عن “ولادة إيران جديدة”…مقابلة ممنوعة مع الباحث الإيراني آصف بيات
ترجمة – New Line Magazine
“أمنيتي، ربما مثل ملايين الإيرانيين، وهي أن أرى هذه المطالب المهملة لمختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في هذا البلد تتحقق، بأقل تكلفة على الأرواح البشرية، وبنيتها التحتية المادية، ودون أي تدخل من القوى الأجنبية. “
نشرت صحيفة “اعتماد اليومية” في طهران المقابلة التالية مع آصف بيات بالفارسية في 10 تشرين الأول/ أكتوبر. وبعد وقت قصير من نشرها، أمرت السلطات الإيرانية الصحيفة بحذف المقابلة من موقعها على الإنترنت. إلا أن محتوى المقابلة انتشر بالفعل في إيران وخارجها، واضطرت منافذ إعلامية أخرى كانت أعادت نشرها إلى حذفها. لا نعرف ما هي الأسباب، التي قدمتها السلطات لحذف المقابلة؛ ربما كان التحليل الذي قدمه بيات، وهو باحث يحظى باحترام كبير من الحركات الاجتماعية والثورات المؤثرة في الأوساط الفكرية والسياسية الإيرانية. تواصل مواقع إلكترونية داخل إيران حالياً نشر المقابلة. أُبلغ عن الحظر للمرة الأولى من راديو “فاردا” على الإنترنت. وعلى مدار الأيام التالية، نُشرت المقابلة في عشرات الآلاف من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي بين الإيرانيين في جميع أنحاء العالم.
هنا المقابلة مترجمة للعربية
في البداية؛ دكتور بيات، هل تتابع ما يحصل داخل إيران؟
وكيف لا أتابع؟ نعم، أنا أتابع الأحداث عن كثب، وبصفتي إيرانياً، فأنا مهتم جداً بالوضع الحالي للبلد، وبصفتي شخصاً كان يدرس التطور الاجتماعي والسياسي لإيران والمنطقة ككل. في الواقع، في هذه الأوقات الحرجة، تتجه عيون ملايين الإيرانيين في الشتات نحو إيران. يبدو الأمر كما لو أن “إيران جديدة” قد وُلدت؛ “إيران عالمية”، مجموعة من الأفراد المختلفين الذين تفصلهم الجغرافيا، ولكنهم يتشاركون إلى حد كبير المشاعر والهموم والأحلام نفسها.
برأيك كيف نفهم هذه الموجة من الاحتجاجات؟ هل يمكننا فهمها من منظور الحركة؟
نظراً لأن الأشياء لا تزال تتكشف وتتطور، فمن الصعب إعطاء إجابة محددة. لكنها تبدو مختلفة تماماً عما رأيناه من قبل. نحن أمام شيء جديد. فقط تذكر الثورة الخضراء عام 2009؛ كانت حركة قوية مؤيدة للديمقراطية أرادت حكومة خاضعة للمساءلة. كانت إلى حد كبير حركة قادتها الطبقة الوسطى الناشئة حديثاً في المناطق الحضرية، على رغم أن بعض الساخطين قد دعموها أيضاً. بعد ذلك، كانت لدينا انتفاضة عام 2017، حين قامت مجموعات اجتماعية متنوعة- مثل العمال غير المأجورين، والدائنين، والمزارعين المتضررين من الجفاف وغيرهم – بالاحتجاج في وقت واحد في جميع أنحاء البلاد، لكن كل واحدة من هذه الأطياف كان لها مطالبها الفئوية. أما انتفاضة 2019 فقد ذهبت إلى ما هو أبعد، فأظهرت المجموعات الاحتجاجية المختلفة- ولا سيما الفقراء والطبقة الوسطى الفقيرة- درجة جيدة من التماسك والوحدة. وتركزت مطالبهم المركزية على المسائل الاقتصادية وتكلفة المعيشة. كما اتبع المتظاهرون- الذين جاء معظمهم من المناطق المهمشة في المدن والمحافظات- تكتيكات متطرفة.
أما الانتفاضة الحالية فقد تجاوزت هذا كله. لقد جمعت بين الطبقة الوسطى الحضرية، والفقراء من الطبقة الوسطى، وسكان الأحياء الفقيرة، والأشخاص من مختلف الهويات العرقية – الأكراد والفارسيون والأذربيجانيون الأتراك والبلوش – كل ذلك تحت رسالة “المرأة، الحياة، الحرية”.
من الملاحظ جداً أننا أمام انتفاضة تحتل فيها المرأة دوراً مركزياً. هذه السمات تميز هذه الانتفاضة عن سابقاتها. يبدو الأمر كأن نقلة نوعية في الذات الإيرانية قد حدثت. وينعكس هذا في مركزية المرأة وكرامتها، والتي تتعلق على نطاق أوسع بالكرامة الإنسانية. هذا غير مسبوق. يبدو الأمر كما لو أن الناس يستعيدون حياتهم المدمرة، وشبابهم الضائع، وفرحتهم المكبوتة، ساعين وراء العيش الكريم والبسيط الذين حُرِموا منه. هذه حركة لاستعادة الحياة. يشعر الناس أن نظام رجال الدين المسنين قد حرمهم من الحياة الطبيعية. يشعر الناس أن هؤلاء الرجال يبدون منفصلين عن واقع الناس، وهم في الوقت نفسه قد استعمروا حياتهم.
استعادة الحياة فكرة قوية؛ ينعكس عمقها في القصيدة المشهورة للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي التي يحفظها كل ثائر عربي عن ظهر قلب: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدرُ”. في هذه الانتفاضة، أصبحت استعادة الحياة مطالبة عالمية. نحن نرى أنه- على المستوى الذاتي بين الناس- قد ظهر “ألمٌ جماعي” ومطالب جماعية التفتْ حولها مجموعات اجتماعية متنوعة، ولا يتوقف الأمر على وحدة الشعور بها ومشاركتها، بل أيضاً العمل عليها. مع ظهور “الشعب”- وهي جماعة شاملة تذوب فيها الفروق في الطبقة والجنس والعرق والدين موقتاً لمصلحة خير أكبر- يبدو أن الانتفاضة قد انتقلت إلى نوع من الأحداث الثورية.
لقد درستَ الحركات والانتفاضات الاجتماعية، بخاصة في الشرق الأوسط؛ هل صادفت أي حركة مشابهة لما يحدث في إيران الآن؟
هناك أوجه تشابه بين الانتفاضة الحالية في إيران وانتفاضات الربيع العربي، لا سيما في ما يتعلق بالشرارة الأولى وبداية احتجاجات الشوارع. أشعلت التضحية بالنفس التي قام بها محمد البوعزيزي في تونس بسبب القمع الذي تعرض له، وقَتل خالد سعيد نتيجة التعذيب على يد الشرطة في مصر؛ انتفاضات واسعة النطاق في كل بلد. أُطيح بزين العابدين بن علي من السلطة في غضون 28 يوماً، وأُطيح بحسني مبارك في غضون 18 يوماً من هذه الانتفاضات. جسّد البوعزيزي وخالد سعيد القمع الذي شعر به الكثير من التونسيين والمصريين، فاحترام كرامة الإنسان أمر يشترك فيه المحتجون في إيران وتونس ومصر. لكن هناك أيضاً اختلافات كبيرة. في إيران، وبسبب محاولات استعمار الحياة اليومية، فإن الفجوة والصراع بين معظم الناس ونظام الملالي أوسع وأعمق بكثير مما هو عليه في تونس أو مصر. فعلى عكس تونس أو مصر، تعرضت الحياة اليومية – وحتى الحياة الخاصة للناس (خاصة النساء) – في إيران لمراقبة أيديولوجية وسياسية خانقة. في الواقع، فإن نظام المراقبة الوحيد القابل للمقارنة مع إيران هو نظام طالبان في أفغانستان. حتى الحكام المستبدين في المملكة العربية السعودية بدأوا في إصلاح النظام الوهابي للسيطرة على حياة الناس العامة. لكن الفارق الأساسي بين الانتفاضة الحالية في إيران وتلك التي شهدتها الدول العربية هو الاعتراف بالمرأة باعتبارها “موضوعاً” تحولياً، و”قضية المرأة” باعتبارها محوراً استراتيجياً للنضال. لقد جعلت الدعوة الشاملة لـشعار “المرأة، الحياة، الحرية” حركة الاحتجاج الحالية في إيران فريدة تماماً.
ما يثير دهشة الكثير من المراقبين هو وجود الشباب والمراهقين في الشوارع؛ فقد كان يُعتقد في السابق أن هذا الجيل الشاب لا يبالي بالسياسة وأناني، ولا يتطلع إلى أي طموحات، وبدون مُثُل، وغير قادر أو غير راغب في اتخاذ أي إجراء سياسي، ومتعلق بالإنترنت والألعاب الإلكترونية. ما هو تقييمك لحضور هذا الجيل في الشوارع؟
قد يكون الوجود الكبير للشباب في شوارع الانتفاضة مفاجئاً، لكنه لم يكن غير متوقع. في الأساس، الشباب وسياسات الشباب فضفاضة ومتقلبة للغاية. قد نشهد نشاطهم المذهل ثم نرى منهم موقفاً يعكس اليأس والسلبية واللامبالاة في أوقات أخرى. إنما هناك منطق وراء هذا السلوك. بشكل عام، “فتوّة الشباب”، أي القدرة الجسدية للشباب، وخفة حركتهم وطاقتهم، وتطلعهم نحو المستقبل والتعليم، و”عدم مسؤوليتهم الهيكلية” (على عكس البالغين والآباء) تفسح المجال لميل واضح نحو سياسة الشارع والنشاط الراديكالي. في الثورة التونسية، شارك أكثر من 28 في المئة من الشباب (من 15 إلى 29 سنة) في الانتفاضة، وهو أمر غير عادي. عادة ما يشارك بين 1 و8 في المئة من سكان بلد ما في الثورات. لكن الموقف المهمّش للشباب في هيكل السلطة (الذي يكون على رأسه عادة رجال كبار السن) يمنعهم من المشاركة بفعالية في صنع القرار على أساس أنهم يفتقرون إلى الخبرة، وتسيطر عليهم العاطفة، ويجب أن يتبعوا كبار السن (تعاني النساء الشابات بشكل خاص كثيراً من هذا التصرف). هذا النوع من السلوك الأبوي يجعل الشباب يشعرون باليأس وخيبة الأمل والاستياء من السياسيين و”السياسة”، ومن ثمَّ يتجهون نحو عالمهم الخاص، ويسعون جاهدين إلى خلق مساحات للتعبير عن الذات والتمكين الذاتي، سواء في الإبداع الفني والتقني، أم في صنع المستقبل، أو في كسر الأعراف، أو في الملاحقات الجنائية. وقد ناقشتُ أساليب سياسات الشباب وسياسة المرأة وسياسة الفقراء في أوقات الثورة في كتابي الأخير “الحياة الثورية: يوميات الربيع العربي”.
لاحظ أنه في حالة إيران؛ كان الشباب نشيطين للغاية في بعض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أواخر التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين، وكان هناك شيء من المنافسة والأمل في التغيير. ولكن عندما شعروا بأن الانتخابات قد تم تزويرها، وتلاشى الأمل في التغيير، لجأوا إلى عالمهم الخاص، في مجموعات الصداقة، وعبر الإنترنت، وفي “اللاحركية” لتحقيق أسلوب حياتهم، وإيجاد طريقة لتأمين الانتقال إلى مستقبل الكبار. لا يعني الاتصال بالإنترنت ممارسة الألعاب وحسب؛ بل إنهم يحتكّون بالعالم الأوسع، ويتعلمون مهارات واستراتيجيات جديدة للنضال، ويتعلمون قيماً ومعرفة جديدة، ويطلعون على ما هو موجود في العالم، ويدركون مدى حرمانهم. كل هذا يجعل هؤلاء الشباب أكثر عزلة وانفصالاً عن عالم الحياة والأيديولوجية التحريمية لحكم رجال الدين. أضحى هذا الصدع عميقاً للغاية في هذه الأيام، وكأن الحكام والشباب (الذين نصفهم من الإناث) يعيشون في كواكب مختلفة. لذلك ليس من المستغرب أن تكون حركة الشباب والمراهقين اللاحركية قد اندمجت الآن في اضطراب سياسي واسع النطاق يضطلع فيه الشباب- بفضل “فتوّتهم”- بدور ذي مسحة متطرفة أكبر.
لكن يجب أن أشدد على أنه برغم حضورهم المذهل وأدائهم في سياسة الشارع، فإن هؤلاء الشباب الاستثنائيين- وبالطبع أي مجموعة أو طبقة اجتماعية أخرى- لا يستطيعون بمفردهم تحقيق اختراق سياسي. يتحقق الاختراق فقط عندما يأتي الناس العاديون من مختلف الفئات الاجتماعية- بما في ذلك النساء والرجال وكبار السن والأطفال والجدات والدوائر التقليدية أو الحديثة- إلى الشوارع والأزقة الخلفية للانتفاضات.
هنا، يصبح “الشارع” الفضاء الذي يناهض التيار الاجتماعي السائد، والذي يدعو إلى التحول السياسي. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هؤلاء الشبان والشابات هم من يبدأون الاحتجاجات في أحيان كثيرة. إنهم يضخون دماً جديداً في جسد الحراك الشعبي في أوقات الصمت واليأس، وهو ما يوفر الطاقة والتجدد للحركة لتعيش وتستمر.
ثمة نقطة رئيسية أخرى اتسمت بها هذه الاحتجاجات، وهي حضور النساء الواسع. نحن نعلم أن الدافع الأساسي هو وفاة شابة بعدما اعتقلتها ما يسمى بشرطة الأخلاق أو “دوريات التوجيه أو الإرشاد” [گشت إرشاد]. وقد أدى الحضور البارز للمرأة، الذي حظي بدعم دولي واسع النطاق، إلى أن يعتبرها كثيرون حركة نسوية. ما هو تقييمك لدور المرأة وحضورها في هذه الاحتجاجات؟
كما ذكرت آنفاً، فإن مركزية المرأة بوصفها “موضوعاً” و “قضية المرأة” بوصفها نقطة محورية قد ميزت هذه الاضطرابات على نطاق واسع عن غيرها. برغم أن النظام الذكوري لا يزال سمة من سمات الكثير من الحكومات العلمانية، فقد كان الحكم الديني [في إيران] ذكورياً بشكل غير عادي ومعادٍ للنساء على المستويين الأيديولوجي والهيكلي. لذلك ليس من المستغرب أن تبدأ مقاومة المرأة ومعارضتها منذ الأيام الأولى بعد ثورة 1979. وعلى مدى عقود، واصلت النساء الإيرانيات مقاومتهن في ممارسة الحياة اليومية، وقمن باستغلال “فن الحضور” (أداء المهمات دون محاولة التحكم في الحالة الأولية أو تغييرها)، في الأماكن العامة، ومن خلال اللاحركات الاجتماعية، و “الزحف البطيء”، السعي الرصين نحو تحقيق تقدم تدريجي، من أجل التصدي للنظام الذكوري وكراهية النساء. وكلما كانت هناك فرصة سانحة، حاولن تنظيم الحملات الجماعية وبناءها، بيد أن النظام لم يستطع حتى أن يتقبل فكرة وجود مجموعة من الناشطات اللائي يعقدن اجتماعات في منازلهن.
فقد قامت شرطة الأخلاق وقوات الأمن بإهانة وتهديد واعتقال ملايين النساء في الشوارع ومؤسسات الدولة. وبحسب تقرير للشرطة عام 2006، خلال الأشهر الثمانية من حملة الهجوم على النساء اللواتي يرتدين “الحجاب السيئ”، تعرضت 1.3 مليون امرأة للإيقاف في الشوارع ووجهت لهن خطابات تحذيرية رسمية. وفي العام التالي، خلال حملة قمع استمرت ثلاثة أيام، اعتقلت الشرطة أكثر من 150 ألف امرأة. مثل هذه الاعتداءات ذكّرت الإيرانيين بصور الجيش الإسرائيلي وهو يذل الفلسطينيين. بيد أن المقاومة والزحف البطيء أو اللاحركات الاجتماعية التي قادتها النساء الإيرانيات استمرت. وفي خضم هذه العملية، وضعن معايير جديدة في المجتمع ورسخن حقائق جديدة على أرض الواقع، مثل الحضور في المجال العام والحجاب باعتباره مسألة اختيارية وليست بالإكراه. والآن، أدت تلك اللاحركات الاجتماعية التي ساعد في تنظيمها مقتل إحدى هؤلاء النساء، مهسا أميني، إلى انتفاضة سياسية غير عادية، اكتسبت فيها النساء وكرامتهن، بل والكرامة الإنسانية بشكل عام، مكانة بارزة.
