شعر

قصائد مختارة من ديوان: “نسيمٌ قديم من وادي الصّليب”/ نجوان درويش

■■■

جيرة الكرمل

تُجاوِرُ البَحْر، لكنّكَ لا تستطيع أنْ تنادي عليه:

يا جار، تَفضَّل اشربْ فنجان قهوة.

في حين أنَّ الكَرْمِلَ يزورُني مِنَ النّافذة دونَ أنْ يَسْتَأذِنَ أو يُحاول مَرَّةً الدُّخول مِنَ الباب (هو صاحِب المِلْك على أيّة حال).

أحياناً تصِلُني أجراسُ كنيسةٍ مِنْ قاعِ “وادي النّسناس”

وأحياناً يَجيئُني أذانُ الفَجْرِ خافِتاً مِنْ “جامع الاستقلال”

(يَحْمِله النَّسيمُ القديمُ مِنْ “وادي الصَّليب”)

أتباعُ البَهاء لا يَكفّون عن دفع دولارٍ في اليوم

ومَلءِ المَدينةِ بحدائق هاربةٍ مِنْ شيراز.

وفي “الكَبابير”

لا ينهض أتباعُ غلام ميرزا أحمد

مِنْ غَيْبوبَةِ المَديح

وتَصَيُّدِ الحَقِّ في أحاديثَ ومَرْوِيّات.

أمّا الأجاويد، فـ”مُشَوَّقاتُهم” تصِلُني مِنَ الخَلْوة الكبيرة عِنْدَ سَفْحِ حرمون،

مِثْلَ هذه المَناديل البِيض

التي تخبِّئُ ليالي ألف سَنةٍ مِنَ السَّواد. 

لكن،

أنا الذي لا أتبعُ سِوى نفسي

ما الذي أفعله بين الأتباع

بِلا هَدَفٍ بين البَحْرِ والجَبَل

هنا حيثُ يَنتهي الزَّمان؟

■■■

حكاية من شيراز

اقرأ التّاريخ ولا تُصَدِّق المُؤرِّخين.

تقولُ الحكايةُ إنَّ الغازي تيمورلنك كانَ مُنْقَبِضَ الصَّدر وهو في طريقه لاجتياح شيراز. مَنْ يُصَدِّق أنَّ مَنْ قَتَلَ أعداداً لا تُحصى من الَبشَر؛ كانَ يَحسب حِساب بيتين مِنَ الشِّعر، وهو يَخبُّ على حِصانه ويخالُ الحِصانَ يَعْرُج مِثْلَهُ؟

المُؤرّخون ذَكَروا أهراماً مِنْ جماجم الرِّجال رفعها جنودُ تيمورلنك، وذَكَروا أيضاً حادثة لقائه بشمس الدّين محمد، المَعروف بحافِظ الشّيرازي “أشهر مواطن في المَدينة” بتعبير أرنولد توينبي.

برواية هؤلاء، فإنَّ تيمورلنك أرسل جُنودَهُ لإحضار حافِظ فَوْرَ أنْ دَخَلَ شيراز ونَشَرَ خَيْمَتَهُ المَغولِيَّة.

نارٌ لا تَجِدُ مَنْ يُطفئها على جانبَي الطَّريق وجُثَثٌ لا تَجِدُ مَنْ يَدفنها.. وحافِظ يبدو ساهِماً كما لو أنَّه رأى ما رآه مِراراً، والجنودُ يأخذونه لِيَمْثُلَ في خيمةِ الغازي.

تيمورُ  ـ الذي تَشَوَّق طويلاً لتلك اللَّحظة ـ هاله أنْ يَرى الحالَ الزَّرِيَّة التي وَصَلَها “لسانُ الغَيْب”. “عفو الآلهة يا شيراز” قالها في نَفْسِهِ الغازي الذي لَمْ يُوَقِّر إلهاً سِوى القسوة. وسرعان ما سأل الشّاعرَ وهو يُشير إلى ثيابه المُقطَّعة ـ وتلك ظنَّها الغازي نَقيصةً: – مع هذي الحال، تُهْدي سمرقند وبُخارى، عاصمتَي مُلكي، لربِّ الهندوس نَظيرَ شامتين في وجه مَنْ تُحِب؟ ـ قالها تيمور بنبرةٍ تَفْتَعِلُ الغضب.

