كتابان بالعنوان نفسه… من سرق من؟/ سعيد خطيبي
عام 2005، صدرت رواية بعنوان «جويلاند» لكاتبة أمريكية مغمورة تُدعى إيميلي شوتز. وكما كان متوقعاً لم تحظ تلك الرواية باهتمام من القراء، بحكم أن اسم الكاتبة غير معروف، في بلد يصدر ما لا يقل عن 300 ألف كتاب كل عام، وحيث الأدب صناعة مستقلة بحد ذاتها، ولا تخضع – فقط – لاشتراطات فنية.
لكن صيف 2013 حصل أمر غريب. تلقت إيميلي مكالمة من ناشرها يخبرها فيها أن المئات من القراء قد اقتنوا روايتها من موقع أمازون، وأن الطلب على عملها في تزايد، بل إنه ينوي إصدار طبعة جديدة من العمل. هكذا ظلت تلك الرواية ثماني سنوات كاملة في الظل، لا أحد اهتم بها، ثم فجأة تسلقت سلم أفضل المبيعات. وقبل أن تكتمل فرحة الكاتبة وتحتفي بالحدث مع ناشرها، اكتشفا أمراً جعلاهما يشعران بإحباط، فالقراء قد تهافتوا على كتابها ليس لأهميته أو نظير رغبة منهم في مطالعته، بل لأن ستيفن كينغ، أصدر ذلك الصيف رواية بالعنوان نفسه. وأولئك القراء الذين اشتروا روايتها، إنما اشتروها بالخطأ وهم يسرعون إلى اقتناء عمل كينغ الأخير حينها. كان بوسع هذه الكاتبة المغمورة أن تضاعف من حيز الاهتمام بنفسها بأن تثير قضية تُشابه العنوانين، وأن تدعي أن ستيفن كينغ قد انتحل عنوان روايتها، وقد كانت السباقة في إصدار عمل بعنوان «جويلاند» لكنها لم تفعل لأن صيغة هذه العنوان مركبة، وليست عبارة يمكن أن تسجلها في مؤسسة حقوق المؤلف، كما أن مسألة العنوان في أي عمل أدبي أو فني ليست حكراً على مؤلف بعينه ـ إلا في حالات نادرة ـ هكذا رغم أن من «سطا» على العنوان كان واحداً من أشهر كتاب أمريكا، بل أشهر الكتاب في العالم، فإن تلك الكاتبة المغمورة فهمت حدودها ـ كما يفرضها عليها القانون ـ في حين نسمع، من حين لآخر، كتاباً مغمورين آخرين يتصيدون أدنى فرصة ويشرعون في الترويج لأنفسهم بإثارة حكايات من قبيل، إن الكاتب الفلاني قد سرق منهم عنوان كتاب أو رواية. مع أن توجيه اتهام من هذا النوع ليس أمراً هينا، مع ذلك فإن الاستسهال بات بضاعة رائجة، ليس بين كتاب عرب. وقبل أيام فازت رواية «أن تعيش على عجل» لبريجيت جيرو، بالغونكور، أرقى الجوائز الأدبية في فرنسا. مع أن عنوان روايتها ليس مبتكراً، فقد سبقها إليه فيليب بيسون عام 2016 وأصدر رواية بالعنوان نفسه. لكن لا أحد أثار هذه المسألة، نظراً إلى أن العنوان ليس ملكا لهما، بل هو ـ كما أشارا في روايتهما ـ مقتبس من جملة تُنسب إلى جيمس دين: «أن تعيش على عجل وتموت شاباً».
