الصلات الخفية بين أحدث مشغل للهاتف المحمول في سوريا والحرس الثوري الإيراني
بقلم رنا الصباغ (OCCRP)، لارا دعمس (OCCRP)، سامي شحرور، ألكسندر دزيادوش (OCCRP)، كرم شعار (Opensyr.com) وجاكوب غرينوالد
تحقيقات, عنب بلدي أونلاين
في وقت سابق هذا العام، أعلنت سوريا عن منحها ترخيص لمشغل ثالث للهواتف المحمولة طال انتظاره لشركة تشغيل غير معروفة. وصف المسؤولون الحدث بأنه لحظة “أمل كبير” لقطاع يعاني منذ أكثر من عقد من الزمان من ويلات الحرب والعقوبات.
ولكن عندما تعلق الأمر بتسمية الشخصيات التي تقف وراء هذه الشركة واسمها “وفا تيليكوم”، كانت الحكومة السورية أكثر تحفظًا. منذ دخول “وفا” السوق في فبراير/شباط، لم تذكر السلطات سوى القليل عن مالكي الشركة باستثناء إصرارها على أنها شركة “وطنية”، أي سورية.
في الواقع، لا يشكل المستثمرون الأجانب غالبية المساهمين في وفا وحسب. بل إن هؤلاء المستثمرين لديهم علاقات متعددة مع أقوى هيئة عسكرية في إيران، فيلق حرس الثورة الإسلامية (IRGC) أو الحرس الثوري الإيراني، وفقًا لتحقيق أجرته “OCCRP” (مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد) و”مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية“، وهي مؤسسة غير ربحية.
تظهر سجلات الشركة أنه حتى عام 2019، كان ضابط في الحرس الثوري خاضع للعقوبات يمتلك الشركة الماليزية التي تمتلك العديد من أسهم شركة “وفاتيل”. ويرتبط اثنان من مسؤولي الشركة الحاليين بشركات تم فرض عقوبات عليها أيضًا لدعمها الحرس الثوري.
علنًا، لم يكن هناك أي مؤشر على تورط إيراني. لكن أحد رجال الاعمال السوريين الذين قابلتهم “OCCRP” ذهب إلى حد وصف المشغل بأنه “شراكة بين الحكومة السورية والحرس الثوري”. وكذلك قال مسؤول سوري على صلة وثيقة بقطاع الاتصالات ورجلا أعمال آخرين إن إيران متورطة في المشغل الجديد.
طهران قدمت للرئيس السوري، بشار الأسد، مساعدات عسكرية ومليارات الدولارات من الدعم الاقتصادي خلال الحرب الدائرة. خلال السنوات الماضية أظهرت طهران اهتمامها بقطاع الاتصالات والعقارات والموانئ في سوريا.
وقال جوزيف ضاهر، الأستاذ في معهد الجامعة الأوروبية، إن تورط شخصيات مرتبطة بإيران في المشغل الجديد أظهرت “النفوذ المتزايد لإيران في الاقتصاد السوري” وتمثل “إلى حد ما خسارة جديدة للسيادة من قبل النظام السوري لصالح حلفائه”.
قد تثير هذه الاكتشافات أيضًا القلق بين خصوم طهران الإقليميين، نظرًا لأهمية قطاع الاتصالات في جمع المعلومات الاستخباراتية. تدخلت قوى مختلفة في الحرب الأهلية متعددة الجوانب في سوريا، حيث تنتشر القوات الروسية والتركية والأمريكية في أجزاء مختلفة من البلاد، وتشن إسرائيل غارات جوية بانتظام.
ولم ترد شركة “وفا تيليكوم” ووزارة الاتصالات والتقانة السورية والهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات والبريد السورية والمكتب الإعلامي للحرس الثوري الإيراني على طلبات “OCCRP” للحصول على تعليق.
مصلحة إيران الراسخة منذ فترة طويلة
عندما طلبت سوريا عروضًا لأول مرة لإدخال ترخيص ثالث للهاتف المحمول في 2010، كان من المفترض أن تكون لحظة فاصلة في تحرير الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة منذ فترة طويلة. وطرحت شركات دولية عملاقة عروضها، بما في ذلك “فرانس تيليكوم” و”اتصالات” الإماراتية، وكذلك فعلت “تامكو”، وهي شركة إيرانية. لكن الشركة تم سحبها من المناقصة.
