من يوميّات ميّت/ نزيه أبو عفش
القبرُ جميلٌ ومريحٌ وشديدُ الإتقانْ.
لا بردَ هنا . لا حَرَّ هنا . لا ضوضاءَ كما في حيِّ إقامتنا الأولى .
لا أفكارَ، إذا فكّرناها، تجعلنا نحزنُ أو نندمُ .
لا شيءَ بتاتاً يُشْعِرنا أنّ الموتَ قريبٌ.
والطقسُ : ظلامٌ لا يتبدّلُ…..
.. .. .. ..
حسناً! كنتُ أُحبُّ الظلمةَ ، لكنْ ليس بهذا المقدار.
وأُبغضُ أصواتَ الناسِ ، ولكنْ يؤلمني الصمتُ الكاملُ.
وأُحبُّ مجالسةَ الغرباءِ لأَكرهَهم وأقولَ: “سأحيا وحدي..”
لكنْ ، حين يغيبونْ ،
يؤلمني شكلُ الكرسيّ الفارغِ. يؤلمني كأسي المفردُ. يؤلمني أنّ البيتَ نظيفٌ (أين هو الوحلُ البشَريُّ على السجّادةِ؟). تؤلمني الأشياءُ، هنا وهناكَ، مُرَتّبةً مثلَ الموتِ. ويؤلمني أني وحدي: أَنْظمُ ألحاناً لا تُسمَعُ، وأفكّر في الناسِ وفي أني «وحدي» لا أَقْدِرُ أنْ أَلعنَ أحداً.
•
لا أحدَ هنا، في هذا البيتِ القبرِ، أقولُ لهُ: دعني!
لا امرأةَ أُغازلها وأصبُّ عليها غيظي. لا بائعَ خبزٍ أو مشروباتٍ أَتَهَدَّدهُ برجالِ التموينِ أساطينِ الرشوةِ. لا أصحابَ لكي نقترحَ النخبَ الأوّلَ ونَسُبَّ ملائكةَ الدولةِ ونُسَلّي أنفسنا باستظهارِ الأشعارِ وتلفيقِ الأفكارِ ولعبِ البوكر.
ثم ، لأنّا لسنا من أنصارِ الناموس البشريِّ ، نؤلّفُ حزباً عصرياً يحترمُ دياناتِ الماعزِ والأعشابِ وزهرِ «السيكلامانْ»، ونُخطّطُ لإقامةِ يوتوبيا الأشجار..
وإذْ نَنْعسُ ، من كثرةِ ما فكَّرنا وشَرِبنا ، نتصافحُ (مثلَ الأصحابِ) ونتّفقُ على مشوارِ الصيدِ.. صباحَ الأحدِ القادم.
أبداً ! لا شكوى.
القبرُ جميلٌ ، رومانسيُّ الطّابعِ ، ومريحٌ للأعصابْ.
وكثيرٌ من أزهارِ خميسِ الأمواتِ يغطّي السقف. ولا أحدٌ يقلقني في نومي، أو يَتوعَّدُني بالسَّوقِ إلى…. أو يرغمني -وأنا مصدوعُ القلبِ – على فعلِ كذا… أو تدبير ِكذا….
لكنْ «لا أحدٌ؟!» .. / لا أحدٌ .
لا موسيقى. لا أوراقٌ. لا كتبٌ (أين: الذاكرةُ،وأهلُ التابوتِ، وإنجيلُ الأعمى؟..). لا أحلامٌ (أين جناحايَ المَرِحانَ – جناحا الغولةِ- وأنا أتَرنّحُ مبهوراً بهما وبنفسي فوق هواءِ الفجرِ، لأسطو قدّامَ جميعِ الخلْقِ على صندوقِ البلديةِ؟..)
لا صوتٌ. لا رائحةٌ تَخِزُ القلبَ.. ولا قلبٌ.
لا غضبٌ. لا أحزانٌ بائتةٌ تَحفرُ في الأعصابِ وتفتكُ بالعقلِ. وحتى لا مرضٌ كي نزعمَ قدّام رئيسِ الجبّانةِ أنّا لا نَقْدِرُ أنْ…..؛ لا أنفلونزا مُقْرِفةٌ كي نتحاشى تقبيلَ الـ….؛ لا أطعمةٌ ينقصها الملحُ، ولا بعضُ نبيذٍ يَفْسدُ إذْ يُنسى يوماً أو أكثرَ. لا أمٌّ تزعلُ. لا إخوانٌ ، إخوانُ دمٍ وجنونٍ ، نخْتصِم وإيّاهم حول بقايا الميراثِ.
ولا جيرانٌ محترمونْ
يسترقونَ الشهقاتِ على شبّاكِ البيتِ الخلفيّ لكي يكتشفوا ، مجّاناً ، بهْجةَ أفعالِ الحبّ الحيّْ….
