صفحات الحوار

تيسير خلف: “القبّاني” ضحيّة من ضحايا اليسار السوريّ والعربيّ

محب جميل

ليس من اليسير محاورة باحث ومؤرخ دؤوب مثل تيسير خلف، فالرجل لديه ثقافة واسعة وشغف كبير بالتفاصيل الصغيرة والوثائق النادرة ومجريات التاريخ. ولعل كتبه “وقائع مسرح أبي خليل القبَّاني في دمشق 1873–1883؛ تقديم أ.د. سيد علي إسماعيل” و”من دمشق إلى شيكاغو؛ رحلة أبي خليل القبَّاني إلى أميركا” (1893) و”سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر: مذكرات الممثلين عمر وصفي ومريم سماط”، خير دليل على ذلك. 

هو كاتب وباحث وروائي سوري من مواليد 1967. له نحو ثلاثون كتاباً في الأدب والبحث التاريخي والرحلة والتحقيق، وأكثر من رواية أبرزها “مذبحة الفلاسفة” التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر في نسختها العربية عام 2017. حول أبحاثه في مجال الفنون، كان لنا معه هذا الحوار الشيِّق.

من يطالع سيرتك، يلاحظ أنك تكتب الرواية وأدب الرحلة إلى جانب التوثيق والتأريخ للشخصيات والأماكن المؤثرة في تاريخنا الثقافي العربي. فأي لون من هذه الألوان الكتابية هو الأقرب إليك؟ وكيف نشأت علاقتك به؟

 أظن أن الموضوع هو الذي يفرض طريقة التناول؛ مثلاً للكتابة عن أبي خليل القباني في مرحلته الدمشقية كان لا بد من كتاب تأريخي صارم ملتزم بالأكاديميا، لأن سيرته ارتبطت بمرحلة حساسة جداً من تاريخ بلاد الشام، وهي المرحلة التي شهدت بوادر نهضة عربية لم تكتمل إلا بالهجرة إلى مصر.

هذا الكتاب يحاول أن يقدم وجهة نظر تأريخية يمكن أن تضيء على أسباب الهجرة الشامية إلى مصر في سبعينيات وثمانينات القرن التاسع عشر، وهي الهجرة التي أدت إلى النهضة الثقافية والفنية العربية في مصر، والتي نتجت عن تلاقح أفكار وفنون النخب الشامية مع النخب المصرية بشكل فعال ومثمر.

    أبو خليل القباني ضحية من ضحايا اليسار السوري والعربي عموماً، فقد تبنى مثقفو هذا التيار قضية منع القباني من التمثيل في سوريا بوصفها دليلاً على عقم التيار الديني ومعاندته للحداثة… تيسير خلف

أما الرواية التاريخية فلها حديث آخر، ولكن على العموم هناك مواضيع تفرض شكلها، وقد استخدمت الكثير من الوثائق المتعلقة بالمشاركة العربية في معرض شيكاغو عام 1893 ونسجت منها عملاً روائياً اسمه “عصافير داروين”، ظهر فيه القباني شخصية ثانوية جداً، إذ كان تركيزي منصباً على محور آخر لم يكن يكفيه عمل تأريخي، بقدر ما كان يحتاج إلى مخيلة روائية.

من يقرأ كتابيك “وقائع مسرح أبي خليل القبَّاني في دمشق 1873 – 1883” و”من دمشق إلى شيكاغو؛ رحلة أبي خليل القبَّاني إلى أميركا 1893″، يلاحظ الجهد الاستثنائي المبذول في جمع المادة الأرشيفية. فما هي الصعوبات التي واجهتك خلال رحلة البحث والكتابة؟

الصعوبات كثيرة، أهمها البحث في الأرشيفات، ولكن حين تتوفر الإرادة تسهل الأمور، وهذان البحثان هما تحدّ شخصي لي، فالمصادر التي تحدثت عنهما هي في غالبيتها مصادر شفاهية، لا تعرف إذا كانت حقيقية أم هي مجرد تخمينات.

يضاف إلى ذلك تناقض كل معلومة مع المعلومة التي سبقتها، وهذا ما حفز المؤرخ الدكتور سيد علي إسماعيل لأن يطلق دعوة حين انتهى من كتابه الاستثنائي “جهود القباني المسرحية في مصر” لأن يقوم باحث سوري بالتنقيب عن أرشيف القباني في فترته السورية، وهذا ما قمت به تماماً.