وأفاد اقتصاديون سوريون وتقارير إعلامية إن “تامكو” مسمى يعكس اسم ائتلاف “موبين ترست” (Mobin Trust Consortium) والمعروف بالفارسية بـ”Tos’eye Etemad Mobin”. وفرضت بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على “موبين” ووصفوها بأنها شركة يسيطر عليها الحرس الثوري.
سارت المحادثات ببطء بسبب مساومة السلطات ومقدمي العروض على الشروط. ولكن قبل أن يتمكنوا من تسويتها، اندلعت الحرب الأهلية في سوريا في آذار 2011، وتم تعليق الترخيص إلى أجل غير مسمى. وفي غضون ذلك، دعمت إيران نظام الأسد من خلال تمويل الميليشيا وتقديم دعم اقتصادي بمليارات الدولارات.
خلال ذلك الوقت، استمر قطاع الاتصالات في جني الأموال على الرغم من الانخفاض الحاد في النشاط الاقتصادي بسبب الصراع. وفي عام 2021، دفعت شركتا التشغيل الحالية في البلاد، “سيريتل” و”MTN- سوريا”، للحكومة مبلغًا إجماليًا قدره 130 مليار ليرة سورية (حوالي 37 مليون دولار) بمعدل سعر السوق السوداء باعتباره “حصة الدولة” من الإيرادات.
جعل ذلك قطاع الاتصالات فرصة جاذبة لإيران، حيث قال المسؤولون صراحة إنهم يتوقعون رد الجميل لدعمهم. في كانون الثاني/يناير 2017، زار رئيس الوزراء السوري، عماد خميس، إيران ووقع مذكرة تفاهم لمنح رخصة الهاتف المحمول الثالثة لشركة الاتصالات المتنقلة الإيرانية أو “MCI”، والتي كانت حتى عام 2018 مملوكة جزئيًا للحرس الثوري من خلال ائتلاف “موبين” (Mobin).
لكن لأسباب غير واضحة وقتها لم ترَ تلك الاتفاقية النور. وبحسب تقارير إعلامية وقتها قال المسؤولون السوريون إنهم ما زالوا يبحثون في الخيارات. ولم يقدموا سببًا، لكن جوزيف ضاهر، الأستاذ في معهد الجامعة الأوروبية، أشار إلى أن القطاع حساس بشكل خاص بسبب استخدامه في عمليات المراقبة والتنصت.
وقال ضاهر، “في الماضي، كانت هناك إشاعات بأن أجهزة الأمن السورية كانت غير مرتاحة إلى حد ما بشأن احتمال وصول الحرس الثوري الإيراني إلى شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية في البلاد”.
اثنان من رجال الأعمال السوريين كانا قد أخبرا “OCCRP” أن ابن خال الأسد رامي مخلوف، الذي كان يملك جزء كبير من حصص مشغل “سيريتل”، قاوم منح “MCI” الترخيص لأنه لا يريدهم أن يقتطعوا حصة “سيريتل” في السوق أو يستخدموا نظام التجوال الوطني الخاص بها.
وبعد فترة وجيزة، تحركت حكومة الأسد التي تعاني من ضائقة مالية لتأكيد سيطرتها على المشغلين الحاليين. وابتداءً من منتصف عام 2020، اتهمت السلطات شركتي “سيريتل” و”إم تي إن سوريا” بأنهما مدينتان بعشرات الملايين من الدولارات كضرائب متأخرة، وعندما رفضت الدفع، وضعتها تحت سيطرة “الأوصياء” المعينين من قبل الدولة.
دخول “وفا” إلى المشهد
عندما حصلت شركة “وفا تيليكوم” على الترخيص الثالث الذي طال انتظاره، بالإضافة إلى احتكار لمدة ثلاث سنوات لتشغيل أول شبكة “5G” عالية السرعة في البلاد، وإذن لاستخدام الشبكات الحالية للمشغلين الآخرين، بدا الأمر وكأنه مجرد امتداد لجهود النظام للسيطرة على القطاع.