غير أن هذه الانتفاضة لا تتعلق بـ”مسألة المرأة” فقط. فقد تجاوز الطابع الشامل لهذه الحركة الاحتجاجية المرأة. واحتضنت الكثير من الفئات والطبقات الاجتماعية والدينية والعرقية الأخرى المحرومة والمنبوذة والمضطهدة. وثمة شعور بأن تحرير المرأة يفتح الطريق أمام تحرير الجميع، بمن فيهم الرجال والمحرومون. بعبارة أخرى، يبدو أن المتظاهرين الآن يتقاسمون آلاماً مشتركة، ويشتركون في فهم الصالح العام الذي يوحد جميع المتظاهرين. ويبدو أن شعار “المرأة، والحياة، والحرية”، يمثل تلك المصلحة العامة.
لعل الشعار الأكثر أهمية الذي نستمع إليه اليوم هو “المرأة، والحياة، والحرية”، وقد علت أصداؤه في مختلف أنحاء العالم. فالبعض يعتبرونه غامضاً وعاماً، ويرون أنه لا يتمتع بنبرة إيجابية محددة. بينما يعتبره كثيرون شعاراً تقدمياً يركز على قيم الحياة. ما رأيك في هذا الشعار؟
يُشكل الغموض والعمومية مفارقات في معظم الحركات الثورية. لأنه، من ناحية، يكفل الغموض والعمومية وحدة الحركة الثورية، ومن ثم يعزز قوتها؛ وهذا شرط الانتصار. ومن ناحية أخرى، تختفي الدقة والتفاصيل والاختلافات في التفسير والتوقعات تحت هذا الشعار العام، لتظهر مجدداً بعد الانتصار. وفي هذه المرحلة، يصل تضارب المعاني والتوقعات، وبالتالي المواجهات السياسية، إلى ذروتها. وهذه معضلة تجب معالجتها.
على سبيل المثال، إذا أردنا تأسيس سياسة ديمقراطية، فربما نتمكن من التوصل إلى توافق في الآراء من خلال المفاوضات. هذه ملاحظة عامة. بيد أنه في حالة إيران، ما زلنا لا نعرف ما هو مستقبل هذه الانتفاضة. ويبدو أن هناك حالياً بعض المناقشات الجارية بشأن هذه القضايا، التي يمكن أن تكون مثمرة إذا اقترنت بحسن النية. وأعتقد أن شعار “المرأة، والحياة، والحرية” لديه القدرة على تبني تطلعات مختلف الفئات المحرومة والتعيسة والمضطهدة في المجتمع الإيراني. في حين ترتبط مركزية المرأة بالمقولة القديمة القائلة بأن “حرية المجتمع ليست ممكنة بدون حرية نسائه”. ولا يمكن إنكار العلاقة بين المرأة والحياة عندما نعتبر أن المرأة لا تلد الحياة فحسب، بل تحافظ عليها أيضاً من خلال القيام بثلثي العمل في العالم اليوم. وأخيراً، فإن الشعور العام بـ”استعادة الحياة” بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية هو في صميم هذا الشعار. وبالطبع، من الواضح أن “استعادة الحياة” لا يمكن تحقيقها، إلا من خلال إجراء تحول هيكلي جاد.
