صفحات الثقافة

الأرض المريضة… هل تعني نهاية الحداثة؟/ وضاح شرارة

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، السنة الجارية 2022، توفي الكاتب الفرنسي برونو لاتور (ولد في 1947). وتقتصر سيرته، على أغلفة كتبه العشرين، على تعريفه بأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس. ومكانة المعهد هذا، وهو من “المدارس الكبرى” على قول الفرنسيين في كليات ومعاهد إعداد نخب الإدارة والاقتصاد والسياسة والثقافة، لا تعرب عن دور الكاتب الراحل في الحياة العامة ومشاغلها وتياراتها. وبرز هذا الدور على نحو خاص في العقدين الأخيرين. وكان بروزه صدى لمعالجة الرجل قضايا التقنية ومحل العلوم من حياة المجتمعات وأهلها “المحدثين”، على ما دأب برونو لاتور على تسمية الأوروبيين والغربيين عموماً.

وحملته معالجته لـ “قلب حياتنا الاجتماعية” الحديثة أو المحدثة، وهذا القلب هو العلوم والتقنيات والحق (والقانون) والدين والسياسة والاقتصاد، على تشخيص انعطاف حاد في الحداثة الغربية. فتطور العلوم والتقنيات- أو “جبهة التحديث” التي تقارن المجتمعات اليوم (أي منذ ثلاثة قرون) بعضها ببعض قياساً على قربها أو بعدها من الحداثة الغربية- جَر البشرية إلى تاريخ وثّق الروابط بين الإنس وغير الإنس، من نبات وحيوان وجماد. وتُجمع هذه تحت إسم “الأرض”، أو “غايا” إلهة الأرض في الأساطير اليونانية.

والتاريخ الذي صنعه أهل الحداثة الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة، وتابعهم عليه غير الغربيين، وأحلوا منه العلوم والتقنيات والحق- القانون والسياسة (الدولة) والاقتصاد المستقل بنفسه محلَّ القلب والمركز، خالف مخالفة تامة وحادة التاريخ الذي حسبوا أنهم يصنعونه، وأرادوا وقصدوا صنعه. فهم حسبوا، وأرادوا، وقصدوا صنع تاريخ يحرّرهم من الطبيعة (الأرض “غايا”) ويسيّدهم عليها ويملّكهم إياها، على قول شهير لرينيه ديكارت (1596- 1650)، أحد أعلام الحداثة وروّادها الأوائل.

لا أرض إلا الأرض

ويَؤول هذا التاريخ إلى تقرير الواقعة “الضخمة” التالية: إذا لم يكن ثمة غير أرض واحدة، وهي كوكبنا النازف والناضب (الأنواع الحيّة والموارد) والمختل (المناخ ومتعلّقاته)، وانقلبت هذه الأرض، “الأم”، إلى عدوّة، فماذا نصنع؟ يسأل برونو لاتور في ختام أحد أبرز كتبه: تقصي صيغ الوجود/إناسة المحدثين، (باريس دار لاديكوفيرت، 2012، ص 483).

فبين الأرض وبين الإنس الآدميين حرب غير متكافئة. لا يُعِدّ علمُ حرب (بوليمولوجيا، من بوليموس، الحرب في اليونانية، لوغوس، علم) البشر لخوض مثل هذه الحرب. فإذا هم “انتصروا”، أي استنزفوا موارد الأرض وأرجأوا نضوجها واختلال موازينها، فاقموا خساراتهم. وإذا هم هُزموا، خسروا الأرض، وخسرت الأرض “أرضيتها”.

فهي كفّت عن “لامبالاتها” بما يفعل البشر، وفعالهم تصيبها في الصميم. والشواهد على المصاب لا تُحصى: الفيضانات، والحرائق، والتصحّر، والجفاف، والاحترار، والتلوث، وذواء أنواع حيوان وانقراضها واختلال المواسم والفصول والميزان بين عوامل الطبيعة كلها… فكيف تعريف ما “تريده” الأرض؟

فبعد خسارة أهل الحداثة، وهم أهل الأرض على نحو أو آخر، مرجعهم المتعالي أو المفارق (“وإليه ترجعون”)، ها هم، على قول بيتر سلوتيردييك الألماني، يدركون “أن لا أرض إلا الأرض”. ويعقّب لاتور، شارحاً: خلص أهل حداثة الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر إلى أن أفول المرجع، بل “موته” على قول بعضهم، يبيح كل شيء، ويعدم علامات الاستدلال، أما إذا “ماتت” غايا، أو أصْلتنا عداوتها وقلبت لنا ظهر المجن، فـ “المباح (المتبقي) قليل وضيق”.