وبعيدًا، كل البعد، عن اللاعبين العالميين الذين كانوا ينظرون إلى سوريا ذات يوم، لم يتم تأسيس شركة المشغل الجديد إلا في عام 2017. وكانت نحو 48% من أسهمها مملوكة لشركة سورية تدعى “وفا إنفست”، شارك في تأسيسها مساعد الرئيس السوري يسار إبراهيم (39 عامًا)، الذي قالت صحيفة “واشنطن بوست” إنه لعب دورًا رئيسيًا في الاستحواذ “الشبيه بأسلوب المافيا” على مشغلي الاتصالات في سوريا.
ولم يرد إبراهيم، الذي فرضت عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات بسبب عمله كوكيل مالي للأسد، على طلبات التعليق المراسلة عبر المكتب الإعلامي الرئاسي السوري.
قيادة “وفاتيل”
بحسب ما تم نشره في الجريدة الرسمية توجد ثلاث شخصيات:
غسان نقولا سابا، وهو المدير التنفيذي. وبحسب سيرته الذاتية المذكورة على صفحته الخاصة بجامعة الشهباء، يلقي محاضرات من العام 2003 في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا. ويتبع المعهد الى مركز الأبحاث العلمية في سوريا التابع لوزارة الدفاع في سوريا. وفرضت العقوبات الاقتصادية على المركز بسبب تورطه في برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا.
كارولين زلقط، تمثل شركة “وفا انفست”. بحسب سيرتها الذاتية على موقع “لينكد إن”، عملت زلقط في شركة “سيريتل” 14 عامًا لنهاية 2017.
محمد أسدي: يمثل شركة “ABC.”، لم يتمكن الصحفيون من معرفة المزيد من التفاصيل عنه. الجريدة الرسمية لم توفر ال رقم جواز سفره بدل من رقمه الوطني. تبقي جنسيته غير واضحة.
وفي عام 2021، تم تخفيض حصة “وفا إنفست” إلى 28%، وتم منح 20% منها لشركة الاتصالات السورية المملوكة للدولة مما يجعل الحكومة السورية شريكًا مباشرًا في المشروع.
أما نسبة الـ52% المتبقية فكانت في حوزة شركة مبهمة تدعى “أرابيان بيزنس كومباني” (ABC)، التي أنشئت في أغسطس/ آب 2020 في منطقة التجارة الحرة بدمشق، حيث كانت متطلبات الإفصاح محدودة.
ورفض مسؤولون سوريون الكشف عن هوية مالك شركة “ABC”. وفي تصريحات علنية، وصفوها بأنها “شركة وطنية”، ما يعني ضمنًا أنها مملوكة لسوريين، دون أن يقولوا المزيد.
لكن وثيقة التسجيل التي حصلت عليها “OCCRP” تظهر أن تلك التصريحات كانت مضللة.
للوهلة الأولى، لا يعطي تسجيل شركة “ABC”، الذي تم الحصول عليه من وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية السورية، مؤشرًا يذكر على تورط إيران. ومساهموها المدرجون هم رجل أعمال سوري وشركة ماليزية تدعى “تيومان جولدن تريجر” (Tioman Golden Treasure) تأسست في شباط/فبراير 2013.
تكشف نظرة فاحصة أن شركة “تيومان” (Tioman) ليست متخصصة في الاستثمار في مجال الاتصالات. ولديها صلات متعددة بالحرس الثوري.
تظهر السجلات الماليزية أنه حتى آب/أغسطس 2019، أي قبل نحو عام من تسجيل “ABC”، كانت 99% من أسهم شركة “تيومان” مملوكة لضابط في الحرس الثوري يخضع لعقوبات أمريكية يدعى عظيم مونزاوي. وفي أمر العقوبات الذي أصدرته في آب/مايو من هذا العام، وصفت الولايات المتحدة مونزاوي بأنه “مسؤول في الحرس الثوري الإيراني يسهل مبيعات النفط نيابة عن الحرس الثوري الإيراني”، بما في ذلك تحديد مدفوعات النفط من شركة الطاقة المملوكة للدولة في فنزويلا “PDVSA”.
لم تنته الصلات بينهم عند هذا الحد. لأن من يملك نسبة 1% المتبقية من أسهم “تيومان”، وهو ماليزي يدعى جوسيفين بنتي أنتاهامين، هو أيضًا مالك شركة نفط تسمى “بتروجرين كو” (PetroGreen Co)، في عام 2013، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة “بتروجرين” لعملها كـ”وكيل مشتريات رئيسي” لشركة “خاتم الأنبياء”، وهي تكتل هندسي إيراني يسيطر عليه “الحرس الثوري”.
