عن ابني الذي سلّمني إلى “داعش” لإعدامي/ خليفة الخضر
حاولتُ تجنب كتابة قصتها لوجود تفاصيل غير مكتملة، إلا أن طيفها كان يطاردني فيما أجمع قصص النساء والناجيات، حتى قررت الكتابة بعد جمع بقية التفاصيل من أخيها وجيرانها.
في ما يلي قصة امراة علوية من جبلة ومن سكان مدينة الطبقة، أعدمها في أيلول/ سبتمبر 2014 تنظيم الدولة الإسلامية، وكان ابنها الذي بايع التنظيم سبب مقتلها.
سألت نفسي، هل أستطيع أن أتقمص شخصية امرأة تم إعدامها؟
حاولت تجاوز قصتها، لكنها كانت تخاطبني بأحلام اليقظة وتخطر على بالي بين قصص أخرى أوثقها، لذلك عزمت على كتابة قصتها وعدت إلى من حدثني عنها وتواصلتُ مع عدد من جيرانها في المدينة التي كانت تقطنها وحيث تم إعدامها، حتى أصل لصياغة قصتها من كلام الناس وشهادات لنساء أخريات من المنطقة عايشنها وكن معها في السجن.
ما يلي قصة حقيقية حدثت في مدينة الطبقة جنوب محافظة الرقة في صيف عام 2014 لكن تم تغيير الأسماء وبعض التفاصيل وهي بصيغة الراوية أي بلسان المرأة التي أعدمها “داعش” لأنها علوية.
مدينة الثورة 1974
تم تعيين والدي موظفاً في مؤسسة سدّ الفرات، رحلنا من قريتنا في ريف محافظة طرطوس إلى منزلنا الجديد الضيق في محافظة بعيدة جداً. ظننتُ أن والدي سافر بنا إلى بلد آخر، التراب ليس كتراب قريتنا والأرض منبسطة، وليست كقريتنا الجبلية، التي يتبدل لونها من أخضر إلى أصفر، ثم إلى أصفر فاتح بحسب درجة حرارة أشعة الشمس فوق رؤوسنا، سنة دراسية واحدة كانت كفيلة بأن تتلاشى المقارنة بين منزلنا الجديد في الحي الثاني في مدينة الثورة وبين قريتنا في ريف طرطوس.
والدي والكثير من العائلات، نسوا أهاليهم وتحولت بحيرة الأسد والكورنيش إلى مكان للقاء الآتين من أماكن مختلفة داخل بلدننا، والجميع هنا كانوا موظفين مثل والدي في سد الفرات الذي يضخ المياه التي تغذي بلدنا.
كبرت وراهقت ومشيت في الشارع، شددت الحزام الزيتي للبزة العسكرية على بطني حتى تظهر ملامح جسمي، كنت أطيل مسافة العودة إلى منزلنا من مدرستنا الثانوية، أمشي مع كل صديقة من صديقاتي إلى منزلها بعد أن نمشي كلنا حتى نتعب من المشي، ومن ثم تعود سمر التي هي بالأصل من قرية منغ (شمال حلب) وعائشة وهي من قرية ماير (شمال حلب) وسيدرا التي هي من قرية السلمية (محافظة حماة) وهكذا…
أتحدث بلهجتين في مدينة الطبقة، لهجة المنزل وهي لهجة قرية والدي التي نسيتها ولهجة أهل الطبقة، الطبقة أو الثورة، وأهلها من موظفي السد، تشكلت لهجة خاصة بهم وهي مزيج من لهجات البلدات والقرى التي ولد فيها أهالينا، حتى من لهم أصول من دول أخرى باتوا يتحدثون مثلنا، وكورنيش الفرات يجمعنا كلنا.
أحببت أن أكون قابلة قانونية ودرست التمريض والقبالة في حلب، وسرعان ما عدت إلى مدينة الطبقة، كلنا عندما كبرنا وذهبنا للدراسة في الجامعات والمعاهد في المحافظات المختلفة، كنا نعد الأيام للعودة إلى مدينتنا.
هناك أصدقاء تعرفنا إليهم في حلب وصديقة لي تعرفت على صديق أو صديقة في دمشق أو حمص، يقولون لنا أنكم تسكنون في صحراء ومدينتكم بعيدة جداً. كان جوابنا مشابهاً: مدينتنا بعيدة عليكم وقريبة منا، تعطي حبها لمن يغامر من أجلها، صدقوني ستظلون ترونها بعيدة حتى تزوروها، وعند زيارتها ستسكن في قلوبكم وستشعرون أنكم البعيدون منها، لا هي.