حافِظ وقَدْ عَرَكَتُهُ الأيّام وحَصدت السِّنينُ قَمْحَ قَلْبِهِ مِراراً، ما كانَ ليُربِكَه أيّ نوعٍ مِنَ الطُّغاة وقَدْ عَرَفَهُم جميعاً.

الأنفاسُ المَحبوسةُ للحَرَسِ والحاشِية لَمْْ تَتَوَقَّع جَوابَ حافِظ وهو يَرْمقُ تيمور بنَظْرَةٍ خَفيضة لا يَنظُرها إلّا مُعَلِّمٌ مُشْفِق نحو صَبيٍّ يَئِسَ مِنْ تأديبه: – الإفراطُ الذي تتحدَّثُ عنه هو ما أوصلني إلى الحالِ الذي تراه.

في ابتسامةِ حافِظ وهو يَرُدُّ هِجْرَةُ ملايين الطُّيور وإيابها عبر سُهوب غَرب آسيا. في نظرتِهِ إلى الأرض نهضةُ شُعوب الشَّرْق بَعْدَ مِئاتٍ مِنَ السِّنين المُحْتَرِقَة. وبكلماته واجَهْنا غُزاةً ما زالوا يسألوننا ويستغرِبون إفراطَنا: – مع هذه الحال الزَّرِيَّةِ، ما زِلتُم تُقاوِمون؟

وما زِلنا نستطيع أجوبةً

وما زِلنا نبتسمُ

ونَضْحَكُ

ونُفاجئكِ أيّتها الحاشية المَهزومة.

اقرأ المُؤرِّخين ولا تُصَدِّق التّاريخ.

■■■

في مخيّم شاتيلا

تَقِفُ في القَيْظ أمامَ “بيتها” في مُخيَّم شاتيلا

تقولُ لك العجوزُ السّامقة التي خَرَجَتْ مِنْ حيفا وعُمرها تسعة أشهر

وهي الآن في الخامسة والسِّتين:

“عايشين بِذُلْ هون”…

في كلمتين

في لحظتين تقولُ لك كلَّ شيء

أنهرٌ من النَّدم

سنواتٌ طويلةٌ من العَذاب

تَغرَقُ في الكلمتين.

تَنْظُرُ إلى ظهرها المُنحني

وتتذكَّرُ أشجارَ الصّنوبر في الكَرْمِل

تَنْظُرُ إلى عينيها

وتتذكَّرُ سماحةَ الشّاطئ

تشكو لك مِنْ ماءِ البَحْرِ المَالح في الحنفيّات

ولا تستطيعُ سِوى أنْ تَبْتَسِم وأنتَ تَفْتَحُ قَلْبَكَ لهذه الطِّفْلَةِ المُلتاعة

(أنت تَعْرِف أنَّك قَدْ لا تَراها ثانيةً

وأنّك حينَ تعودُ إلى حيفا لن تَجِدَها هناك).

ماذا قالت لك وهي تُودِّعك

ماذا وعدتها وأنت تودِّعها

كيف أمكنك أنْ تَبْتَسِم دونَ اكتراثٍ لأسيجةِ الحُدودِ الشّائكة

وهي تَلتفُّ على قلبك ـ ومياهُ البَحْرِ مالحة…

كيف أمكنكَ

كيف أمكنك…

يا ابن الحرام!

