كم لوحة يجب أن نحرق لسدّ ثقب الأوزون؟/ عمار المأمون
اقتربت نهاية العالم، وخراب الكوكب وشيك. أما نحن المشاهدين والمتفرجين “الـ99%” -كما يقول الشعار-، مشغولون باللعب والسوداويّة الساخرة، ومشاهدة مصيرنا على نيتفليكس “لا تنظر إلى أعلى-2021″، والتعاطف مع الناشطة غريتا تونبيرغ والإعجاب بشجاعتها، والتفكير بأجرة المنزل، ونسبة ارتفاع فاتورتي الغاز والكهرباء.
نظن بأننا نقوم بواجبنا تجاه أمّنا الأرض، نفصل النفايات من أجل تكريرها، نستخدم مصاصات كرتونيّة، ونتجنب استخدام أكياس البلاستيك في البقالية. لكن الواضح من وجهة نظر براغماتية أن ما نقوم به لا يكفي. النهاية مُحتمة، والتحديق بها يستفزّ المُهتمين والناشطين، كلّ التعهدات الدولية بخفض نسبة انبعاث ثنائي وأحادي الكربون وتقليل استخدام الوقود الأحفوري مجرد مجاملات. السعوديّة ستحول الصحراء إلى ثلج قريباً، انبعاثات احتراق الغاز والبنزين في أوروبا مستمرة، باريس ستكون مدينة لا يمكن ضمنها قيادة السيارة دون التهديد بالشتم، فمسالك الدرجات قصّت الشوارع وقلصتها، مع ذلك السيارات موجودة. أما الولايات المتحدة الأمريكيّة فالنفط والبنزين فيها مقدّسيْن، هما وقود الحياة.
موقف ناشطي البيئة من الوضع القائم شديد الراديكالية، وقضيتهم محقة تماماً: إنقاذ الكوكب من الهلاك، حتى لو عنى ذلك التضحية بحياتهم، لكن الواضح أنهم حولوا جهودهم من مهاجمة ناقلات النفط وقطع طريقها في البحر (كما تفعل Green Peace)، إلى تخريب الأعمال الفنية. بصورة ما، تحولوا من منظمات ومجموعات ذات استراتيجية وتمارس الضغط القانوني والمجتمعي إلى Free lancers يعملون لمصلحتهم، وهدفهم تحميل المسؤولية للـ”متفرجين”، لا للملوثين الأساسيين.
إعادة توزيع اللوم، والانتباه
تتمثل الراديكالية بالرهان على الخطر (الواقع على جسد الناشط) والفعل الانتهاكي (تهديد اللوحات الفنية أو ما يمتلك قيمة رمزيّة) لجذب الانتباه (وفقط جذب الانتباه). إذ قام مؤخراً أحد الناشطين (لم تكشف السلطات عن هويته) في بريطانيا باقتحام ملعب تنس، وإشعال النار في نفسه احتجاجاً على استخدام الطائرات النفاثة الخاصة، تلك التي يحلّق بها الأغنياء، لا جمهور التنس. قبل ذلك قام ناشط بالتنكر كشخص مقعد (لم تكشف السلطات عن هويته أيضاً)، ودخل متحف اللوفر، ثم هاجم أمام أعين الجميع الموناليزا، طابعاً على وجهها فطيرة كريمة بيضاء، والهدف توعية المشاهدين المشدوهين مما يحصل. مؤخراً قامت ناشطتان في بريطانيا (20 عاماً و21 عاماً) بمهاجمة لوحة “عباد الشمس” لفان غوخ الموجودة في المعرض الوطني في لندن، وتلطيخها بالحساء المُعلّب، أمام دهشةِ وهلعِ الموجودين.
يجب القول بداية إن اللوحات لم تتأثر كونها محميةً بالزجاج، والناشط تعرّض لحروق طفيفة في يده، وأن استخدامنا لكلمات هجوم، تخريب، انتهاك، والانفعال العاطفي المرتبط بها لا علاقة له بالتُّهم القانونية الموجهة للناشطين؛ نستخدمها هنا بمعناها اللغوي لا القضائي.
