الصعود إلى منابع الفكر/ باسكال كينيار
ترجمة وتقديم: رجاء الطالبي
ولد باسكال كينيار عام 1948 في فيرنويل سور آفر (فرنسا). ويعيش في باريس، روائي له عدة أعمال أدبية نذكر منها (كاروس، معرض فورتمبيرغ، سلالم شامبورد، كل صباحات العالم، سطيحة في روما، فيلا أماليا، التضامنات الغامضة، دموع، في هذه الحديقة التي أحببناها…). كما قام بتأليف مجموعتين يختلط فيهما الخيال بالفكر (الأطروحات الصغيرة 1981- 1990، المجلدات من الأول إلى الثامن، المملكة الأخيرة، 2002-2019، المجلدات من الأول إلى العاشر). و»الرجل ذو الثلاثة أحرف» هو المجلد الحادي عشر من المملكة الأخيرة.
«الموت من التفكير» هو المجلد التاسع من الدورة الأدبية «المملكة الأخيرة» لباسكال كينيار، الذي قمنا بترجمة هذه الأوراق المقدمة منه. بدأ الكاتب كتابتها قبل اثني عشر عاما، هو في الوقت نفسه مقال فلسفي، ومذكرات عقل متيقظ، واعتراف فكري، ومتعة التفكير البركاني. اشتهر كينيار كعالم ينحدرمن سلالة الهيلينيين واللاتينيين، من هيراقليطس إلى سقراط، من تشوانج تزو إلى لوكريشيا أو أبوليوس، من مونتين إلى ديكارت وروسو، عبر سبينوزا، لورينز، فرويد، باتاييل أو لاكان.. ليست هذه القائمة شاملة، لذلك، يختبر المؤلف ويفحص بأكبر قدر ممكن عددا من الفلاسفة من الدرجة الأولى الذين تورطوا روحا وجسدا في فعل التفكير. دفع البعض منهم ثمنا باهظا. سقراط، على سبيل المثال، حُكم عليه بالإعدام، وذهب آخرون إلى المنفى أو انتحروا. ما يهم قبل كل شيء في هذا الكتاب هو أن سعة الاطلاع تصبح على وجه التحديد عاملاً من عوامل الاستكشاف، ويرجع الفضل في ذلك على وجه الخصوص إلى علم الاشتقاق الذي يمارسه كينيار كواحد من الفنون الجميلة.
-1-
الفصل الأول
في عام 699 وافق الفريزيان على اعتناق المسيحية. في شهر مارس/آذار سنة 700، في أول يوم من السنة، في أول أيامها، بينما كان راشورد، ملك الفريزيين، واقفا أمام جميع قبائله، على استعداد لتلقي المعمودية، وبينما كان عارياً تماماً، وقد وضع إحدى قدميه في جرن التعميد لحظة ساوره الشك، متردداً في وضع القدم الأخرى في الماء المقدس، سأل الكاهن الذي كان يستعد لتعميده قلقا:
ـ لكن أينهم أسلافي؟
مامن جواب.
عندها رفع ملك الفريزان عينيه. نظر إلى الكاهن المسيحي الذي بقي بلا حراك، والذي كان قد بدأ في رفع يده مستعدا لرمي الملح حول الرجل الذي كان على وشك أن يغطس في الماء المقدس للقضاء على الشياطين.
أعاد الملك سؤاله:
ـ أين يوجد القسم الكبير من أسلافي؟
التزم الكاهن الصمت محافظا على قبضة يده الممتلئة بالملح مرفوعة فوق جرن التعميد، منتظرا أن يقرفص ملك الفريزان بالكامل.
غاضبا رفع راشورد صوته، مكررا للمرة الثالثة سؤاله بتوضيحه أكثر، أين يوجد أسلافه؟ هل يوجد أسلافه في الجحيم؟ هل يوجدون في الجنة؟
انتهى الكاهن بأن يدير رأسه نحو راشورد.
متلفظا بكلمة جحيم.
عندما عرف أن كل الملوك الذين سبقوه يوجدون في الجحيم، سحب الملك راشورد قدمه التي غطسها في جرن التعميد. ابتعد عن الكاهن، والرهبان، ومن مسبح التعميد، ذهب للالتحاق بفرسانه الذين كانوا في مقدمة المجمع، همس لهم:
ـ إن الشيء الأكثر قدسية هو اتباع الأغلبية بدل السير وراء الأقلية.