هناك سجل منفصل يدرج ماليزيًا آخر، هو تشان تشي سان، كسكرتير لشركة تيومان. كما تم إدراج تشان، وهو سكرتير معتمد، كسكرتير لشركة “بتروجرين”، وكذلك لشركة ماليزية أخرى تسمى “جرين ويف للاتصالات” (Green Wave Telecommunications).
في عام 2015، اتهمت محكمة مقاطعة مينيسوتا الأمريكية شركة “جرين ويف” بالحصول على “تكنولوجيا حساسة خاضعة للمراقبة” من الولايات المتحدة لإيران. وفي وقت لاحق قال أحد المتهمين بالجريمة إن هذه التكنولوجيا أرسلت عبر ماليزيا إلى شركة “فانا موج” (Fana Moj)، وهي شركة فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات لتقديمها الدعم للحرس الثوري. وتمت معاقبة شركة “جرين ويف” نفسها في عام 2018.
وقبل إنشاء شركة “ABC” في منطقة التجارة الحرة في دمشق، تم نقل حصة مونزاوي البالغة 99% في شركة “تيومان” (Tioman) إلى مستثمر إيراني آخر يدعى أمير محمدي. تم تسجيل كل من مونزاوي ومحمدي تحت نفس العنوان، والذي كان يستخدم أيضًا كعنوان لشركة “تيومان” في برج تجاري وسكني في كوالالمبور.
وعلى الرغم من أن الصحفيين لم يتمكنوا من إقامة صلة مباشرة بين محمدي و”الحرس الثوري”، إلا أن الوثائق تشير إلى أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يعمل فيها مع مونزاوي، أو مع شركة مرتبطة بشركة “بتروجرين” (PetroGreen) الماليزية الخاضعة للعقوبات.
كما يظهر كل من مونزاوي ومحمدي كمساهمين في شركة مسجلة في اسطنبول تسمى “Energy Development”، والتي تأسست في عام 2010 من قبل PetroGreen ومديرها، حسين وزيري، الذي فرضت عليه الولايات المتحدة أيضًا عقوبات بسبب “التصرف أو التظاهر بالعمل لصالح أو نيابة عن “الحرس الثوري الإيراني”، بشكل مباشر أو غير مباشر”.
وتظهر سجلات الشركات التركية أن مونزاوي كان مالك “Energy Development”، في عام 2013، قبل أن يحولها إلى محمدي في عام 2019.
علاوة على ذلك، تم إدراج مونزاوي ومحمدي وتشان وأنتاهامين كمسؤولين في شركات “بتروغرين” (PetroGreen) و”غرين ويف” (Green Wave) و”تيومان” (Tioman) وشركة رابعة هي “آسيالينك” (Asialink). وتشترك جميعها في نفس العنوان المسجل: صندوق بريد في كوالالمبور على بعد أقل من ميل واحد من العنوان التجاري لشركة “تيومان” (Tioman).
قالت إيرين كينيون، وهي ضابطة استخبارات سابقة في وزارة الخزانة الأمريكية ومديرة تقييم المخاطر حاليًا في شركة “فايف باي سوليوشنز” الاستشارية، إن تيومان لديها العديد من السمات المميزة لشركة وهمية أو شركة واجهة كلاسيكية: هدف تجاري غامض، وعناوين متداخلة، وحضور ضئيل على الإنترنت لمسؤوليها الرئيسيين، وعدد قليل من الموظفين موجودين، على الرغم من مرور ما يقرب من عقد من الزمان على تأسيسها.
وقالت كينيون لـ”OCCRP”: “كل هذه الصفات مجتمعة تظهر بشكل واضح أنها (شركة وهمية أو شركة واجهة)، في حين أن الروابط المتعددة بين مالكي الشركة مع مونزاوي وغيرها من الكيانات الخاضعة للعقوبات تظهر تورط إيران، على الأقل، إن لم يكن الحرس الثوري الإيراني”.
ولم يرد كل من انتهامين ومونزاوي ومحمدي وتشان وممثل عن شركة “تيومان” على طلب للحصول على تعليق من “OCCRP” عبر الهواتف الخاصة بهم و”واتساب” ورسائل البريد الإلكتروني.