المشترك في “الهجمات” السابقة، التي تشبه فن الأداء، أنها كما قلنا سابقاً، تنقل اللوم من الملوثين الكبار (المصانع، الدول، محطات تكرير النفط) إلى المستهلكين بوصفهم المسؤولين المباشرين عن أضرار الكوكب والمتعامين عما يحصل فيه. المفارقة أن هذه “الهجمات”، تحاول جذب الانتباه في عالم قائم على اقتصاد الانتباه ومحاولة احتكار العينين. أي أن الشماهدين تمكنوا من ترك شاشة هواتفهم، وتأملوا لوحة تحوي زهرتين، أو بورتريه لامرأة مشكوك بهويتها. تأتي الهجمة لتأسر انتباههم، وتشير إلى الخطر القريب الذي يمس الجميع، والمتمثل بخراب الكوكب. إذ تطرح هذه الهجمات سؤال: كيف يكمن تذوق الفن والعالم على وشك الاحتراق؟
المشكلة ليست فقط في إعادة توزيع اللوم، بل في استهداف الفن الراقي (لنسمِّه هكذا تجاوزاً) ضمن معقله وحصنه الحصين المتمثل بالمتحف، المكان المصمم للحفاظ على التراث الإنساني، وتوزيع القيمة على الأعمال الفنيّة، وتشكيل الهوية الوطنيّة. هذا الفن نفسه، كُرّس على أنه مهم من قبل المتحف والنقاد، وسوق الفن، والذوق، وغيرها من العوامل الثقافة البحتة، وتأتي هذه الهجمات بوصفها محاولةً لسحب الشرعية وتشتيت الانتباه للإشارة إلى الحدث الجلل. لكن السؤال هنا: لم هذه الأعمال بالذات؟ هل تحطيم وتخريب هذه الأعمال حركة مجازيّة؟ أم ذات قيمة حقيقية وأثر؟ لا نعلم.
ما نعلمه أن سوق الفنِّ فضاءٌ آمن للتهرب الضريبي وغسيل الأموال وإخفاء الثروات، والكثير من الأعمال المعاصرة تساهم في ترسيخ هذه الصيغة، فالمعروف أن سعر الفنّ لا ينخفض، هو في ارتفاع دائم. والسؤال: هل تشويه لوحة لكارافاجيو في فيلا بورغيزة في روما سينقذ البيئة؟ طبعاً لا. سيثير الأمر الحنق والشتائم. لكن لم لا تُستهدف أعمال أولئك الذين تصرف الملايين لأجلهم، كجيف كونز وتماثيله العملاقة المنتشرة في أنحاء العالم؟ لم لا تسرق الجمجمة المرصعة بالألماس التي أنجزها دايمين هيرست وتباع “فراطة” ويتبرع بثمنها؟ أو لم لا تُحطَّم تماثيل ريتشارد أورلانسكي الذي يصنف نفسه بالتاجر؟ الأعمال المعاصرة، غالية، ولها جمهور واسع، ومتوافرة بكثرة، وسهلة التخريب. والأهم أنها الدليل الأوضح على أن الموهبة ليست مهمة، بل المال الذي يمكن من خلاله استئجار مشغل يحوي مجموعة من الحرفيين.
يمكن التحذلق والقول إن نشطاء البيئة يستهدفون الأثمن، فكما الكوكب أغلى شيء نملكه، لوحات فان غوخ ودافنشي لها ذات القيمة، وكالأرض نفسها، لا يمكن استبدالها. لكن المشاهدين والمتحف ليسوا المُتسببين المباشرين في تخريب المناخ، يمكن اتهام المتحف والمعرض بغسيل أموال المخربين الكبار، لكنهما هامشيان فيما يخص البيئة. الأهم أن خسارة هذا الأثمن قد تُحوِّل نشطاء البيئة إلى إرهابيين إن أرادت السلطات تجاهل أنهم يقومون باحتجاج سلميّ، فهذه الأعمال تدخل ضمن “التراث الوطني” (Patrimoine) وتخريبه جريمة جديّة، لا كما يحصل الآن، حيث العقوبات رمزيّة. هنا نتساءل: هل هناك خوف من العقوبة القانونيّة؟ وإن كان الجواب “لا”، فالأجدى بالناشطين الهجومُ على مصانع البيرة التي تهدر المياه، ومصانع الأزياء السريعة، ومصانع السيارات، والمطارات الخاصة. لأن المصنع يلوِّث، والآلة تلوِّث. أما المتحف فلا يلوِّث، واللوحة لا تلوِّث.
الجميل والمُجمّل
يفترض الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو في كتابه “انتهى الفن” أننا نعيش في عالم مفرط في “تجميله الاصطناعي والصناعي” لا “جماله”، فكل شيء “مُجمّل” ، الوجه، الجسد، الإعلان، واجهة المحل، غرفة الانتظار في عيادة طبيب الأسنان. كل ما نختبره يحاول أن يأسرنا لنشعر بأننا “أفضل”، لا كي نتذوق “الجمال”، بل لنشعر بالرضا الآني ونركز انتباهنا على المرصع واللمّاع والنظيف.
من هذا المنطلق يمكن إعادة النظر في الناشطية البيئية وعلاقتها بالفن. المهاجمون يستهدفون ما هو مرسخ كـ”جميل”، لا ما هو “مُجمّل”، أي يسعون لتخريب اللوحات التي لا نجادل بقيمتها، لا لأنها جميلة، بل بسبب الاتفاق التاريخي والفني حولها. وهنا المشكلة. لم لا يهاجمون “المُجمَّل”، كواجهات محلات برادا، أو شانيل، أو حتى زارا، أو معرض سيارات لامبورغيني، لم الهجوم على ما يشعرنا بإنسانيتنا واستثناء ما يسلبها منّا.