ولا شك في أن هذه الملاحظات تدرج صاحب تقصي صيغ الوجود في عداد من يسمّون “المفكرين البيئيين”. وهو ذهب في آخر كتبه إلى أن الصراع البيئي هو الصراع الطبقي الجديد (2022، لاديكوفيرت). وشارك، منذ أعوام، في “برلمان نهر لوار”. والجمع بين النهر وبين المجلس التشريعي ينهض على فكرة الإقرار للطبيعة، والنهر شأن البحر والهواء والأرض الزراعية مرفق من مرافق الطبيعة، بـ “حقوق” يتولى الدفاع عنها أو “المرافعة” (على قول فقيه القانون الأمريكي كريستوفر ستون في كتابه: هل يحق للأشجار أن تترافع؟، 1972)، من هم أكثر قرباً واستفادة من النهر: جمعيات المشاطئين من صيادين ومزارعين، واختصاصيون حقوقيون وعلماء حياة وموظفون فنيون، وجمعيات بيئية وفنانون…

وينبغي أن يعرِّف فقهاء القانون والحق (الحقوق، مثل كلية الحقوق) مفهوم “الحارس” أو “الراعي”، أي من يسعه تمثيل “مصالح” الأنهر والغابات إلخ. عن جدارة وحق. ويقود هذا، من جديد، إلى برونو لاتور، ودوره ومكانته. فهو مفكر بيئي، على ما سلف القول. ولكنه، إلى تفكيره المباشر والمشترك في مسألة البيئة، ومبادراته العملية إلى معالجة بعض مصابها الموضعي، اضطلع بالنظر في المسائل الأسبق والأبعد والأوسع التي أفضت إلى أزمة الحداثة الغربية العامة، وأزمة عالم الإنس (البشر) في علاقته بـ “الأرض” الجامعة، وهي شرط استواء البشر إنساً أو إنسانية.

التحديث/ البيئيات

فما يتعقّب الباحث أو المتقصّي الفرنسي هو العوامل التي أحاطت بانقلاب العلم والتقنية، المتلازمين في مجتمعات الغرب، من بنية أو مؤسسة تنتج الموضوعية والمعارف الموثوقة إلى نصاب حاكم وحده في اليقين. وحين تبوّأت البيئيات، أي علوم البيئة، صدارة السياسة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، شكك علماء كثر في صدق التشخيص المناخي وترتبه على أفعال البشر. ولاحظ دارسو المناخيات، من أصحاب التشخيص المقلق، أن الموضوعية ثمرة أدوات و”ميكانيكا” وشروط تاريخية وإناسية (أنتروبولوجيا: دراسة الإنسان على أعم مكوّناته الفيزيائية والاجتماعية). أي أنها ليست ثمرة يقين مفارق يجده الوجدان (“الوعي”) في نفسه.

وخلص لاتور من الأزمة الفعلية هذه إلى أن “التحديث” هو نقيض “البيئيات”. والمُحْدَثون، أصحاب الحداثة، هم الذين ينتظرون من العلم نصب فرق قاطع بين العقلانية و”اللاعقلانية”، وبين اليقين والظن، ويحسبون أنهم خلّفوا وراءهم زمناً فائتاً مزج الوقائع العارية بالأحكام المعيارية والقيمية، ويستقبلون غداً مشرقاً لا بد من أن يرسي الفرق بين الوقائع وبين أحكام القيمة على نحو واضح ودقيق.

وعليه، فالمُحدَث، أو التحديثي والحداثوي، هو من تحرّر من أثقال ماضيه وروابطه وراح نحو الحرية، وطوى الظلمات إلى الأنوار. والعلم، على هذا الوجه، هو محك الحداثة و “مربط فرسها”، إذا جاز القول. ويعود الخلل في فهم العلوم على عمليات التحديث، وتجهيزه ومرافقه وأبنيته- فهو هذا كله، أجهزة ومرافق وأبنية، فوق ما هو “رأي” أو “فلسفة” أو “أيديولوجية”- بضرر ثقيل لا يقل عن الضرر اللاحق بالأرض وسكانها.

