مراجعات الكتب

«عمارة مستت» وأوراق حفيدها: من لاعب سلة إلى مدوّن لذاكرة حلب/ محمد تركي الربيعو

لعله لا يخطر في بال أحد، أن يتحول لاعب كرة سلة إلى جامع وكاتب ذكريات إحدى المدن العربية في القرن العشرين. فعلى صعيد مدينة حلب، يلاحظ في السنوات الأخيرة بروز مشروع المعماري ولاعب كرة السلة الدولي السابق إياد محفوظ جميل، في جمع تفاصيل غنية وجديدة عن تاريخ وذاكرة مدينة المدينة في القرن العشرين. وهي تفاصيل لعلها كانت ستختفي لولا جلده وصبره في جمع السير الشفوية. وقد بدا هذا الأمر من خلال كتابه «بيوت الخفاء في حلب الشهباء» ليلحقه لاحقا بمشروع آخر (عدة كتب) أهم من سابقه، كونه يحمل مهمة جمع تفاصيل وذاكرة حي بأكمله «حي الجميلية». بدأ أولها مع كتابه «حكايا الجميلية» الذي تناول فيه تفاصيل يومية من حياة هذا الحي من نهاية القرن التاسع عشر وحتى فترة الثمانينيات. وهي تفاصيل تبدو أحيانا وكأنّه لا تسلسل زمني يربطها، لكن وجودها في كتاب واحد ساعد على تكوين صورة كاملة عن حياة الحي وأهله.

حي الجميلية: ولادة حلب الجديدة

يبدو الحي في بعض تفاصيل تكوينه، يعكس شكل حلب الجديدة التي كانت تتشكل في الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد صدر أمر ببناء هذا الحي في عام 1882 إثر ورود إذن سلطاني بإحداثه، وسمي لاحقا بالجميلية نسبة إلى والي حلب جميل حسين باشا بعد أن بنى قصره فيها عام 1884. ويبدو الحي في بداياته مركزا لاستقطاب كبار التجار وموظفي الدولة والنخب المتعلمة في المدينة، وهو توجه نراه في دمشق على صعيد حي الشعلان، إذ يلاحظ أنه تحول مع بدايات القرن العشرين إلى مكان جديد لبعض التجار والنخب الراغبين بالخروج من أحيائهم التقليدية والاستقرار في أحياء جديدة. ولأنّ كتابة تاريخ أي حي يتطلّب بلا شك وثائق وسجلات محاكم وبلديات، وهذا صعب المنال في سوريا، سيقترح علينا محفوظ، الاعتماد على جمع سير من عاش في هذا الحي لفهم طبيعة أهله. ومن خلال هذا المشروع سنتعرّف على أسماء عديدة عاشت في الحي، وعرفت لاحقا مثل عمر أبو ريشة وبشير فنصة ولؤي كيالي وآل الملاح وآل القلعة ونور مهنا (مطرب) وأسماء كثيرة، بالإضافة إلى وجود قسم كبير من اليهود في الحي.

الحي في الخسمينيات

وتبدو الحياة اليومية في الحي أكثر انفتاحا من بعض الأحياء التقليدية الأخرى، وربما هذا بحكم طبيعة من عاش فيه، وقبولهم لنمط آخر للعيش. ونرى هذا التباين في قصيدة شعبية، كتبت بلهجة عامية، ويخيل أنّ من كتبها هو أحد أبناء الأحياء الشعبية في فترة الأربعينيات والخمسينيات، وتقول بعض كلماتها «نسوانن (نسائهم) ما بتغطوا (غير محجبات).. في جوا أشكال وألوان.. شي ببنطرون (بنطال) وشي فستان.. يا رب أنت الطفنا.. وين الرجال التسعفنا (التي تسعفنا).. أهل النخوة والحمية». ويبدو من خلال هذه القصيدة الشعبية أنّ مدينة حلب كانت تعيش آنذاك مظاهر حداثية جديدة، وهي مظاهر نراها في مدينة دمشق أيضا. ويبدو أنّ موضوع اللباس تحوّل إلى ساحة للصراع بين القيم الجديدة والقيم التقليدية، كما نرى في نص كتبه الشيخ سيلمان غاوجي في دمشق بعنوان «نجاة المؤمنين بعدم التشبّه بالكافرين». وفي هذا النص، كفّر غاوجي كل من يلبس القبعة من المسلمين. لكن المحير، على صعيد مدينة حلب، أنه لن يمر سوى عقدين أو أكثر، حتى تغدو المدينة في المخيال الشعبي السوري مرادفا للتقاليد، ومركزا للحجاب والإسلام السياسي!