■■■

اسم هذه الآلة

ما اسمُ هذه الآلة التي يعزِف عليها رافي شنكار؟

ما اسمُ هذا الثَّور المُجنَّح في سماءِ قيامةٍ مبعثَرةٍ؟

ما اسمُ هذا البُراق يَنزِل عن ظهره رسولٌ في ساحة بيتنا؟

ما اسمُ هذه الآلة

ما اسمُ هذه الآلة

يا رب إنَّ هذه لأخطر مِنْ مُفاعلٍ نووي

في رقبة شنكار آثامٌ أكثرَ مِمّا في رقبة دولة

ما اسمُ هذه الآلة

ما اسمُ هذه الآلة

إنَّ هذا الجَذَلَ ليجعلُ العدلَ وراءنا

وهذا الفرح لأكبر مِنْ هذي القُلوب المَرْصوصَةِ كالقوارير على أدراج منزلك

يا رب

ما اسمُ هذه الآلة

ما اسمُ هذه الآلة التي يَصْعَدُ بها إليك

رافي شنكار؟

■■■

حكاية صغيرة عن إغلاق البحر

حينَ تَدْخُلُ ذلك الشّارعَ، على طَرفِ المَدينةِ

الذي يُوصِلُ للمخيَّم

إِنْ وجدتَ أطفالاً في خُروجِهم مِنَ تلكَ المَدرسةِ التي تُشْبِهُ السِّجن

إِنْ وجدتَ سبعةً مِنهُم يَقِفونَ على عتبة الصَّمت ويُراقِبون

إِنْ رأيتَ طفلاً نحيلاً وعينين تلتمعان بِكُلِّ ذكاء الأرض

تكونُ قَدْ عَثَرْتَ على صديقي “تيسير”.

إِنَّ لأهله بَلَداً سُرِقَتْ في وَضَحِ النَّهار

ويُمْكِنُك أنْ تَلْحَظَ يَقظةَ عصافيرها في عينيهِ القَلِقَتَيْن

كما أنَّ بُيوتَ الإسمنتِ

وذكرى الصَّفيحِ

والأصواتِ المُخيفةَ لـ لاسلكي جيشِ الاحتلال أثناء أسابيع “مَنْع التَّجوُّل”،

كلُّها لم تُنْقِص ذَرَّةً مِنَ التماعِ عينيه.

كانَ رأى البَحْرَ مَرَّةً واحِدة ولا شيء يمكن أنْ يُقنعَهُ ألّا يَذْهَبَ إليهِ ثانيةً.

في أيّام مَنْعِ التَّجوال الطَّويلة كانوا يُصَبِّرونَهُ بالوعود: “حينَ يُرفع مَنْع التَّجوُّل سنأخذك إلى البَحْر”.

وحينَ رُفع “مَنْع التَّجوُّل” أخيراً ذات عَشِيّة، قالوا له: “البَحْر مُغلق الآن، اذهب للنوم”.

ليلتها لم ينم وهو يتصوَّر عجوزاً

يُغلِقُ البَحْرَ بإنزال لوحٍ كبير مِنَ الصَّفيح

يمتدُّ مِنْ نَجمةِ الأُفق إلى رَمْلِ الشّاطئ

ويُحكِم إغلاقه بقفلٍ كبير (أكبر مِنْ قفل دُكّان والِدِه في شارع عُمر المُختار)

ثُمَّ تخيَّل العجوزَ عائداً إلى بيته.

حينَ تَدْخُلُ ذلك الشّارع على طَرفِ المَدينةِ

الذي يُوصِلُ للمخيَّم

إنْ لَمَحتَ عينين تَلتَمِعان بِكُلِّ ذكاء الأرض

اسألهما أرجوك إنْ كان البَحْرُ في غَزَّة قَدْ “فَتَحْ”

أمْ ما زالَ مُغْلَقاً.

■■■

ظهورات طه محمد علي

طه محمد علي

الشّاعرُ الذي فاق جميع جدّاتنا حناناً

وفاقهن حُزْناً وجَمالاً،

ما زال رَغْمَ مَوْتِهِ مِنْ سَنَتَيْن

يَستَيْقِظُ في منطقةٍ لا أستطيع تَحديدَها بأعماقي

أسمعُه في بعضِ الصَّباحات

يَضْحَكُ مِثْلَ رضيعٍ غَرِدٍ في مَهْدِهِ

أو يَتَصَبَّر ويُتَمْتِمُ وتَطْفِرُ دُموعُه

كَمَنْ ثَكِل الدُّنيا بأسْرِها.