تفادي المُجمّل يعني استثناء الصناعة من ورائه، وتجاهل استغلال اليد العاملة والتلويث، والضرر المباشر على الكوكب. أما التركيز على الجميل، فهو استهداف للمعاناة الفردية، ونظريات الفن، والهابيتوس، وكل المصطلحات التي نوظفها في علم الجمال. لمَ لوم المستهلكين/الجمهور وتجاهل المؤسسة الصناعيّة؟
أزمة الجيل Z
هناك شأن آخر لا ندري مدى صحّته، وهو فكرة يمكن تدليلها، فحواها أن الهجمات الأخيرة قامت بها فتاتان بعمر العشرين، أي أنهما ولدتا في زمن الإنترنت موجود فيه، لا تعرفان “الما قبل”. مساحة الاهتمام والتأثير لديهما تتمثل بالتريند، والأثر اللحظي، والانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحشد الإعجابات.
هما تعرّفان عن ذاتيهما بـThey، لكن العربية لا تحوي هذه الصيغة المحايدة، ولضرورة المعنى هنا، لا يمكن استخدام المُثنى (هما). فهل أشير إلى شخص أم الاثنين؟ لذا، هما من الجيل Z، الذي لا نعلم إلى الآن مستقبله. هذا الجيل نفسه، أسير الشاشة والتيكتوك و”البوزات” كما نرى في صورتهما بعد أن خربتا العمل. ذوقهما مبني بأسلوب مختلف. هما من جيلٍ صاحب أحكام مطلقة على العالم، جيل الهويات وسياسات الجندر، الذي لا مشكلة لديه بأن تمتلك الصين معلوماتِه الشخصية، لكنه يقاطع تويتر وفيسبوك بسبب سياسات الخصوصية؛ زمن الانتباه ضمن منظومة التأثير التي ينشط ضمنها الجيل Z هنا شديد الأهمية.
هؤلاء، يتصفحون ويشاهدون الـReel، ولا يتأملون، أو يحدقون بالعمل الفني. هم ببساطة، بانتظار الصورة التي ستتم مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي. ما يثير الغيظ أن إحداهما قالت في لقاء معها، أنهما أرادتا بدايةً استهداف لوحة لآندي وارهول، لكن لوحة غوخ “أجمل”. هذا التعبير شديد الأهمية، أي ما جذب انتباههما هو الأجمل والأصيل، لا التجاري والقابل لإعادة الإنتاج والصناعي، حسب تعبير بينجامين.
من المذنبون؟
نعود إلى مشكلة اللوم والذنب، هل نحن كأفراد ننتمي لكل الأجيال مسؤولين عن تلويث الكوكب وتخريبه، ضمن الشكل الاقتصادي والسياسي القائم، لا. لسنا نحن. المسؤول الأول هو الدولة وشكلها الاقتصادي الذي يوظف الكثيرين ويؤمن لهم حياتهم. المسؤول الثاني هو المصنّع، والشركة العابرة للقارات، ومحطات تكرير النفط، ومراكز حرق الوقود الأحفوري؛ تلك التي (للمصادفة) لا تحوي متفرجين، ولا نسمع عنها، ولا نعرف أماكنها، لكننا نحمل ذنوبها.
تحميل اللوم للجمهور والمتفرجين يمكن مناقشته. الشهود الصامتون على مجزرة عليهم لوم، فكيف لو كان الحال في الشهادة على خراب الكوكب؟ لكن الفرق، أن الشهود على خراب الكوكب، ليسوا صامتين، والأهم، لا يعرفون ما الحل. كيف يمكن لجمهور مباراة تنس أن يؤثر على سوق الطائرات الخاصة؟ كيف يمكن لجمهور المتحف، الذي يدّعي أنه ذواقة أو يريد تقطيع الوقت والتأمل أن يخفض من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي؟
كل الأسئلة السابقة تجيب عنها الناشطتان بعبارة “جذب الانتباه”. حسناً جُذب انتباهنا؛ فتاتان بيضاوتان كويريتان تريدان الانتصار للمظلومين والجياع في العالم (حسب قولهما)، وإيقاف استخدام النفط. شكراً لكما. لا أحاول هنا التقليل من أهمية قضية المناخ، لكن إن كان الحشد وجذب الانتباه فعالاً، فلدينا أقبية تعذيب يذاب فيها الناس بالملح في سوريا، وأجهزة استخبارات في مصر تتملك البلاد وتعتقل الناس لأجل كلمة، وبلد يستضيف مونديالاً على أجساد العمال، واحتلال يحاصر ويقتل ويغتال، بماذا تنصحونا كي “نجذب الانتباه”؟
رصيف 22