من الشعب يريد إلى الشعوب تريد
المائدة السورية
كُتبَ هذا النص بشكل جماعي من قبل أعضاء المائدة السورية في مونتروي وفريق الشعوب تريد.
هل كان بالإمكان أن تنتصر الثورة في سوريا لو كان لها حلفاء وأصدقاء من الحركات التحررية حول العالم، يعملون على مساندتها، ودعم مطالب ونشاط ثوارها وثائرتها؟
إن الاستناد إلى بعض التجارب عبر التاريخ لا يُسعفنا في كل الحالات إلى الردّ بالإيجاب على هذا السؤال. تشكل الحالة الإسبانية المثال الأنسب على ذلك، لا سيما في ظل المقاربات التي جرت بين الثورتين. رغم عدم تلكؤ متطوعي الألوية الدولية من شيوعيين واشتراكيين ولاسلطويين بالانضمام إلى الجمهوريين في حربهم ضد القوميين، انتهت الثورة باستيلاء فرانكو على مدينة مدريد. بالطبع كما هو الحال في سوريا، تعقيدات السياق لا تسمح بالاستناد إلى علاقات سببية مُبسّطة. فحصول نضال ثوري على دعم مادي، لوجيستي أو عسكري خارجي من قبل حلفاء وأصدقاء، لا يضمن ميل ميزان القوى لصالح الحركة الثورية المحلية، حتى لو كان الدعم ضخماً نسبياً. بالطريقة ذاتها، لا يمكننا الإجابة على السؤال السابق بالنفي. في الواقع، كثوار وثائرات سوريين/ات كنا ولا نزال نتساءل: إذا تخلت عنا الحكومات، فأين الشعوب؟
وجدنا أنفسنا بعد نضال طويل وصعب متمسكين بقناعة وحيدة: وحدها الشعوب يمكن أن تنقذ نفسها. من المحتمل أن الثورة السورية كانت ستأخذ شكلاً مختلفاً لو أن مكوناتها التحررية والتقدمية تلقت دعماً يفوق الدعم الذي تلقاه الجهاديون والإسلاميون مثلاً. لا يمكننا نفي وجود هذه الاحتمالية. في الوقت نفسه، رأينا أن التضامن بين الشعوب عليه أن يتجاوز المبادرات والمساعدات الإنسانية. في ظل الحروب والكوارث البيئية ليس لنا بديل اليوم سوى السعي لمحاولة ترسيخ فكرة تضامن ثوري عابر للحدود، والمضي بها قدماً مع أخذها إلى حدودها القصوى، لا سيّما في وجه قوى الأنظمة القائمة المتجذرة في العالم إلى حد كبير.
لذلك، نحن المنفيون والمنفيات، ثمرة من ثمرات الثورة السورية وأصدقائها، الذين نشعر بالخيبة من سياسات الدول والحكومات، لن نقبل أبدًا، مهما كانت الجغرافية، التخلي عن ثورة عادلة لشعب.
من غضب ومرارة تجاربنا، ومن حاجتنا إلى تخفيف شعورنا بالوحدة، ولدت رغبتنا في التعرف على حركات شعوب واكتشاف انتفاضات أخرى في هذا العالم الواسع. في أسفارنا ومنافينا، عملنا على التواصل مع ثائرات وثوار واجتمعنا عند تقاطعات عالم مريض. فهمنا أننا جزءٌ من صراع عابر للحدود، وأننا نواجه نخبة منظمة دولياً بشبكاتها من القمع والاستغلال. إذا كنا نعاني بشكل مختلف، فإن أعداءنا هم نفسهم. في بعض الأحيان لا نفهم ما يعاني منه الآخر، وغالباً لا نتحدث اللغة نفسها، ولكن هذا لا يمنعنا من محاولة سماع آلامنا المتعددة.
منذ عدة سنوات، من قارة إلى أخرى، اتخذنا طريق الحركات التحررية من أجل الحياة والكرامة، من تشيلي إلى لبنان، ومن هونغ كونغ إلى السودان، ومن العراق إلى كولومبيا، ومن سوريا إلى فرنسا. على خطى الزاباتيستا والحركات النسوية، بدأنا بنسج شبكة من الروابط العالمية. هَمُّنا ليس أخلاقياً مجرداً، بل نسعى لتشبيك صراعاتنا كاستراتيجية بقاء. رغم ذلك، نحن مقتنعون أن الاستجابات قصيرة الأمد للحالات الطارئة والأزمات غير كافية، فلذلك نصوغ انطلاقاً من الأماكن التي نعيش فيها، علاقات مساعدة متبادلة وتعلّم وتحالفات ثورية تتجاوز الحدود. ننسج من الخيوط التي تربطنا عوالم جديدة، ونرسم خرائطنا الخاصة.