الحق والتعدي
مسألة تشابه العناوين بين الكتب ليست مسألة جديدة، بل تعود إلى عقود. كم من كتاب يحمل عنواناً من قبيل: حب، سماء، زهرة، خريف، إلخ؟ لكن هناك قوانين تفرز السرقة من الحق المشاع، ومن غير فهم هذه القوانين والإحاطة ببنودها يصير من السهل اتهام من نشاء بالسرقة الأدبية ظلماً. يحصل مرات أن تقتبس رواية عنواناً لها من أغنية شهيرة، ثم يتكرر العنوان في رواية أخرى، فيصير الكاتب الثاني محل تهمة، أو رواية بعنوان مقتبس من مثل شعبي، ويدعي صاحبها أن العنوان ملكا له حصراً. إن هذا الخلط في المفاهيم وسوء التقدير وعدم الاطلاع على قوانين الملكية القانونية، يحيلنا إلى غابة من سوء ظن الكتاب بعضهم بعضا، حيث أن كل كاتب يرجح كفة الأنانية على كفة العقل، ويدعي ما ليس له، بل يُقنع الآخرين بأنه على حق على الرغم من كونه على باطل. وصارت هذه المعارك تدور على ورق الجرائد أو على جدران السوشيال ميديا، فلا أحد يمتلك جرأة مسألة القانون في هذا الموضوع، أو تكليف محام للتأكد من سلامة موقفه، أو ما يوجهه من تهم للآخرين، بل إن كل كاتب يعتقد امتلاك اليقين المطلق، واليقين المطلق مناقض للأدب، يبحث عن إثارة الاهتمام من خلال توجيه سهامه ـ بالخطأ ـ إلى كاتب آخر، بحجة أنه سرق منه عنوانا، أو أنه انتحل ما يظن أنه ملكية خاصة له.
بين العنوان والفحوى
هناك مثل فرنسي يقول: «اللباس لا يصنع الراهب» كما أن العنوان الجيد لا يعني كتاباً جيداً، وأن نظل نتخاصم في شأن العناوين ـ دون العودة إلى القوانين، فتلك حجة كي ننسى الأهم: هو مناقشة فحوى الكتاب. صحيح أن الكتاب الجيد وعندما ننتهي من مطالعته سنتذكر، بالخصوص، عنوانه، وإلى اليوم نتذكر عناوين مثل: «الشيخ والبحر» «اعترافات قناع» أو «مدام بوفاري» فالعنوان هو العتبة الأولى صوب النص، لكن ليس من حق كاتب الادعاء بأنه صاحب الحقوق الحصرية، ما لم يكن العنوان صيغة مكتملة، جملة مثلاً من ابتكاره، أما إذا كان كلمة التقاطها من رصيف أو من طاولة مقهى أو من أغنية أو من حوار في فيلم، فتلك مسألة أخرى، وجب عليه الانتباه إلى أنه يدعي ما لا حق له فيه. كما يحصل أن نصادف تشابهاً في بعض الروايات، تشابهاً في أسماء شخصيات أو في الأمكنة التي تدور فيها الأحداث، وهذا لا يعني أيضاً بالضرورة أنها مسألة سرقة أدبية، فهناك عوامل أخرى لا بد من أن تجتمع كلها قبل أن نوجه أصبع الاتهام إلى أحد بأنه سرق رواية. في ظل هذه الفوضى التي باتت تحكم المشهد العربي، ومع تضاعف خوف الكتاب أو الناشرين من أن يتهمهم أحد بسرقة عنوان، صرنا نلاحظ كتباً بعناوين غريبة، بل أغرب من الغرابة، عناوين لا أدبية، بل يتعسر في بعض الأحيان حفظها أو تذكرها، كل ذلك يحصل من باب تفادي شر الاتهام، وفي سياق عدم اطلاع بقوانين حقوق المؤلف. ففي القرن الأول من الميلاد أصدر الشاعر الإغريقي أوفيد كتابه الشهير: «فن الحب» ومن يومها وهذه الصيغة تتكرر في كتب أو في عنونة مجاميع شعرية، فهل يجب أن يقوم أوفيد من مرقده فيسترد حقوقه؟ بل الأصح أن الصيغة صارت حقا مشاعاً. مثلما أصدر القديس أوغستين كتابه «اعترافات» فصارت كلمة مكررة في المئات من الكتب. إن ما يشاع من صراعات موسمية بسبب عنوان كتاب ما كان لها أن تحصل لو تمعنا قليلا في حقيقة أننا نعيش في عالم مفتوح، وما يفكر فيه كاتب في الشرق قد يطرأ على بال كاتب في الغرب، فالمشترك هو الأدب، والعنوان جزء منه، بينما النقاش كان يجب أن ينصب على فحوى الكتاب لا على لباسه.
روائي جزائري
القدس العربي