بعد افتتاح عيادتي الخاصة، بدأت العمل في مجال القبالة، ثم تعرفت إلى شاب من “القرية”. الطبقة مقسومة إلى اثنين، القرية وهي القرية الأساسية لمدينة الطبقة ومدينة الثورة التي يسكنها موظفو السد. وقعت في حب الشاب الذي تعرفت إليه. كان يصغرني في العمر، وتبادلنا الحب. كثرت لقاءاتنا، بحكم أن لدي عيادة وهو عاطل من العمل، لذلك كنا نمضي ساعات طويلة معاً بعيداً من أهالينا. سارت قصة حبنا كفيلم مصري عاطفي، قرر التقدم ليخطبني من أهلي متحدياً أهله… فهمت لاحقاً أن العائق أنه من القرية أي سني، لذلك تحديداً رفضه أهلي.
لكنني أصررت، وارتبطنا، قررنا مواجهة المصاعب معاً أنا في عيادتي وهو اشترى سيارة أجرة، يجول بها داخل مدينة الطبقة وخارجها ليجمع رزقه.
تصالح أهلي وأهله عندما أنجبت صخر ابني الوحيد، بعد حرب باردة تشبه الحرب التي دارت بين الاتحاد السوفياتي وأميركا.
كنت أغني لصخر وأتخيل أنه عندما يكبر، سأترك له حرية اختيار الشريكة التي يريدها بغض النظر عن اختلافها أو قريتها أو طائفتها.
كان صخر في الخامسة عندما بلعت البحيرة سيارة والده، خلال عودته من توصيلة خارج مدينة الطبقة، بسبب غياب أي علامات تميز الطريق عن الجرف النهري، فغرق والسيارة. استطاعت فرق الإنقاذ إخراج السيارة لكنها لم تجد زوجي.
إثر هذه الحادثة، تغيرت علاقتي بالبحيرة بعدما كنت أشكو لها وأشاركها همومي، صرت أكتفي بلومها، فكلما جلست أمامها يتراءى لي جثمان زوجي مع المد، أخشى أن ترتطم جثته بالصخور، أو أتخيل أنه وصل الآن إلى العراق مع جريان النهر.
كنت أفرغ حزني بزيادة ساعات العمل وقل ذهابي إلى البحيرة وربما نسيت شكلها بعدما كنت أحفظ حركات الموج بدقة.
زيادة ساعات العمل والنوم أحياناً في العيادة، وضع جديد أدى إلى إهمالي طفلي، إذ صرت أعطيه المال ليشتري وجبات أو سندويشات من المطاعم، لأنني غير قادرة على رعايته واستمر الأمر لسنوات.
عندما صحوت من صدمة موت زوجي، أدركت أن صخر كبر وقد فاتتني تفاصيل كثيرة، لذلك حاولت أن أتعرف إليه من جديد لتعويض ما فات.
مدينة الطبقة 2012
حين انتفض السوريون عام 2011، ضد الدولة والنظام في كل من القرية والأحياء، وطالبوا بإسقاط النظام وهزت أصواتهم الأرض تحت المدينة، لم نهتم للموضوع وتوقعت أن النظام سيسقط مثل تونس ومصر، وما هي إلا أشهر حتى تعود الحياة إلى طبيعتها… لم يخطر في بالي كل هذا الموت.
عاد أهلي وكثيرون من سكان الطبقة السيرة ذاتها، نحن علويون وليس علينا البقاء، يجب أن نرحل… لم يتذكر أهلي أننا “علوية” إلا عندما قررت الزواج والآن مع الانتفاضة ظهر الشعور بأننا نحن علوية في الأصل ولكننا أهل الطبقة الأساسيون، علوية بالاسم ولكن شكلنا ولباسنا ولهجتنا، لا ارتباط لها بأي مذهب أو مكان آخر.
كرهت أهلي ولكنهم لم يكونوا الوحيدين في تلك الموقعة.
سمعت الكلام ذاته من كثيرين زاروني في العيادة، شيعة وسنة أرادوا الرحيل من طبقة خوفاً من الذبح.
خرج النظام من الطبقة وسيطرت فصائل الجيش الحر على المدينة، لم يتغير شيء علينا سوى أنهم أحرقوا صنم حافظ الأسد في المدينة ومرت الأيام طبيعية، وقد زادت عمليات إسقاط أجنة للنساء الحوامل، بسبب الخوف من صوت المدفعية والطيران الصادر من مطار الطبقة العسكري.
شاهدت عبارة مكتوبة على جدران منزل صديقة لي تشير إلى أن صاحب المنزل من “أهل الذمة”، وبدأ الخوف يتسرب على من قرر البقاء وأخذت وجهة نظر أهلي تنتشر، وتحول قسم كبير من الأهالي بتعريف أنفسهم وتعريف بعضهم إلى أماكن أصلهم التي لا يعرفون عنها شيء.
