صفحات الحوار

ناندا محمد: أحلم بأن أصبح شجرة. جزء كبير من أحلامي، أن أبقى قادرة على التمثيل

دلير يوسف

تحلم بتوقف الحرب في هذه الحياة، كما تحلم بامتلاك مسرح خاص بها في يوم من الأيام، وهي المتصوّفة في عشق المسرح، والحاصلة على “وسام الاستحقاق الفرنسي الوطني للفنون والآداب برتبة فارس” هذا العام. تحدثنا ناندا في هذا الحوار عن سعادتها بهذا التكريم والفروق بين دمشق والقاهرة وعن علاقتها مع المسرح وأحلامها الخاصة والعامة على السواء.

كاتب ومخرج وصحافي من سوريا، أخرج عددًا من الأفلام السينمائيّة منها: “منفى”، و”بانياس: البدايات”، و”أمراء النحل”، و”القصيدة الأخيرة التي أراد شتيفان بوخفالد أن يكتبها”. صدر له مطبوعًا: “حكايات من هذا الزمن” (2014)، و”صباح الخير يا أحبّة” (2020)، و”قاعدة الخوف الذهبيّة” (2022). مقيم حالياً في برلين- ألمانيا.

لو كانت أليس في بلاد العجائب، وكان بإمكانها تحقيق أي حلم تريد لاختارت أن تكون شجرة، لأن “الشجرة واضحة وغامضة في نفس الوقت” أو “ربّما أحبّ أن أكون شجرة، لأنّني متعلقة بسوريا” البعيدة/ القريبة عن القاهرة، حيث تعيش الفنانة والممثلة المسرحيّة ناندا محمد، والتي ترى أن ما يميّز مصر “هم المصريون أنفسهم”.

في حوار صريح معمّق مع حكاية ما انحكت، تحكي ناندا محمد عن أحلامها، وعن أوجه التشابه بين مدينتي القاهرة ودمشق، وعن أوجه الاختلاف، وعن حبها للمسرح. استمر التحضير لهذا أيامًا عديدة تبادلنا خلالها عدد من الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، من ثمّ سُجل هذا الحوار وحُرّر، لينتهي إلى شكله الحالي.

حصلتِ خلال هذه السنة على “وسام الاستحقاق الفرنسي الوطني للفنون والآداب برتبة فارس”، كأول ممثلة سوريّة، وذلك تقديرًا لموهبتك ولعملك المسرحي وتميّزك كممثلة مسرحية في مشاريع عربية وفرنسيّة، مثلما جاء في رسالة السفارة الفرنسيّة في القاهرة، حيث تقيمين منذ سنوات طويلة. كيف استقبلتِ الأمر، وما الذي يعنيه أن تحصلي على هذا الوسام؟

شعرت في البداية بسعادة غامرة لكنّني تفاجأت به أوّل الأمر، لم أكن أتوقع ذلك، وخاصة أنّ الأمر حدث في بدايات انتشار جائحة كورونا. أخبرتني وزارة الثقافة الفرنسيّة بالأمر، لكن السفارة الفرنسيّة في القاهرة أجلت الحفل بسبب إلغاء التجمعات خلال فترة الجائحة.

كانت تلك السنة من أصعب السنوات التي مرّت عليّ، وعلى كلّ العاملين في المجال الفني، وتحديدًا العاملين في العروض الحيّة. كانت تلك هي السنة الوحيدة منذ عام 2000، التي لم أقدم فيها أيّ عمل مسرحي.

جاء الوسام في وقت كنتُ أشعر فيه بالحاجة إلى نوع من التفاؤل. وقد أثّر فيّ الأمر بشكل كبير لأنّ الذين تقلّدوا هذا الوسام سابقًا هم شخصيات ثقافية رفيعة المستوى، ولكن أيضًا لأنّه جاء تقديرًا لعملي المسرحي؛ العمل المسرحي الذي يعتبره الكثيرون في العالم الناطق باللغة العربيّة فنًا غير مهم، على الأقل من الناحية الجماهيريّة، لذلك كان من المهم أن أرى التقدير من جهات مختصة ومهمة مثل وزارة الثقافة الفرنسيّة.

