صفحات الحوار

حوار خاص| مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: شهادات وفاة المختفين قسرًا إدانة جديدة لنظام الأسد

أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان يوم الثلاثاء الماضي، 20 كانون الثاني/ديسمبر 2022، تقريراً عن وثائق بيانات وفاة حصلت عليها تخصّ مختفين قسرياً في سجون نظام الأسد.

ويقول التقرير أن نظام الأسد بدأ عام 2018 بتسجيل وفاة بعض المحتجزين لديه في مكاتب السجل المدني التابعة له دون إعلام أهاليهم في ما شكّل صدمة لكثيرٍ من الأهالي الذين علموا بوفاة أقاربهم المفقودين بهذه الطريقة الوحشية.

أجرى موقع ألترا صوت مقابلة موسّعة مع فضل عبد الغني، المدير التنفيذي ومؤسّس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بالتزامن مع صدور التقرير. تناولت المقابلة التفاصيل الجديدة التي يكشفها التقرير، مع تطرّقها أيضاً لمواضيع أخرى حول جرائم الاختفاء القسري والوضع الحقوقي العام في سوريا.

وفيما يأتي نصّ المقابلة التي خضعت لبعض الاختصار والتكثيف في بعض أجزائها لأغراض تحريرية: 

    على ماذا يركّز التقرير؟ وما هي الاكتشافات الجديدة التي يحتويها؟

يرتكز التقرير في الحقيقة على عدة أمور أساسية، أولها هو قاعدة بيانات المختفين قسرياً لدى الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هؤلاء المختفون تمّ اعتقالهم ومن ثم إخفاؤهم من قبل النظام على خلفية الحراك الشعبي. والمقصود هنا أننا لا نتحدّث هنا عن وثائق بيانات وفاة لأشخاص توفّوا بصورة طبيعية، وإنما لأشخاص مختفين قسرياً على خلفية اعتقال سياسي – اعتقال تعسّفي واختفاء قسري. الاختفاء القسري يشكّل جريمة ضد الإنسانية في حالة النظام السوري، لأننا نتحدّث عن تقريباً 96 ألف شخص مختفي قسرياً لا يزالون مختفين قسرياً لدى النظام السوري منذ آذار/مارس 2011. هذه النقطة الأولى.

ثاني أمر يستند عليه التقرير هو وثائق بيانات وفاة حصلنا عليها في هذا العام، وقد حصلنا على عددٍ كبيرٍ من هذه البيانات يصل إلى 547 وثيقة بيان وفاة لهؤلاء الأشخاص المختفين قسرياً.

قام النظام بتسجيل هؤلاء الأشخاص كمتوفيّن في السجل المدني دون إخبار أهلهم، وهذا هو الجديد في هذا التقرير، وهذا يختلف تماماً عمّا حصل في السابق. كان هناك في السابق بيانات وفاة صدرت وانتشرت عبر مكاتب النفوس، أو حصل عليها الأهالي الذين ذهبوا إلى هذه المكاتب، ولكن هذه الوثائق التي يرتكز عليها التقرير لم يتمّ نشرها ولم يحصل عليها الأهالي. هذا أبرز ما يستند عليه التقرير، وما يكشفه من تفاصيل جديدة.

    ما أهمية التقرير في هذا الوقت؟

التقرير مهم في هذا الوقت لأن بيانات الوفاة الجديدة مكّنتنا من إثبات تصوّر كان موجود لدينا، وقد تحدّثنا عن ذلك في السنوات السابقة، في 2018 و2019 و2020 عندما صدرت بيانات الوفاة وانتشرت في تلك الفترة، ونحن لدينا اليوم تقريباً 1060 بيان وفاة، ولكن البيانات السابقة قد تمّ نشرهم كما ذكرت. في ذاك الوقت قلنا أن النظام قد يقوم بتوفية أشخاص غير الذين يتمّ نشر بيانات وفاتهم، ولحدّ ذاك الوقت كان هذا مجرد تصوّر دون دليل، والآن حصلنا على دليل يثبت ذلك. هذا ما اختلف، وهذا ما يمنح التقرير أهميةً.