لأكثر من 40 سنة تعطينا الطبقة خيراتها وماءها وهواءها، والآن عند أول مطب نريد مغادرتها؟ لذلك قررت البقاء، وأيضاً لأنني لا أريد لصخر أن يسافر إلى قريتنا في طرطوس ويراه أهالي قرية أهلي على أنه سني ويحتقرونه كما يحتقرنا بعض السنة، ممن أنجبتهم يداي من أرحام أمهاتهم.
زاد الخوف في الطبقة مع قصف النظام المدينة وتهديده بقصف السد وإغراق سوريا، وزادت المعارك بين “كتائب الجيش الحر” والدولة الإسلامية، إذ تسمعهم يتقاتلون في ما بينهم لأجل منزل “ذمي” أو علوي، وصاحب المنزل ربما يشاهدهم من شرفة جاره الذي أعاره منزله.
مدينة الطبقة 2014
لم تستطع أذناي تمييز الرصاص ومصدره. هل هو النظام أم “داعش” أو الجيش الحر؟
انتهى الأمر بسيطرة “داعش” على المدينة التي كان يقصدها سوريون من محافظات عدة، إلا أنها بدأت الآن تخلو من ناسها، حتى إن أمواج البحيرة ركدت والكورنيش أصبح مقفراً ووحيداً.
التزمت عيادتي وتزايدت بالفعل عمليات الإجهاض، على حساب معاينات الكشف المبكر عن هوية المولود.
ابني صخر بدأت أراه غريباً عني، أترك له الطعام على طاولة المطبخ، وأعود من العمل، وأجده ما زال في مكانه. بات يمضي معظم وقته مع أصدقائه البليدين، يكتفي بالكلام الضروري معي، ويجول طوال الوقت مع شبان صغار على دراجاتهم النارية. بعد ذلك اختفى صخر عن المنزل قرابة 40 يوماً، ليعود بلحية طويلة وبشرة شقراء محروقة من كثرة تعرضه لأشعة الشمس. أخبرني أنه كان في معسكر تدريبي للدولة الإسلامية، وطلب مني أن أتوب واستحم وأدخل الإسلام وأتبرأ من أهلي العلويين، لأنه يحبني ويريدني أن أدخل الجنة لنجتمع كلنا هناك، لأن والده “شهيد” كونه مات غرقاً.
فاجأني بالفعل، فآخر ما كنت أتوقعه أن ينخرط ابني بتنظيمات من هذا النوع. بصراحة برغم المشاكل التي كان يسببها الجيش الحر، إلا أن الكثير من عناصره حفظوا لي الود والجيرة والتاريخ المشترك ولم يتعرض لي أي منهم لمجرد أنني علوية. حتى إنني لم أكن أتذكر طائفتي إلا حين يذكرني أحدهم، وهو ما فعله ابني. خفت عليه كثيراً، فهؤلاء الدواعش لا تعرف رأسهم من مؤخرتهم، ملثمون وليسوا من مدينة الثورة كما أنهم لا يحترمون الجيرة.
الذهاب إلى الجحيم
بعد اتصالات متكررة من أهلي شاهدت على أرض الواقع إجبار مسيحيين على إشهار إسلامهم أو الرحيل، أما الشيعة فلم يبقَ منهم أحد ومن العلوية بقيت أنا وحدي، حتى إن الكثير من السنة رحلوا عن الطبقة. قررت الرحيل وعدم المكابرة والعودة إلى قريتنا حتى لا أفقد ابني صخر.
بكيت كثيراً ورجوته أن نسافر إلى طرطوس ومن هناك إذا لم يرتاح في قرية أهلي، نسافر معاً إلى لبنان ثم إلى أي بلد، أخبرته أن الحياة تنتظره، وأنه لا يجوز قتل إنسان بريء. أخبرته عن الألم الذي يصيبني حين يموت جنين بين يدي مع أن لا ذنب لي في ذلك، لكنه بقي صامتاً ثم خرج من المنزل بعد منتصف الليل.
في الصباح استيقظت لأجده يبلغني بأنه مستعد السفر معي إلى قرية أهلي العلوية بأسرع وقت والضحكة لا تسع وجهه! استغربت وفرحت في الوقت ذاته، قلت في سري: أياً يكن تأثيرهم عليه… لكنه ابني.
حزمت بعض الملابس وما تبقى من أثاث المنزل وزعته بشكل عشوائي للجيران، أعطيت البراد لامرأة تونسية سكنت في الطبقة الأولى من البناء، أما العيادة فطلبت من ولدي أن يهبها لمن يريد وكنت في وقت سابق بعت ما أملكه من ذهب وأرسلت المبلغ لأمي في طرطوس وتركت ما يكفيني للسفر خوفاً من السرقة.
ركبنا سيارة خاصة وانطلقنا باتجاه طريق أثريا، لم يوقفنا أي حاجز وبدا الطريق خالياً تماماً من السيارات.
قبل الوصول إلى الحاجز الأخير لتنظيم الدولة وقبل الدخول إلى مناطق النظام أوقفتنا سيارة رباعية الدفع بيضاء، خرج منها ملثمون، قاموا بضرب ولدي أمامي وشتمه بـ”مولي الدبر” والذهاب إلى أرض الكفار. عصبوا عيني وعيني صخر ووضعونا في صندوق السيارة الخلفي وساروا بنا بسرعة قصوى.
وصلنا إلى مدينة الطبقة وأدخلوني إلى السجن وفرقوا بيني وبين صخر.
في مهجع النساء
أدخلوني إلى مهجع خاص بالنساء، وجدت عدداً من جاراتي السابقات أو نساء ساعدتهن بإنجاب أطفالهن، وقد تنوعت التهم بين من كن موظفات لدى النظام السوري وأخريات من عائلات شيعية أو علوية وأخريات مهاجرات قدمن مع أزواجهن وتم اعتقالهن لكونهن يتحدثن مع أهاليهن خارج مناطق الدولة…
وعندما حل العشاء، قام أحد السجانين بمسح دماء من ممر السجن ليدخل الكثير من الدماء إلى مهجعنا من داخل باب المهجع، بعد منتصف الليل علقوا رجلاً على باب المهجع، ظل يئن ويتوسل ويستجدي الله حتى شروق الشمس، يخفت صوته نظنه مات وسرعان ما يصرخ بأعلى صوته ويطلب فك القيد عن يديه… لم أستطع النوم.
إنهم يعذبون الناس لمجرد الشك بهم وبلا رحمة تماماً كالرجل الذي بقي معلقاً من دون أن يكترث أحد لصراخه. فكرت كثيراً بالضربات الخفيفة التي تلقاها ابني حظة القبض علينا، فيما كان يبالغ في الصراخ… الأحداث سريعاً في ذهني لأجزم أن ولدي هو من سلمني لهم، طردت الفكرة من رأسي ولم أرد تصديقها، في الليل سألت إحدى اللواتي يتبعن للتنظيم عن الحادثة، وقد قالت إن “هذا هو الولاء والبراء بعينه، أنت تعينين ابنك بخلع البيعة والسفر خارج أراضي الدولة، غير أنك نصيرية علوية”.
التهم التي وجهها المحقق لي هي ذاتها التي قالتها لي أم علي الدمشقية، كان ابني صخر داخل غرفة التحقيق ويبالغ بخوفه وأجوبته وكأنه يريد إيصال رسالة لي بألا ذنب له! طلبت منهم نزع العصبة عن عيني لكي أشاهد ابني، ليرد علي المحقق، بأنه من الأفضل ألا تشاهديه بهذه الحالة التي تم تعذيبه بها وسيلحقك وسنعدمه بعدك ليختم كلامه معي: نطفة نجسة.
أيقنت أن ابني هو سبب كل ما حدث معي، وهو ما أكدته أم علي أيضاً.
لم يضربوني، ليتهم فعلوا ذلك، لعل وجع الجسد كان ليخفف ألم الروح بعدما طعنني ابني في قلبي.
مر شهر وقد فقدت نحو 20 كلغ من وزني، تساقط شعري وظهر الصلع على شكل بقع على رأسي المرهق من التفكير ليس بفكرة الموت، بل بمصير صخر وما فعله.
جاءت نساء متحزمات بجعب عسكرية، وسحلنني إلى مبنى آخر، أدخلنني إلى غرفة فيها مروحة في السقف، تحسست وجودها.
كان هناك الكثير من الأشخاص في الغرفة، خاطبني شخص غير سوري، من لهجته عرفت ذلك، ليسألني: هل أنت نصيرية يا أم صخر؟ لم أجب.
تحسست وجود ابن رحمي في الغرفة، أيقنت وجوده، هل تخطئ الأم نَفس ابنها ولو ظل صامتاً؟ شدوا الحزامة البلاستيكية على يدي وشدوا العصبة على عيني بقوة، قاموا بضربي برصاصة في صدغي الخلفي… لم أصرخ أو استجديهم ألا يقتلوني ولم أبكِ… ليس خوفاً منهم ولكن كتمت وجعي حتى لا يلوم صخر نفسه في ما بعد…
درج