرق الحي ربما شكلت أول رابطة أو تجمع في الشرق الأوسط، قبل المدرسة أو المراكز الدينية والأحزاب السياسية.
بين الفينة والأخرى، يقطع المؤلف سرده لذاكرة الطفولة عن كرة القدم، ليخوض معنا تفاصيل من ذاكرة كرة القدم الأوسع، في مسعى منه لربط تواريخنا الصغيرة بتواريخ أكبر. ومما يرويه في هذا الجانب، أن الفيفا تأسست عام 1904، أي قبل تشكّل بعض دول الشرق الأوسط الحديثة. وقد ضمّت في البداية دولا مثل الدنمارك وبلجيكا والسويد وإسبانيا والنمسا وإيطاليا. كما يروي كيف رفض الإنكليز في البداية فكرة إقامة مونديال لكرة القدم، الأمر الذي سيتغير مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
بعد سنوات من لعب الشوارع، سيختاره أحد المدربين للعب مع أحد النوادي المحلية، وبفضل هذا الانضمام سيتعرّف على مدن لبنانية أخرى مثل صور وبيروت الشرقية والغربية وصيدا وبعلبك، من خلال زجاج البوسطة (الباص) الذي كان ينقلهم للعب في أماكن أخرى. وربما يشبه هذا الأمر معرفتنا بدول ومدن عديدة، لم نكن لنسمع عنها لولا خوض منتخبها لإحدى البطولات المشهورة.
لكن تفاصيل اللعبة لن تقتصر على هذه الجوانب، بل سيبدو في طبقته الثانية من الذاكرة قريبا من الطرح الذي دعانا إليه أستاذ الفلسفة ومشجع ليفربول سايمون كريتشلي في كتابه «فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم؟». إذ يرى كريتشلي أنه، حتى لو استلهمنا روح فوكو لتحليل علاقات السلطة في كرة القدم، إلا أنّ كرة القدم تحتاج إلى «شعرية» أكثر إبرازا للظاهرة وتجتهد في استحضار ما تتحلى به من جمالية تدغدغ القلوب وتأسرها. ولذلك نرى المؤلف يكرّس صفحات للحديث عن لحظة تنفيذ ضربة الجزاء، وعن شخصية المدرب، والجوارب البيضاء وحكاية ابن سيرين عنها في كتابه عن تفسير المنامات، وعن لاعب الاحتياط، الذي عليه أن يبقى مندمجا مع روحية الفريق، وحارس المرمى، الذي هو أقرب للساحر، يطير بيديه ورجليه، ردود فعله سريعة تلقائية ودقيقة.
طبقة ثالثة: شوطة وقذيفة
في الطبقة الثالثة من ذاكرته، أو لنقل الطبقة السطحية، سيكمل المؤلف حديثه ليروي لنا كيف تأثّرت يوميات اللبنانيين مع كرة القدم بقدوم الحرب. أولى الصور التي يلتقطها، حادثة تفجير سيارة خاله أمام منزلهم، وكان فوزي يمين طفلا، لذلك سيذهب بعد هذا الحادث مباشرة للتدرب، على الرغم من محبته لخاله. لكن الحرب سرعان ما تبدأ باغتيال يومياتنا الصغيرة واحدة تلو الأخرى. إذ نظن في البدايات أنّ كل شيء سيعود كما كان، لنكتشف مع مرور الأيام أنّ كل ما يحيط بنا قد تغير، بما فيها ذواتنا دون أن ندرك أحيانا. قد ينطبق الأمر ذاته على يوميات اللاعب/المؤلف بعد أن أخذ العنف يبدّل الأهوال والآراء، ليلقي ظلاله على عالم كرة القدم اللبنانية. وفي هذه الطبقة، تبدو كرة القدم ثقيلة على النفس، بعد أن أجبرت على تمرير كل رسائل النزعات الطائفية والعشائرية، خلافا لعالم هذه الكرة في زمن الطفولة، الذي كان ينقسم فيه بين فريقين، الأول فريق الكنزة البيضاء أو الصفراء وباقي الفرق. وبالتالي نرى أن هذا القسم من اليوميات يدور حول عالم كرة القدم في زمن الرجولة.
قبل الحرب، كانت جماهير نادي النجمة يخرجون من النبعة (الحي الملاصق لبرج حمود، الذي سكنه عشرات الآلاف من الطبقة الشيعية بالتحديد) جنبا إلى جنب مع الجمهور البيروتي، ليقفوا جميعهم خلف النادي في أحلك الظروف. لكن هذا الواقع سيتغير مع قدوم الحرب، إذ سيقف الجمهور المسيحي مع ناديه الراسينغ، ويخرج جمهور من الأرمن خلف الهومنتمن والهومنتمن ليترجم توجهات حزبي الطاشناق والهاشناق المتناقضين فكريا وسياسيا، وفي الجهة الأخرى، ستظهر فرق النجمة والأنصار والتضامن كأندية تمثل التوجهات الأخرى. ورغم أنّ هذه الانقسامات مثّلت في بعض صورها امتدادا للانقسامات والتراكمات التاريخية قبل الحرب، إلا أنّ ذلك لم يمنع، قبل الحرب، وجود لاعبين مسيحيين ومسلمين ضمن بعض الفرق، إذ كانت الفرق خليطا من كل الطوائف. لكن بعد الحرب، سيصبح لكل تيار سياسي أو طائفة ناد خاص بها، ويصبح الشارع الكروي أشبه بالمتاريس. كما سينخرط معظم اللاعبين في الحرب، وبعضهم سيصبح من المقاتلين الشرسين فيها، فالحرب لعبة أيضا. ومع انتهاء الحرب، أصبح رئيس الاتحاد من الطائفة الشيعية والأمين العام من الدروز، وهكذا تتورط كرة القدم اللبنانية أو يجري تلوثيها، كما هو حال باقي تفاصيل الحياة اليومية في عالمنا المشرقي.
كاتب سوري
القدس العربي