تواصلنا مع قسم كبير من الأهالي منهم من لم يكونوا على معرفة بمقتل ابنهم، وهو قُتِلَ قتلاً، لأنه لم يعانِ من أي مشاكل صحية عندما دخل [إلى المعتقل]، ومن ثم مات، فكيف مات؟ النظام كان ينكر في كل الحالات السابقة وجود هؤلاء المحتجزين مختفين لديه، أو أنه لا يعرف بمصير هؤلاء المواطنين. ونحن لا نتحدّث عن أعداد قليلة من هؤلاء الذين لا يُعرف كيف اختفوا. وبالتالي نحن في الشبكة السورية لحقوق الإنسان اتهمنا النظام بقتل هؤلاء، وبيانات الوفاة تشكّل دليل إدانة ضد النظام السوري.

هذه هي أهمية التقرير في هذا الوقت، فهو يكشف أن استمرار هذا النظام يشكّل كارثة على عشرات آلاف السوريين، نحن نتحدّث عن 96 ألف إنسان مهدّدين في حال بقي النظام دون حصول تغيير سياسي.

نحن في شهر 12 [كانون الأول/ديسمبر الذي يصادف صدور القرار الأممي 2254 عام 2015، أي منذ سبع سنوات، والعملية السياسية ما زالت تحت الصفر، وبالتالي نأمل أن يشكّل ذلك فضيحة كبيرة للنظام تؤدّي إلى تحرّك بالاستناد على التقرير.

    ذكرتم في التقرير أن النظام السوري يمتنع عن ذكر مكان الوفاة وسببها حتى في المراسلات الداخلية؟ بصفتك خبيراً في القانون الدولي، هل هذا أمرٌ مقصود؟ بماذا يستفيد النظام من ذلك؟

صيغة بيان الوفاة لا تحتوي على خانة “سبب الوفاة”. بعض البيانات التي حصلنا عليها تذكر مكان الوفاة، وتحصيل هذه البيانات أمرٌ صعب، فبيانات الوفاة ليست نسخةً واحدة، ولكن النسخة التي تُعطى للناس هي النسخة الأشهر، وكانت هذه الصيغة التي نشرناها، والتي لا تذكر المكان أو السبب، وإنما يقول دمشق دون تحديد المكان، وكذلك الأمر لسبب الوفاة.

النظام لا يذكر هذه التفاصيل لأنه لا يُعقل أن يذكر السبب الحقيقي للوفاة. كل المنظومة تعرف أن هذا الشخص مات في مركز الاحتجاز تحت التعذيب، فلن يذكر النظام أن المحتجز مات تحت التعذيب وهذا هو السبب الحقيقي، فلا يجد حاجةً لذكر أسباب أخرى لأن الجميع يعرف أنه مات تحت التعذيب.

وفاة 547 سوري محتجز في سجون نظام الأسد، بينهم أطفال ونساء

هذا الموضوع لا يحمي النظام أبداً من الناحية القانونية، لأن النظام واجبه أن يحمي مواطنيه، أي أن وظيفته فتح تحقيقات لمعرفة أين اختفى هؤلاء المواطنون. النظام في الواقع لم يفتح أي تحقيق ولم يفعل أي شيء، وهو ينكر وجودهم، وثم يسجّلهم كمتوفيّن. هذا لا يُعفي النظام أبداً ولا يحميه، بل بالعكس. يتوهّم النظام أن هذا يساعده، ولكن هذا لا يساعده أبداً. هناك أمور قانونية المفروض أن يلبيّها النظام، ولكنه لا يقوم بها أبداً. هذه البيانات تشكّل دليل إدانة قويًا جداً ضد النظام.

    كيف كانت ردّة فعل الأهالي ممن نقلتهم إليهم نبأ وفاة أبنائهم أو تسجيل أبنائهم؟

عملية إبلاغ الأهالي هي أكثر الجوانب حساسية وتعقيدًا. فكيف تخبر الأهل الذين فقدوا ابنهم أنه قد مات، أو أنك علمت بوفاة ابنهم. إنها عملية شاقة نفسياً وتسبّب الألم، ويترتب عليها كوارث. يُصاب الأهالي بالصدمة، حتى لو مرّ وقتٌ طويل منذ غياب أبنائهم عنهم، فالآن قد تأكّدوا، وهذه حالة مختلفة. يؤدّي ذلك إلى حالة من الحزن، وقسم من الأهالي يبكي، وهو ما يؤثر نفسيًا كذلك على جميع الأطراف المنخرطين في العملية. 

    ذكرتم في التقرير أيضاً أن هذه الممارسة بدأت عام 2018، بل وأن بعض الحالات تعود إلى 2013، لماذا برأيكم لجأ النظام إلى إخبار الأهالي بموت أقاربهم بهذه الكيفية؟

نحن تبيّنا أن هناك حالات مسجّلة منذ عام 2013، ولكن النظام لم يعلن عن هذه الحالات إلا حتى عام 2018. نحن نعتقد أن النظام واجه ضغوطاتٍ كثيفةً في تلك الفترة، وبشكل خاص من قبل الروس، لكشف مصير المفقودين، فاتجه إلى هذه الطريقة. وهذه الطريقة طريقةٌ متوحّشة، فالنظام لم يتصل بعائلة كل مفقود على حدة لإعلامهم بوفاة ابنهم على الأقل. بل قام النظام بتسجيلهم بالنفوس، والأهالي كانت تذهب إلى هناك لتسأل، وقد يكون المفقود متوفيّاً أو لا. إنها طريقة بربرية متوحّشة سبّبت صدمة للأهالي.

العائلات الأولى ذهبت إلى مكاتب السجل المدني للقيام ببعض المعاملات عام 2018، وعرفوا صدفةً. تخيّل أنك ذهبت إلى السجل المدني للقيام بمعاملة تخصّ عائلتك، ومن ثم يتمّ إعلامك أن المعاملة غير صالحة لأن قريبك قد تُوفّي.

    هل كان هناك حالات تبيّن فيها خطأ هذه الشهادات؟ ما سبب ذلك، هل كان هذا مقصوداً؟

لم يتبيّن معنا وجود أي أخطاء في هذه الشهادات.

    هل تركّزت هذه الحالات في مناطق وعائلات دوناً عن غيرها؟

“تظهر الخريطة أن أعلى حصيلة من المختفين الذي تمت توفيتهم عبر دوائر السجل المدني الـ 1609، كانت في محافظة ريف دمشق، ثم حمص، ثم حماة، ثم الحسكة. ووفق قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن محافظة ريف دمشق تتصدر بقية المحافظات السورية في حصيلة ضحايا الاختفاء القسري بما لا يقل عن 15703 مختفٍ قسرياً، وتأتي سادساً من حيث حصيلة ضحايا التعذيب بما لا يقل عن 1692 ضحية بسبب التعذيب. “

    كما تعرفون وكما ذكرتم في العديد من الإصدارات التي مسّت هذه القضية، فإن قضية الاختفاء القسري والتعذيب في سوريا من أدمى وأعقد القضايا على مستوى سوريا، وأقدمها أيضاً. ما هي الجهود التي يمكن تقديمها على مستوى المجتمع المدني، والمستوى المحلي لتحقيق تقدّم ملموس والانتصار للضحايا وعوائلهم؟

ما يمكن تقديمه من جهود هو وجود تذكير دائم وضغط حقيقي بهذا الموضوع، وهذا ما نحاول أن نفعله. بذلنا كل هذا الجهد بالحصول على هذه الوثائق، وهو أمرٌ معقّد وصعب، وهناك أيضاً إجراء التحقيق ونشره، لنُبقي القضية حية ونذكّر بها، وهذا هو هدفنا الأساسي، وأيضاً تشكيل ضغط على صناع القرار.

التقرير أخذ صدى جيدًا إعلامياً، وقد نشره حقوقيون بارزون حول العالم، وبرأيي يُفترض أن تنشر المؤسّسات عن التقرير، وأن تحكي عنه، وأن تناصره وما إلى ذلك. هذا هو دور المؤسّسات.

أيضاً هناك وسائل الإعلام التي يجب أن تناصر هذا الملف الحساس، وخاصّةً عندما يكون هناك تحقيق منهجي وقوي، أو ادلة ومعايير عالية.

كل ذلك يشكّل ضغط ويشكّل وعياً، فهناك حالة من اللاوعي عند قسم كبير من الجمهور بفداحة هذه الظاهرة في سوريا، وعدم وعي بما يفعل النظام بهذه الصورة البشعة والمتوحّشة والبربرية.

    ماذا عن المجتمع الدولي؟

نتمنّى أن يتخذ المجتمع الدولي خطوات ملموسة (وهذا أحد أهداف التقرير)، بمعنى التحرّك نحو تغيير هذا النظام بحلّ سياسي، لأنه طالما النظام مستمر، فهو يقتل المختفين قسرياً. هذه هي المعادلة.

هذا ما استطعنا القيام به. قمنا بمراسلة عدد كبير من وزارات الخارجية الأساسية في العالم، حوالي 6-7 وزارات، وتلقيّنا ردود فعل بين شكر وثناء وتقدير على الجهود.

ستقوم البعثة البريطانية في مجلس الأمن اليوم [21 كانون الأول/ديسمبر] بالإشارة إلى التقرير، والإشارة إلى هذا الموضوع.

 نأمل أن يكون هناك تحرّك وليس مجرد إدانات، هذا ما نستطيع القيام به ونحن نبذل أكبر طاقة وأكبر قدر ممكن.

    تذكرون دائماً في إصداراتكم أن واقع الانتهاكات الفعلي وأرقامها أكبر بكثير مما يتمّ توثيقه، وهو الحد الأدنى، هل ينطبق ذلك على قضايا الاختفاء القسري وحالات الموت تحت التعذيب؟

نعم، الحالات التي يتمّ توثيقها هي دائماً الحد الأدنى، لأن هناك صعوبات كثيرة تواجهنا في عمليات التوثيق، وهذا ينطبق على الاختفاء القسري والموت تحت التعذيب بشكل أكبر، لأن توثيق هذه الحالات صعبٌ جداً. هناك قسم هائل من العائلات لا يقوم بالتبليغ في ما يتعلّق بهذا الموضوع بسبب الخوف، ولا يعرف أيضاً من يستطيع أن يبلّغ. هذه مشكلة كبيرة جداً تواجهنا منذ عام 2011، وهناك صعوبة حقيقية بالحصول على المعلومة.

لهذا السبب نقول أن ما لدينا من بيانات يشكّل حد أدنى في الحقيقة. وطبعاً هناك صعوبات أمنية لأننا ممنوعين من العمل والحركة، ممنوعين من أي نشاط بشكل علني أو تواصل، أو ما إلى ذلك. كل ذلك هي عقبات تؤدّي إلى أن تكون البيانات بالحد الأدنى، وهذا في حالات الاعتقال أشدّ من حتى توثيق بقية الانتهاكات. ومن الصعب جداً أن نعرف إن كان هذا المختفي قسرياً قد مات تحت التعذيب أو لا يزال مختفي قسرياً. لولا بيانات الوفاة هذه، على سبيل المثال، لم يكن هناك طريقة لمعرفة وفاة هؤلاء المختفين قسرياً. ولهذا يبقى هؤلاء مصنّفين كمختفين قسرياً دون تحويلهم إلى متوفيّين تحت التعذيب بدون أدلة.

    هل ينطبق ذلك أيضاً على الأطفال والنساء؟

توثيق حالات النساء والأطفال أكثر صعوبة حتى من باقي الحالات. الإحصائيات الصادرة للأطفال والنساء أقل، خاصّةً النساء أكثر من الأطفال. من الصعب جداً معرفة النساء المعتقلات والمختفيات قسرياً، فهذا ينطبق عليهم بشكل أكبر.

    هل يمكنك أن تحدّثنا أكثر عن عمل الشبكة السورية لحقوق الإنسان؟

تُعنى الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالكثير من الملفات. ولكن باختصار بدأت الشبكة العمل منذ تأسيسها في حزيران/يونيو 2011، وهي تقوم بتوثيق انتهاكات بشكل يومي لبناء قاعدة بيانات وطنية للسوريين… بنك مركزي للمعلومات، قاعدة بيانات. تملك الشبكة مئات آلاف البيانات التي وثّقتها بنفسها ولم تجمعها، فهناك معلومات مجمّعة ولكن هذه تبقى منفصلة. تركيزنا هو على البيانات التي قمنا بتوثيقها وتحقّقنا منها.

Syrian Network for Human Rights

توثّق الشبكة أنماطاً كثيرةً من الانتهاكات، كالقتل خارج نطاق القانون والاعتقال التعسّفي والاختفاء القسري والتعذيب والاستخدام غير المشروع للأسلحة والقصف العشوائي والتشريد القسري والعنف الجنسي وانتهاكات بحقّ المرأة والطفل وانتهاكات بحقّ الممتلكات والسكن والأراضي ونهبها. هناك كمٌّ كبير من الانتهاكات وهذه ربما أبرزها. ونحن نصدر البيانات التي نجمعها ونتأكّد منها في تقارير لنبلّغ عمّا يحدث في بلدنا، وحجم هذه الانتهاكات، وأين حدثت، واستمراريتها وما إلى ذلك.

نحن نقوم بتوثيق جميع الأطراف، ولدينا فريق داخل سوريا، نصف فريقنا تقريباً داخل سوريا، وهناك قسم آخر خارج سوريا.

الشبكة أيضاً هي مصدر أساسي لعدد كبير من الدول، منها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا (دول العالم الأساسية)، وأيضاً هولندا والدنمارك وغيرها من دول العالم في ملف حقوق الإنسان في سوريا، وأيضاً لمنظّمات حقوقية دولية ومراكز أبحاث ووسائل إعلام.

    ما هو الوضع الحقوقي العام في سوريا؟ ما هي أهمّ مواطن النقص التي يجب سدّها؟

أبرز المعوّقات في سوريا هي أن الانتهاكات حجمها واسع جداً بحقّ المواطن السوري. القتل يصل إلى حدّ جرائم ضد الإنسانية، الاعتقال التعسّفي يصل إلى عشرات الآلاف من الحالات، والاختفاء القسري والتعذيب، وهذه الجرائم ما زالت مستمرة. والذين ارتكبوا هذه الانتهاكات ما يزالون في السلطة، ما يزالون يمارسون هذه الجرائم، ولا يوجد محاسبة على الـ11 عاماً التي مضت من انتهاكات فظيعة واسعة منهجية قاموا بارتكابها. هذا هو الواقع في سوريا.

مختلف الانتهاكات ما تزال موجودة، فالتشريد القسري ما يزال موجوداً، وأيضاً عمليات النهب والتعذيب. هذه هي أكثر المعوّقات الموجودة في سوريا.

أم سورية

وللأسف بسبب طول الأمد، لم تعد تحظى هذه الانتهاكات بلفت الانتباه، مع أنها لم تتوقّف. هل توقّف التعذيب؟ لم يتوقّف، وكذلك الاختفاء، وأيضاً هناك السبع ملايين إنسان الذين تمّ تشريدهم قسرياً. ولكن ما جرى هو تطبيع كل ذلك. لم يعد هناك انتباه كبير عندما تقول هناك سبع ملايين نازح في سوريا، أصبح ذلك أقرب إلى أمرٍ طبيعي، ولكن هذا ليس أمراً طبيعياً، فنصف الشعب قد تمّ تشريده قسرياً بين نازح ولاجئ.

المعوّقات الأساسية منها عدم تحقّق انتقال سياسي. بقي مرتكبو الانتهاكات في السلطة بالقوة، وليس بحكم شرعي، فكلهم فاقدون للشرعية كالنظام وبقية الأطراف كتحرير الشام و”قسد”، وحتى فصائل المعارضة لا تُجري انتخابات ديمقراطية وتبادل للسلطة وما إلى ذلك.

    ما هي معوّقات محاسبة نظام الأسد على الصعيد الدولي/الأممي؟

يُوجد سببان، أولهما هو الدعم الروسي والإيراني، وقد مكّنه ذلك من الإفلات من العقاب، وشكّل له ذلك دعماً كبيراً جداً، ولذلك هو ما يزال مستمراً بقوة. الأمر الآخر هو أن المجتمع الدولي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، لم تتخذ خطواتٍ لمحاسبة النظام السوري، وأكبر محاسبة هي رحيل النظام. الانتقال السياسي هي أكبر محاسبة، وذلك لأنك لن تستطيع إلا بعد تحققّ الانتقال السياسي أن تؤسّس محاكم محلية، وتحاسب مرتكبي الانتهاكات، وأن تأتي حكومة منتخبة تُعيد الحقوق.

من دون انتقال سياسي أو ما قبله، كل ذلك ستبقى الأمور محدودة وبسيطة جداً. المحاكمات [لمسؤولين في النظام] في أوروبا مثلاً هي أمرٌ بسيطٌ جداً.

هذان هما أكبر سببين، تمسّك روسيا بالنظام وبالتالي منعها لحصول حدوث سياسي، ومن طرف الدول الأخرى لا تشكّل سوريا أهميةً كبيرةً بالنسبة لهم كأهمية أوكرانيا مثلاً أو غيرها، ولهذا فقد تركوا الأمور في سوريا. صحيحٌ يتمّ إدانة الانتهاكات الفظيعة، ولكن لا يتمّ وقفها أو اتخاذ خطوات لتغيير الوضع، ولتغيير هذا النظام. فدفع العملية السياسية يحتاج إلى جهد وأوراق ضغط، وإلا فلن تتحرّك، وهذا هو الواقع، فلم تتغيّر العملية السياسية منذ عام 2012 وقت صدور بيان جنيف 1، وبيان مجلس الأمن صدر نهاية عام 2015 منذ سبع سنوات، ولم يتغيّر أي شيء ولن يتغيّر.

    كيف يمكن تجاوز هذه المعوّقات؟

تجاوز هذه المعوقات في الحقيقة يكون بأن نستمر كضحايا بالمقاومة والقتال، أن نطالب بحقوقنا، أن لا نسكت وأن لا نهادن في حقوقنا، أن لا يتمّ تسكيتنا، أن نطالب بالاستناد إلى المكتسبات التي حققناها من قرارات مجلس الأمن وما إلى ذلك، أن نضغط على الدول وصناع القرار بأكبر قدرٍ ممكن إعلامياً وحقوقياً وما إلى ذلك.

هذا ما نستطيع أن نقوم به، لا نملك أكثر من ذلك. كل المطلوب هو انخراطٌ أكبر للشعب السوري وللشعوب العربية بمناصرة الكارثة السورية، وإحياءها وتسليط الضوء عليها، وهذا يُفترض أن يكون أمراً مركزياً، ولكن هذا لا يحصل للأسف بالحجم المناسب من التأييد ومن الدعم والحشد والمناصرة.

يجب علينا أن لا نتهاون بما نملك بين أيدينا، وهذا نضالٌ طويل الأمد، وهو مقارعةٌ للاستبداد وموجات التغيير نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مسؤولية النخب المؤمنة بالديمقراطية.

    شهدنا في الفترة الماضية محاكمة أنور رسلان، أحد ضباط النظام السوري، في ألمانيا، وقد كان ذلك ضمن عدد من الحالات الأخرى. هل تعدّون ذلك خطوةً هامة، وكيف من الممكن البناء عليها؟

هذه بلا شكّ خطوة مهمة جداً، ونحن كباحثون نقيّم ذلك بناءً على الحكم الذي صدر، وكان الحكم هو أن أنور رسلان متهم بجرائم ضد الإنسانية، وفي هذا الحكم إدانة للنظام نفسه لأن الفرد الواحد لا يستطيع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وهذا أمرٌ مهمٌ جداً.

لكن هل هذا كاف؟ هو غير كاف، أي أنه مهم، ولكنه محدود في آنٍ معاً. من ناحية تحقيق المحاسبة للنظام، فهو محدود جداً. هذه المحاكمة هي خطوة بسيطة، ولو أنها مهمة وأعطت وزناً وشكّلت إدانة للنظام وما إلى ذلك، لكن هذه لا تكفي، فالنظام استمر بارتكاب الانتهاكات ولم يتوقّف دون أن يكترث بهذه المحاكمات، ولم يتوقّف التعذيب، وذلك لن يتمّ بهذه الأمور. ولكن هذه المحاكمة أكّدت كحكم محكمة على ممارسات النظام وأفعاله المتوحّشة ضد سوريا.

سنصدر قريباً تقريراً عن المحاكمات في أوروبا، وسيحكي هذا التقرير عن جميع المحاكمات في أوروبا وأحكامها، ومن هم الأشخاص الذين تمّت محاكمتهم ورتبهم وما إلى ذلك من تفاصيل مهمة جداً.

    تذكرون في إصداراتكم أيضاً أنه يجب فرض المزيد من العقوبات على النظام السوري، ألا ترون أن هذه العقوبات قد تزيد الوضع سوءًا بالنسبة للسوريين على الأرض؟

العقوبات التي نطالب بها هي عقوبات على أفراد ضمن النظام، وأن تكون أيضاً عقوباتٍ مدروسة، أي باختصار توسّع العقوبات على الأفراد. العقوبات مفروضة على عدد لا يتجاوز 500 من أفراد النظام، ولكن يُفترض أن يكون العدد أكبر ذلك بكثير، يصل إلى 2000-4000 فردٍ متورّطٍ بارتكاب انتهاكات في النظام، وهذا يُرسل رسائل سياسية، بأن أفراد هذا النظام فُرضت عليهم عقوباتٌ دولية، وما إلى ذلك. فهذه العقوبات لا تؤثّر عليهم بشيء في الواقع. إذاً التوسّع بالعقوبات على الأفراد الذين هم جزء من منظومة النظام، فهي عقوبات على النظام نفسه.

في المقابل، توجد عقوبات تضرّ وليس لها داعٍ كبير. هناك عقوباتٌ ضرورية، وبالتأكيد سيتأثّر بها الشعب، ولكن تأثير العقوبات محدود مقارنةً بأمورٍ أخرى يمارسها النظام، مقارنةً مثلاً بتشريد ملايين السوريين، مقارنةً بالدمار، بالتوقّف بالمعامل وهجرة رؤوس الأموال، بالفساد في النظام. وبالتالي نحن نعتقدُ أن استمرار العقوبات على النظام ودائماً فرض عقوبات عليه ترسل رسائل سياسية ضرورية، وهي تكون مستندة على أمور يقوم بها النظام. فمثلاً تفاصيل التقرير الذي صدر تُبنى عليها استحقاق النظام فرض عقوبات على 30-50 شخصًا من داخل النظام متورّطين بهذه الأفعال.

    هل يتأثّر النظام بهذه العقوبات بالشكل المطلوب؟ كيف يمكن جعل العقوبات موجّهة بشكل أكبر؟

طبعاً يتأثّر النظام بالعقوبات. هذه العقوبات تملك دلالةً رمزية، بأن هذا النظام منبوذ، محتقر، ذليل، فما هي الأنظمة التي تُفرض عليها العقوبات بالعادة؟ أبشع وأسوء الأنظمة، كإيران وكوريا الشمالية وروسيا… هذه الدول “الدنيئة” في موضوع حقوق الإنسان هي التي يُفرض عليها عقوبات، وهي شديدة الدناءة، فهناك دول أخرى أقل سوءً لم تُفرض عليها عقوبات، وإنما هذه هي الدول المتدنيّة جداً في موضوع حقوق الإنسان وهي التي يُفرض عليها عقوبات.

فرض العقوبات هي من صلب القانون الدولي. يجب فرض عقوبات حتى يلتزم [النظام]، وهي تؤثّر عليه، بأن هذا النظام لا يتمّ التعامل معه بسبب العقوبات، ومن يفعل ذلك سيتأثّر أيضاً. ولهذا السبب لا يتعاطى مع النظام سوى دول منبوذة مثله. العقوبات تؤثّر وتؤذي النظام بدون أدنى شك.

بالمقابل، العقوبات وحدها لا تكفي، ولهذا يجب استخدام أدوات أخرى معها، كالضغط باتجاه حل سياسي، وضغوطات أخرى حتى تثمر العقوبات بشكلٍ أسرع، وبالتالي يرتدع النظام. العقوبات لا تعمل وحدها كأداة عقاب ومحاسبة.

الترا صوت

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button