صفحات الثقافة

«نزع التحضر»: ثقافة زمن الاستياء/ محمد سامي الكيال

بدأ تعبير «نزع التحضر»Entzivilisierung يتخذ مكانة مهمة في الجدل الثقافي والأكاديمي في عدد من الدول الغربية. وهو يشير إلى تعثر عمليات الاندماج الاجتماعي والتوافق والمساواة، التي تفترضها نظريات التحديث الكلاسيكية. يأتي ذلك بعد أن كانت العولمة والقيم الليبرالية تبدو منتصرة وقابلة للتعميم على كل المستويات، خاصة مع وصول باراك أوباما إلى الحكم، بوصفه أول رئيس أمريكي ينتمي إلى أقلية عرقية، والنمو الاقتصادي الذي أدى لانتشال الملايين من الفقر والجوع في العالم الثالث، كما في الصين والهند والبرازيل، وتحولهم إلى طبقات وسطى قادرة على تعزيز الاستقرار الاجتماعي والتحديث السياسي والاقتصادي، فضلاً عن الثورات ذات الشعارات الديمقراطية في العالم العربي وأوروبا الشرقية، واضمحلال الأيديولوجيات الراديكالية بشكل عام. اليوم يبدو كثير من هذا مُتجاوزاً، مع تصاعد الانقسامات والصراعات الاجتماعية ذات المحصلة الصفرية، وصعود ما يسمى «خطاب الكراهية»، والتراجع الكبير الذي شهدته عملية الدمقرطة على أطراف النظام العالمي، بعد تحوّل كثير من الثورات الديمقراطية إلى صراعات دموية، وصعود اليمين الديني وشبه الفاشي، كما في الهند والبرازيل. في الوقت الذي تعاني الدول الغربية فيه من شبح الشعبوية، ضمن هذا الشرط تبدو ثقافة الاستياء هي السائدة في معظم أرجاء العالم.

تصاعد الصراعات والتطرف ليس ظاهرة غير مألوفة في التاريخ، ولكن ما يجعل بعض الباحثين يتحدثون عن نزعٍ للتحضر هو أن الهياكل والأنظمة الاجتماعية والثقافية، خاصة في الدول المتقدمة، لم تعد قادرة أو معنيّة بالقيام بعمليات تحديثية، تشمل قاعدة واسعة من الفئات الاجتماعية، في الوقت الذي انهارت فيه كثير من المؤسسات التقليدية أو الحديثة، التي كان بإمكانها التخفيف من آثار هذا التراجع. ما يجعل كثيرين يشعرون بانسداد الأفق، ويدفعهم للتعبير عن احتجاجهم بأشكال ضد اجتماعية وضد حضارية. فما هي بالضبط سيروات «نزع التحضر» هذه؟ وما التغيرات والقوى التي تدفع باتجاهها؟

التحديث الرجعي

اعتماداً على نظريات نوربرت إلياس وتالكوت بارسونز في التحديث، يرى عالم الاجتماع الألماني أوليفر ناختفاي، الأستاذ في جامعة بازل السويسرية، أن الاندماج الاجتماعي، أحد أهم وظائف الأنظمة الاجتماعية الحديثة، لم يعد متحققاً بشكل كافٍ، نتيجة لأنماط «التقدم» العكسي وغير المتكافئ التي تشهدها الرأسمالية المعاصرة، فيترافق خطاب المساواة العرقي والجنسي والثقافي بمزيد من التفاوت والتمييز والإقصاء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. الأمر الذي يؤثر على نظرة الأفراد لذواتهم، ومدى استعدادهم للتأقلم والالتزام بالأطر الحضارية التي يعيشونها.