بناية المستت

ومن الأشياء الطريفة التي تحسب للمؤلف محفوظ في جمعه لذاكرة الجميلية، أنّ هذه الذاكرة بدت متنوعة، وتحاول الاستفادة من المخيال الروائي والمعماري الذي عرف في المؤلف، في أكثر من عمل قصصي، ولذلك يعمل على تجريب أساليب مختلفة في تدوين الذاكرة، ومن بينها اتجاهه نحو تدوين الحياة داخل إحدى العمارات التقليدية في الحي (بناية المستت).

تبدأ قصة هذه العمارة مع شراء جده الحاج باكير فكرة مستت، للعمارة من ضابط فرنسي سنة 1932. وكان الحاج مستت قد شارك في الحرب العالمية الأولى وفي معركة جنق قلعة عام 1915 كضابط يوزباشي، وفي فترة الفرنسيين عمل في مهنة تدريس الرياضيات ومسؤولا إداريا. عاد بعد ذلك والتحق بالجيش السوري إثر الاستقلال وشغل منصبا إداريا. عاشت في هذه العمارة عائلات من أصول مهنية واجتماعية عديدة، مثل أبو أديب قسطلي المنحدر من مدينة ماردين، وأسرة آل ناصر آغا التي تعود بجذورها إلى حي باب النيرب، وأسرة ناشر النعم الحلبية، وأسرة يهودية قديمة وأخرى فلسطينية قدمت بعد نكبة 1948. ولو أن محفوظ تعمق أكثر في التواريخ اليومية والمسارات المهنية لهذه العائلات (بالأخص الجيل الثاني) لكنّا اليوم أمام عمارة شبيهة بعمارة يعقوبيان في شارع طلعت حرب في القاهرة، وأمام نص عن حلب في القرن العشرين من خلال سيرة إحدى عماراتها.

مدينة حلب… ما هي؟

يحمل الحديث عن مدينة حلب اليوم الكثير من الصعوبات. فالمدينة ومنذ السبعينيات تقريبا ارتبطت بالتراث والتقاليد، وقد غدا هذا أمراً متأصّلا في تاريخ المدينة وفي سرديات أهلها. فأي حديث عن حلب، يعني العودة للأصول والتقاليد. وربما هنا لا يسعفنا الوقت لمناقشة ما إن كانت هذه السردية وليدة العقود الأخيرة، أم تعكس واقع المدينة التاريخي. مع أن من يقرأ يوميات المدينة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يعثر على مدينة حيوية ومرنة تجاه التغيرات الحضرية، بينما تبدو المدينة بعيد السبعينيات والثمانينيات (القرن العشرين) مرتبطة بالتراث والماضي والأصول. وهنا قد يطرح تساؤل، وهو ماذا لو سألنا عن صورة حلب في كتب محفوظ كيف ستبدو؟ خاصة وأنه يولي للتفاصيل اليومية مكانة في ذاكرته.