ليس الوسام هو الذي يجعلني أؤمن بما أقوم به في المسرح، شغفي وإيماني بالمسرح سبقا الوسام بكثير، لكن عندما يكون هناك تقدير جماهيري أو من المؤسسات المعنيّة، فإنّ المرء يشعر بنوع من الإطمئنان والسعادة بتقدير الآخرين لهذا العمل. الأمر الآخر المهم بالنسبة لي أنّني أرى الوسام تقديرًا لأيّ مسرحي/ة سوري/ة بذلوا مجهودًا كي يستمروا بالعمل في البلد الجديد الذي يعيشون فيه. أرى الوسام تقديرًا لجيلي بأكلمه الذي خرج من سوريا، وكان من الصعب عليه أن يكمل في أمكنته الجديدة.

كان بالنسبة إليّ، تقديرًا أصيلًا، وخاصة أنّني حصلت على الوسام في مصر، بلدي الثاني، الذي أعيش فيه منذ عشر سنوات. حتى كلمة السفير أثناء التسليم كانت مؤثرة فعلًا، فضلًا عن وجود الكثير من الناس الذين أحببتُ وجودهم، وكذلك الاهتمام من قبل الجمهور والصحفيين كان مؤثرًا بشدّة، ربّما أكثر من الوسام نفسه.

ناندا محمد على المسرح خلال عرض “كل حاجة حلوة” إخراج أحمد العطار، تصوير مصطفى عبد العاطي، تُنشر بإذن خاص من الممثلة ناندا محمد.

مثلما ذكرنا، تقيمين في القاهرة منذ سنوات طويلة، شاركتِ في مسرحيات ومسلسلات مصريّة عديدة. ما هو المختلف في الحياة المصريّة عن الحياة السوريّة، أقصد في الحياة العامة وكذلك في الفن، سواء في المسرح أو في التلفزيون؟

الحياة في مصر مختلفة عن الحياة في سوريا، لكن هناك بالتأكيد الكثير من النقاط المشتركة. في سوريا كنت أعيش في العاصمة دمشق، والآن أعيش في العاصمة المصريّة القاهرة، لذلك يمكن أن أحكي عن تجربتي مع هاتين المدينتين.

الاختلاف الأساسي هو المساحة وعدد السكان، فالقاهرة أكبر بكثير من دمشق، وهذا يخلق صعوبات يومية في الحياة، مثل التنقل وأمور الحياة اليوميّة الأخرى. الحياة في القاهرة ليست سهلة لكنّها غنيّة جدًا، وفيها تنوع كبير جدًا، وعلى جميع الأصعدة.

أعيش في القاهرة منذ عشر سنوات، وأعرفها جيدًا، ومع ذلك هناك الكثير من الأشياء التي ما زلت أكتشفها. دائمًا ما يوجد شيء غامض في القاهرة، يجعل عندي الرغبة الدائمة في اكتشافها. كذلك الأمر، توجد في المدينة تناقضات كبيرة، فهي هائلة وكبيرة وقاسية، لكنها في نفس الوقت حنونة ودافئة ومريحة، وخاصة أنّ الشعب المصري يحبّ السوريين كثيرًا، لذلك كسوريّة أشعر بالترحيب الدائم بشكل حقيقي من معظم الناس، وبذلك يكون اكتشاف المدينة سهلًا قدر الإمكان.

أرى أنّ الشيء الأساسي الذي يميز مصر هو، هم المصريون أنفسهم. أستمد قوتي بشكل ما منهم، من كيفيّة قدرتهم على مواجهة مصاعب وقسوة الحياة بهضامة وروح مرحة وذكاء.

أمّا الحياة العامة في سوريا، وأقصد الحياة قبل 2011، إذ لا أستطيع الحديث عن سوريا في الأيام الحاليّة لأنّني لا أعيش هناك. بشكل من الأشكال الحياة في دمشق كانت أبسط من الحياة في القاهرة. بالطبع توجد صعوبات وتوجد مشكلات لكنّها بشكل عام أبسط من الحياة في القاهرة، كانت الأمور تجري بسلاسة أكثر. السوريون جديّون أكثر من المصريين قليلًا، جديّون أكثر في العمل مثلًا، بالطبع لا أعمّم، لكن هذا ما لاحظته من وجود السوريين في بلدان شتى، دائمًا ما يحاولون أن يعملوا بجد.

