صفحات الحوار

خالدة سعيد: سجنت 6 أشهر بسبب الحزب القومي وأدونيس شاعر عملاق

تعلمت الفن وتتمنى لو أصبحت رسامة وتعتبر أن بيروت أعطتها كثيراً ويوسف الخال شجعها على النقد

ديمة الشكر

منذ مقالها الأول عن “قصائد أولى” لأدونيس في العدد الثاني من مجلة “شعر” 1957، بدت خالدة سعيد مختلفة ومتفردة في مقاربتها الشعر العربي الحديث والأهم أن تجربتها الأولى تلك كانت ناضجة وتحمل رؤية حداثية واضحة، فقد تجنبت اللجوء إلى مصطلحات نقدية “جاهزة” تحيل إلى نقد تقليدي وآثرت الاقتراب من النص الحداثي بنقد حداثي يواكبه. تلك البداية اللامعة كانت بمثابة الشرارة التي انطلقت وأنارت درباً للنقد العربي الحديث، وأتاحت لخالدة شغل مكانة مهمة ومساهمة بقوة في الحداثة العربية. في هذا الحوار الذي ينشر بالإنجليزية في مجلة “بانيبال” (العدد 74) وبالأصل العربي في “اندبندنت عربية”، ركزنا على محطات بارزة من مسيرتيها: الشخصية والنقدية، ففيهما يتشابك المعرفي مع السياسي والإنساني. بصوت خفيض وناعم وحضور مرهف وأنيق، وذهن وقاد وذاكرة صافية، روت خالدة سعيد عن تجربتها الغنية.

ولدت خالدة السعيد في الساحل السوري. وبسبب ظروف عائلية درست في مدارس داخلية، فكانت سنوات التكوين الأولى. كيف تتذكر خالدة تلك السنوات وكيف كانت دمشق وقتها؟ تقول في هذا الصدد” ولدت في مدينة اللاذقية، في المستشفى. مساري الشخصي له خصوصية، فقد توفيت أمي باكراً، وكنت وأختي الشاعرة سنية صالح (1935- 1985) صغيرتين. أرسلنا أبي إلى مدرسة داخلية في بانياس تشرف عليها راهبات (العائلة المقدسة) اللبنانيات. بقينا فيها مدة أربع سنوات. وحين تزوج أبي ثانية ذهبنا إلى مدينة جبلة على الساحل، حيث كانت وظيفته. بعد حصولي على الشهادة الابتدائية (السرتيفيكا)، قدم لي والدي طلباً للالتحاق بمدارس دمشق من أجل شهادة الكفاءة هذه المرة. وحصلت على قبول لدى مدرستين: مدرسة الصناعة ومدرسة التجهيز. إلا أن المصادفة شاءت أن يصلني قبول مدرسة الصناعة أولاً فالتحقت بها. لا أتذكر كثيراً كيف كانت دمشق وقتها، إذ كنت في مدرسة داخلية مرة أخرى، وبما أنه لا أهل لي في دمشق ولا عائلة، فقد كنت أبقى في المدرسة. أتذكر أنهم كانوا يطلقون على من كانت في مثل حالتي لقب “بنات الجمعة” لأننا لا نخرج يوم الجمعة. كانت توجد نحو 60 فتاة داخلية في تلك المدرسة، لكنهن في العطل ونهاية الأسبوع كن يذهبن لرؤية عائلاتهن في المدينة أو الضواحي، أما أنا وبضع فتيات، فقد كنا نبقى في المدرسة، لذا لم أعرف دمشق في ذلك الوقت”.

جو دمشق

وتضيف “لم أكن أعرف دمشق ولا أحداً فيها، إلا أنني تعرفت إلى عائلة كريمة، عائلة السيدة راضية شوقي نصار، وكانت ناظرة تنام في المدرسة. كانت أحياناً تخرجني معها يوم الجمعة. وهكذا فالمرة الأولى التي ذهبت فيها إلى السينما كانت مع عائلة السيدة راضية. كنت مجتهدة في دراستي بل متفوقة، فمن كان مثلي بلا أهل ولا عائلة ولا نزهات أو أي تحرك اجتماعي، يصاحب الكتب والدراسة. وعندي ذكريات جميلة جداً عن تلك الفترة، فقد تعرفت إلى أساتذة رائعين: فلك عظمة أستاذة الرياضيات، ولميس مردم بك أستاذة اللغة العربية، وكذلك أستاذة التاريخ ليلى الصباغ، التي كتبت عنها حين صرت ناقدة. فكما تعرفين ليلى الصباغ من أهم الباحثات السوريات في التاريخ. كان ذلك عالماً جميلاً”.

حب اللقاء الأول

حينذاك التقت خالدة الشاعر أدونيس وكان لقاؤها الأول به. فماذا تقول عن هذا اللقاء المصيري؟ تتذكر “التقيته عام 1950 أي قبل التحاقي بالجامعة بقليل. أما هو فكان في سنته الجامعية الأخيرة. كان اللقاء الأول جميلاً جداً. كنا ننتمي إلى الحلقة الاجتماعية والسياسية نفسها، لكني لم أكن وقتها قد انتسبت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي رسمياً. المصادفة أدت دورها، فقد كسرت يدي. هكذا تعرفت إلى أخت الطبيب الذي عالجني، وهي السيدة الرائعة عبلة الخوري، وكانت مذيعة في إذاعة دمشق. في الشام بشر رائعون، أبكي كلما فكرت بالشام. المهم، في بيت السيدة عبلة وفي صالونها التقيت للمرة الأولى أدونيس، فقد كان بدوره صديقاً لها ولأخيها. في ذلك الصالون، تحادثنا وحين انتهت السهرة خرجنا معاً وسرنا على الدرب ومن يومها ونحن على الدرب معاً”.

هل هو الحب من النظرة الأولى، هل تذكر خالدة الدرب الشامي الذي سارت عليه مع أدونيس؟ تقول “تماماً هو الحب من النظرة الأولى، سرنا معاً في دروب حي القصاع، لكنني كنت أعرف أشياء كثيرة عن أدونيس قبل أن ألتقي به، فقد كان معروفاً وله قصة طويلة عريضة. هي قصة عن دراسته. حكاية جميلة جداً بل أسطورية. كان الرئيس الراحل شكري القوتلي أول رئيس للجمهورية العربية السورية بعد الاستقلال. عرف أدونيس أن القوتلي سيزور منطقة الساحل، وتحديداً مدينتي جبلة واللاذقية. أعد الفتى قصيدة لتحية الرئيس، ذلك أن الفتى علي إسبر لم يكن يعرف إلا مدرسة القرية التي تفتقر إلى أهم شروط الدراسة، لا سيما وجود معلمين ثابتين. ووجود غرفة ومعلم ثابت لكل صف. وبالطبع ينبغي ألا ننسى طموح الفتى ورؤاه وأحلامه. وفي اليوم المنتظر لزيارة الرئيس ذهب علي إسبر (الذي سيصير أدونيس) مشياً على القدمين من ضيعته قصابين إلى مدينة جبلة ثم إلى اللاذقية، لإلقاء قصيدة كتبها خصيصاً لتلك المناسبة. أعجب الناس إعجاباً كبيراً بقصيدة هذا الفتى الصغير، كما أعجب الرئيس. وأرسل الرئيس القوتلي في طلبه، وسأله عما يمكن أن يقدمه له، فأجاب: الذهاب إلى المدرسة. وقرر الرئيس أن يمنحه فرصة متابعة الدراسة على نفقته الشخصية. وبناء على هذا الوعد التحق الفتى علي أحمد إسبر بالقسم الداخلي لمدرسة اللاييك في طرطوس، التي كانت وقتها من أهم المدارس السورية. وتسنى له الحصول على تعليم ممتاز. بعد ذلك حصل على منحة من الدولة وانتقل إلى مدرسة التجهيز في اللاذقية”.

وعن السجن الذي دخله أدونيس مرتين والذي دخلته هي مرة. تقول، “كان أدونيس منتسباً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكنت مفتونة به، أريد أن أفعل مثلما يفعل، فانتسبت إلى الحزب. وبما أن أفكار الحزب معقولة ويتمتع منتسبوه بمستوى ثقافي وأخلاقي عال، لم يقل أبي شيئاً ولم يمانع على الرغم من أنه لم يكن يحب الأحزاب أبداً، لكن حصل أمر لا أقدر إلا أن أقول رأيي فيه: أنا أرفضه وأستنكره، وأدونيس يرفضه وحتى أعضاء الحزب رفضوه، أعني اغتيال العقيد عدنان المالكي (1919-1955) على يد عضو في الحزب السوري القومي الذي ننتمي إليه”.