المؤلف في الثمانينات

لا يخفي محفوظ حنينه إلى حلب الأربعينيات والخمسينيات، التي يراها، كما يقول الباحث الحلبي محمد قجة، فضاء كوزموبوليتانيا. ولذلك تبدو أحيانا بعض الصور التي يلتقطها منحازة لصورة عن حلب بوصفها مكانا للتنوع (كما نرى في كتابه عن يهود الحي) والانفتاح والحداثة، بينما تختفي صورة المجتمع الآخر التقليدي في هذا الجمع للذاكرة. مع ذلك فإنّ هذا الأسلوب يوفر لنا أيضا مشهدا جيدا لفهم يوميات جزء من الحلبيين في الخمسينيات والستينيات. حيث يبدو أنّ أبناء الحي لم يكونوا مشغولين بالتقاليد (التدين) أو التجارة (الصورة الدرامية) بل كانوا مشغولين أيضا بعالم الترفيه واللذة. ونرى هذا من خلال تردّدهم على حي بحسيتا (بيوت الدعارة) أو على مقاهي الحي للعب القمار، أو حضور حفلات المطربات اليهوديات. وبالتالي نرى أنّ حلب محفوظ في هذا المشهد مؤلفة من طعام وجنس وأصحاب مهن ومثقفين وفنانين. وسيختفي هذا المشهد لاحقا لينصبّ التركيز على صورة التاجر الحلبي، أو الحلبي الإسلامي. ومما يسجل أيضا على هذه الذاكرة، غياب السياسة عن تفاصيلها، إضافة إلى غياب الصور المرافقة، التي ربما كان وجودها سيضفي جمالية وقيمة أخرى على نصوصه.

يهود الجميلية

مشروع محفوظ عن حي الجميلة لم يتوقف، وهذا ما يعبّر عنه كتابه الجديد «حكايات يهود الجميلية» دار الحوار. والذي سيتتّبع فيه سير بعض اليهود الذين عاشوا في الحي. ويسجل له في هذا الكتاب، أنه لن يكتفي بجمع ما حفظه أهالي الحي من قصص عنهم، بل نراه يسير وراء اليهود المهاجرين إلى منطقة بروكلين في نيويورك ليعثر على أولادهم وأحفادهم، ويتمكن من جمع شهاداتهم لإعادة كتابة سير عشرات الأشخاص اليهود الذين سكنوا حي الجميلية، وكان لهم دور فاعل على صعيد بناء المقاهي (مقهى العطار) والطب والتجارة والغناء. وقد شهد الحي في مطلع القرن العشرين قدوم العائلات اليهودية إليه، قبل أن يتحول لاحقا إلى أحد مراكز وجودهم الرئيسية. ومن بين الأسماء اليهودية التي عرفت، الخواجة سليم دويك، الذي ملك أغلب أسهم (خان القصابية) وحاييم مزراحي (تاجر) وجاك شقالو (محاسب تجاري) وعزرا كوهين (تاجر خردوات) وآل صفرا (الذي أصبح ابنهم لاحقا تاجرا عالميا) والحاخام يعقوب سرداد، والفنانة فيروز الماميش. ويقال إنّ اسم فيروز أُطلق لاحقا على الفنانة فيروز تيمنا بالمطربة فيروز الحلبية. وقد عرفت ماميش بأغنية (يا مليكا عزا نصرا) التي أدتها عند قدوم الملك فيصل إلى حلب سنة 1920. كما أدت أغاني أخرى مثل (يا مايلة على الغصن) (1926) و(هزي محرمتك) التي حاولت من خلالها تجاوز القدود الحلبية التي كانت تطغى على المزاج العام في حلب. وهناك المطرب الياهو أصلان الذي أجاد القدود الحلبية ورحل إلى فلسطين في بداية الخمسينيات واستكمل مشواره في حيفا.

من خلال هذه السير وغيرها، نلاحظ أنّ يهود المدينة لم يكونوا تجارا أو مهنيين فقط، بل كان لهم حضور في كل مناحي الحياة، كما أنهم كانوا جزءا أصيلا من المدينة، واستمر ذلك حتى الثمانينيات تقريباً. وقد نجح محفوظ من تعريفنا باليهود وبطقوسهم، ما وسّع من الصورة التي شكّلها عن حي الجميلية. ويبدو أنه لن يتوقف هنا، فهو الآن بصدد إصدار كتاب آخر يتناول تاريخ نادي حي الأهلي (الاتحاد لاحقا) الرياضي، الذي تأسس في الحي في الخسمينيات. ومع صدور هذا الكتاب، سنكون أمام أول كتاب حول تاريخ ناد رياضي في سوريا، ما سيزيد من متعتنا ونحن نقرأ عن ذاكرة حلب وأهلها في القرن العشرين.

كاتب سوري

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button