ثم غادر الكنيسة دون أن يستدير إلى الوراء، لقد كان الوحيد من بين كل الفريزان الذي تصرف هكذا. لم يتبعه أي من رعاياه حسب، بل لم يتبعه أي من فرسانه، حتى مرافقه الذي كان دائما إلى جانبه في حروبه، رفض مرافقته. مرت ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع لم يستيقظ الملك راشورد من نومه، لقد تم اكتشاف موته، أصبح فمه أسود.
Sanctius est plures quam pauciores sequi
هذه كانت كلمة راشوردوس إلى كل فرسانه. الشيء الأكثر قدسية هو في اتباع الأغلبية لا الأقلية. إنها الديمقراطية الفعلية.
في الأسطورة الذهبية، تتبع هذه القصة الصغيرة، دون أي سبب، وفاة بِيد المُوَقّر. هذا المشهد عجيب في مهاراته الحركية. ترتفع يد، مظهرة حفنة من الملح الأبيض في الهواء العابر، والقدم مائلة للخلف، كأنما تحاول الشعور بالمياه الأصلية، التي لا تصل إليها. يعبر النص اللاتيني بقوة عن التشويق (تعليق قدم الملك راشور) et jam unum pedem في lavacro، alteumretrhens.. كان الملك قد وضع قدما في الماء المقدس، بينما أمسك بالقدم الأخرى، متراجعا، حين سأل بحزن:
Ubinam plures majorum suorum essent ?
في أي مكان يوجد أسلافي؟
وفي الترجمة الحرفية: في أي مكان يوجد أكبر عدد من أسلافي؟
٭ ٭ ٭
إن الانتماء للجماعة هو أحب من أن تبقى وحدك دون انتماء، تبدو الخصوبة محببة مقارنة بالفضول. يمثل الوفاء للتاريخ العائلي جاذبية أكثر من الوضوح الأبدي في الاتصال مع الله. يتطلب هذا الشجاعة من أجل اختيار مجتمع الأسلاف عوض الحياة الأبدية. لأنه يحق لنا أن نعتقد أن الشخص الذي يدعونه فوراجينراشوردوس يؤمن بصدق بالله. يتحدث علنا إلى جميع رجاله في السلاح ومحكمته. إنه ينبذ حقا الخلود المستقبلي من منطلق التضامن الجينيالوجي الخالص مع أسلافه المتوفين. عاريا، يرتجف من البرد، ممسكاً بقدم واحدة في يده، والأرداف مسترخية على حافة الجرانيت المصقول للحوض، في اللحظة التي يكون فيها على وشك الانغماس في الماء المقدس، بجرأة، يفكر في نفسه فجأة: «أفضل الجحيم الأبدي مع موتاي بدلا من أن أكون في الجنة وحيدا». يستحضر تاليمون دي ريو. جواب فرانسوا دي ماليرب:
ـ عشت مثل الآخرين. أريد أن أموت مثل الآخرين وأن أذهب إلى حيث يذهب الآخرون.
٭ ٭ ٭
إن حساب راشوردوس ذو طبيعة إحصائية، إنها علاقة قوى بين كميتين من الكائنات. في هذا الحساب، يتعارض عدد الأسلاف الذين اختفوا مع عدد الأحياء الذين يحيطون به. يسأل الراهب الذي هو على وشك أن يخيف الشياطين، حيث قد توجد الأغلبية (الملذات). يمكن للمرء أن يترجم بتخطي كلمة «Sequi»: لأن الأقلية أقل قدسية من الأغلبية. يمكن للمرء أيضا تسمية هذه النقطة «خطأ ملكي». اقترف ملك الفريزيين، راشوردوس، الخطأ الاستراتيجي نفسه الذي اقترفه الملك الفرنسي لويس السادس عشر. في نظره، ما وراء مَلَكِيته، ما يهم فقط هو الإحصائية التي تتحدث عن «لا يوجد فرد متفرد» هي وحدها التي تهم داخل كل من يصرخ. الهتاف العام، الحركة الصاخبة للجماهير، صرخة الجمهور، النجاح، الانتصار، قائمة المبيعات، الاعتراف الجماعي، التمجيد الديني، تكرار الإعلام، كلها أمور مقدسة. لا تمثل الدولة الفردية حتى «مرحلة» في تطور المجتمعات والحضارات. ملعونة هي التجربة الفردية، ملعون هو الكسل، البحث الجريء، الفن، الدراسة، النشوة، كل ما ينفصل عن الأسرة، كل ما يتحرر من المجموعة، كل ما يتحرر من اللغة المنطوقة، هو ملعون.
حاشية 1. الإيمان أفضل من الرؤية الواضحة. السعادة خير من الفضول.
