في مستنقع الألوهية الأسدية…/ عبير نصر
حاجتنا ملحّة لتفكيك صورة القائد في المخيال العام من مقاربات مختلفة، بعدما أثبتت الممارسة السياسية المعاصرة نزعة الشعوب المضطهدة إلى “تحصين” قادتها، محوّلةً صورة الزعيم وأقواله وخواصّه إلى أيقونات مقدّسة. وفي السياق، نُقل عن مؤرّخٍ عند وصفه جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، ما إنْ أُزيح الستار عن تمثاله، قوله: “لم يكن الرجل من لحم ودم، بل مجرّد إله نُزعت منه الحياة، كما هذا التمثال”. وتؤكد الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت أنّ “هتلر لم يلبث يردّد أنا لست رئيس دولة، إنما أنا مرشد الشعب الألماني”. وتحوّل ستالين كذلك إلى رمزٍ للمعرفة والحكمة والفضيلة والعبقرية، رغم كلّ الجرائم التي حدثت في عصره. وفي العراق، خُلع على عبد الكريم قاسم 55 لقباً إرضاء لنرجسيته، ليؤسّس لظاهرة “تقديس الزعيم” التي سيمضي فيها صدّام حسين ليدرك أقصاها.
عبير نصر
مع الوقت، راح حافظ الأسد يبدو شبيهاً بالأخ الأكبر في رواية جورج أورويل “1984”، حاضر في كلّ مكان وهو عالم بكلّ شيء. وهذا ما دأب الخطابُ السياسي الرسمي على تقديمه للسوريين. فعلياً، لم يكن الأمر كذلك في بداية حكمه، ولكنَّ صورة “القائد الخالد” راحت تظهر شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت “أيقونة” الحياة السورية العامة. وفيما كان زعماء “البعث” السابقون يتوارون وراء شعارات الحزب، ليس لهم صور ضخمة في الشوارع، وبالكاد يطلّون مباشرة على الجماهير، عمد أركان حكم الأسد، وبتشجيعٍ منه، إلى تحويل القائد “المجرّد” إلى “ملموس”.
والحال أنّ سوريين كثيرين كانوا يتحدّثون عن الأسد الأب كـ”نبيّ”، خلال تسعينيات القرن الماضي تحديداً، وكانت الطقوس اليومية تحتفي به رئيسا “مُصطفى” لا يموت. لذا بدت صدمة وفاته فوق قدرة الموالين على الاستيعاب. واليوم يتوازى تقديس الابن مع تقديس والده. فإلى جانب “خطب التركيع والترهيب” التي يلقيها الابن من على المنابر كافة، يدعمها زعاقٌ لا يتوقف لمسؤولين “انبطاحيين” بأن “الركوع لبشار قليل”، فإن الوالد ما زال حاضراً بسبب السخط من سياسات الإفقار والإذلال، خصوصا مع تكرار الموالين عباراتٍ مثل “قم يا أبا الفقراء” يناشدون فيها “القائد الخالد” بالنهوض من موته، باعتباره “المخلّص الموعود”.
أجزم باطمئنان أنّ ظاهرة “التأليه”، في جوهرها، نوعٌ من العُصاب المزمن، يؤدّي إلى اضطرابٍ في الشخصية والتوازن النفسي. ويندرج تحت هذه الآلية المرَضية تقديس الأشخاص في سياق إشباع دوافع نفسية غير واعية. فكلما زاد القمع ازداد الميل إلى تبنّي حلول أسطورية، لتعويض العجز الناتج عن العنف السياسي وضغوط الإفقار، وما ينتج عنها من الشعور بالدونية وفقدان الأهلية والمكانة. وتعمل هذه الظاهرة كأداة ضبط، تفرز سياسة الخداع العام التي من خلالها يتصرّف المواطنون “كما لو” أنهم يحترمون قائدهم. وسياسة “كما لو” هذه، وبينما تظهر أنها غير عقلانية، فهي، في الحقيقة، فعالة سياسياً، فالسياسة ليست فقط الصراع على السلطة المادية، بل هي أيضاً منافسة حول العالم الرمزي وحول إدارة المعاني والاستحواذ عليها.
وفي الحقيقة، يعيش مؤيدو الأسد حالةً مثالية لإنتاج “آلهة بين البشر”. ففي إحدى الخطب الخاصة بعيد الفطر في الجامع الأموي بدمشق، وحضرها الأسد الابن، شبّه الشيخ حسام الدين فرفور الأخير بأنه “يتخلّق بأخلاق الله”، بسبب إصداره عفواً عاماً عن الجرائم. ولنزد من الشعر بيتاً: “بشار ضوء القمر.. زين الرجال من البشر..” ليس مطلع أغنية تتغنّى برئيس النظام السوري في التلفزيون الرسمي، بل أنشودة دينية لفرقة “مدّاح الحبيب” المقرّبة من وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد، رفعت من شأن الأسد إلى مستوى الأنبياء، في دولةٍ يكاد تقديس العائلة الحاكمة فيها يشكل ديناً غير رسمي بين الموالين.
أيضاً، إبّان الثورة السورية، انتشرت مقاطع فيديو لشبّيحة النظام يعنّفون المتظاهرين ويسألونهم “مين ربك ولاك”، ويجبرونهم على الإجابة بـ”بشار الأسد”. إلى جانب استعادة عباراتٍ موازيةٍ انتشرت في الثمانينيات، من بينها “لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث”، و”زال حكم محمد وجاء حكم الأسد”. بالتساوق مع ما سبق، ووسط دوامة الضياع والهلوسة السورية، سيغدو التهليل لشخص فلاديمير بوتين بعد العام 2015 أمراً طبيعياً، بل ومحبّباً، في أوساط المؤيدين المفطومين على “ثدي التقديس”. لتحتفي الصفحات الموالية بعيد ميلاده، وتطلق عليه أوصافاً أسطورية، مثل “قاهر الإرهاب”، و”الرياضي الماهر”، و”الرجل الشجاع “. ورغم استمرار المؤيدين برؤية ذلك في شخص الأسد، فإن هناك شعوراً عميقاً بدأ يتكوّن لديهم بأن الرئيس سيسقط لا محالة، ما دفع بهم إلى المشي في درب عماءٍ موازٍ، وراء شخص “المخلّص الروسي الجديد”.
تأسيساً على ما تقدّم، علينا الاعتراف بأنّ سياسة توظيف النظام السوري التماثيل والصور والرموز والعروض والخطاب البلاغي والشعارات القومية الرنانة، كآلياتٍ لـتمجيد القائد وصولاً إلى تأليهه، نجحت إلى حدّ كبير، فالأسد قويّ لأنّ نظامه قادرٌ على إكراه الناس على أن يكرّروا ما يثير السخرية، ويجاهروا بما لا يقبله العقل. ويشهد الرواج الذي حظِيَ به كلّ من مسلسل “مرايا” و”ضيعة ضايعة” و”بقعة ضوء”، إلى التمكّن من إدراك الظروف المشتركة لعدم التصديق، فمشاهدة الآخرين يطيعون في الحياة اليومية تجعل كلّ شخصٍ يشعر بأنه معزول، بينما يؤشّر التوافق على هذه الأعمال التي تسخر من الخطاب الرسمي على إيمان الجميع بحقيقةٍ تعاكس ما أجبروا عليه. لم يُخدع أحدٌ بهذه التمثيلية الكبرى من التكاذب الجماعي إذاً!
وعليه، لم تكن مجرّد مصادفة أن تبدأ الانتفاضة السورية بتحطيم “الأيقونات والرموز”. ورغم أن الثورة لم تصل إلى حدّ إسقاط الأسد فإنها حطَّمت أصنامه المعبودة وأزاحت، جانباً، هالات الخوف والقداسة التي أحيطت به. في المقابل، أول ما حرص نظام الأسد على إعادة إعماره في المدن المدمرة هي التماثيل التي تعزّز “ألوهيته” بقدر “مُلكيته” البلاد. صفوة القول إنّ ظهور الشخصيات “الكاريزماتية المعبودة” في البلاد المستبدِّة ليس علامة صحّية، أو أمارة على النبوغ، والقدرة على القيادة، بقدر ما يجسّد الانهيار الصريح للبلاد. وفي سورية، تبقى المفارقة الأكثر إيلاماً أنّ الثائرين، على ما يعدّونه مدنّساً، لم يستطيعوا أن يؤسّسوا لنظام إنتاجِ معانٍ جديد، يملأ الفراغ الذي تركه رحيل مقدّس خصومهم، وظلّوا يستنسخون الرموز التي كرّسها الطاغية، بينما استطاع المدافعون عن “ألوهيته” أن يحفظوا عهدهم لنظامِ معانيه بكلّ ما يكتنزه من شرّ، كي لا يُهزّ العرش المقدّس مجدّداً، وتُقوض أركان “الآلهة الخالدة” في المستنقع السوري الراكد.
العربي الجديد