لماذا ماليزيا؟
برزت ماليزيا موخرًا كوجهة لوكلاء المشتريات الايرانية الذين يسعون إلى التهرب من العقوبات الأمريكية لشراء المواد العسكرية والتكنولوجيا الحساسة.
وبداء هؤلاء ممن يسعون للتحايل على العقوبات توجيه أنظارهم صوب ماليزيا ودول أخرى في جنوب شرق آسيا بعدما بدأت السلطات الإماراتية (وهي وجهة أخرى مرغوبة لديهم) التعاون مع السلطات الأمريكية في عام 2017 واتخاذ إجراءات صارمة ضد الاستخدام غير القانوني لأراضيها.
خلصت دراسة أجرتها الحكومة الأمريكية في عام 2010 إلى أن ماليزيا أو سنغافورة تم استخدامهما كمحطات عبور لإعادة الشحن في 20%، من الحالات التي اشترى فيها الإيرانيون بشكل غير قانوني سلعًا عسكرية وأخرى ذات استخدام مزدوج مصدرها الولايات المتحدة.
وبرزت ماليزيا، ومراكز الدول الثالثة المماثلة، بشكل كبير في هذه الشبكات بسبب البيئة التنظيمية والتنفيذية المتراخية وروابط النقل الجيدة، بحسب دراسة حول الموضوع في 2019 أجراها دانيال سالزبوري، وهو كبير زملاء الأبحاث في كلية “كينجز” في لندن.
وأشار أيضًا في مقابلة مع “OCCRP” إلى الدور الذي تلعبه الروابط الشخصية والخبرة المحلية المكتسبة في دعم أنشطة الشبكات التي تبحث عن للتحايل على العقوبات. “لذلك ليس من المستغرب أن يستمر الإيرانيون الخاضعون للعقوبات وآخرون على صلة بالحرس الثوري في استخدام ماليزيا”. وأضاف أن “العديد من العوامل التي جعلت من ماليزيا وجهة كدولة ثالثة جاذبة خلال العقود الماضية ما زالت موجودة اليوم”.
العائد الاقتصادي
وقال مسؤول حكومي سوري سابق على معرفة بقطاع الاتصالات طلب عدم الكشف عن هويته خوفًا على سلامته لـ”OCCRP” إن شركة “ABC” المالكة للأغلبية في شركة “وفا تيليكوم” قد أنشئت في منطقة التجارة الحرة بدمشق، جزئيًا لإخفاء تورط طهران. وقال المسؤول السابق: “لقد فعلوا كل ما يمكن فعله لإخفاء الملكية الإيرانية”.
وأشار المحللون إلى عدة أسباب قد تجعل السلطات الإيرانية حريصة على إخفاء أي استثمار في قطاع الاتصالات السوري: لتجنب جذب انتباه فارضي العقوبات، أو حتى لا تخيف العملاء الذين قد يكونون حذرين من استخدام شبكة هاتف تابعة لقوة عسكرية أجنبية.
قال جهاد يازجي، الخبير الاقتصادي ورئيس تحرير المجلة الاقتصادية “تقرير سوريا” (The Syria Report)، لـ”OCCRP”: “بشكل عام، لم يتحدث الحرس الثوري الإيراني، على حد علمي، علنًا عن أي مشروع يشارك فيه في سوريا، وبشكل عام يحرص الإيرانيون على إخفاء أجزاء من عملياتهم في سوريا”. وأضاف: “لست مندهشًا لأنهم عمومًا قليلو الظهور” في العلن.
ومع ذلك، فإن سوريا لديها دافع قوي لإظهار امتنانها لإيران بعد أن ساعدت الأسد على تجنب مصير نظرائه في تونس وليبيا واليمن ومصر. في أيار/مايو 2020، قال النائب الإيراني البارز، حشمت الله فلاحت بيشه، إن التكلفة الإجمالية لدعم إيران لسوريا تراوحت بين 20 إلى 30 مليار دولار، وإنهم يتوقعون أن يتم سدادها.
وقد استجاب المسؤولون السوريون لمثل هذه التصريحات، على الأقل في الخطاب الإعلامي. ففي أيار/مايو من هذا العام، قال فهد درويش، رئيس غرفة التجارة السورية- الإيرانية، لقناة تلفزيونية تديرها الدولة إن “شقيقتنا إيران هي شقيقة في كل شيء”.
عندما كنا في حالة حرب، قاتلنا معًا. لقد وقفوا معنا طوال الحرب وساندونا في وضعنا الاقتصادي. ومن الطبيعي أن يحصلوا على الأفضلية والأولوية من حيث المشاركة في الاستثمارات.
ولكن من الناحية العملية، لم تكن الأمور دائمًا بسيطة. فعلى الرغم من أن إيران أقامت مصالح اقتصادية في سوريا، أعيقت المشاركة الأعمق بسبب العقوبات الغربية والصراع والمنافسة مع الداعم الرئيسي الآخر للأسد، روسيا، للحصول على عقود واستثمارات.
توجد مؤشرات على أن شركة “وفا تليكوم” قد لا تكون مربحة للغاية. حيث كان من المقرر أصلًا أن تبدأ الشركة العمل في تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام. لكنها قالت في أيلول/سبتمبر إن الإطلاق سيتأخر إلى أجل غير مسمى.
يبقى من غير الواضح من الجهة التي ستزود الشركة بالتكنولوجيا والمعدات التقنية عندما يتم إطلاقها. قال ثلاثة خبراء في التكنولوجيا إن “هواوي” (Huawei) الصينية أو “زي تي إي” (ZTE) يمكن أن تعملا كموردتين من خلال مقاولين إقليميين من الباطن، على الرغم من أن الشركتين نفتا ذلك لـ”OCCRP”.
وعلى الرغم من أن سوريا لديها ما يكفي من المستخدمين لدعم مشغل ثالث، يلقي الوضع الاقتصادي المتردي مزيدًا من الشكوك حول مقدار الأموال التي لا يزال من الممكن جنيها من هذا القطاع. وأشار يونس الكريم، المحلل السياسي السوري المقيم بستراسبورغ، إلى أنه حتى العناصر الأساسية اللازمة لإطلاق شبكة الجيل الخامس (5G)، مثل الكهرباء والوقود، تعاني من شح التوفر في السوق المحلي.
وقال الكريم إن “انهيار المستوى المعيشي للسوريين يجعل إمكانية الحصول على خدمة الجيل الخامس نوع من الترف”. وتساءل “من سينفق على خدمة اتصالات مثل شبكة الجيل الخامس إن لم يكن قادرًا على تأمين احتياجاته الأساسية؟”.
شاركت في إعداد التقرير خديجة شريف (OCCRP) وروشناق تقهفي (OCCRP) وكيلي بلوس OCCRP).
عنب بلدي
—————————
سلاح الاستقصاء يطارد نظام الأسد/ عبدالناصر العايد
فكّك تحقيق صحافي استقصائي، نُشر مؤخراً،
الخيوط المتداخلة وعمليات التورية المعقدة التي لجأ إليها نظام الأسد لإخفاء صلات الحرس الثوري الإيراني، بُمشغّل ثالث لشبكة الهاتف المحمول في سوريا والمسمى “وفا تل”. التحقيق كشف أن أكثر من نصف رأس مال الشركة المشغلة الجديدة، يعود لوكلاء لإيران يتخذون من ماليزيا مقراً لأنشطتهم التي تمتد إلى عمليات بيع نفط إيراني بصورة غير شرعية، واستجرار مواد تستخدم في الصناعات العسكرية عن طريق طرف ثالث، وقد طاولتها العقوبات الغربية مسبقاً بسبب ذلك.
تكشف الجهود المضنية التي بذلت لمحاولة تمرير هذه الشركة الواجهة/الوهمية، مأزق نظامَي الأسد والولي الفقيه في ظل العقوبات والضغوط الدولية عليهما، وهما لم يفلحا على ما يبدو، رغم كل محاولات الالتفاف، في إيجاد جهة موردة للمعدات والتجهيزات اللازمة لوضع الشبكة الجديدة في الخدمة، إذ تأجل اطلاقها مرة بعد أخرى لأسباب غير معلنة. لكن يبدو أن عجز الوكلاء عن إيجاد جهة تغامر بالتعاون معهم، هو أحد أسباب التأخر في تشغيلها. على سبيل المثال، في ردها على معدي التحقيق، نفت شركات كبرى في مجال تكنولوجيا الاتصالات، مثل “هواوي” Huawei الصينية و”زي تي إي” ZTE، عملهما كمورّدين اقليميين من الباطن للشبكة المزعومة، بعدما رجح الخبراء ذلك.