حاشية 2. إن صراع التواصل الشفوي والحوارات بين الطبقات أو الجماعات المتصارعة أفضل من الثورة الخفية للأفراد وأحسن من الصمت الكلي الذي تجسده الكتب.
٭ ٭ ٭
لم تعد النقطة الأخيرة تتعلق بالعدد، بل بطبيعة الكتلة المرجعية. ما هي هوية الكتلة الأكبر؟ من يسمي «الملذات»؟ الكتلة الأكبر هي الكتلة المتزايدة باستمرار. ما هي الكتلة المتزايدة باستمرار؟ كومة الموتى. الملك راشورد واضح. إنه لا يتردد للحظة في هذه النقطة وهذا الوضوح هو بلا شك مساهمته الرئيسية في الشرعية التي يتطلبها جهد الفكر. جوهر العملية هو التضحية. المرجع هو كومة الموتى. تكون «كومة الموتى» دائما الأهم في المجتمعات البشرية، لأنها تنمو مع كل الأحياء الذين ينضمون إليها في ذكرى أولئك الذين بقوا على قيد الحياة.
حاشية 3. كومة الموتى التراكمية هي الكتلة المعيارية لمجتمعات الكتابة البشرية. ومن هنا جاء اختراع القبور (مدن الماوراء الحجرية) في فجر مجتمعات العصر الحجري الحديث، أي في أعالي مدن الأحياء التي تركت نفسها للخشب والأوراق، للحاء والجلود.
٭ ٭ ٭
مات زوينجلي وهو يهتف:
– سيكون أسلافك هناك أيضا!
قام الكاثوليك بتقطيعه إلى أجزاء لأنهم أرادوا أكله مثل الوحش البري. استولى ميكونيوس على قلبه وألقاه في نهر الراين حتى لا يمزقه الكاثوليك بالتهامه ولا يجعلوه منهم بهضمه.
٭ ٭ ٭
خفض الملك راشورد عينيه عندما قرر سحب قدمه من الماء. همس، وهو يسحب أصابع قدميه المبللة، خافضا جفنيه: «أفضل عدم التفكير والانتماء».
ماذا نسمي التفكير؟ حرب أهلية داخلية. حرب أهلية حشوية. لا يمكن للفكر أن يكيّف نفسه مع ممارسة سلطة من شأنها أن تحمي فضوله. قلب نقي. لماذا يتيه. إنه جوع فكري جائع بلا انقطاع (على الأقل، كل خمس أو ست ساعات، يتم تنبيه الفكر من جديد في النهار كما ينتصب العضو الذكري في الليل، متغير مثل حنجرة قلقة، جائع مثل معدة فارغة).
لا يمكن تمييز الفكر عن محاولة التفكير، بمعنى لا يمكن تمييزه عن التلصص الجنسي، والنقص، والشذوذ العقلي، والانفصال الاجتماعي، والخوف الذي يثير الدماغ، وعن النظرة الحيوانية والحيوية التي يتم إلقاؤها على أي شذوذ يفسد المجال. سؤال لا ترضيه أي إجابة مفتوحة على مركز التنشيط النفسي.
حاشية 4. لا يمكن للمراقبة القلقة والراغبة أن تخضع لأي مهمة أو خضوع. من يحيا ينتمي لما هو حيوي.
————————–
-2-
خُصص المجلد التاسع من المملكة الأخيرة لباسكال كينيار «الموت من التفكير» للفكر. وهكذا يصل باسكال كينيار إلى قلب بحثه، كتابا بعد كتاب، تسعى المملكة الأخيرة لتجربة طريقة أخرى في التفكير. طريقة تفكير لا علاقة لها بالفلسفة. طريقة للتركيز على الحرف، على تجزئة اللغة المكتوبة، والمضي قدما عن طريق تحطيم صور الأحلام، وتشويش الأشكال اللفظية، والكشف عن نصوص المصادر. يستكشف هذا الكتاب ثلاثة أشياء. كيف يلمس الفكر والموت بعضهما بعضا؟ كيف أن الفكر قريب من الكآبة؟ كيف يقيم الفكر بجوار الصدمة؟ من يفكر «يعوض» عن هجر قديم جدا؟ ما يجعل قعر الفكر هو الأم المفقودة.
فكما أن الحلم هو معنى تستشعر صوره المضطربة والمكثفة والمتناقضة شيئا يستبق النوم ويعود إليها، كذلك فإن الفكر هو المعنى الذي يستخدم كلمات مكتوبة، ومنسوخة، ومترجمة، ومقشرة، ومشتقة، ومحددة، تجسم روابط بين الصور الظلية المتناثرة حيث ضعنا في ما مضى.
٭ ٭ ٭
يقف ملك الفريزيين على حافة الحوض كما يقف مالك الحزين على حافة بركة. Intinctum pedem retrahens…
لكن الملك رشورد، عوضا عن غطس القدم الأخرى في الماء البارد، يسحب القدم اليمنى التي كان قد بدأ يبتلعها الماء هناك؛ ينسحب من المجموعة المحيطة. ينكفئ على نفسه في ذاكرته مستحضرا أسلافه اسما اسما، كل الموتى المنحدرين من سلالته. كان يفكر: «أن التنشئة الاجتماعية للصغار الذين يولدون ويتعلمون لغة الآباء من شفاه الأمهات الباقيات على قيد الحياة هي أكثر حيوية من تفكير الذوات التي تشيخ، منفصلة عن الآخرين حذرة من كل شيء ومن الناس».
الفصل الثاني
يمكننا أن نموت من التفكير (1)
كان أويستراخ وستيرن صديقين حقيقين. دامت هذه الصداقة عشرين عاما دون أن تبلى. وحده الموت الذي لا ينجز شيئا، هو الذي وضع حدا لها. كانت آخر مرة التقيا ببعضهما بعضا في لندن، سنة 1974. لم يكن سن أويستراخ حينها سوى ستين سنة، لكنه كان يبدو في عين ستيرن قد انهكته السنون كليا. زاد وزنه كثيرا. (كان سيموت بعد ثلاثة أشهر.) أخذ إسحاق ستيرن يد صديقه قائلا:
ـ أنت متعب دافيد.
ـ نعم أنا كذلك
ـ اهجر بلدك. وتعال لترتاح هنا.
ـ لا يمكنني القيام بذلك، إسحاق. لن يتركوا زوجتي وأبنائي يهاجرون معي.
ـ إذن عليك أن تقلل من ساعات عملك.
ـ لا يمكنني فعل ذلك. إذا توقفت عن اللعب، أفكر. وإذا بدأت أفكر، سأموت.
الفصل الثالث
يمكننا أن نموت من التفكير (2)
لم يتعرف أحد على أوليس في ثيابه الرثة ما عدا كلبه أرغوس. كتب هوميروس منذ 2800 سنة، في الأوديسة الجزء السابع عشر، البيت 103: Enoèn Odyssea eggus eonta. ، والترجمة الحرفية هي : فكّر في «أوليس» وهو يرى إلى هذا الرجل الذي يتقدم أمامه. إن المشهد مؤثر جدا لأنه لا رجل ولا امرأة في جزيرة إتاكة لم يتعرف بعد على أوليس متخفيا في هيئة متسول: وحده كلبه المسن، أرغوس، الذي تعرف على هذا الرجل فجأة. الكائن الأول الذي تفاجأ وهو يفكر، في التاريخ الأوروبي، هو كلب.
كلب فكر في إنسان.
استأنف المشهد: يتمدد الكلب على الروث. يرفع رأسه عند سماع صوت ارتفع بقرب الباب. يرى إلى متسول يتكلم مع راعي الخنازير. لكن لم يخدع التنكر طويلا الكلب: فكر أن المتسول المتخفي هو أوليس. فجأة، وفي اللحظة نفسها، أحس أوليس بدوره أن أحدا ما تعرف عليه في الفضاء (إن أحدا «فكر» فيه في الوسط المحيط به). نظر أوليس حواليه، فأبصر، أخيرا وليس ببعيد عن البوابة، كلبه المسن، ملقى على كومة من القمامة والقش المتسخ، أرغوس، الذي كان يركض معه خلف الخنازير البرية، والأيول، والأرانب البرية، والوعول قبل عشرين عاما، عندما كان ملك الجزيرة. لم يكن أوليس يرغب في أن يتعرف عليه أحد. مسح بسرعة دمعة سالت على خده الذي لوثه قبل ذلك بقطعة من الفحم حتى لا يمكن التعرف عليه. في تلك الأثناء، نظر أرجوس إلى الأعلى، ومد خطمه في الهواء، «فكر» في أوليس وهو ينظر إلى المتسول، هز ذيله، نكس أذنيه نحو الأسفل، ومات.
نجد أن أول من يفكر لدى هوميروس هو كلب لأن فعل «noein» (الذي هو الفعل الإغريقي الذي يترجم بفكَّر) يدل أولا على الفعل «شم». فالتفكير، هو أن تشم الشيء الجديد المنبثق في الهواء المحيط بك. هو أن تحدس ما وراء الثياب الرثة، ما وراء الوجه الملطخ بالأسود، قلب المظهر الزائف، والمحيط الذي لا يكف عن التبدل، الفريسة. نقول عن التأمل في اللغة الإغريقية theôria. كانت الفريسة غارقة في المفترس. لم يتم التفكير في الفريسة دون عدوان شبه فوري، دون تدمير ناتج عن الرؤية، ودون تفانيها الكامل في بقايا جيفة مفككة من قبل كل حيوان مفترس مشبع. ما من شيء يتأمله، بمجرد أن يشبع جوعه، سوى بقايا الطعام: خشب، عظام، أسنان، أنياب، فراء، جلود، دروع، ريش، فضلات، روث.
إنه المعجم الأول
كل هذه النقوش في المجال البصري، بقايا الأحياء، آثار المهارات الحركية للحيوانات البرية، تقنيات الاستذكار لموتاهم، هي أحرف كثيرة (باللاتينية litterae) شكلت الشيء الوحيد الذي يمكن تأمله. كتب بارمينيدس أن العلامات (باليونانية السيماتا) هي أولاً براز الحيوانات المطاردة، ثم الآثار التي تشير إلى مسارها، وأخيراً النجوم (باللاتينية sidera) التي تحدد مسارها. تصبح علامات مرور الحيوانات هي علامات التعرف التي توجه الصيادين نحو فرائسهم – حتى ينقلبوا فجأة ويصبحوا علامات مسارات تجعل من الممكن العودة من مكان قطع الطريدة إلى «المنزل» إلى «ناره» وصولاً إلى حشد الطرائد الميتة والمقطعة ، وصولاً إلى إمكانية ولادة محكي ليس فقط للصيد لكن أيضا للبقاء على قيد الحياة مع عائلته، جالسين حول لهب النيران التي تطبخ الطرائد الميتة. تُقال حركة العودة في اللغة اليونانية meta-phora. إن حركة العودة إلى الوراء تقال في الطاو الصينية.
فكر الإغريق القدماء في تركيا (مثل الصينيين القدماء في الطاوية) في المفكر فيه كذهاب وإياب: noein و neomai. كانوا يفكرون في التفكير على أنه ذهاب لا ينسى الطريق الذي يسير فيه. الذهاب الذي يذهب بينما يعود بالفعل، هذا هو الطريق، الزقاق، الطريقة التي تشكل أساس الفكر. يكتب تشوانغ تسو: هكذا هو الطاو. يكتب هيراقليطس بمهارة في العصر نفسه: إنه سباق عكسي (سباق يعود أدراجه). لهذا رغب المفكرون اليونانيون الأوائل قبل تأسيس الفلسفة في بناء كلمة noos (فكر) في كلمة nostos (عودة) كان التفكير هو التيه في أي مكان متذكرين مع ذلك إمكانية العودة أحياء إلى عائلاتهم بعد الخروج من محنة الموت. هناك ندم (باللاتينية regressus) حتى في جرأة التفكير. هناك طريق لا يمكن نسيانه في ما يفكر فيه. هذا ما تعنيه الكلمة اليونانية منهج (meta-hodos): الطريق العكسي (الطريق التلخيصي) أو على وجه التحديد النقل -عبر (meta-phora) الذي يتم في الاتجاه المعاكس. هناك شخص ضائع يحب نفسه إلى ما لا نهاية في الحركة النوستالجية للتفكير. هل يستطيع البشر التفكير دون عودة؟ لا.. نحن نفهم لماذا يفكر روشفورد أولا، قبل أن يتخذ قرار تحويل جسده، يفكر قبل أن يغرق جسده في ماء أصلي جديد: «أين رحل موتاي؟» تملكه ندم فهرب من الماء الأبدي ليجدهم، بعد ثلاثة أيام، حيث يوجد الكثيرون منهم: في ظلام العالم الآخر حيث ينكمش جميع الموتى الذين تلاشوا تحت الأرض. هذه هي الطريقة التي يصف بها البيت 326 من الجزء السابع عشر من أوديسة هوميروس طاناطوس الغريب (شهوانية، انكماش، اكتئاب، موت) لكلب الصيد الذي تبع فورا حدسه (شمه، فكره). غطت ظلال الموت عيون أرغوس مباشرة بعد أن رأى أوليس الذي كان ينتظر رؤيته عشرين عامًا…
كاتبة مغربية
القدس العربي