هذا الصَّباح، سَمِعْتُهُ بوضوح وعرفتُ أنَّه هو

حينَ ناداني باسمي وأسرَّ لي الاعترافَ التّالي:

“يا نجوان لا تستهن بي،

أنا أمكَرُ مِنْ أنْ أذهب عن هذه الدُّنيا

الذي حَمَلوهُ ودَفَنوه في “مقبرة النّاصرة الجديدة” ليس أنا

ـ يا صاحبي وكاتم أسراري ـ

أنا اختبأتُ في تلك المِنْطَقَةِ السِّرِّيّة في أعماق أصدقائي

كما اختبأتُ في حَناجِرِ العصافير الباحثة عن رِزْقِها

واختبأتُ في الصُّبَّير – لم يَعُد يَجْرَحُني شوكُهُ

قرّرتُ أنْ أُواصِلَ حياتي إلى ما لا نهاية

في القُلوبِ الأكثر صفاءً مِنْ مِياه “نبع القسطل”

(أنا أيضاً كنتُ أُفكِّر بالخلود)

كما أنّي ـ وهذا بيننا ـ سأختبئُ في أحلامِ أكثر النِّساء فِتْنَةً

وسأعرف كيف أُشاغِلُهُن

بما راكمتُه مِنْ خِبراتٍ ومَعارِفَ بأسرار القُلوب

والأمر الأخير إيّاك ثُمَّ إيّاك أنْ تَعْرِفَ عنه “أُم نزار”!

إذا أردتَ أنْ تلقاني، ابحث عنّي على باب روضةِ أطفال في مخيَّم

أو مدرسة ابتدائيّة في استوكهولم

كما ستكون لي ظهورات في دورِ حضانةٍ بأذربيجان وطشقند وأكواخِ صفيحٍ في ساحل العاج، وسأتهجّى لغاتٍ لا حصر لها

المَوتُ حرَّرني مِنْ قيود سجّانينَ صغار

مِثْلَما الشِّعْر يُحَرِّرُ أصحابَهُ مِنَ الزَّمن ـ سَجّانِنا الكبير”.

ثُمَّ راحَ طه يُغَنّي بإيقاع خَفيض

وصوتُهُ يَتلاشى

بينما كنتُ أمسَحُ عن خَدّيَّ دُموعَ جَدّتي.

■■■

قصيدة عَرَضيّة بسبب امرأة

وصلتُ إلى هذه المَدينة بسبب مَوعِدٍ عَرَضي مع امرأة

وها هي سنواتٌ سَبْعٌ تَنقضي وأنا فيها

تلك المَدينة أيضاً قَطَعْتُ الجسر إليها بسبب مَوعِدٍ (كانَ هو الآخَر عَرَضياً)

كلُّ مكانٍ ذهبتُ إليه كانَ بسبب امرأة

ورَغْمَ جميع مَزاعمي الجوفاء أنَّ النِّساء بِلا ذِمام

فإنَّ دليلي كانَ دائماً امرأة

ولدتْني امرأة

وامرأةٌ أمسَكَتْ أصابعي وكَتبتْ

(وما زالت تَكْتُب حتّى بَعْدَ موتِها) 

كلُّ بيتٍ سَكَنْتُهُ

بَنَتْهُ امرأة أو ملكتهُ امرأة أو خسرتهُ امرأة

بلادي امرأة

وهذه الإلهة الأُم التي أجُرُّ الصَّليب في شوارعها امرأة

وحينَ كانت جُثَّتي في العَراء ممنوعةً مِنَ الدَّفْن

ـ في حياةٍ سابقة ـ

خرجتْ لَهُم مِنَ الظَّلام لتدفنني امرأة

حينَ لَمْ يُصَدِّقني أحَد

صَدَّقتني امرأة

وبسبب امرأة عِشْتُ الحياةَ بالطُّول والعَرْض

مِنَ المُؤسفِ حقّاً أنَّ الرِّجال وَحْدَهُم سَيَدْفِنونَني.

■■■

أربعة أمتار

في تلك الغُرْفَةِ

التي كانت أربعةَ أمتارٍ × أربعةِ أمتار

بَساتينُ تَمْتَدُّ إلى اليونان

مُدُنٌ فارسيَّةٌ بأكمَلِها

قندهار وبُخارى بمآذنها الأسطوانيّة

كانَ فيها الوَجْهُ الشَّماليُّ مِنَ القَفْقاس وتلكَ الظِّلالُ الخضراءُ مِنْ أرارات،

ومقابرُ كثيرةٌ كنتُ أتجنّب دائماً البحثَ في هُويّة أصحابِها، وهوادجُ تتمايلُ في المُعَلَّقات

ونساءٌ بمناديل بيضاء أطول مِنَ العُصور.