جاءت اللقاءات العابرة للحدود «الشعوب تريد»، المنظمة من قبل المائدة السورية، استجابةً لرغبتنا في الدفاع عن تضامن تحرري يتخطى حدود الدول والهويات والأجساد، وهو ما يُسمّى وفقاً للغة الماضي «الأممية». إحياء الأممية اليوم يتطلب الاعتماد على المساحات والقوى والأماكن والفضاءات التي تقرر أن تحكم نفسها بنفسها، والتي لا تُعَدّ ولا تُحصى في عالمنا اليوم، وذلك عن طريق تكثيف التدفقات الثورية بين القارات وتذكير المناضلين/ات في جميع أنحاء العالم أنهم ليسوا وحدهم، وأنه في مكان ما على سطح هذه الأرض هناك دوماً من يخوض صراعاً، سواء كان وحيداً أم لا، ضد الظلم والاستبداد. لذلك، منذ أربع سنوات حتى اليوم، نقوم بدعوة ناشطين وناشطات من جميع أنحاء العالم للقدوم إلى مونتروي، المدينة التي تشكل ملتقى طرق مهم للمنفيين/ات، ومركز استقطاب لمن يحاولون رفض النظام الحالي واقتراح بدائل أخرى. الهدف من هذه اللقاءات هو خلق فضاء نتحدث فيه عن تجاربنا ونتشارك فيه أفكارنا وتحليلاتنا وآمالنا، ونبني سُبُلاً للتضامن والتعاون في سبيل تشبيك وتعزيز كفاحاتنا.
جاء مهرجان «الشعوب تريد» في نسخته الأولى إثرَ اندلاع موجة من الثورات عام 2019 في العديد من البلدان في أرجاء العالم، وذلك بعد تسع سنوات على اندلاع الربيع العربي 2010. أعادت هذه الثورات، من الجزائر إلى السودان مروراً بالمظاهرات في إيران، تأكيدها أن الشعب، في كل مكان، يريد إسقاط النظام. في سيرورة هذه الحركات، رأينا الإشكاليات نفسها التي رافقت ناشطي/ات الربيع العربي: سؤال العنف والحراك السلمي وأثر الانتخابات على النضال الشعبي واستراتيجيات التصدي لقمع وخطاب الثورة المضادة.
لا يمكن نفي أن موجة ثورات الربيع العربي ساهمت في إحياء السياسة في الحياة اليومية، مع ما صاحبها من إعادة تشكيل الذاتيات وتعريف الهويات، كما أنها أسهمت في خلق تيارات مُسيَّرة ذاتياً قائمة على شكل جديد من أشكال العلاقة بالسلطة، مع رفضها لسياسة الأمر الواقع القمعية. رغم ذلك، لم تستطع هذه الاحتجاجات تحقيق مطلبها الأول: إسقاط النظام. يبقى المثال السوري الأكثر دلالة على ذلك، نظراً لبقاء نظام الأسد على رأس السلطة. في الحالة المصرية، الليبية، التونسية واليمنية، رغم تمكن الاحتجاجات من الإطاحة برأس السلطة، فإن النظام لا يزال قائماً وإن كان يأخذ شكلاً مختلفاً. بالطبع، إن الطبيعة السلطوية الراسخة للأنظمة تساعدها على استعادة قوتها عند تعرضها لصدمات قوية، لكن لا بدّ من البحث أيضاً في مكامن ضعف الاحتجاجات الشعبية التي لم تستطع في بعض الأحيان منع الأنظمة من إعادة تشكيل نفسها، كما هو الحال في الجزائر بُعيد مسيراتها المليونية وفي ثورة تشرين الأول (أكتوبر) في لبنان عام 2019، التي لم تتمكن من اجتثاث جذور الفساد والظلم. في الواقع، إن الاحتجاجات لا تؤدي بشكل تلقائي إلى تشكيل بدائل ملموسة، فلا بدّ من أن تتصاحب بآليات وعمليات تشكيل كيانات سياسية وتيارات فكرية تنظيمية قوية قادرة على تغيير موازين القوى. هذا ما دفعنا إلى طرح العديد من الأسئلة في إطار لقاء «الشعوب تريد 2» في 2020، في سبيل العمل على اقتراح بدائل لكل من الأنظمة الحالية والمنظمات السياسية التي تواجدت في الماضي. ما هي المقترحات الانتقالية التي لا تزال قادرة على شقّ طريقها عبر الانتفاضات؟ ديمقراطية ليبرالية لتحل محل الأنظمة الاستبدادية؟ الجمعيات التأسيسية الدستورية لتحويل وإصلاح الديمقراطية الليبرالية؟ ما هو الفكر المحرك لثوار اليوم؟
في محاولتنا للإجابة عن هذه التساؤلات، دَعونا جماعات وأفراد من جميع أنحاء العالم، البعض منهم كان قد شهد على انهيار أنظمة أو تحرير أراضٍ بأكملها، لذلك كانوا قد عايشوا لحظة مماثلة طرحوا أثناءها السؤال عمّا قد يأتي بعد إسقاط النظام، كما هو الحال في السودان مع لجان المقاومة أو المجالس المحلية في سوريا. آخرون غير راغبين في انتظار مثل هذه اللحظات، بدأوا مسبقاً في بناء بدائل للنظام الحالي عبر إطلاقهم مبادرات محلية مستقلة لممارسة أشكال اجتماعية واقتصادية للحياة اليومية خارج منطق الربح والمنافسة والهرمية. لا تُعارض هذه التغييرات المحلية بأي شكل من الأشكال الانتفاضات على مستويات أكبر، بل على العكس، بإمكانها أن تشكل نواة مغذية حيث أنها يمكن أن تفرض نفسها كقوة قادرة على التواجد بشكل ملموس، وتقديم مقترح سياسي واجتماعي مرتبط بماديةِ الواقع المُعاش على الأرض.
إن إيجاد بدائل ثورية أكثر مساواتية يندرج تحت إطار عمل أكبر، بدأنا بوضع أساساته خلال لقاء «الشعوب تريد 3» في 2021 يهدف إلى رسم آفاق تحررية قادرة على الجمع بين المحلي والأممي العابر للحدود، كالنضالات النسوية التي أخذت أصداء عالمية بربطها أميركا اللاتينية بأوروبا والشرق الأوسط وبلدان أخرى. هذا ما دفعنا في ظل النسخة الثالثة للشعوب تريد إلى التساؤل فيما إذا كانت الحركة النسوية العالمية فرضية ثورية في حد ذاتها لتغيير النظام الحالي بمجمله، من دون الاكتفاء بمحاربة الذكورية والقمع الجندري، حيث إنها نجحت إلى حدّ ما في الإخلال بالنظام الذكوري وفرض تصوراتها، لا سيما في شقها التقاطعي الذي يؤكد على تشابك مختلف أنواع التمييز المرتبط بهويات سياسية واجتماعية وعرقية متعددة. لا شكّ في أن قدرة الحركات النسوية على ربط المحلي بالعالمي هي ما دفعتنا أيضاً من إلى تسليط الضوء على استراتيجيات التضامن المتبادل العابر للحدود، وعلى كيفية توحيد عدة جبهات في مواجهة المنطق الاستبدادي والنيوليبرالي. لهذه المسألة أهمية خاصة بالنسبة لنا كسوريين/ات في المنفى، راغبين في توحيد جهودنا وتعزيز الروابط بين نضالاتنا حول العالم. من جهة أخرى، تراءى لنا أنه لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار العديد من الفرضيات الأخرى التي يتم اختبارها أو تطويرها، من أجل الإطاحة بأنظمة اللامساواة والهياكل الرجعية.
في نسختها الرابعة التي ستُعقد على مدار ثلاثة أيام خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، من 21 منه إلى 23، تتسع اللقاءات العابرة للحدود الشعوب تريد، لتُتيح لما يقارب ثلاثين ناشطًا وناشطة قادمين من حوالي عشرين دولة حول العالم الالتقاء في مساحات تفكير وتطوير ثورية.
نسعى من خلال لقاءات الشعوب تريد إلى مواجهة لامبالاة العالم، والعمل على ألّا تُترك سورية وحيدة في المرة القادمة عند اندلاع انتفاضة فيها كما حصل في 2011.