ويتوجّه التشخيص القاسي هذا على “الغرب”، أو على “الغربيين”، على ما يفضّل لاتور القول. فهو لا يرى أن الغربيين أنجزوا تحديثاً يصح اتخاذه مثالاً، على خلاف رأي معظم الغربيين وغير الغربيين في الغرب، وفي أنفسهم. ولا يرى أن علومهم وتقنياتهم، ومعها وإليها السياسة والحق والاقتصاد والدين، وهم صانعوها وروّادها الأوائل، عصمتهم أو تعصمهم من أحكام وأفعال دمّرت وتدمّر بعض أركان الحياة على الأرض.

جرح الطبيعة البليغ

وعقدة الأمر، في سيرورة التحديث ووجهة العصر، هي إفضاء الثورات العلمية والصناعية إلى تحصيل الإنسيين، أو النوع البشري، قوة “طبيعية” تضاهي أو تفوق قوة البراكين أو فوالق الزلازل أثراً. وهذا التأثير هو ما يسمّيه أصحاب علم طبقات الأرض (الجيولوجيا أو الأراضة، على اقتراح اللغوي اللبناني عبدالله العلايلي 1914- 1996) “الأنتروبوسين”. ويؤرّخون به مفترقاً تاريخياً، وانعطافاً يطوي عصر الحداثة، وتمييزها الصارم العلمَ المجرّد وعقلانيته الأثيرية من السياسة وميولها وأهوائها وتعرجها.

ويحرم انقلاب البشر، بواسطة علومهم وتقنياتهم وإنتاجهم واقتصادهم ودولهم، إلى عوامل طبيعية بليغة (على نحو القول: جرح بليغ) المحدثين من تمييزهم الطبيعة وعناصرها من المجتمع وعلاقاته وحاجاته وسياساته. وهم بنوا على هذا التمييز نظام استدلال أعملوه في قطع أواصرهم وروابطهم بالماضي، وفي تصوّر مستقبل متحرر من القيود والأواصر والأهواء. وأوكل المُحدَثون إلى الثورات العلمية والتقنية مهمة “تحريرهم”، وذلك قبل أن يدركوا في ضوء “الأنتروبوسين”، وشَبْكِهِ الصنيع البشري بأحوال الطبيعة وتوحيده “طبائع” الإنسيين وغير الإنسيين في فعل متصل- أن المستقبل لن يخلو من قيود، ولن يشهد ولاية البشرية المطلقة على نفسها، بحسب وعد الحداثة السياسي والعقلاني.

وخسارة المحدثين المستقبل المتحرر الذي تخيّلوه على صورة قدر لازم وعمومي خلخلت تعريفهم هويتهم، وثقتَهم في هذا التعريف. ففي ضوء الانعطاف أو الافتراق الذي انحرف بالحداثة من سعي مظفر في الانسلاخ من الطبيعة الأرضية إلى ملابستها والغرق فيها، يشك المحدثون، على ما يرى برونو لاتور، في كونهم محدثين فعلاً، بالأمس واليوم، وفي معرفتهم من يكونون وأين هم. وينبغي أن تحملهم حالهم هذه على أمرين: الإقرار بانصرام الحداثة وقبول العود على بدء عهدها وتجديد التفكير الفلسفي في أبنيتها وعواملها.

المجال والمختبر

ويتصدى الكاتب وهو يتشارك وآخرين كثر تقرير انعطاف الحداثة، على المعنى المتقدّم، ونهايتها بعد أزمتها المتطاولة، للتجديد الذي يعوّل عليه في إرساء “البيئيات” ومقدّماتها على ركن متماسك. وطموحه، على قوله (ص25 من كتابه)، هو أن يجلو المحدثون صورتهم أمام العالم وهم على جلية من أمرهم، أي من أزمتهم و “نهايتهم”. ويقتضي هذا صوغ إناسة (علم الإنس بما هم إنس، عن عبدالله العلايلي كذلك) من نمط الروايات الكبيرة التي يزعم بعضهم أفولها.