مقتل المالكي

 وتضيف “ليس لأحد منا ولا لعامة الحزبيين والمسؤولين علاقة بالأمر، نهائياً. كان رئيس الحزب وقتها اللبناني جورج عبدالمسيح، وكان محكوماً بالإعدام في لبنان عام 1949، لكنه لجأ إلى دمشق. حين قتل المالكي بدا أمر اعتقال عبدالمسيح “متوقعاً”، لكن الذي حصل أن عبدالمسيح كان متوارياً، أتذكر أنه دق باب بيتي في حي المهاجرين بدمشق، أكثر من ثلاث مرات، الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، ولم أفتح، لكنني في النهاية استغربت وأردت معرفة الطارق. سألته ما الأمر؟ فقال لي ألم تسمعي بمقتل المالكي؟ قلت نعم، لكن ما علاقتنا نحن؟ قال لا علاقة لنا لكن الذي قتله عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبما أنني رئيس الحزب فسيعتقلونني ويسلمونني للبنان. وهناك علي حكم بالإعدام. وسأعدم. فقلت في نفسي، هل أتركهم يعتقلونه ويعدمونه كما أعدموا أنطون سعادة؟ هذه مسؤولية أخلاقية لا أحتملها. طلب مني البقاء لليلة. وقتها كنت أنا وأختي سنية نسكن في غرفة مستأجرة لدى سيدة، ولم يكن مسموحاً للمستأجر استقبال الضيوف، لكني وافقت، وأمضى الليلة. في اليوم الثاني جاء أصدقاؤه وأخذوه. إلا أنني اعتقلت بعدها لأنني خبأت شخصاً مطلوباً. تمت محاكمتي، وصدر الحكم بالسجن لمدة عامين مثلي مثل غيري ممن تم توقيفهم ومحاكمتهم في موضوع تهريب عبد المسيح. إلا أنني لم أمض إلا ستة أشهر في السجن، فقد خفف الحكم علي لأنني كنت وقتها طالبة في الجامعة. تأثر الجميع بما حصل لي، إلا أنه لم يكن باستطاعتهم عمل شيء من أجلي، لم يكن ممكناً تبرئتي. أتذكر السجن الآن وأنا أضحك، كنت أغني في السجن طوال الوقت، لأنني لم أفعل شيئاً قمت بواجبي الحزبي فقط”.

بعد السجن ذهبت خالدة وأدونيس إلى بيروت، وهناك قبل التطرق إلى مجلة “شعر” لا بد من التحدث عن التحاقها بالجامعة والتدريس فيها. لماذا اختارت هذا الطريق على الرغم من أن بداياتها في مجلة “شعر” كانت قوية ومؤثرة تتيح لها التفرغ للنقد مثلاً. تقول، “في أفق حياتي لا أرى إلا العلم، الفضل في ذلك يعود إلى أبي الذي رباني على ذلك. كان أبي رجلاً يقدس العلم ويؤمن أن النساء مهمات وعليهن أن يتعلمن. كان يقول لي إن علي ألا أتوقف أبداً عن التعلم، وحتى لو حصلت على الدكتوراه يجب علي أن أستمر بالأبحاث. أظن أن للأمر علاقة بتجربته، فقد كان موظفاً، لكنه حرم من متابعة التعلم في صغره، فقد أرغمه أبوه أن يتزوج فتزوج، وولدت حين كان لا يزال طالباً في المدرسة، هكذا اضطر لترك المدرسة، لكن بما أنه يعشق العلم فقد وجه اهتمامه نحوي، منذ كنت صغيرة، ثم نحو أخواتي وإخوتي. جميع أخواتي وإخوتي أهل اختصاص من الطب إلى الهندسة والآداب والفنون. كان أبي يشتري لي الكتب، يسأل عن الجديد منها ويبحث عنها ويحرص على إحضارها لي، بل كان أيضاً يستعير كتباً من أجلي. وكنت أقرأ كل تلك الكتب التي يحضرها لي، كنت أقرأ طوال الوقت، في الصيف وأثناء كل العطل. هكذا كان أمراً تلقائياً التحاقي بالجامعة بدءاً من دمشق إلى بيروت ثم متابعة الدراسة في فرنسا، حتى بعد الزواج، وحصولي على شهادة عليا”.