في الحياة الاجتماعيّة، أعتقد أنّ المجتمع المصري محافظ أكثر من المجتمع السوري. أمّا فيما يخص الحياة الفنيّة، سأحكي من تجربتي الشخصيّة، والتي كانت في سوريا قبل العام 2011 وفي مصر بعده. الأمر الأساسي الذي يميّز الحياة الفنيّة المصريّة عن السوريّة هو الكم الهائل الموجود في مصر. هناك كم هائل من الممثلين والمخرجين، وهناك منافسة أكبر بكثير من تلك الموجودة في سوريا في المسرح وفي التلفزيون وفي السينما.

في المسرح المصري هناك عدد كبير جدًا من الفرق المسرحيّة، بينما في سوريا لم يكن تشكيل الفرق المسرحيّة مسموحًا به، بالتالي لم يكن من الممكن اختبار العمل المسرحي ضمن الفرق المسرحيّة مثلًا. كانت توجد مجموعات مسرحيّة لكن استمرار عملها كان صعبًا. كنت في سوريا أعمل بشكل شبه دائم مع مجموعة مسرحيّة لكن الأمر مختلف عند العمل مع فرقة مسرحيّة مُسجّلة بشكل رسمي ولديها كلّ الميزات الموجودة.

ناندا محمد في مسرح At Theater du Soleil، تُنشر الصورة بإذن خاص من الممثلة.

هناك فرق آخر في آلية إنتاج الأعمال، في مصر الأمر مختلف بشكل كبير جدًا عن سوريا. لكن أعتقد أنّ الكم الهائل من إنتاج الأعمال الفنيّة في مصر لا يعني بالضرورة سويّة فنيّة عالية، بالطبع هناك أعمال ممتازة، لكن هناك أعمال متوسطة الجودة وأخرى سيئة. هناك تنوّع كبير حتى في هذا المجال.

لكن في سوريا، هناك عدد قليل جدًا من الإنتاجات، مما خلق قوة لدى الفنانين الأفراد، الذين استطاعوا إثبات أنفسهم حتى خارج سوريا. وذلك لأنّ الفنان السوري اضطر أن يطوّر نفسه بنفسه، لعدم وجود جهات داعمة ومؤسسات معنية.

العاملين في المسرح في سوريا، وأقصد العاملين فقط في المسرح، أعدادهم قليلة جدًا، بينما في مصر الأمر مختلف.

في العمل التلفزيوني، أرى أن صناعة التلفزيون في مصر أعرق وأثبت. لذلك نرى آليات الصناعة هناك مختلفة كثيرًا، على صعيد الإنتاج والتنفيذ والتسويق، بغض النظر عن جودة النتائج وتقييمها.

عرضتِ مسرحياتك في الكثير من بلدان العالم، ما الذي قد تغيّره ممثلة، أو قد يغيّره ممثل، في أدواتها وفي أدائها عندما تختلف خشبة العرض وتختلف المدن، وخاصة عندما تختلف لغة العرض المسرحي عن اللغة التي يحكي بها الجمهور؟

عندما أعرض في أماكن مختلفة، في بلدان غريبة عني، أو بلغة غير لغتي، يجعلني أعمل، وبشكل بديهي أحيانًا، على تطوير أدواتي، وأسأل نفسي أسئلة ربّما نسيتها لفترة طويلة، لأنّ المرء في هذه الحالة يخرج من منطقته المريحة التي اعتاد عليها. أعتقد أنّ على أيّ ممثل/ة أن يخرجوا من أماكنهم المريحة ويتحدّوا أنفسهم خارج الأطر التي يعملون فيها، إن كان من ناحية الأداء أو من ناحية فهم النص أو غير ذلك.

عندما أعمل بغير لغتي أو بلغة لا يفهمها الجمهور أو في بلد آخر، أعطي أقصى ما عندي. هذه التجارب الكثيرة تجعلني أقول لنفسي: يجب أن أعطي أقصى ما عندي حتى إلى جمهور البلد الذي أعيش فيه ويحكي اللغة التي أقدّم فيها العرض. أشعر وأرى وأستمتع بإعطاء أقصى ما عندي، متخذة الطريق الصعب، وليس الطريق السهل الذي أعرفه وأعتدتُ عليه، كي لا أتحوّل إلى آلة تكرّر أشياء معينة بطريقة محدّدة ومبرمجة عليه سابقًا. على العكس، أحاول (وأعتقد أنّ على أيّ ممثل/ة أن يفعلوا كذلك) أن أستغل خبرتي وتقنياتي وأدواتي من أجل اكتشاف جوانب جديدة في نفسي لا أعرفها، وللتعرّف على جوانب جديدة في النص، وفي الشخصيات التي أقوم بتأديتها، وحتى من أجل تطوير طريقة التفكير.