سبق للمفكر الألماني نوربرت إلياس أن فسّر سيروة التحضّر الحديث بتغير أساسي في البنى الاجتماعية التي تحدد الشخصية. فيميل الأفراد إلى تقبّل تعقيد المجتمعات وتمايز مستوياتها المختلفة، ما يساعد على ضبط تصرفاتهم وتوسيع آفاق تفكيرهم، والتخلي عن الإشباع الفوري والمباشر لرغباتهم، أي ما يُعرف بـ»التسامي الحضاري»، مقابل ما يقدمه لهم المجتمع الحديث من إمكانيات التطور الذاتي، والأمن المادي والاجتماعي. ومع اضمحلال البنى الاجتماعية التقليدية مثل العائلة والجماعة الأهلية، تتقدم عملية «الفردنة»، فيصبح الأفراد ذواتاً مستقلة، إلا أن اعتمادهم على المجتمع، للمفارقة، يزداد بشكل كبير. فالناس الذين فقدوا ارتباطهم بالمكان والتقليد الذي ألفه آباؤهم وأجدادهم، باتوا أكثر احتياجاً إلى المجتمع المدني والهيئات الوسيطة، مثل النقابات والنوادي والاجتماعية، المؤسسات الثقافية ودور الرعاية وحضانات الأطفال، التأمينات الصحية والاجتماعية، الخدمات الإخبارية لوسائل الإعلام، الخ. هكذا برز «الاجتماعي» حيزاً مستقلاً، يخفف الأعباء والضغوطات عن الأفراد، ويؤمن اندماجهم وانضباطهم الذاتي. وهذا من أهم أركان عملية التحديث، التي لم تكن مقتصرة فقط على الدول الغربية، بل عرفها كثير من مجتمعات العالم الثالث، بدرجات متفاوتة، في مرحلة ما بعد الاستقلال.

يلاحظ ناختفاي أن الرأسمالية تمرّ منذ عقود بمرحلة من «التحديث الرجعي»، وتجفيف الموارد الاجتماعية لحساب أيديولوجيا السوق النيوليبرالية، فيُترك الأفراد لوحدهم في مواجهة التغيرات الاجتماعية الكبيرة. وبعد أن كانت الهيئات الوسيطة «مدارسَ للديمقراطية والكياسة الاجتماعية» حسب تعبيره، صار على الفرد بغيابها أن يحمل منفرداً عبء الانضباط المجتمعي والتسامي الحضاري، وأن يكون دوماً مستعداً لتطوير ذاته والتحكم بها، وجعلها قابلة للمقارنة والقياس والمنافسة، حسب شروط السوق، وإلا اعتُبر فاشلاً، وتعرّض للمهانة والإذلال الاجتماعي. في ما مضى كان التعثر المهني والاجتماعي يُعتبر فشلاً في السياسات الاجتماعية، ومصيراً جماعياً وليس فردياً، تُلام عليه الشركات والحكومات ومؤسسات النظام العام، اليوم يُحمّل الأفراد المسؤولية كاملةً، ولذلك عليهم الانخراط في عملية تطويع ذاتي تفوق التحمل. ما يجعلنا أمام مجتمعات تحكّم شامل، تقوم على نمط من العقلانية الأداتية، المعتمدة على رقابة الأفراد لذواتهم، كي يكونوا «ناجحين»: يراقبون أداءهم الوظيفي، أساليب تعبيرهم، مأكلهم ومشربهم، أوزانهم، صحتهم، حفاظهم على البيئة، إلخ. فإن نجحوا بذلك نالوا بعض المنافع الفردية، وإن فشلوا يعانون من الإقصاء والوصم، وبالتالي تصبح الفردانية المتوافقة مع السوق ضرورة اجتماعية. وهذا يقرّبنا من التصور الديستوبي الذي طرحه ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابهما الشهير «جدل التنوير»، عن ميل المجتمعات الحديثة للسيطرة الكاملة، وتحويل متطلبات المنفعة الأداتية إلى إكراهات ذاتية للفرد، بدلاً من تضمين الضرورات الاجتماعية في علاقات إنسانية حقيقية وعقلانية.