بيروت الحرية

كيف وجدت خالدة بيروت وقتها، أي بعد خروجها من دمشق، وكيف كانت الفروق بين المدينتين؟ تجيب: ثمة فرق بين المدينتين ليس فرقاً واسعاً إلا أنه سياسي كما تعلمين. مقتل المالكي أثر بشكل كبير، فقد حملنا تبعات كثيرة، إذ قبل ذلك كنا نجتمع في دمشق في إطار الحزب وبحرية إلى حد ما، لم يكن ثمة مشكلات كبرى، لكن الحرية الفكرية والسياسية في لبنان مختلفة، وهي كنز عظيم. في ذلك الوقت، وبالنسبة لي في كل وقت، وعلى الرغم من حضور الفوضى، لبنان فردوس للحرية والمعرفة. ترى لولا مقتل المالكي هل كنت مع أدونيس في دمشق؟ لا أعرف. ربما. مقتل المالكي آذى البلد في كل مكان، خلق حالة توتر وصراع وامتلأت السجون، لكن طموح أدونيس بلا حدود”.

أسالها: لكن، لحسن الحظ أن ذهابكما إلى بيروت تزامن مع أكبر تغيير عرفه الشعر العربي الحديث: مجلة “شعر” و”خميسها” الشهير وكتاباتك النقدية الأولى. ألم تفكري، باعتبارك تعيشين وسط شعراء ومتزوجة من شاعر وأختك شاعرة، أن تكتبي الشعر؟ “تقول، وصلنا إلى بيروت في أواخر عام 1956. كانت فكرة كتابة الشعر موجودة لدي، لكن لم أتشجع على النشر، خصوصاً أنني كنت حيال شاعر كبير هو أدونيس وشعراء كبار في مجلة “شعر”. تهيبت، إلا أن هذا الحب الشديد للشعر لازمني فعوضت عن ذلك بالكتابة عنه، صرت ناقدة، أعني محللة للشعر. لقد اكتشفني يوسف الخال فاكتشفت نفسي. وحين صدر ديوان أدونيس “قصائد أولى” استكتب يوسف الخال بعض النقاد حوله، لكن تلك المقالات لم تعجب يوسف، فقال لأدونيس دع خالدة تكتب، أجابه أدونيس: “لكن خالدة لم تكتب نقداً في حياتها”، فأجابه مصراً: “سوف تكتب”.

 كرر أدونيس: هي تكتب نصوصاً وجدانية، لكن لم يسبق لها أن كتبت النقد، فأصر يوسف الخال مؤكداً: بلى إنها تعرف وستكتب. وحين سأله أدونيس وكيف تعرف أنت أنها تعرف، فأجابه: سمعتها تناقش في جلسات “خميس شعر”. وهكذا كتبت مقالي الأول، الذي لم أوقعه باسمي بل باسم “خزامى صبري” الذي يبدأ بحرفي اسمي: خالدة صالح. لم يكن الخال لطيفاً جداً فحسب، بل كان منفتحاً وصاحب رسالة، وكريماً من الناحية المعنوية، كان رائياً، أحترمه كثيراً، لقد كان شاعراً مهماً”.

“لن” أنسي الحاج

أسألها: المقال الآخر المهم كان عن ديوان “لن” لأنسي الحاج؟ فتجيب “كانت أجواء مجلة “شعر” و”خميسها” ملهمة. كان الاندفاع والرغبة بالعطاء من أجل التغيير حالات طاغية على كل ما عداها، ولم يكن هذا الشعر الحديث معترفاً به، وكان لدى بعض الشعراء نوع من التحدي ولا أحد يفهم طبيعة هذا التحدي، كانت هذه حالة أنسي الحاج. لما صدر ديوانه “لن” تعرض إلى هجوم شديد وعنيف بل شامل من قبل النقاد أو المهتمين بالشعر، و”ألطف” هجوم وقتها قيل عن شعره إنه غير مفهوم. والحقيقة أنه ينطلق من رؤية مختلفة وفهم مختلف للشعر. كان صدوره عام 1960، أي بعد صدور مجلة “شعر” بأكثر من سنتين. وكنت قد حققت بعض النجاح والتقدير في ميدان النقد. على أثر الضجة وتوالي الهجوم على كتاب أنسي، قلت له سأكتب عن مجموعتك. فراح يحذرني من هذه الورطة، بل جاءني بمجموع الجرائد التي هاجمته. فقلت له هذا لا يهمني، سأكتب، لأن من انتقدك لا يعرف كيف يقرأ الشعر. هم معتادون على الشعر التقليدي. لقد أحسست شيئاً مختلفاً عند أنسي الحاج، كما أن السؤال الكبير الذي كان أنصار الحداثة يطرحونه في تلك الأجواء هو: لماذا يمكن الاستمرار بالكتابة بالطريقة ذاتها التي نكتب بها الشعر منذ أكثر من ألف عام؟ ألا يحق للشاعر أن يعبر بطريقة مختلفة؟ بطريقة تشبه حضوره في التاريخ والواقع وتتفق مع “إيقاع العصر”؟ كان سؤالاً منطقياً. والأمر لا يتعلق بالوزن والقافية فحسب، إذ إن أنسي الحاج كان خارج الوزن والقافية وخارج الجماليات الشعرية التقليدية كذلك”.

تكتب خالدة نقد الشعر بأسلوب خاص يوصف غالباً بالحدس النقدي. فهي تبتعد عمداً عن المصطلحات النقدية المتعارف عليها، وتبتكر مصطلحات خاصة مثل “لهجة متنازلة” و”الصور المصعدة”. تتحدث عن هذا الأمر “أجرب أن أبحث لأجد ما يقرب من هذا المثال أو هذا النص، ليس من الضروري أن أستعمل الجاهز. لست ملزمة بالصياغات والأحكام المتداولة، وأفضل استعمال ما ينبع من تفكيري وتحليلي ومن الطريقة التي أرى فيها الأمور. فأنا أريد البحث عما يعبر عن هذه الرؤية. لا أحس أنني أستطيع البقاء في القالب، أعني قالب التعبير القديم، أريد أن أعثر على أقرب مصطلح يعبر عن رؤيتي الشخصية. وأظن أن من واجب أي كاتب البحث عن المصطلح أو التعبير الذي يشبهه ويشبه فكرته”.

وتضيف “المبدأ واحد، فكما أن الشاعر الذي نسميه حداثياً- وليس كل المعاصرين حداثيين- بحث عن الصيغة التي تشبه فكرته أو صورته، وتشبه تصوراته أو أخيلته، ولا يريد أن يكون في قالب جاهز، أنا كذلك، أريد في النقد البحث عن التعبير الذي يشبه فكرتي ورؤيتي وقراءتي لهذا النص، بكل بساطة. وهذا حقي الطبيعي، كما أنه لا يتعارض مع استعمال المصطلحات القديمة، فنحن نستفيد منها، لكننا نستطيع أن نحورها ونستعملها استعمالاً جديداً، أو نغنيها بمضامين جديدة. من حقنا أيضاً أن نبتدع مصطلحاتنا في ضوء تحليلنا. المهم هو الأفق والرؤية”.

قصيدة النثر

ثمة أمر لافت في مسيرة خالدة السعيد النقدية، فهي واكبت أكبر تغيير في الشعر العربي الحديث، أعني الجدال الشهير حول الوزن، لكنها لم تكتب أبداً عن هذا الجانب ولم تدخل في “المعارك” الشهيرة بين الوزن (قصيدة التفعيلة) واللا وزن (قصيدة النثر). ماذا تقول؟ “أبداً لم أدخل تلك المعركة، وأفضل استعمال الوزن واللاوزن بدلاً من قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. لم أدخل في تلك المعركة لأن اهتمامي كله متمحور حول المضمون ولغة التعبير عنه. لقد كانت معركة كبرى. وأنا أيدت الشعر الحر مثلما كنا نسميه وقتها. حين اشتغلت على شعر بدر شاكر السياب (1926-1964) اشتغلت على المضمون وعلى الإيقاع وبناء القصيدة، حول ماذا تمحورت؟ وكيف شحن الشاعر القصيدة بالدلالات واعتمد الترميز بالأسطورة؟ للقصيدة دلالات عديدة ومهمة، لكن بالعودة إلى الوزن حين أحس بـ”النشاز”، أي الخلل في الوزن، لا أقرب القصيدة. الشعراء الموهوبون يحسون بالوزن، ولو انتبهوا أنهم غير متمكنين منه استغنوا عنه ببساطة. الوزن عند أدونيس خاص، فهو يسيطر عليه. حين يكتب أدونيس الموزون فإنه لا يتعبك ولا نجد قسراً للوزن، أدونيس حر طليق حتى داخل الوزن. ولنتذكر أنه كتب للرئيس القوتلي قصيدة موزونة وهو فتى يافع بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمره”.