هذه التجارب لا تغيّر فقط في وعيي الفني، بل أيضًا في الوعي الإنساني، وهذا مهم جدًا بالنسبة إليّ. فكلّما تعرّفت على أشخاص جدد وعلى ثقافات جديدة أكتشفُ أشياء لم أكن أعرفها. وأيضًا يُظهر لي الأمر عالميّة الفن، أيّ شخص في أيّ مكان يُمكن أن يتواصل معي في شيء شخصي أحكيه بلغة لا يعرفها، هذه لحظة استثنائية بالنسبة إلي.

من المفهوم أنّ الممثلات والممثلين يتقمصون شخصية مختلفة في كلّ مشروع جديد (فيلم، مسرحيّة، مسلسل)، لنتخيل أنّك في عالم خيالي بالكامل، أليس في بلاد العجائب مثلًا، ماذا تريدين أن تكوني، ولماذا؟

أول ما خطر في بالي عندما قلت السؤال هو رغبتي في أن أكون شجرة. لا أعرف لماذا، عليّ أن أفكر في الأمر أكثر. أنا عادة أحبّ الشجر، وأحسّ بالراحة عند رؤية الأشجار. أشعر أنّ الشجرة واضحة وغامضة في نفس الوقت.

ربّما أحبّ أن أكون شجرة، لأنّني متعلقة بسوريا، البلد الذي عشت وكبرتُ فيه، فربما أشبّه نفسي بالشجرة التي لا نرى جذورها، لكنّها مهمة جدًا بالنسبة إليها. ربّما، من يراني في القاهرة يراني مندمجة مع الحياة هنا وسعيدة فيها، لكنهم لا يعرفون كم مهمة هي جذوري بالنسبة إلي، إذ لا أستطيع أن أعيش دونها.

أيضًا ربّما أحبّ الشجر المثمر الذي يعطينا ثمارًا، فأحبّ أن أشبّه نفسي بالشجرة لأنّني أحبّ أن أعطي الناس ثمارًا، حتى أولئك الذين لا أعرفهم. دائمًا أشعر بأنّ عندي علاقة قوية مع الأشخاص من حولي، حتى مع الأشخاص البعيدين. ربّما أيضًا لأنّني أحبّ الأماكن المفتوحة والهواء الطلق.

أحبّ أن أكون شجرة. لن أختار شيئًا آخر.

بماذا تحلمين؟ وأين تريدين أن تصلي؟ أحكي لنا قليلًا عن أحلامكِ الكبيرة، وعن أحلامك الصغيرة.

جزء كبير من أحلامي هو أن أبقى قادرة على التمثيل، أو بالأحرى أن أبقى قادرة على الاستمتاع بالعمل الذي أقوم به، وأن يُوجد أناس يستمتعون بعملي. هذا هو الشيء الأساسي بالنسبة إلي. ربّما يعود الأمر إلى الفترة الأولى لخروجي من سوريا وتوقفي عن العمل لفترة قصيرة، والمشاعر التي انتابتني حينها.

أحلم وأتمنى أن تكون عائلتي الشخصيّة وأصدقائي الذين من حولي بصحة جيدة، وخاصة في فترة ما بعد كورونا، وأن نبقى قادرين على اللقاء.

أحلم أن أُنشئ مسرحًا خاصًا بي، لدي خطة لذلك، لكنّه يبقَ حلمًا بعيدًا.

لدي حلم آخر، ربّما كان ساذجًا قليلًا، لكنّني أحلم بأن تنتهي الحروب، ليس فقط في سوريا بل في كلّ العالم.

أحلم كذلك أنّ يكون هناك ضمانات فنيّة وماليّة للفنانين والفنانات في بلادنا.

حكاية ما انحكت

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button