ولكن أرشيف القباني في هذه الفترة يتوزع ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسطنبول وبيروت بشكل خاص، ومن هنا انطلقت واستطعت جمع أغلب المواد المطلوبة قبل أن أباشر كتابة البحث.

يبدو جليّاً من تنوّع المصادر في الكتابين السابقين، مقدارُ المجهود الشخصي الذي بذلته للوصول إلى أية وثيقة أو مصدر تدعم بحثك. ألم تفكر في أي دعم مؤسسي أو منحة بحثية، لتغطية هذين المشروعين الضخمين ونفقاتهما؟

 للأسف لا يوجد دعم لهذا النوع من الأبحاث في العالم العربي، ومن حسن حظي أنني كنت أعمل في تلك المرحلة في الإمارات العربية المتحدة، وراتبي كان ممتازاً، فخصصت مبالغ من مدخراتي لتمويل البحث، وكان ما كان.

بالعودة إلى أبي خليل القبَّاني ودوره الرائد في المسرح العربي، لماذا عانى الرجل من الإهمال والنسيان والارتباك في ما يتعلق بمسيرته المسرحية في الأراضي السورية خلال كل هذه السنوات الماضية؟

 القباني ضحية من ضحايا اليسار السوري والعربي عموماً، فقد تبنى مثقفو هذا التيار قضية منع القباني من التمثيل في سوريا بوصفها دليلاً على عقم التيار الديني ومعاندته للحداثة، ولذلك تم اختزال تاريخ القباني وتشويهه بقضية منعه من التمثيل. وبالغ البعض في ذلك باختراع قصة حرق مسرحه في دمشق وجري الطفال وراءه في الشوارع.

هذه محض أوهام كان الهدف منها تتفيه رجال الدين عموماً والتغافل عن التيار الإسلامي الإصلاحي الذي كان يساند القباني في معركته، وهذا التيار هو التيار المتأثر بأفكار مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. فاليسار لم يكن معنياً بالحقيقة التاريخية، بقدر عنايته بشتم رجال الدين عموماً. ولذلك وجد في القباني ضالته، فبالغ في بعض التفاصيل وأخفى بعضها، وغيّب بشكل متعمد قصةَ أن القباني هو نتاج حقبة من النهوض التي كانت تشهدها سوريا في ذلك الوقت، ولم يكن نبتاً شيطانياً كما روجوا لذلك. ولم تكن تجربته مرتبطة عضوياً بالوالي مدحت باشا كما أوهمونا.

    تيسير خلف: تم اختزال تاريخ القباني وتشويهه من خلال قضية منعه من التمثيل. وبالغ البعض في ذلك باختراع قصة حرق مسرحه في دمشق وجري الأطفال وراءه في الشوارع. وهذه كلها محض أوهام الهدف منها الاستخفاف برجال الدين عموماً والتغافل عن التيار الإسلامي الإصلاحي الذي كان يساند القباني في معركته

لذلك، فإن الكتابين اللذين وضعتهما عن القباني هما في حقيقة الأمر إعادة اعتبار لتاريخ سوريا خلال تلك الحقبة، وليس فقط إعادة اعتبار للقباني وريادته الفنية، ومن المؤمل أن يفتحا طريقاً لإعادة قراءة تلك المرحلة التي ذهبت ضحية للجيولوجيا والمثقفين المؤدلجين.  

يلاحظ في كتابك “وقائع مسرح أبي خليل القبَّاني في دمشق 1873–1883” الحديث بشكل موّسع عن الأحداث السياسية والتغيرات المجتمعية التي جرت في بلاد الشام خلال القرن التاسع عشر. ألم تخشَ من تشتت القراء وابتعادهم عن جوهر الكتاب أم أنك أردت توثيق سيرة المكان إلى جانب سيرة الشخص؟

 كما أسلفت، فإن الكتاب معني أيضاً بمرحلة مهملة من تاريخ سوريا، فالقباني ابن مرحلته، وهذه المرحلة غير مدروسة، ولكي نفهم القباني يجب أن نفهم مرحلته، أما التشتيت الذي تتحدث عنه فلا أظن أنني تعمدته بقدر ما تعمدت رسم صورة بانورامية لما كان يحصل على جميع الأصعدة المؤثرة في سيرة القباني.