هنا اسألها: هل يقرأ أدونيس لك شعره بصوت مرتفع؟ أم كان يناولك الورقة ويتركك تقرئين وحدك؟ أتخيل أن قصيدة “قالوا مشت” كتبت لك؟ تجيب: “لا، لا، لا يلقي القصيدة ولا يعطيني إياها. غالباً قبل النشر يعطيني بعض القصائد، ولم يقرأ لي الشعر مرة، لكنني أستمتع بسماع إلقائه في المناسبات العامة أو بمناسبة التسجيل. إلقاؤه مؤثر وصوته جميل جداً ودافئ. وأنا أحترم كثيراً حرية الشاعر وعلاقته الحميمة بشعره. إذا شاء أن يقرأ فكلي إصغاء. وإلا فإنني أستمتع بقراءتها مكتوبة، وأحياناً أغنيها أنا نفسي. وصحيح فيما يخص قصيدة “قالوا مشت”، فقد كتبها لما كنا في السجن في وقت واحد”.

مجلة “شعر”

لم يكن الاتجاه “السياسي”، إن جاز التعبير، لمجلة “شعر” متوافقاً مع اتجاه مجلة “الآداب”. ففي حين مالت مجلة “شعر” في بعض فتوحاتها إلى ما سمي وقتها “الشعراء التموزيون” وتم فيها إعلاء شأن الأسطورة، كانت مجلة “الآداب” أقرب إلى تيار الالتزام الواقعي الذي يميل إلى التعبير عن القضايا السياسية العربية، ما رأي خالدة؟ تجيب “أولاً، لا وجود لجماعة تسمي نفسها  الشعراء التموزيون، هذا خطأ شائع. هناك ملامح وقضايا ظهرت في أعمال بعض الشعراء، في مرحلة معينة، وبين شعراء مختلفين تلاقوا في مجلة (شعر) التي أصدرها في بيروت عام 1957 الشاعر اللبناني من أصل سوري، يوسف الخال، بتعاون ومشاركة من الشاعر السوري اللاجئ إلى لبنان، أدونيس. كان يوسف الخال مفصولاً عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكان أدونيس لا يزال في هذا الحزب، لكن لم تكن هناك أي علاقة بين المجلة والحزب، بل كانوا في الحزب يقولون لأدونيس اترك مجلة (شعر) وسنصدر لك مجلة غيرها. وبالطبع لم يتخل أدونيس عن مجلة (شعر) إلا متأخراً ولأسباب فنية شعرية محضة”.

وتكمل قائلة “كانت للحزب، بين فضائله وأخطائه يومذاك فضيلة ثقافية مهمة، هي النظر الشمولي إلى التراث منذ أقدم العصور حتى الزمن الحاضر، بينما كان مركز الاهتمام الشائع والراهن هو التاريخ الإسلامي العربي، مع إهمال ظاهر ومتعمد للتاريخ السابق للإسلام والعرب. السياب، في شعره تلاقى على المستوى الثقافي الفني مع أفكار مجلة “شعر” لأنه كان مجدداً ولم يتجاهل التاريخ الثقافي ورموزه وأساطيره لا كعقائد بل كثقافة وموروث فني وشعبي. مجلة (شعر) اكتشفت السياب. وتوسط يوسف الخال كي يرتب دعوة للسياب إلى بيروت لمدة سنة، مما قربه من الأوساط الثقافية اللبنانية والعربية في لبنان، وكان الزمن زمن لجوء أهل الثقافة من سوريين وفلسطينيين وحتى من العرب الآخرين إلى لبنان”.

معنى الإلتزام

وتوضح قضية الالتزام قائلة “أما في ما يخص موضوع الالتزام، فإن هذا السؤال يطرح قضية مهمة بقيت غامضة أو ملتبسة، ثم تجاوزتها الظروف. وفي رأيي لم تجر مناقشتها بهدوء ووضوح، بل استغلت في المنافسات والصراعات الأدبية والسياسية. لم يرفض جماعة “شعر” أو القائلون بحرية التعبير (أو المعتبرون ضد الالتزام) لم يرفضوا المشاعر القومية أو الوطنية أو الرؤى المستقبلية. لم يرفضوا المواقف النضالية ولا التعبير عنها. رفضوا الاصطناع أو الخطابة المنظومة أو إلباس المواقف الوطنية، مهما كان نبلها، لباس الشعر من دون حضور موهبة ورؤى شعرية شخصية وحقيقية. رفضوا أن يشفع نبل العنوان بالضعف الفني، ثم إن هذه أحكام متسرعة وغير دقيقة ولا تقوم على معرفة بالنصوص أو على قراءة متأنية تبصر في النص ما يتجاوز الشعارات الحماسية”.

 وتلقي المزيد من الضوء على القضية: “أظن أننا نستطيع أن نرى في خلفيات تلك المعركة ظلالاً بل خطوطاً من الصراع السياسي – الفكري: عروبي (ناصري) وسارتري، من جهة الآداب، ومتحرر متعدد داخلته أحياناً مؤثرات متفاوتة ومتنوعة الاتجاهات (سورية قومية فكرياً أو سوريالية، أسلوبياً من جهة مجلة “شعر”).

” الشعراء التموزيون” تسمية لا تعني تنظيماً ولا تياراً أو جماعة مترابطة. هم الشعراء الذين، بالمصادفة أو القرابة الثقافية، استغلوا الرموز الأسطورية للتعبير عن أفكار الانبعاث أو النهوض والتجدد. لا سيما أسطورة “تموز” التي ترمز إلى موت الطبيعة شتاء وانبعاثها في الربيع، هذا العنوان يشير إلى شعراء لم يكونوا متشابهين فنياً ولا ينتسبون جميعهم إلى تيار سياسي واحد، إذ ما الذي يجمع شعرياً أو سياسياً السياب ويوسف الخال أو أدونيس أو أنسي الحاج؟ علماً أن الشاعر خليل حاوي المعادي جداً لمجلة “شعر” كان من بين الذين أطلق عليهم اللقب التموزي. لأنه في شعره استخدم رمز تموز.

التسمية أطلقها، في الأساس باحث لبناني كتب أطروحة بهذا العنوان كتحليل أو وصف يتناول مجلة “شعر”، إضافة إلى نتاج الشاعر خليل حاوي (المعادي بشدة لمجلة “شعر”)، الباحث هو الدكتور أسعد رزوق. وشاعت التسمية والتصقت بمجلة “شعر” باعتبارها مذهباً لها”.

بحثاً عن أبعاد المعنى

كتب خالدة سعيد الأخيرة تدور حول المعنى: “جرح المعنى” و”فيض المعنى” “أفق المعنى”، وفيها تتناول تجارب شعراء متعددين، ومن بينها كتاب مكرس لشعر أدونيس وكذلك لأعمال روائية. كيف انتظمت سلسلة الكتب هذه، حول لفظ المعنى؟ ترد شارحة “هدفي وتركيزي على المعنى، يعني على التعبير، فأنا لا أفصل بين المعنى واللغة التي تعبر عنه، فلا شعر في نظري خارج لغة عالية ملهمة، إذ حينها يضيع المعنى ويخرج النص من دائرة اهتمامي. فالمعنى هو الوحدة التي لا تنفصم، هو هذا الشمول. تلك الحالة التي هي اللفظ والمعنى، اللغة – المعنى، خصوصاً تلك التعابير التي لها أصداء تفتح لك أبواباً وآفاقاً، هذا مهم جداً. كتابي الأخير الذي أعمل الآن على إنجازه عنوانه “سر المعنى”. هو في نقد الشعر أيضاً. له مقدمة نظرية وفيه دراسة عن جبران خليل جبران (1883-1931) وعن بدر شاكر السياب. كان السياب خفيف الظل وشاعراً استثنائياً، عاطفياً وانفعالياً وخيالياً. وفي الكتاب أيضاً دراستان عن أدونيس وعن أختي سنية صالح هذه المرة. أحس أنها ظلمت كثيراً. لقد كانت على قدر من الخجل والانطواء إلى درجة لا يمكن معها أن تعرفي عنها شيئاً أبداً. كانت تكتب الشعر ولا تظهره لأحد. في البداية لم أعرف أبداً أنها كانت تكتب الشعر، مع أنها كانت تسكن عندي أنا وأدونيس. كنت أذهب معها إلى الأمسية الشعرية وخميس مجلة “شعر”. وفي يوم من الأيام قالت لي إنها تريد أن تريني شيئاً، وأظهرت قصائدها، تفاجأت بشعرها، وقلت لها إنه جميل جداً، استمري واكتبي ولا تتوقفي أبداً. فصارت تكتب وتظهر شعرها، ونشرت عدة مجموعات. كانت رقيقة وشفافة جداً. على كل حال في عائلة أمنا أكثر من شاعر، وإن لم يبلغوا الشهرة في ذلك الزمن. جدي لأمي كان شاعراً ومتعمقاً في اللغة والأدب”.

نزار قباني

الكلام عن سنية يعيدنا قليلاً إلى سوريا. ولو نظرنا إلى المساهمة الشعرية السورية في القرن العشرين لوجدناها فائقة التنوع من بدوي الجبل إلى نزار قباني إلى محمد الماغوط وأدونيس. كيف ترى خالدة المشهد؟ تقول “تنبع أهميتهم، من أن لكل واحد منهم خصوصيته وشخصيته وأفقه وقد أجاد في ذلك: بدوي الجبل شاعر كلاسيكي، هو من أفق آخر، أفق الموروث. وأحب أن أقرأه أحياناً. أحب شعر نزار قباني فقد صنع لنفسه أسلوباً خاصاً وأفقاً خاصاً وعالماً وعلاقات وإيقاعاً وحساسية وملمساً، وإضاءة. لدى نزار قباني إضاءة خاصة به. أما أدونيس فمتنوع لأنه متطور لا يكرر نفسه. أدونيس اللطيف المرهف الفائق الحساسية هو في الشعر جبار عملاق، رجل ذكي جداً وعليم باللغة والتراث، قرأ مجموع الشعر العربي، لكنه أبدع لغته الخاصة. أفقه الشعري واسع ذو عمق فلسفي لا تغيب عنه الرؤى الشاهقة. ولا يوجد في حياة أدونيس ما يتقدم على الشعر، أي على الفكر العادل والحدس المضيء والرؤى والتعالي على الظروف. ليس لديه طموح سياسي ولا مالي ولا حتى اجتماعي بمعنى المقام والشهرة. لقد كرس حياته كلها للشعر والفكر والعلاقات الإنسانية العالية والكلمة الصادقة المخلصة الملهمة، وأخلص للمعاني التي يمجدها شعره”.

وبالعودة إلى بيروت، فقد كرست خالدة لها كتاب “يوتوبيا المدينة المثقفة” واهتمت كثيراً بالحركة المسرحية فيها ونشرت كتابين عن المسرح، وكتبت أيضاً في نقد الرواية، كما كتبت في نقد الشعر. ماذا عن هذا الاهتمام الكبير ببيروت؟ تجيب: “واكبت المسرح في بيروت منذ بداياته. كل ما هو جميل، كل تعبير وكل شيء إنساني يهمني، أهتم به عملياً أي أدرسه وأكتب عنه، وأتابعه. لا أحس أنه يوجد ما يعزل نقد الشعر عن نقد الرواية أو المسرح أو الرسم، ربما لأنني بدأت حياتي بالرسم. التعبير الإنساني في أي مجال يهمني، وإن كنت الآن أهتم أكثر بالشعر، فذلك بسبب مسيرة حياتي. ربما كان الأمر مصادفة، صحيح أنني أهتم بالشعر منذ صغري لكني لم أخطط لشيء أبداً.

لكن ينبغي ألا ننسى أنني بدأت كتابة النقد مع انطلاقة الشعر الحديث وتطور شكل القصيدة العربية واعتماد التفعيلة وقصيدة النثر، فقد كانت معركة أدبية تاريخية، معركة ثقافية كبرى، انخرطت فيها وآمنت بفرسانها وكتبت عنهم أو عن معظمهم. لأنني وجدت أن الإبداع لا ينفصل عن التطور، لا ينفصل عن الصدق وعن حرية الكشف والتجديد. ومن حسن الحظ وكذلك من دواعي صمود الحداثيين بل من دواعي نجاح تيارهم، هو النسبة الكبرى من المبدعين والمستوى العالي لهؤلاء المبدعين الحداثيين. وعملت طويلاً في الترجمة لأسباب اقتصادية. لأن الحياة تقودك، بل إنها تسوقك بالعصا، أنا لم أختر كثيراً من الأمور. ولو كان بإمكاني الاختيار لاخترت فن التصوير (الرسم)، لكنني لست نادمة على ممارسة النقد الأدبي لأنه يقربني من الشعر وسائر الفنون”.

 وتتحدث عن بيروت قائلة “أما بيروت (كعنوان للبنان) فهي قارة عاطفية وفكرية وإبداعية، وقد أعطتني كثيراً: فيها ولدت ابنتاي الرائعتان أرواد ونينار. فيها مارس أدونيس حضوره الإبداعي والتعليمي والصحافي والإنساني العالي بحرية وكرامة. بيروت أعطتني صداقات حقيقية وأشخاصاً رائعين. وكذلك تشرفت بالعمل في مؤسساتها: مدرسة زهرة الإحسان، مدرسة كرمل القديس يوسف، الجامعة اللبنانية والندوة اللبنانية، والمسرح (مسرح مهرجانات بعلبك). ولعل الفضل الأول كان لمجلة (شعر)، ثم مجلة “مواقف”، كل واحدة منهما انتشلتني من المجهول وقالت لي مارسي هيامك بالشعر والإبداع، كوني ناقدة باحثة”.

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button