على صعيد آخر، عبر مثال شركة “وفا تل”، فإن الاستماتة الإيرانية للاستحواذ على القطاعات الحيوية السورية، بما فيها ذات الصفة الأمنية الحساسة مثل قطاع الاتصالات، تعطي فكرة عن المدى الذي قد تذهب إليه، أو ذهبت إليه فعلاً، في تملّك الأصول الصلبة مثل الأراضي والعقارات والمنشآت الحيوية من موانئ ومناجم الفوسفات والنفط وغيرها. وتُظهر سعيها الحثيث للاستحواذ على الأصول الرمزية والسيادية والاستثمار فيها، كقطاع الاتصالات والمعابر الحدودية، مثل معبر البوكمال، والمناطق الحرة. إن هذا التغلغل الواسع وغير المرئي حتى الآن، سيكون في لحظة ما، البديل الأكثر فاعلية للهيمنة الأمنية والعسكرية الحالية للمليشيات في سوريا، هذا في حال اضطرارها لسحبها، سواء بسبب ضغوط جديّة أو وفق صفقة دولية.
إن النظر في الحالة الإيرانية التي قدمها التحقيق الاستقصائي، تذكّر بحالة روسيّة مشابهة. فبينما لدينا هنا الحرس الثوري الإيراني كمليشيا شبه رسمية تسعى لمد أذرعها الخفية والمعلنة في تفاصيل الحياة السورية، وتأمين استثمارات مجزية لها في هذا البلد تجعلها مستقلة وقادرة على تمويل ذاتها بذاتها مع تعزيز مصالح إيران الإقليمية،.. فإن لدينا في المقلب الآخر مليشيا فاغنر الروسية التي يقودها طباخ بوتين بروغورين، وكنا قد تحدثنا في مقال سابق عن العَقد المبرم بينها وبين نظام الأسد، والذي تسيطر بموجبه على المنابع النفطية لمدة زمنية طويلة، مقابل خدماتها في محاربة خصوم النظام والمساهمة في انتصاره عسكرياً.
ويمكننا أن نتكهن على الأقل، بأن نظام الأسد ليس سوى الشريك الثالث في موارد وثروات سوريا المادية والرمزية، بين شريكين آخرين هما إيران وروسيا، ويضاف إليهم بحكم الأمر الواقع الشريك التركي، الذي يتقدم بخطى حثيثة لإضفاء “الشرعية” على مكاسبه في سوريا من خلال اتفاقيات مع النظام، في ظل تعثر إسقاطه وإقامة حكم بديل مُوالٍ لها بالكامل. ويبدو أن منطق أنقرة هو أن ما لا يُدرَك كلّه، لا يُترَك جلّه.
إن “الفتوح” ذات الطبيعة الكشفية الرفيعة التي تقدمها الأبحاث والاستقصاءات المتوالية حول نظام الأسد وممارساته وجرائمه، مثل التحقيق الذي نشر قبل أشهر حول مجزرة “التضامن”، هي لَبِنات في واقع صلب جديد يتخلق في منطقة الديكتاتوريات التي عاشت طويلاً بمنأى عن الأضواء في ممالك الصمت والكتمان المسوّرة بالقمع الوحشي.
فالأبحاث والاستقصاءات حول انتهاكات وجرائم نظام الأسد تتوالى، وقد صارت من أشد المواضيع اغراء لمحترفي وهواة الكشف الاستقصائي الحديث، المسلّح بأساليب فائقة التطور، خصوصاً على صعيد المصادر المفتوحة وإمكانات البحث والتعقب عبر الشبكات العنكبوتية. وبسبب طبيعة هذه الأعمال التي تعتمد على الأناة، وجمع أجزاء الصورة المتباعدة، فإن عدداً كبيراً منها ما زال قيد الإعداد السرّي، وسيستغرق زمناً لا بد منه، لكنها ستظهر في النهاية، وستنفجر هذه القنابل تباعاً في وجه النظام لتقوض كل محاولاته ومحاولات حلفائه لإيقافه على قدميه مجدداً.
المدن