إقرأوا أيضاً:
تتمثل إحدى خصائص المجتمع الإيراني في تراكم مختلف المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهملة، والتي تتدفق جميعها معاً في مثل هذه الأوقات. ألا يثير هذا التعدد في المطالب القلق؟ وهل يساهم في إبعاد الحركة الاجتماعية عن هدفها الرئيسي؟
لا أعتقد ذلك. في الواقع، يُشكل هذا الكم الهائل من المطالب والتعبير عن الآمال والأحلام، دلالات واضحة على سلسلة من الصراعات الاجتماعية التي تسعى إلى تحقيق تحول هيكلي. ولا يمكن لأي فئة اجتماعية -العمال أو الفقراء أو الطبقة المتوسطة أو النساء أو الشباب- بمفردها أن تغير توازن القوى بين الجمهور المعارض والنظام. وقد تحققت دائماً التحولات السياسية الحقيقية من خلال تحالف مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية المحرومة والتعيسة والمضطهدة. ولذلك، فإن السؤال ليس ما إذا كان تراكم المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهملة سيكون له آثار سلبية على عملية النضال. بل إن السؤال هو كيف يمكن التعبير عن هذه المطالب المهملة في إطار مطالبة مشتركة وشاملة وبسيطة ومفهومة، يمكن من خلالها لتلك الفئات التي تعاني أن تحددها وأن تعبر عن نفسها بلسانها.
وهذا هو تجسيد تعبير “المصلحة العامة” الذي أشرت إليه سابقاً. وعلى هذا الأساس، على سبيل المثال، تنبغي صياغة شعار “المرأة، والحياة، والحرية” بطريقة يمكن من خلالها لمختلف الفئات المعنية أن تشعر بأصدائه وتستوعبه، مع تأكيد أن تحقيق مثل هذا المطلب الجماعي يستلزم حدوث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة.
يشعر بعض المحللين بالقلق من أن التطورات الحالية ستتحرك في اتجاه يهدد الاندماج والسلام واستقرار البلاد. ما مدى احتمال حدوث ذلك، في رأيك؟
لست متأكداً تماماً من مدى استناد هذه التحليلات إلى أدلة، أو مدى جسامة مثل هذه المخاطر، ولكن لا بد من معالجتها. وعموماً، أي حركة قوية معرضة لخطر الاستغلال. إذ يحاول الانتهازيون هنا وهناك أو في الخارج استخدامها لمصلحتهم الخاصة، أو ربما يدعون أنفسهم قادة لها، أو يعربون عن دعمهم لدوافع خفية. من يعتقد حقاً أن شخصاً مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فضلاً عن ولي عهد المملكة العربية السعودية، محمد بن سلمان، يريد الديمقراطية في إيران؟ إنهم أنفسهم يشكلون تهديداً خطيراً للديمقراطية في بلدانهم. ولحسن الحظ، يبدو أن حركة “المرأة والحياة والحرية” تُظهر ما يكفي من القدرة والوعي السياسي لعدم الاكتراث بهذه الألاعيب السياسية ومواصلة رحلتها بالاعتماد على قوة الشعب. والواقع أن إيران لم تشهد في السنوات الأخيرة مثل هذا التقارب بين مختلف الجماعات والأعراق والطبقات الاجتماعية؛ ويبدو الأمر وكأن “إيران” جديدة قد ولدت. وبالطبع، سيكون هناك أيضاً من ينسبون المعارضة والاحتجاجات إلى المكائد والمؤامرات الخارجية. إلا أن هذه الادعاءات ليست جديدة وبخاصة بإيران. مثلما عزا مبارك وأنصاره الحركة الثورية المصرية إلى المؤامرات الخارجية والإسلامية والتطرف، بيد أن الواقع كان مختلفاً تماماً.
ما هو تقييمك لمستقبل هذه الحركة؟ وما هي السيناريوهات أو الاحتمالات التي تتصورها؟
يُعد التنبؤ بمستقبل هذه الأحداث أمراً صعباً للغاية لأنه يعتمد على العديد من العوامل. ويعتمد على أسئلة ليس لدينا إجابات عليها. على سبيل المثال، لا نعرف إلى أي مدى قد يلجأ النظام إلى العنف المستشري لقمع الاحتجاجات أو الإضرابات في الشوارع. وإذا كانت استراتيجية النظام هي اللجوء إلى العنف الشديد، فما مقدار الغضب الأخلاقي الذي سيعقب ذلك بين الناس العاديين والقائمين على النظام مثل قوات الأمن؟ وماذا ستكون مواقف النخب التقليدية أو الزعماء الدينيين أو آيات الله أو السياسيين المعتدلين؟ وهل ستستجيب هذه النخب ورجال الدين لنداء الضمير؟ فضلاً عن أننا ما زلنا لا نعرف المسار الذي سيسلكه المعسكر الإصلاحي وقادته. إذ إن المأساة التي يعيشها العديد من الإصلاحيين في هذه المرحلة هي أنهم لا يستطيعون إجراء إصلاحات (لأنهم طردوا من السلطة)، ولا الانخراط في ديناميكية ثورية (لأنهم يشعرون أنهم بحكم تعريفهم إصلاحيون وليسوا ثوريين). هذه الحالة المحزنة من العجز لها علاقة بنهجهم العقائدي والثابت وغير التاريخي في التعامل مع مفاهيم واستراتيجيات التغيير الاجتماعي والسياسي. يبدو كما لو أن الإصلاحي لا بد وأن يظل إصلاحياً حتى نهاية حياته، والثوري يتحتم عليه أن يظل ثورياً إلى الأبد، بغض النظر عما يحدث على أرض الواقع، وعلى الساحة السياسية، حيث يتطلب الواقع المتقلب والمعقد وسائل مناسبة ومبتكرة وبعيدة عن التشدد العقائدي لممارسة السياسة. والأهم من ذلك، أننا لا نعرف إلى أي مدى ومتى ستُظهر الفئات الاجتماعية المتحالفة، مثل العمال والمعلمين، أعمال تضامن أوسع مع الانتفاضة. باختصار، من الصعب للغاية التنبؤ.
ومع ذلك، مهما حدث لهذه الانتفاضة، فقد حققت هذه الحركة في هذه المرحلة تحديداً بالفعل إنجازات كبيرة. إننا نشهد نقلة نوعية حاسمة في النظرة الذاتية للإيرانيين. ففي المدن الكبيرة والصغيرة، حتى في القرى، بين الآباء والشباب، وبين المجموعات العرقية والطبقات الدنيا والمتوسطة، يبدو أن “أمة” جديدة قد ولدت- أمة تصر على استعادة الحياة والعيش بكرامة. وتصيح بذلك في شوارع الانتفاضة. ومن غير المرجح أن تعود أمور كثيرة إلى ما كانت عليه من قبل. ربما هذه هي النهاية الفعلية لشرطة الأخلاق، حتى لو لم يقوموا بإلغائها رسمياً. فقد فرضت معايير جديدة نفسها على واقع الحياة العامة. وربما يكون “الحجاب الاختياري” أحد هذه المعايير.
ما الذي تتمناه من حركة الاحتجاجات الاجتماعية هذه؟
أمنيتي، ربما مثل ملايين الإيرانيين، وهي أن أرى هذه المطالب المهملة لمختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في هذا البلد تتحقق، بأقل تكلفة على الأرواح البشرية، وبنيتها التحتية المادية، ودون أي تدخل من القوى الأجنبية. ويتوقف تحقيق هذه الرغبة، من ناحية، على قدرة هذه الحركة واستمراريتها، ومن ناحية أخرى، على ضمير الحكام وقرارهم. ربما تكون هذه سذاجة مني. وربما من المستحيل تحقيق ذلك. لكن الحقيقة، كما أشار إليها ماكس فيبر، تتمثل في أن التجربة التاريخية تثبت أننا نحن البشر ما كنا لنتمكن من تحقيق “الممكن” من دون التفكير مرة تلو الأخرى في “المستحيل”.
*القراء المهتمون بمعرفة المزيد عن مفاهيم مثل “فن الحضور”، و “اللاحركات الاجتماعية”، و “الزحف البطيء”، يمكنهم الاطلاع على كتاب آصف بيات “الحياة سياسة: كيف يغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط” (2013).
هذا الموضوع مترجم عن newlinesmag.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط هنا
https://newlinesmag.com/argument/a-new-iran-has-been-born-a-global-iran/
درج