لا أخبارٌ تُروى. لا صفقاتٌ. لا أموالٌ يُجهَلُ مصدرها. لا أسلحةٌ. لا أفيونٌ يتسلّلُ في السرّ على مرأى من أَعينِ وبنادقِ ضبّاطِ الجمركِ. لا حرسُ حدودٍ. لا جلاّدونَ (إلهي، ما أجملَ هذي الدنيا!..). لا خوفٌ من موتٍ (كي نعرفَ أنّا أحياءٌ ونُقَدِّرُ شأن العيشِ). ولا يأسٌ (كي نتَوَعّدَ أنفسنا بالموتِ إذا حاولنا أن نبْتزَّ الأهلَ وآلهةَ الحبِّ)… / ولا حبّْ.
لا تلفزيوناتٌ (كي نتسلّى بمتابعةِ نشاطاتِ الموتِ ونهجو أربابَ الدول العظمى).
لا أممٌ تتقاتلُ. لا غاراتٌ. لا غازٌ محظورٌ. لا فسفورٌ. لا أباتشي أو B.52. لا دمُ أمواتٍ يَندلِقُ من الشاشةِ.
لا قَرَفٌ.
لكنْ: ضجرٌ (ذلك أبشعُ ما في بيت الموتْ)
ضجرٌ كلّيٌّ.
صمتٌ كليٌّ.
وظلامٌ كليٌّ..
وأنا : لا أَحلمُ.
•
/ قال الراوي:
ثم اْبْيَضَّ الحلْمُ فما عدتُ أرى أحداً أو شيئاً.
لا أحدَ ولا شيءَ سوايْ..
أتسكّع في البهو الخلفيِّ لإسطبلِ الموتِ
فأحسبني ميْتاً../.
•
.. وأنا وحدي.
وحدي في هذا القصرِ الرومانتيكيّ الخالي.
لا أسمعُ أصواتَ التفجيرِ ولا آهاتِ المفجوعينَ..؛ ولا مَن يبكي.
ما مِنْ أبنيةٍ تتداعى فوق رؤوسِ الناسِ لكي أَتَوَنَّسَ بعويلِ الناسِ.
أَما مِن أحدٍ في الخارجِ يدعو الجيشَ إلى حربٍ؟!..
أين البَوّاقونَ سُعاةُ الموت ؟ وأين مغاويرُ مُشاةِ البحريةِ؟
أينَ بكاءُ الخائفِ وأنينُ الجرحى؟
أين الموتُ يباغتُهم في نَوْماتِ الفجرِ
فيجعلهم يبكون ويبتهلون: «نريـدُ حياةً..»؟!
ماتَ الناسُ جميعاً. وأنا وحدي.
وحدي: لا أحدَ ولا شيءَ سوايَ..
ولا أعرفُ أنّ أحلُمَ.
(حين يكون الإنسانُ وحيداً بالكاملِ، لا يمكنه حتى أن يحلمَ. ما مِن أحلامٍ تأتي من لا أحدٍ أو لا شيءٍ..
الناسُ هُمُ : الأحلامْ..)
هل مات الناسُ جميعاً؟
مات الإخوةُ والأعداءُ؟ وحرّاسُ القصرِ؟ وغلمانُ الميتمِ؟ ومرابو الهيكلِ؟ وجهابذةُ القانون الدوليّ؟ وأربابُ الصفقات المشبوهةِ غيرُ المشبوهين؟ ومات البنكُ وربُّ البنك وناهِبُ أموالِ البنك؟ ومات المحمومُ بما يملكُ (أو ما يرغبُ أن يملكَ)؟ ماتت رائدةُ فنونِ العيش : الحمّى؟ مات الناسُ جميعاً؟…
: مات الناسُ جميعاً.
مات السادةُ والأشرافُ، ومات الخِصيانُ، ومات الرعيانْ.
مات رجال الكهنوت سماسرةُ الربّ، ومات الإمبراطورُ الثوريُّ، ومات «الياورُ» كَنّاسُ الغيمِ وحاملُ أختامِ الإمبراطور الثوريّْ.
مات أساتذةُ الفلسفةِ دهاقنةُ الميتافيزيقا ومواعينُ الجهلِ.
ونخبةُ أعلام الفيزياء النوويةِ والكيمياء الحيويّةِ (عرّابو الموت الأبيضِ) ماتوا.
مات الفلكيون العميانُ، وحفّارو أقبية التاريخ (حثالاتُ العصر الحجريّ وعشّاقُ روائعِ عصر النهضةِ).
مات القوّادون جميعاً.
مات أساطينُ الموسيقى الجادّةِ والهَذَياناتِ الجادّةِ
مات الشعراءُ الـ “ما بعدَ حداثيون” ومات الـ ………
(حتى “هيفا وهبي” ماتت)
مات الشعبُ بكاملهِ.
لم يَنْجُ سوى المغفورِ له «قابيل الثاني»
والصرصورِ الخالدِ
والبرغَش.
وأنا وحدي.
.. ..
مات الشعبُ الأرضيُّ بكاملهِ.
وأنا وحدي
أَتَوسَّلُ رائحةَ الناسِ، وأصواتَ الناسِ، وقُبْحَ وجوهِ الناسِ، وغِلْظَةَ أفكارِ الناسْ..
كنتُ، إذا ما داهمني الناسُ، أقولُ:
«إليكم عنّي!
إني أتألّمُ.. وأُفضِّل أن أبقى وحدي».
الآنَ أنا وحدي، لكنْ.. وحدي وبلا آلامٍ.
أين هُمُ الناسُ – الإخوةُ والأعداءُ – لكي أستنجدَ:
«يا ناسُ! أنا لا أتألّمُ.. لا أتألمُّ…
ما عادَ بوسعي أنْ أتألّمَ..».
الآنَ أقولُ لمن لا أُبصرهُ:
يا طيّبُ
يا ظالمُ
يا أسودُ
يا أبيضُ
يا شرّيرُ…
تعالَ وساعِدْني!
ساعِدْني ، فأنا لا أتألّمُ.
يا ذا الواقف فوقُ تَرَفّقْ بي.. واجعلني أتألّمْ!
الناسُ هُمُ : الآلامْ.
•
لا بأسَ ، أنا وحدي..
لا أعرف كيف أُدَبِّرُ آلاماً أو أحلاماً.
لا أعرف كيف أقولُ (لمنْ سأقولُ؟..):
«أنا وحدي.. وأريد حياتي».
لكنْ ، مِن تحتُ ، سأجعل عينيَّ إلى فوقُ.. وقلبيَ فوقُ.
سأنتظر مرورَ الدوريّاتِ الراجلةِ وسياراتِ الإسعافِ (يَشمّون أنيني فيقولون: قفوا!
هوذا، تحت الأنقاضِ هنا، حيٌّ ميْتٌ.
هوذا.. إنسانْ).
وعلى أملِ وصولِ الكَشّافِ الأوّلِ، سأواصل عَيشي من غيرِ كلامٍ أو خبزٍ أو موسيقى أو ألمٍ أو أحلامْ
وأفكّر : بعد قليلٍ سيجيء الناسْ
وسيُخلع بابُ القصرِ وترتفعُ الصيحاتْ
فأعودُ إلى وعيي الأوّلِ:
أتألّمُ. أشكو. تدمع عينايَ. أقول لمن لا أُبصرهُ «شكراً!».
أَتَمسَّكُ بهواءٍ أحسبُهُ يَدَ مخلوقٍٍ مُدَّتْ مِن فوقُ.. فلا أتركها.
..
ثمّ ، على عادةِ نفسي الشرّيرةِ، ما ألبثُ أن أتذكّرَ أني حيٌّ.. فأعود إلى سابقِ شأني: أتَأفّفُ من هذي الأيدي، من هذي الأعينِ والأَوجُهِ والأصواتِ الملعونةِ. أتأفّفُ من رائحةِ الزّنَخِ الإنسانيِّ وضوضاءِ الأفكارِ، فأُبغضُ ناسَ حياتي وحياتي، وأُفكّرُ: «لو أنّي وحدي!…»
فأقولُ: «رجاءً يا سادةُ! أرغبُ أن أُترَكَ وحدي
فأنا… أتألّمُ».
وعلى الفورِ أعودُ إلى سالفِ نفسي. أدخلُ في بريّةِ نفسي.
ثمّ، بلا أدنى حَرَجٍ (إذْ أنا قُدّامَ الناسْ)
أتّكئُ على ساعدِ نفسي.. وأنامْ
وأواصلُ، في سرّي، تلفيقَ الأحلامْ
•
أمّا بعدُ.. فما زلتُ هنا ، في هذا القبرِ الملكيِّ الخالي. وسأبقى فيهِ إلى أنْ يدركني الموتُ فأُدفَنُ في بيتٍ ما (بيتٍ أو إسطبلٍ.. لا فرقَ).
حياتي لا بأسَ. مزاجي يتحسّنُ. وضميري لا يُتعبني.
لكنْ، أحياناً، وخصوصاً إذْ ينتصفُ الليلُ (بحسبِ التوقيتِ الأرضيِّ) أُعاني من بعضِ الوحشةِ.. لكني لا أتألّمُ منها.
أسوأ ما في الأمر هنا أني لا أشربُ خمراً بالمطْلَقِ. لا أكتبُ شعراً بالمطلقِ. لا أُبغضُ أحداُ بالمطلقِ. ويعذّبني، أحياناً، أني لا أحلمُ.
لكنْ ، حين أُفكّر في ما ضَيّعتُ وما أُعطِيتْ،
يتبيَّنُ لي بالمطلقِ
أنّ القبرَ جميلٌ ، ومريحٌ ،
ويُساعدُ في إبعادِ أذى الموتِ
وفي تنويعِ أساليبِ النسيانْ…
30/10/2006
……………………………………………………………
* من كتاب ” الراعي الهمجيّ..” / دار المدى –