الاستياء من الحضارة

يميل الأفراد، حسب تحليل إلياس، إلى تقبّل الانضباط والتسامي ومختلف الإكراهات الاجتماعية، في حال أمّن لهم المجتمع تعويضاً مناسباً وآفاقاً للتطور، وهذا ما كان متحققاً بشكل كبير في عصر السياسات الاجتماعية، عندما كان الإيمان بالتقدم لا يزال قوياً، وقيم التضامن الجماعي، التي تمنح القبول والإشباع النفسي، راسخة. اليوم يبدو التحديث الرجعي للرأسمالية بلا أي أفق مستقبلي، والإيمان بالعولمة والانفتاح والنمو غير المحدود اهتزّ بشدة بعد الأزمة المالية العالمية. لم ينل الناس المكاسب التي وُعدوا بها، وتحولوا من مواطنين في مجتمع منظّم إلى عملاء وزبائن، ذوي امتيازات غير متساوية في السوق، ما أدى لنشوء حالة من عدم اليقين تجاه القيم الحضارية الأساسية، التي لم تعد تمنح الأمان والإحساس بالسيطرة على الحاضر والمستقبل. المستفيدون من النظام الحالي يتمتعون بمكاسبهم هنا والآن، عن طريق إظهار قدرتهم على تحقيق المزيد من الانضباط. أما الخاسرون، الذين بات النظام غير مكترث بإدماجهم، فلم يعودوا متقبلين لأنماط التسامي المفروضة عليها، ويرونها فوق طاقتهم، أو مجرد فرض خارجي، واعتداءً على أنماط حياتهم، فيغرقون بالاستياء والعنصرية، وإنكار قيم المساواة والتسامح، التي تدّعي الحضارة المعاصرة ترسيخها، ويهربون إلى تصورات خيالية عن حضارات مغدورة، سواء كانت مسيحية بيضاء، أو إسلامية، أو عرقية وقومية. لتحقيق إشباع فوري يعوّض خيباتهم. فيقلّ استعدادهم لضبط أنفسهم وتصرفاتهم، وقد يتورطون بممارسات يصفها ناختفاي بالبربرية.

هندسة نزع التحضر

إلا أن «نزع التحضر» ليس نتيجة لتصرفات الخاسرين والمتعصبين وحسب، بل هو أساساً محصلة سيرورة طويلة من عمليات التفتيت الاجتماعي، التي تبدو النخب الأكثر تحضراً مشاركاً أساسياً فيها. تميل هذه النخب بدورها إلى ثقافة الاستياء، فالانضباط الذي تمارسه على ذواتها يشعرها دائماً بالذنب، وعدم القيام بما يكفي لمواجهة الانتهاكات التي يتعرض لها النمط الحضاري السائد. ما يدفعها إلى إجراء هندسة اجتماعية وثقافية شاملة، تطال اللغة والمؤسسات الثقافية والأكاديميات ووسائل الإعلام، لجعلها أكثر توافقاً مع مبادئها، ولإقصاء جميع المخالفين. هكذا تتحول المؤسسات الضرورية للاندماج الاجتماعي، إلى نوادٍ نخبوية، تحتكرها فئات محدودة. يقبع خارج أسوارها عالم همجيٌ كامل من العنصريين والذكوريين والمتعصبين.

هذه العملية لا تقتصر نتائجها السلبية على من تمّ اقصاؤهم، بل تنعكس أيضاً على تنوع وفردانية هذه النخب. اللغة الصحيحة سياسياً، المُطهّرة من كل شبهة عدوان، أدت لأسلوب تفكير واحد ومواقف متطابقة، والمنتجات الفنية والثقافية أصبحت «ملتزمة»، بالمعنى السلبي للكلمة، بخط أيديولوجي محدد. والمزاودة في نمط الحياة الصحي والأيكولوجي والأخلاقي بدأت تنتج نوعاً من الذاتية المستنسخة والمتقشفة، تتحول إلى استعلاء عدواني ضد من لا يلتزمون بنماذجها. في أيامنا بات من الصعب على ما يبدو العثور على السمات التي كان المحافظون ينتقدونها في المجتمعات الليبرالية: التفرّد والحسيّة واللذائذية والتحرر.

ليست المشكلة في عجز المجتمعات عن إدماج قطاعات واسعة من السكان فحسب، بل أيضاً في فقدانها لجانب كبير من حيويتها وتنوعها، وقدرتها الفعلية على تقبّل الاختلاف، قد تتعدد ألوان البشرة والأنواع والميول الجنسية والرموز الثقافية، ولكن هذا لا يعني الكثير، إذا كان معظم هؤلاء «المتنوعين» يتحدثون ويفكرون بشكل متماثل، ويميلون حتى إلى محاكمة التراث الإنساني وفقاً لمعاييرهم الآنية. أما خارج أوساطهم فيفقد كثيرون صوتهم، ويعانون من الإقصاء والتجاهل، وازدياد التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. وهذا هو المعنى الأكثر صعوبة وإيلاماً لنزع التحضر.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى