مراجعات الكتب

“سرقة أدبية”… رواية عن موهبة الانتحال/ عمار المأمون

لا يمكن أن يعترف كاتب بممارسته للانتحال بصورة تامّة من كتاب آخرين إلا تحت تهديد السلاح، ولو أشارت كل الدلائل والأدوات الأدبيّة والجمالية إلى ذلك، فالكاتب الرعديد يوارب ويحافظ على استقلاليته و”إبداعه”، بل ويتهم مُتهميه بالحماقة وعدم القدرة على القراء. بعض الكتاب أشد ذكاءً واطلاعاً، يستخدمون ألفاظاً كاحتفاء، محاكاة، تكريم، اقتباس لدفع التهمة عن أنفسهم. أما البعض الآخر، وهم قلائل، فلا يرى أي مشكلة في ذلك، صحيح لا يعترف الواحد منهم بـ”فعلته”، لكن الشأن لا جدل فيه، كلنا ننتحل بعضنا من بعض، عدد الحبكات والحكايات التي تتداولها البشرية منذ مطلعها يمكن رصده، ولا جديد ليكتب، يكفي فقط أن نجيد إخفاء أثر الآخرين، كي يصبح الواحد منا مؤلفاً.

التعريف بالفئات السابقة ضروري لنتمكن من رسم إطار لنوفيلا “سرقة أدبية” للمكسيكي إيكتور أغيلار كامين الصادرة عام 2020، والتي صدرت ترجمتها العربية هذا العام عن دار الخان بتوقيع حسن بوتكى، والتي منذ الصفحة الأولى فيها (حرفياً صفحة واحد) يختزل كامين كل الحكاية. هناك كاتب شهير يشغل منصباً ثقافياً هاماً في الجامعة في المكسيك، يجد نفسه فجأة في قفص الاتهام، هو لص مُنتحل، سرق من مقالات وروايات كتاب آخرين، كما انتحل الرواية التي نال إثرها جائزة مارتين لويس غوثمان من مارتين لويس غوثمان نفسه، ثم تركته زوجته، ثم اتهم بجريمة قتل من كشف انتحاله، ثم تحول إلى غني سريّ ذي سطوة لا يستهان بها في عالم الثقافة.

لا يخفي كامين في لقاء أجرته معه صحيفة إل باييس أنه انتحل بشكل واع أو غير واع من كل الكتاب الذين يحبهم، ونشير إلى أنه يستخدم كلمة انتحال حرفياً، لكن اللافت أننا حين نقرأ الرواية المكتوبة بلسان الأنا نكتشف آلية هذا “الانتحال” الذي تمارسه شخصية كامين المتخيلة أو الراوي، إذ يتجاوز الأمر “السرقة الحرفية” التي وقع بها المُنتحل مرة بسبب كسله، فالانتحال موهبة فذّة، ولا تختلف عن التأليف إلا بشيء واحد، من ينتحل يعرف الأصل الذي يقتبس منه، أما “المؤلف” فينسى الأصل أو يتجاهله.

غلاف الرواية

هذه الموهبة السرية قائمة على أساس قراءة معمقة للنصوص، ثم تحسينها، وإعادة تقديمها بلغة مختلفة لا يمكن سوى للمنتحل أن يكشفها، هذه المهارة ليست فريدة في عالم الأدب، نقرأها في “بندول فوكو” لأومبيرتو إيكو، ويمتلكها بيير مينار الشخصية البورخيسية التي تعيد كتابة دون كيخوتة مرة أخرى، فالانتحال مزيج من القدرة على رصد المكونات العميقة للعمل الأدبي ومهارة إعادة تقديمها، لكن أليس هذا هو بالضبط التأليف؟

هواية الانتحال الخطيرة

تمتد موهبة الانتحال لدى الكاتب خارج الروايات، هو قادر على “قراءة” الأشخاص وكأنهم صفحات. وهنا مأساته، هوايته المبتذلة حسب وصفه حولته إلى كاتب، لكنها في نفس الوقت سمحت له بكشف خيانة زوجته، جملة واحدة قالتها كشفت له عن عشيقها، هذه العبارة الغريبة “احتشاء المساريق” لا تنتمي لخزان الزوجة اللغوي، من أين جاءت بها ؟ ما السر وراءها؟ فالكاتب يتعامل مع زوجته الخائنة كشخصية في كتاب، والأمر مبرر، ألن نتهم أوفيليا بخيانة هاملت إن هي فجأة نطقت عبارة من كتاب فلسفي؟ ألن يتهمها القارئ الممتاز هاملت بأنها على علاقة مع هوارشيو؟ هذه القدرة على التحليل تشابه قدرة القارئ والكاتب على إدراك العالم اللغوي لشخصياته، وتفنيد مصادره، وكشف ما انتُحل من كتاب أو شخص، وهذا ما لم تفطن له الزوجة الخائنة، قدرة زوجها على “توثيق” عباراتها والبحث عن مصادرها.

المثير أن من كشف الكاتب المُنتحل أو فولتير، الناقد والروائي الشاب، لم يمط اللثام عن الانتحال هكذا بفعل الموهبة، بل عبر المفتاح، ذاك الذي كشفه الكاتب المنتحل لزوجته في لحظة حميميّة، وقامت هي بنقله لعشيقها فولتير. وهنا المفارقة، المنتحل المحترف، أو “المؤلف”، لا يمكن كشفه إلا أن قدم هو مفاتيح القراءة، وكَشْف السر إن أردنا اعتباره كذلك. المضحك هنا أن البعض يترك مفاتيح “انتحاله” قيد التداول، أو ينتحل بصورة سطحية لا حاجة لنا فيها إلى مفتاح. البعض يظن أنه صاحب نص “أصيل” لكن تقنيات القراءة أو حتى الذاكرة نفسها تمكننا من رصد التشابهات والتعديلات، وهنا نعود لما قاله الكاتب، هو صاحب هواية في جوهرها مبتذلة، هو يجمع ما يحب ويعيد كتابته بسبب “الحسد”.

تشبع الرواية رغبتنا بمعرفة تقنيات الانتحال وأساليبه، بل تقدم لنا صورة للكاتب المتصارح مع نفسه، ذاك الذي يرى أن كل نص لا بد أنه منتحل أو مقتبس عن آخر، مع ذلك يكتب/ ينتحل إعجاباً وتدليلاً لهواية جمع النصوص. لكن الشأن لا يقف هنا، فساد المؤسسة الثقافيّة الرسمية في المكسيك الذي نتعرف عليه في الرواية، يمكن أن يسحب على المؤسسات الثقافية بشكل عام، جوائز ملفقة، وساطات، استغلال جنسي، روايات رديئة تنال جوائز لأسباب سياسية. صورة الكاتب في هذا السياق بعيدة عن الصورة التقليدية، هو رجل علاقات عامة، موظف فاسد، مغامر جنسي، يكنز المال ويستفيد من نفوذه. على الطرف المقابل، هناك القرين، الكاتب الذي لا يغادر منزله، يقرأ ويكتب كالمجنون وحيداً (صورة تشابه القارئ المثالي الذي يتخيله فرانز كافكا)، ذاك الذي ما إن عرف “المفتاح” حتى اكتشف الانتحال وحارب المُنتحل علناً. هذا التقابل بين “المُلفق” و”المؤلف الحقيقي” مثير للاهتمام، ويحرك المخيلة، بل يتركنا أمام سؤال، هل من الممكن أن يكون لكل كاتب قرين قادر على كشف انتحاله وسرقاته؟.

كابوس من الخيال العلمي

تشبع الرواية الفضول والرغبة بالقراءة عن أساليب القراءة، لكنها في نفس الوقت تحرك كابوساً، قد يغير وجه الأدب، إن كان اكتشاف الانتحال قائماً على قارئ ممتاز ومفتاح للقراءة وجدل علنيّ، فالتكنولوجيا حالياً تحاول اختزال هذا الشأن، إذ كشف مجموعة من العلماء مؤخراً عن تطويرهم لذكاء اصطناعي قادر على تحليل النصوص ومقارنتها ورصد مكوناتها من أجل الكشف عن هوية كاتبها، الأمر سيطبق على منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك ذكاء اصطناعي مشابه لرصد الانتحال في الأبحاث العلميّة، لكن لنتخيل أن هذه التكنلوجيا سحبت إلى عالم الأدب والرواية، كم من انتحال سيتم كشفه؟

المرعب في الرواية وفي فرضية الذكاء الاصطناعي هو تهديد صورة المؤلف، بوصفه جامعاً للنصوص ويسعى لإخفاء أثر من هم قبله ليضع اسمه على غلاف الكتاب، لكن في حال اكتشاف مصادر التلفيق والاقتباس يفقد المؤلف صوته وفرادته، بل يمكن القول يتلاشى مفهوم الأدب نفسه، كون الحبكات والحكايات كما قلنا سابقاً معدودة، ومحاولة الخروج عنها بمواجهة كاشفي الانتحال والذكاء الاصطناعي شبه مستحيلة، خصوصاً أن الرغبة بالكتابة كما نرى في الرواية تتحرك بسبب الإعجاب بالكتاب الآخرين، والغيرة من عبقرية بعضهم، والرغبة بمشابهة نتاجهم العظيم، وحب جمع النصوص وإعادة كتابتها، واللافت أن الموهبة الوحيدة التي يمكن أن يُعترف بها لكاتب ضمن الرواية هي القدرة على القراءة العميقة ومهارة إعادة الكتابة، أما الحديث عن الإلهام، والتعبير عن الذات، والرغبة بالخلاص، فلا وجود لهذه كلها، هي أشبه بحجج المبتدئين والمؤمنين بأصالتهم الزائفة.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button