وكانَ البُعْدُ والقُرْبُ في تلك الغُرفَةِ حَجَرَيْ رَحىً

يَدورانِ على النَّفْس

أقنيةُ موسيقى كانت تجوسُ، ولا يُحصَون أُولئك المُوسيقيّون الذين أقاموا فيها لياليَ وواصلوا طريقَهُم…

فلاسِفةٌ يائسون أيضاً وشُعراءٌ هاربون مِنْ بُيوت أُمّهاتِهم

وروضاتُ أطفالٍ تُديرها جِنّياتٌ مُتقاعِدات.

كانَ فيها ما لا أقبِضُ عليه الآن ولا أعرفُ حتّى أنْ أُسمّيه

كانت خَلاءً على الأرض ومُحْتَشِدَةً بالأُمم كأنّها عُرْسٌ في صَباحِ يَومِ القِيامة.

يا مُحمَّد

أين ذهبتْ كلُّ هذه الأزمنة؟

خَلْقٌ كثيرون يَتَعَلَّقون قُصوراً مُشَيَّدةً في الجَنّة

أمّا أنا فلا أبحث

هذا الصَّباح

سِوى عن أربعةِ أمتارٍ × أربعةِ أمتار

وحدي أعرِفُ كيف ضَيَّعْتُها

وحدي أعرِفُ… لن أستَعيدَها.

■■■

فلتنتهِ الرّحلة ههنا

حينَ كانت بغداد تَضيقُ عليه وحاناتُها تَعْبِسُ في وجهِهِ

كانت نَفْسُ الحَسَن بن هانئ تَطْلُبُ السَّفَر.

في تلك الأيّام كانَ المَديحُ نوعاً مِنَ الحَجيج الأرضيّ يَقصِد فيه الإنسانُ إنساناً،

يُسْقِط عليه ويُؤمِّلُ عِنْدَه، ما نَقَصَ مِنْ مُروءةِ مُعاصريه وما قَصَّرَ كَرَمُ زمانِه.

كانَ والي مِصْر في زَمَنِ الرَّشيد يُدعى الخَصيب

ولولا أربعُ قصائدَ وبِضعُ مقطوعاتٍ في ديوان الحَسَن لَمَا سَمِعْنا باسمِهِ رُبّما

ولَمَا عَرَفْنا أنَّ “المِنيا” قامت في زمانِه وأنَّها كانت تُدعى “مِنية الخصيب”.

لَمْ يَستَطِع الحَسَنُ إغفاءةً رَغْمَ تَعَبٍ وكؤوس نبيذٍ جَعَلَتْهُ يَرى رُؤوس النِّياق تَشُقُّ فَجَرَ “الدِّجيل” كأنَّها شَواهِدُ قُبورٍ مُدْلِجَةٍ تَتْرُكُ “الأنبارَ” خلفَها والفُرات.

في الفَجْرِ الثّالثِ مِنَ الرِّحلة

كانت النِّياق تشربُ مِنْ “ماء النّقيّب” ـ  وتلك صحراءُ النَّقَبِ جارةُ سيناءَ الفَتيّة ـ

وعِنْدَما اكتمل الإشراق كُنَّ يُوافينَ كنائس تَدْمُر رَوانيَ الأعناق نَحْوَ بَهائها

أمّا سُرعَتُها وهي تأكلُ الطَّريقَ نَحْوَ “أهل الغوطتين” فَقَدْ جَعَلَتْهُ يَظُنُّ أنَّ للنِّياق الهوجِ أكثرَ مِنْ ثأرٍ عِنْدَ أهلِ دمشق. 

وفي الصَّباح الرّابع كُنّ في “الجولان” يَطْرُقْنَ صَخْرَها وقَدْ تَجَرَّحَتْ حَلَماتُ ضُروعِها وهي تَشُقُّ تلك الفِجاجَ الجَبَلِيَّة.

أمّا اللَّيل الذي قاسَيْنَهُ دونَ بيسان، فليتنا نُقاسي ألفَ لَيْلٍ مِثْلَهُ ونَصِلَ إليها.