من يقرأ الكتابين حول أبي خليل القبَّاني، يلاحظ حضوره القوي والمؤثر كمسرحيّ بارز، في حين يبدو دوره الموسيقي وعلاقته بأعلام عصره محدوداً بين السطور. فهل تعمدت ذلك من البداية؟

 أظن أن دور القباني وأهميته الموسيقية قد تحدث عنهما تلميذه المؤرخ الفني محمد كامل الخلعي، فقد أعطاه حقه، وبين موقعه في خارطة رواد الموسيقى العرب في القرن التاسع عشر، وهذا ما ألمح له عمر وصفي في مذكراته في أكثر من مكان.

هل وصلت إلى أية تسجيلات غنائية أو قطع موسيقية لعروض جوقة القبَّاني المسرحية خلال معرض شيكاغو الكولومبي (على أسطوانات إديسون الشمعيَّة)؟

 نعم وصلت إلى جميع تسجيلات فرقة القباني المحفوظة في مكتبة “بيبودي” في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أغنية “يوم حبيبي” بصوت ملكة سرور، وتم أداؤها مع مسرحية “الدراما القلمونية”، والنشيد الخديوي المصري الذي كان القباني يفتتح به عروضه، إضافة إلى أغنية باللغة التركية، وتقاسيم موسيقية بسيطة.

في كتابك “سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر: مذكرات الممثلين عمر وصفي ومريم سماط”، أشرت إلى أن هذه المذكرات هي المصدر الوحيد عن الصفات الشخصية والخُلقية لرواد المسرح العربي في مصر، رغم أن هناك مذكرات –على سبيل المثال– لمتعهد الحفلات المعلم صديق أحمد نُشرت في إحدى المجلات الفنية في مطلع الخمسينيات وتضمنت حلقة منها الصفات الشخصية لسلامة حجازي على سبيل المثال، فما الذي كنت تقصده؟

أظن أن الشيخ سلامة حجازي حظي بأكثر من كاتب مذكرات تحدث عنه، فلم يكن قصدي الشيخ سلامة، ولكن القباني مثلاً فهناك استفاضة في الحديث عنه، وكذلك سليمان الحداد الذي لا نكاد نعرف عنه شيئاً، ومثله سليمان القرداحي، وعناية بيك، وملكة سرور. ثمة بعض القصص عن عبده الحمولي، والمسرحي المصري الرائد ميخائيل جرجس، وموسيقيين ومطربين مصريين آخرين لم نكن نعرف عنهم شيئاً.

كنا نتمنى في معرض تقديمك لحلقات مذكرات مريم سماط أن يتضمن مجالاً للحديث بشكل متوسع عن المرأة وعلاقتها بنشأة وتطور المسرح في الوطن العربي (هناك كتاب “مسرح المرأة في مصر: دراسة تاريخية اجتماعية فنية”، لصاحبته أ. د. سامية حبيب). هل توافقنا الرأي؟

هذا مبحث آخر، وكتابي يقدم مادة ممتازة لأي باحث في هذا الموضوع، كما أن الكتب الثلاثة يمكن أن تشكل رافداً لأبحاث تفصيلية موضوعية في المستقبل.

هل تتطلع إلى ترجمة هذه الأعمال الثرية في المستقبل والسعي إلى نقلها للغات أجنبية؟

 أتمنى ذلك، وخصوصاً أن هذه النوعية من الكتب تقدم معطيات مهمة لأي باحث أكاديمي يريد أن يفهم المشرق العربي، خصوصاً سوريا ومصر.

ماذا عن مشاريعك التوثيقية في الفترة المقبلة، خصوصاً في مجال الفنون؟

عندي كتاب جاهز للنشر عن المشاركة العربية عموماً، والفرق الفنية في معرض شيكاغو عام 1893 خصوصاً، وهو كتاب مدعم بالوثائق والصور، ويرصد جميع المشاركات بمنهجية تاريخية، من بلاد الشام إلى المغرب العربي، وبينهما المشاركة المصرية المتميزة التي حصلت على أرفع تقدير في ذلك الوقت.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى