خليل الرز: أعمالي غير مرهونة بأزمنتها الواقعية
أسامة فاروق
الهوية ليست قميصاً تستطيع تبديله في كل بلد جديد تعيش فيه
increase
حجم الخط
decrease
مشاركة عبر
تتقاطع “منديل بالفراولة” الرواية الأحدث للكاتب السوري خليل الرز مع ليالي ديستويفسكي البيضاء، وعطيل شكسبير، وأعمال عالمية أخرى، لتجسد معاني مغايرة للحب والخوف والخيانة والوحدة والصداقة وصراع الإنسان مع ذاته.
ببطل سوري بلا اسم، كبطل الليالي البيضاء الحالم، يضع خليل الرز حدود لا نهائية لعمله استنادا إلى مخيلة خصبه وخيال غير محدود، فكما صادق بطل الليالي مدينة بيترسبرغ بشوارعها وعماراتها دون أن يكون له صديق واحد من سكانها، يقيم بطل “منديل بالفراولة” في موسكو إلا إنه يعيش فعليا في خياله راسما حياة حقيقية لكل ما تقع عليه عينيه؛ البشر والنباتات والحيوانات والأشياء. لكنه يكتشف أنه مهما انفصل عن الحياة الزائدة من حوله فإنه لن يستطيع العيش في داخله للأبد “لقد تعلمت بحكم خبرتي الطويلة بالعيش في داخلي، أنني لا أنجو دائما من منغصات عنيدة تتسرب إلى من الخارج رغما عني أو من تحت ركام الحوادث والأيام في ذاكرتي نفسها”.
برسالة قصيرة وثلاث حبات من الفراولة يتورّط البطل الذي يعمل بالنسخة العربية من جريدة أنباء موسكو في حب رايا الأذرية المتزوجة، وتحت سماء المدينة يخوض حروبا للدفاع عن حبه، أو لإعادة اكتشاف ذاته، خصوصا وأن تلك المغامرات ربما لم تخرج بدروها عن حدود خياله، وهو افتراض يعززه علاقته بفتاة أخرى -“نونا”- يلتقيها في الوقت نفسه. يجرى هذا كله على خلفيات متتابعة تشكلها المعاني والرموز المختلفة التي تشير إليها الفراولة وتحولاتها عبر العصور، من رمز للكمال والاستقامة والعفة، إلى رمزٍ صريح للإغواء واللهو والملذات الجسدية، ووصولا إلى شكسبير الذي نجح بعبقرية في الدمج بين المعنيين فهي “تصلح لأن تكون رمزا للعفة والإخلاص مادام المنديل في حوزة ديدمونة، كما تصلح، هي نفسها، لأن تكون رمزا للغواية والخيانة ما إن يصل المنديل إلى يدي كاسيو”.
لكن لا الزوج ولا العاشق بطل “منديل بالفراولة” انجرفا للهمجية كعطيل عندما حدثت المواجهة الثلاثية، ليكتب خليل الرز أحد أجمل مشاهد الرواية منتصرا لإنسانية بطله الحالم، ومقدما لمحة ملفتة لما يمكن أن تفعله الثقافة في نفس الإنسان، عندما يفخر البطل بالتغلب على “العجل” رمز همجيته وبإعادته داخل حظيرة نفسه، قائلا إنه طمره بكل الكتب التي قرأها والأغاني التي سمعها وحفلات الأوركسترا التي حضرها والمسرحيات والأفلام التي شاهدها وبكل اللوحات التي سحرته.
هنا يتحدث خليل الرز لـ”المدن” عن عمله بتفصيل أكبر..
-لو أن كل عمل ينبت من فكرة أو جملة أو مشهد حتى لو كان للكاتب نفسه فهل نستطيع أن نقول إن بذرة هذه الرواية نبتت من العمل السابق، الذي جاء فيه مدحا لقدرة الزرافة: “ربما كان مفيدا جدا لنا الآن أن نزيل قدر الإمكان، أو ننسى على الأقل، أو نهمل ما أمكننا، الحدود القديمة المتراكمة التي تفصل عادة بين ما نريد أن نفعله وبين ما نتمكن من فعله في الواقع، وكذلك الحدود بين الأمكنة التي نراها بأعيننا وبين الأمكنة التي نراها بقلوبنا أو بعقولنا” وهو تحديدا ما يقوم بطل الرواية الجديدة. هل جاءت الرواية من هنا؟ هل البطل غير المسمى هو المعادل الإنساني لزرافة الحي الروسي؟
قراءة لمّاحة أن تعتبر بطل منديل بالفراولة معادلاً إنسانياً لزرافة الحي الروسي. هما على كل حال يبدوان فعلاً من طينة واحدة، فهما، معاً، يتصرفان كما لو أنهما لا يشعران بالحدود التي تفصل بين الواقع والخيال. لكنّ هنالك فرقاً جوهرياً يميز أحدهما عن الآخر، وهو أن الزرافة لا تشعر بالحدود بين الواقع والخيال لأن هذه الحدود غير موجودة أصلاً بالنسبة إليها. العالم في نظرها، كما تخيل راوي الحي الروسي، غير مقسوم بين واقع وخيال، بل هو عالم واحد لم تتراكم فيه قط أي حدود فما تراه بالعين تراه بالقلب أيضًا. أما بطل منديل بالفراولة فإنه يدرك تمامًا أن هنالك حدوداً تفصل بين الواقع والخيال. هو يعرف جيداً الفروق القائمة بين العالم الذي يعيشه في داخله وبين العالم الذي يعيشه خارجه. وما فعله طيلة أحداث الرواية هو ضفر واعٍ لهذين العالمين المختلفين في جديلة واحدة. بمعنى آخر لقد استعان طيلة الوقت، بما يملكه من المعرفة والرغبة في اللعب وفي جعل حياته قابلة للتنوع، لكي يسرد عالمه الخارجي في عالمه الداخلي بصورة مختلفة.
-في السياق نفسه، هل نونا “منديل بالفراولة” امتداد لنونا “الحي الروسي” أم مجرد تشابه أسماء كما يقال؟
في شغلي الروائي يحدث أن تظهر شخصيات محددة في روايات مختلفة بعضها عن بعض من حيث العمارة الروائية والمقاصد الفنية. هناك مثلاً شخصيات مشتركة بين روايتي “البدل” و”الحي الروسي”. والشاعر قدري الباشا من رواية “سلمون إرلندي” يظهر في رواية “البدل” أيضاً إنما كشرطي سير. وكذلك نونا شخصية مشتركة بين “الحي الروسي” و”منديل بالفراولة” إنما في عمارتين روائيتين مستقلتين.
-عندما سألتك سابقا عن دلالة الزرافة في “الحي الروسي” قلت إن الأمر متروك للقارئ الحر في تأويله. هذه المرة يأتي تأويل منديل الفراولة داخل العمل، لكن في الصفحات الأخيرة، قرب النهاية كمكافأة متأخرة ربما، في الشرح الذي يقدمه مكسيم فاديميتش للمعاني والدلالات المختلفة للنبتة المغوية خصوصا عبر الانحياز للطرح الشكسبيري باعتبارها مسوغ للاحتمالات التي لا نهاية لها للعلاقة بين الرجل والمرأة. هل قصدت الأمر هذه المرة.. كيف ترى مسألة التأويل بشكل عام وأنت كاتب النص؟
القارئ حر هنا أيضًا في التأويل، فما جاء على لسان مكسيم فاديمتش كان استمراراً تقنياً أخيراً وضرورياً لظهور الفراولة منذ الحبات الثلاث الأولى في مطلع الرواية مروراً بتطريزها على غطاء طاولة في مطعم ثم بكيس الفراولة الصغير بيد نونا في ساحة بوشكين ثم بحباتها الحجرية الضخمة المحفورة على جدران محطة كازان وصولا إلى الفراولة التي هرستها نونا بقدميها ثم خلاصة مكسيم فاديمتش حول تاريخ الفراولة. والراوي هنا لم يعطِ تأويلاً لـ”منديل بالفراولة” كرواية، فما قصد إليه أن يسلّم القارئ، من خلال مكسيم فاديمتش، مفتاحاً للتأمل لا أكثر، لأن ظهور الفراولة في الرواية كان مترافقاً في كل مرة مع ظهور رايا أو ناتاليا أو نونا في حياة الراوي. ثم إن هنالك جوانب أخرى كثيرة متروكة تماماً لحرية القارئ في التأويل، فعلى خلفية هذه الثمار الشهية الحمراء المنثورة على صفحات الرواية يستطيع القارئ أن يكتشف مشاعر طازجة وآفاقاً جديدة للمتعة والتأمل في علاقة الراوي ببطل “الليالي البيضاء” وببطل لوحة “متجول فوق بحر من الضباب” وبالدمية القماشية التي وجدها تحت سريره وكذلك في ألعابه التي لم تتوقف في التنقل بين عالمَيْهِ: الداخلي والخارجي وفي تواجده، في بعض مشاهد الرواية، في أكثر من مكان في وقت واحد.
-هل كانت الرواية حاضرة في ذهنك من البداية إلى النهاية وقت الكتابة أم تطورت مع الوقت؟
بالنسبة لي الرواية ليست قصيدة لكي أكتفي بصورة مكثفة موحية أبدأ بها. فلكي أبدأ بكتابة رواية لا بد لي من تصور مسبق لهيكلها العام ولبعض شخصياتها. غير أنني لا ألتزم عادة، بعد أن أبدأ بالكتابة، لا بهذا الهيكل، كما ورد في تصوري المسبق، ولا بالرسوم الأولية التي تخيلتها لهذه الشخصية أو تلك. عملية الكتابة تتضمن دائمًا الكثير من المفاجآت الضرورية التي تطور، بل تبدل أحيانًا، مسار حركة السرد. وكل مفاجأة جديدة تفرض ارتدادات سردية تتمدّد إلى الصفحات المكتوبة السابقة وارتدادات مفترضة سوف تتمدد إلى الصفحات التي لم تكتب بعد، تماماً كدوائر الماء التي تحدثها حجرة صغيرة في كل اتجاه. ينطبق هذا الأمر على كل جزء من الرواية من جملتها الأولى إلى جملتها الأخيرة.
-اخترت زمن السرد في موسكو قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي. لماذا هذا الزمن بالتحديد؟
تستطيع أحداث هذه الرواية أن تجري في موسكو الآن أيضاً أو قبل عشر سنوات مع تغييرات طفيفة في إكسسوارات السرد لا أكثر. كما تستطيع أن تجري في القاهرة ودمشق إنما مع تغييرات أكثر جذرية في المكان الروائي وبناء بعض الشخصيات، لكنها، حتى في دمشق أو القاهرة، لن يلعب الزمن الواقعي فيها إلا دوراً ثانوياً، فأنا في نهاية الأمر لست مؤرخاً ولا أكتب رواية تاريخية. دائمًا أتعامل مع الزمن الواقعي بانتقائية وحذر شديدين حتى عندما يبدو مغرياً لإعطائه دوراً أساسيًا. معظم أعمالي غير مرهونة بأزمنتها الواقعية التي تجري فيها إلا بإكسسوارات غير جوهرية لكنها ضرورية لأسباب تقنية بحتة. ما يهمني أولاً، حتى الآن، إنجاز روايات جميلة، غير معلوكة سابقاً، حتى حين يتماهى بنسيج بنائها الفني ما يشبه المواقف غير المؤكدة من بعض الأحداث الواقعية التي حدثت قبل أو خلال كتابتها.
-في حوار سابق مع كاتبة مهاجرة قالت إن “ما نكتبه في الشتات يتمحور حول خبرة الاقتلاع من الثقافة الأم، أو البحث عن الجنة المفقودة، والتمزق بين اللغة والهويات المتعددة التي فرضت علينا”. أعتقد أن “منديل بالفراولة” تتماس بشكل كبير أيضا مع هؤلاء المهاجرين الذين يعيشون على الحافة الحائرين بين عالمين، حيث يغرق البطل المهاجر في ذاته كشكل من أشكال عدم التأقلم مع العالم. هل يمكن أن تُقرأ الرواية بهذه الطريقة أيضا؟
أقدّر ما قالته لك الكاتبة المهاجرة، لكنني، في الفترة الطويلة نسبياً التي عشتها في روسيا، لم أشعر يوماً بأنني مقتلع من ثقافتي ولا بحثت عن أي جنة مفقودة ولا شعرت بأي تمزق بين هويتي وبين الهويات التي لم تفرض علي أصلاً. الهوية ليست قميصاً تستطيع تبديله في كل بلد جديد تعيش فيه. هوية الإنسان، بالنسبة لي، تراكم يبدأ منذ ولادته وينمو طيلة حياته ولا يتوقف إلا بموته. أعني أن الهوية ليست حطبة يابسة أو شيئاً ثابتاً. كل الكتب التي قرأتها، حتى الآن، في الأدب العربي والعالمي وفي الفلسفة والتاريخ وعلم النفس وكذلك كل اللوحات والأفلام والمسرحيات التي شاهدتها والحفلات الموسيقية التي حضرتها، شاركت، كلها، في تشكيل هويتي الثقافية. لذلك فإنني سأهوّل عليك إذا قلت لك إن الهويات الأوروبية والأميركية واللاتينية واليابانية والصينية والروسية والعربية وغيرها من ثقافات شعوب الأرض التي وصلت إلي، فكراً وفناً وأزياء وصناعات، لم تكن ولن تكون جزءاً أساسياً مهماً في حياتي أو في حياة أي شخص لا يعيش في غابة بكر. ثم إنني لم أجد “مُقْتَلعاً” واحداً من ثقافته في موسكو لكي أكتب عنه، ولذلك فإن بطل منديل بالفراولة وصديقه سالم لم يشعرا، طيلة الرواية، بأي خلل بهويتهما، وأعتقد أنهما لم يفكرا بها مطلقاً، فقد كانا مندمجين، كل على طريقته، في حياتهما في موسكو. وإذا كان بطل الرواية يسرد العالم الخارجي في داخله، فإن ذلك لا يعني أنه يعاني من عدم التأقلم مع العالم الخارجي، بل هو يتفاعل مع هذا العالم يعمل فيه ويصادق ويحب فيه ويقوم بزيارات إلى ناسه ويذهب إلى مطاعمه وباراته ومسارحه ومتاحفه ويشاهد أفلامه ويتابع آخر ما أبدع كتابه المفضلون في مجلاته، فكيف يكون، والحال هذه، غارقاً في ذاته.
-اعدت كتابة روايتك “سلمون إرلندي” في تجربة ربما تكون غير مسبوقة على حد علمي. لكن لماذا فضّلت أن تصدر دون مقدمة توضح الفكرة والهدف من ورائها. وهل حظيت تلك الخطوة بالمتابعة النقدية المستحقة أو التي كنت تتوقعها؟ وهل ستكررها؟
لم أفكر حقيقةً بجدوى أن أشير، في مقدمة “سلمون إرلندي” الجديدة، إلى السبب الذي دعاني إلى إعادة كتابتها ثم نشرها ليس كطبعة ثانية بل كطبعة مختلفة. ربما لأن طبعتها الأولى نشرت منذ مدة طويلة، ٢٠٠٤، وربما لأن تلك الطبعة، بعد أن رفضت الرقابة السورية نشرها، بيعت منها نسخ محدودة جداً، تحت الطاولة، عن طريق دار نشر لأحد الأصدقاء. ما كان يشغلني إحساسي، مع تراكم خبرتي في الكتابة، بأن هذه الرواية مازالت قابلة جداً لأن تخرج في صياغة جديدة أكثر رشاقة. وقد كنت اعتبرها، وما أزال، أساساً لمزاج جديد بنيت عليه في أعمالي اللاحقة، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لاهتمامي بكتابتها مرة أخرى. كل ما كتبته ونشرته يظل بالنسبة لي مفتوحاً لاحتمالات مختلفة قد أقدم عليها في أي فرصة مواتية. بعبارة أخرى: ما دمت أكتب روايات جديدة سيكون لدي دائمًا ما أفعله في رواياتي السابقة. بدأت منذ فترة بإعادة كتابة روايتي “أين تقع صفد يا يوسف”، التي سوف تخرج على الأغلب بعنوان جديد، لكن انشغالي برواية جديدة أجّل استكمال عملي بها إلى وقت آخر. أما المتابعة النقدية المستحقة، فلا أنتظرها، لكنني سأرحب بها طبعًا إن حصلت.
-الأفكار التي تطرحها حول الأدب الروسي وغيره خصوصا في الرواية الأخيرة التي حوت الكثير من الأفكار اللامعة هل يمكن أن نراها في كتابnon fiction مستقبلا هل فكرت في هذا؟
لقد فكرت بذلك منذ سنوات، لكن انشغالي بأعمالي السردية لم يمنحني من الوقت ما يكفي لأن أتفرغ لتعميق وتوسيع الأفكار التي تراكمت في داخلي حول فن الرواية في كتاب. فضلت دائمًا أن أكتب رواية جديدة على كتابة الخلاصات التي توصلت إليها خلال قراءتي الاحترافية المتأنية والطويلة للأعمال الروائية والمسرحية العالمية، عبر تاريخها، بدءاً من سرفانتيس وشكسبير على وجه الخصوص. ولذلك تراني، أحياناً، أستثمر فنياً بعض هذه الأفكار في لحظات مدروسة بعناية شديدة في بعض رواياتي.
—–
خليل الرز روائي ومترجم سوري من مواليد 1956. صدر له مسرحية وتسع روايات: “سلاويسي” 1994، و”يوم آخر” 1995، و”وسواس الهواء” 1997، و”غيمة بيضاء في شباك الجدة” 1998، و”سلمون إرلندي” 2004، و”أين تقع صفد يا يوسف” 2008 و”بالتساوي” 2014، و”البدل” 2016، و”الحي الروسي” 2019 التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، بالإضافة لمسرحية “إثنان” وفي الترجمة عن اللغة الروسية صدر له “حكايات الزمن الضائع” ليفغيني شفارتس 2004، “مختارات من القصة الروسية” 2005 و”مختارات من قصص أنطون تشيخوف” في مجلدين 2007.
المدن