مِنْ عِنْدِ نَهر أبي قطرس قُرْبَ الرَّملة لم تُكْمِل النِّياق الصُّعودَ نحو “البَيْتِ المُقَدَّسِ”

ورُحنَ يَطلُبنَ بقيعَ هاشِم وقَبْرَهُ

حيث كانت غَزَّةُ نائمةً عِنْدَ غُرَّةِ الزَّمان ساهيةً عَمّا يُحاكُ لها مِنْ كوابيس.

“ولمّا أتَتْ فسطاط مِصْرَ أجارَها

على رَكْبها أنْ لا تَزالَ مُجيرُ

مِنَ القومِ بسَّامٌ كأنَّ جَبينَهُ

سَنا الفَجْر يَسْري ضَوؤهُ ويُنيرُ…”

فَلْتَنْتَهِ الرِّحلةُ ههنا

فَلْتَنْتَهِ عِنْدَ هذين البَيتَين

لا تَتَذَكَّر

ولا تُرَدِّد غَيرَهُما

وهُم يُودِعونك “غُرْفَةَ التّوقيف”

في مَطار القاهرة.

■■■

زيارة حافظ

“عَرَبٌ” و”فُرْسٌ”.. ما هذا الدَّجَل؟

انظرْ في المِرآة يُطالعك وجهي.

البغالُ تَقطعُ السُّهوبَ في آسيا

حامِلةً اسمي

وأنا متّكِئٌ هنا قرب كأسي.

كلماتي تُطرَّز على الحرير أو تُكتبُ بالذَّهَب

هذا آخر ما يَهمُّني.

أنا متّكِئٌ هنا في هذه “المَيْكدة”

في كأسي ذَهَبُ الأيّام

وحَريرُ العُصور.

غُزاةٌ لا يَكُفّون عن سؤالي:

“لِمَ بذَّرتَ سمرقند وبخارى؟”

لو يعرفون

بودّي أنْ أهَبَ مَكَّةَ والقُدس أيضاً لربِّ الهندوس!

أمّا حيفا فسأتركُها لك، لِتَهَبَها لِرَبِّ مَنْ تُحِب

أنتَ يا مَنْ أيقظتَني مِنْ نَومِيَ الطَّويل في “الحافِظيّة”.

“فرسٌ” و”عَرَب”.. ما هذا الدَّجَل؟

أتطلَّعُ في المِرآة فلا أُبصر سِوى وجوهِكم

تَصِلُني مِنَ الشّام مُغَسَّلةً بالفَجْر وثَرى مَيْسَلون…

إنَّهُم يَنْهَبونَ المَتاحف

وشمسُنا ما زالت سوداءَ تَطفو على نَهْرِ بغداد

عَرَبٌ وفُرْسٌ بَعْدَ كلِّ هذا!

دَعْني أعودُ إلى مَرْقَدي، لِمَ أيقظتَني؟

مَنْ سَلَّطكَ عَليّ مِنْ وَراءِ العُصور؟

بودِّي أنْ أَهَبَ الفُرْسَ كلَّهُم والعَرَبَ كلَّهُم…

إلى رَبّ الهندوس!

■■■

أُغنية للكرمل

حيفايَ مَنْفايْ

لا تَبْتَئس أيّها الكَرْمِلُ

إنْ شَحَّ عَنْكَ النَّدى

جُدْ بالنَّدى،

أنتَ النَّدِيُّ الأوَّلُ

حيفايَ مَنْفايَ

والبَحْرُ مُعتَقَلٌ

لا تَبْتَئس

أيّها الكَرْمِلُ.

 العربي الجديد

——————————-

“جائزة سارة ماغواير للشعر” إلى نجوان درويش

أعلن “مركز ترجمة الشعر” في لندن مساء أمس الثلاثاء عن فوز الزميل والشاعر الفلسطيني نجوان درويش بـ”جائزة سارة ماغواير للشعر” عن كتابه “تَعِب المُعلَّقون” (Exhausted on the Cross، أو “مُرهَقون على الصليب”، بالإنكليزية)، الذي صدر، العام الماضي، بترجمة الكاتب والمترجم الأميركي من أصل مصري كريم جيمس أبو زيد، عن دار نشر “نيويورك ريفيو بوكس”، بتقديم الشاعر التشيلي راؤول زوريتا، الذي وصف الكتاب بأنه “يمثّل واحداً من ذُرى لحَظات شعره، ومن ذُرى الكتابة في زماننا”.