والمنهج الإناسي يدعو إلى تناول الأبنية العريضة والأساسية (أبنية الحداثة: العلم والاقتصاد والسياسة والحق والدين، في هذا المعرض) من باب يحفظ عليها تماسكها أولاً، ويتتبّع مجاري الفعل والكشف عن نظام قيم “المواطنين” ثانياً. وعلى خلاف الصورة التي يرى المحدثون أنفسهم عليها، يلاحظ التقصي الإناسي أن “العلم”، مثلاً، مليء بعناصر ينبغي أن تكون جزءاً من السياسة وتدخل في بابها، بينما تخالط السياسة عناصر مصدرها “القانون” وموجباته ومعاييره. ويستضيف القانون “زواراً” قادمين من الاقتصاد أو هاربين منه.

فبين “المجالات” و”الحقول” التي فصلت الحداثة الغربية بينها، وحكمت باستقلال المجال أو الحقل منها بأحكامه، حدود يظهر التقصي الإناسي أنها عامل يعظم المبادلات بين المناطق القريبة، وليست حاجزاً يحجز بين الواحدة والأخرى ويفرض عليها التجانس.

ويُحل برونو لاتور- في ضوء دراساته الأولى التي تناولت العمل العلمي من باب المختبرات وبرامجها، وإجراءاتها، وأجهزتها، وتقسيم مهماتها وتوزيعها، وليس من باب النظريات الكبيرة- محل المجال أو الحقل موضوعاً للدراسة ما يسميه “الفاعل” أو “العامل- الشبكة”. ودراسة “العامل- الشبكة” تحمل المتقصّي على زيارة المختبر حيث “المراويل البيض، وحناجير الزجاج، وزراعة الجراثيم، ومقالات مذيّلة بهوامش، والبحث عن مصادر المواد التي يحتاج إليها العاملون في عملهم، ولائحة مواد مؤلفة من عناصر غير متجانسة” (ص42).

ويدور هذا على نسيج المختبر الداخلي. أما موضعه من خريطة الأبنية أو المؤسسات الخارجية فيمثّل عليه الكاتب بالزوار الذين يفدون إلى المختبر. فيزوره فقيه قانون قدم لأجل تسجيل براءة اختراع، وقسّ يناقش في مسألة أخلاقية تترتّب على تسويق دواء، وتقنيّ يتولى تصليح مجهر جديد، وعضو برلمان أو مجلس بلدي يشاور في اقتراع على مساعدة، ورجل أعمال يفاوض على إنشاء “ستارت- أب”، وصناعي يقف على تصنيع خميرة جديدة…

“الفاعل- الشبكة”

وبدلاً من تعقّب الفواصل والحدود التي تعرف مجالاً أو حقلاً على حدة من المجالات الأخرى، يقحم نهج “الفاعل- الشبكة” الدارسَ، وهو على الدوام متقصٍّ ميدانيّ، في تعقُّب تشابكات الموضوع إلى حيث تفضي وتروح. والشبكة ليست تجهيزاً تقنيّاً وحسب، على غرار شبكة السكة الحديد، أو خزّانات المياه، أو المجارير، أو الهاتف النقّال… فهي تميّز، أي أن استعمالها يدعو إلى تمييز المادة المنقولة، مثل النفط، من الأنبوب، والبريد الإلكتروني من شبكة الإنترنت. وبنية الشبكة تُكْرِهُ المشتركين على الاتصال: فتسرّب النفط أو الغاز من الأنبوب يقسر الإدارة الفنية على غلقه وتعليق توزيعه إلى حين سد الثغرة واستئناف التوزيع.

فشبكة أنابيب الغاز ليست من غاز، بل من مواسير مصنوعة من الصلب، ومن محطات ضخ، ومعاهدات دولية، ومافيات روسية، وأعمدة، وتقنيين يرتجفون برداً، وسياسيين أوكرانيين… فهي، الشبكة، تقوم على عاملين مختلفين: مادة متصلة ومتداولة، وبنية أو جهاز مركّب من عناصر غير متجانسة ومنفصلة. وتفترض الشبكات كلها، في ضوء التمييز هذا، الجمع بين خارج متقطّع العناصر والحلقات وبين داخل متصل و”سائل”، هو مادة ذات طبائع متجانسة، على مثال تجانس الحقل أو المجال.

وقد يصح تعريف “مغامرة” المحدثين بإقبالهم على تنوّع تداعياتهم وقيمهم (على معنى “سلسلة القيم” التجارية والمتداولة)، وكثرة سلاسلها وأجهزتها وشبكاتها، وتحصيلهم الاتصال من طريق الفواصل والفروق. وينبغي أن يقودهم هذا، على خلاف نازع أصيل إلى الإنكار وهو من سمات الحداثة، إلى تعريف “صيغ” وجودهم على مثال التداعي الحر، والانتقال من حلقة إلى حلقة، أو من محطة إلى محطة، على نحو مطّرد التوسع والغرابة (بدلاً من التعريف بعنصر ثابت، الاجتماعي مثلاً، على خلاف عناصر ثابتة أخرى: العضوي والاقتصادي والنفسي…).

ويقرر برونو لاتور، متعسّفاً، أن فهم العقل، إلى اليوم، على حِدةٍ من الشبكات، قَصَره على السؤال عن الصحيح والغلط. (والأدق القول: إن عزل مفهوم العقل عن الشبكات، أو ما يقوم مقامها، يتهدّده بالقصر على السؤال عن الصحيح والغلط). ومفهوم الشبكات يحمل صفة العقلاني، أو اسم العقلانية، على معنى دقيق يحيل إلى إجراءات التحقق داخل الشبكة الواحدة والمركبة، أكانت شبكة المعرفة، أو شبكة القانون… فـ “في مملكة العقل منازل كثيرة”. وتُبلغ هذه المنازل من طرق وجهات لا تقل كثرة عنها. والعقل من غير شبكاته “نفط من غير أنبوبه أو مكالمة هاتفية من غير الأسلاك والتمديدات والسنترالات”.

الكلمة والشيء

وتقود المقدّمات والشروح الجزئية هذه إلى قلب الكتاب الفلسفي. فمدار هذه المناقشات هو المناظرة أو المطابقة بين العالم وبين المقالات فيه، بين “الأشياء” وبين “الكلمات”، بين “الموضوع” وبين “الذات”. وتقوم المعرفة، على أشكالها وصورها، على “قفزة مميتة”، على قول الأمريكي ويليام جايمس (1842- 1910)، بين هذه وذاك (أو تلك). وتتحدّر “القفزة” من هاوية، حفرها بروز العلوم وتبلورها منذ القرن السابع عشر، بين مزاولة العلوم مزاولةً عملية وبين نظرية “المعرفة” المجرّدة. وتناولت النظرية المعرفة الجاهزة من غير وصف ملابسات التجهيز، والعمليات والعلاقات، التي أفضت إليها.

ويلاحظ لاتور، بعد جايمس، أن العلامة (أو الكلمة أو الذات) والشيء، هما الحدّان اللذان يتوّجان في نهاية المطاف، ويختمان مؤقتاً “عملية زحف طويلة على البطن”، أو سلسلة محطات وانقطاعات تنتقل من وثيقة، أو علامة ضعيفة، إلى وثيقة، إلى حين إثبات تناظر بين العلامة وبين الشيء. والتناظر لا يعني الشبه، بل هو خلافه. فخريطة الجبل، والمضاف والمضاف إليه يدلان على علاقة التناظر المفترضة، لا تشبه الجبل أبداً: فهي من بُعدين وهو من ثلاثة، وسلم قياسها واحد على ألف وسلّمه واحد على واحد… ومفهوم الكلب، على قول سبينوزا، لا يعوي.

وطرفا السلسلة كلاهما ناجم عن إطالة حلقاتها، وحمل هذه الحلقات على مراجع يمسك بعضها بتلابيب بعض. فالتناظر، على هذا، ورغم انتفاء الشبه، مردّه إلى صدور الخريطة والإقليم (الجبل) عن عملية شبكية واحدة، على شاكلة وجهَي قطعة النقد.

ويضمر تجميد أو تحجير “العلم” على ذات عالمة وموضوع معلوم علاقة يتسلّط بموجبها العالم، الإنسي، على غير الإنسي، أو الطبيعة، أو الأرض. وعلى نحو ما تعزل نظرية المعرفة، المحدثة والغربية، الشيء المعلوم عن متعلّقاته الشبكية، وحلقات السلاسل والمراجع التي يندرج فيها، تعزل النظرية نفسُها الذات العالمة عن الذوات الأخرى التي تشاركها النظر والتجهيز والسَّلسَلة والرد إلى المراجع، وتقاسمها إياها. فإخراج الإنس من “مائهم” الأرضي يصاحب عزلهم عن روابطهم وأواصرهم الإنسية، ونصبهم آحاداً وأفراداً يسعى واحدهم في التسلُّط على غيره.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button