في حين قال بيان لجنة التحكيم الكتاب بأن العمل “مجموعةٌ رائعة لواحد من أفضل الشعراء المعاصرين في الشرق الأوسط. تُعيد قصائد درويش الأنيقة الحياةَ إلى ثيمات التهجير والإيمان والصراع؛ وهي قصائد نُقلت ببراعة في ترجمة كريم جيمس أبو زيد”.

وكانت القائمة القصيرة قد اشتملت إلى جانب كتاب درويش، خمسة أعمال أُخرى نُقلت إلى الإنكليزية من العربية والكورية والإسبانية والفرنسية، هي: مختارات من شعر سليم بركات “تعالي إلى طعنةٍ هادئة”، ترجمتها الناقدة والأكاديمية اللبنانية هدى فخر الدين برفقة جايسون إيوين، و”هجرات: قصيدة، 1976 ـ 2020″ للمكسيكية غلوريا غيرفيتز بترجمة مارك شافر، و”فانيليا غير متوقّعة” للكورية الجنوبية لي هيامي بترجمة سوجه، و”النهرُ في المعِدة” للكونغولي فيستون موانزا موجيلا بترجمة ج. بريت ماني، و”مخزن للنجوم” للموريسي خال تُرابولّي بترجمة نانسي ناومي كارلسون.

وشارك هذا العام في عضوية لجنة تحكيم الجائزة، التي تُمنح كل عامين لأفضل كتاب شعري لشاعر على قيد الحياة من أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، كل من: الشاعر والروائي والناقد الصيني المقيم في بريطانيا كيت فان، والكاتب وأستاذ الفلسفة في “جامعة سيتي” بنيويورك كيو لي، وترأستها الأكاديمية والمترجمة عن الإسبانية روزاليندا هارفي، التي وصفت الكتاب في تصريحات صحافية بأنه “يُبيّن بشكلٍ جلي حدود اللغة وضرورتها، ويدعونا إلى أن نسأل، معاً، كيف يمكننا المضي قدماً في تجربة الألم، وفي ما هو أبعد منها”.

هذا وقد وصل “تعِبَ المُعَلَّقون” ــ الذي صدر أصلاً بالعربية عام 2018 عن “دار الفيل” و”المؤسّسة العربية للدراسات والنشر” ــ في الأشهر الماضية إلى القائمة القصيرة لجوائز أُخرى، هي “جائزة الترجمة القومية” التي تمنحها “جمعية المُترجمين الأدبيّين الأميركيّين”، وإلى القائمة القصيرة لـ”جائزة أفضل كتاب شعري مترجم” في أميركا لعام 2022 التي تمنحها مؤسسة PEN الأميركية؛ ووصل أيضاً إلى القائمة القصيرة لـ”جائزة ديريك والكوت للشعر” في الولايات المتحدة.

كما حظي الديوان، منذ صدور ترجمته الإنكليزية، باحتفاء نقدي ملحوظ، إذ وصف الناقد والأكاديمي خالد راجح في موقع مجلّة “الأدب العربي” (بالإنكليزية) أسلوب درويش بأنه “واحدٌ من أكثر الأساليب التي يمكن التعرُّف إليها في الشعر العربي اليوم”. ومن التنويهات العديدة التي حظي بها الكتاب، تصدُّرُه اختيارات فريق “مكتبة بولز” Powell’s Books لأفضل عناوين عام 2021؛ إذ أبرزت عنوانَ الكتاب على واجهات فروع مكتباتها. وأشار تقديم فريق المكتبة، التي تُعتبر أكبر سلسلة مكتبات مستقلّة للكتب الجديدة والمستعمَلة في الولايات المتّحدة، إلى أن “الشاعر يستكشف العالم بجمال لا يُنسى” في “مجموعة شعرية تقدّم زمنها وتتجاوزه… هنا قصة الإنسان بكل مآسيها وأشواقها”.

وفي ملحق التايمز الأدبي أشار الناقد الإيراني الأميركي أمير حسين راضي إلى أن المجموعة بينما “تتحدث عن الظلم الذي تعرّض له شعب فلسطين في التاريخ الحديث” فإن الشاعر “يتطلع إلى استعادة أسلافه الشرقيين بعد أن أدى ثقل التاريخ إلى قطع الصِّلات الحضارية بين أقطاب الشرق: العرب وبلاد فارس والهند”. كما اختارت مجلة Ars Notoria البريطانية، الكتابَ ضمن أفضل اثنتي عشرة مجموعة شعرية نُشرت بالإنكليزية في 2021، وقد كتب الناقد الهندي البريطاني يوغيش باتال على موقع المجلّة: “مِثل أفضل النماذج الشعرية، لا يتعلّق الأمر بالصراخ؛ إنه يبقينا مفتونين بتقاطر وانثيال الاستعارات الآسرة والسرديات الموحية والأساطير المحتشدة مع واقع لا يُنسى. يقترن التاريخ ومفارقاته مع حاضرنا لخلق تجربة من التعبيرات والرسائل القوية. واحدة من قصائده يمكنها أن تُبرز كونية الشاعر”.

بدوره قال كريم جيمس أبو زيد في تصريحات صحافية بعد الإعلان عن فوز الكتاب بـ”جائزة سارة ماغواير للشعر” أن تجربته، التي بدأت مع ترجمة قصائد نجوان درويش قبل أكثر من عقد، تمثّل محطة مهمّة في مسيرته كمترجم، وأن عمله الشعري يمثّل بالنسبة لأبو زيد “الجمع بين الروحي والسياسي… ضمن طيف واسع من الموضوعات والأساليب والأصوات الداخلية، ودائماً ما أكتشف جديداً في شعره الذي يتطور بشكل تصاعدي”.

يُذكَر أن كريم جيمس أبو زيد أكاديمي وكاتب ومترجم أميركي من أصل مصري، يحمل درجة دكتوراه في الأدب المقارن ودرّس الكتابة واللغة في عدّة جامعات بكاليفورنيا،  وله إصدارات نقدية وترجمات عديدة عن العربية، من بينها: “أغاني مهيار الدمشقي” لأدونيس، ورواية “الاعترفات” لربيع جابر، ويعمل حالياً على استكمال ترجمته لـ”المعلّقات السبع”. وسبق لأبو زيد أن ترجم لنجوان درويش ديوان “استيقظنا مرّةً في الجنة” الذي صدر عام 2014 بعنوان Nothing More to Lose عن “نيويورك ريفيو بوكس” أيضاً، ورُشّح، هو الآخر، لجوائز عديدة، من بينها جائزة “أفضل كتاب شعري مترجم” الأميركية لعام 2015، كما اختير ضمن قائمة NPR لأفضل منشورات عام 2014 في الولايات المتّحدة.

في حين صدرت للزميل نجوان درويش في العقدين الأخيرين ثمانية إصدارات شعرية، من بينها: “لستَ شاعراً في غرناطة” و”كلّما اقتربت من عاصفة” و”كرسي على سور عكّا”، و”استيقظنا مرّةً في الجنّة”، وصدرت مجموعة من كتبه مترجمة إلى لغات عديدة، من بينها: الإسبانية (خمسة كتب) والإنكليزية (ثلاثة كتب) والإيطالية (كتابان) واليونانية والفرنسية والصينية والألبانية والمقدونية والكرواتية والسلوفينية وغيرها.

تتوزع قصائد “تعِبَ المُعَلَّقون” على سبعة فصول تحت العناوين التالية: “نسيمٌ قديم من وادي الصّليب” و”كأنَّ جملاً هجَّ وعلى ظهره الكعبة” و”عامل مُياوَمَة ينتظر” و”بينما كان الرّبُّ يضع لمساتِه الأولى على اليابسة” و”جندي متنكِّر بعد حربٍ لم يصله خبرُ انتهائها” و”كلُّ كلمة تنظر إليّ وتقول: أنت طردتني”، و”مِراراً عند المُنعطفات في الكوابيس”. وهي فصول وصفها الشاعر والناقد الإسباني ترينو كروز في مجلة “بانيبال” بأنها: “ذات بناء موسيقى آسر يمتد عبر أقسام الكتاب السبعة، التي لكل منها استقلاليته، وعبرها يكشف الشاعر عن حواره الحر الذي لا يرحم مع الزمن”.

■■■

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى