الناس

مدينة باسل الأسد الجامعيّة…حكايات فساد وسرقة ومعاناة طلاب سوريين/ ورد بيك

ماذا سنذكر من هذه البلاد وسنين الدراسة فيها! سوى روائح التعب والجوع والحمامات المتسخة، وأيامنا التي تصبح أخشن كل يوم.

فقد تمام (اسم مستعار لطالب جامعي في سوريا) وصله الجامعي عندما سُرقت منه محفظته ليلاً، وصل يسمح له بالدخول إلى حرم السكن الجامعي التابع للدولة. كان تمام طالباً جامعياً في سورية حينها، اضطر الى الإقامة في هذا السكن كحال طلاب كثر مجبرين في هذه البلد، وكي يدخل إليه عليه أن يُخرج بطاقته التي تثبت أنه مقيم في شكل قانوني في هذا المكان. لم يسمح له الحارس بالدخول ليلتها، على رغم وجود أضبارته لديه، وبعدما عجز عن الدخول، سأله: ماذا سأفعل؟، فقال الحارس بصوت منخفض: “أي كشكشنا شوي..”

مدينة باسل الأسد الجامعيّة

لم يكن فقدان وصل السكن هاجساً للطلاب الذين أمضوا أياماً طويلة هناك، أياماً استطاعوا من خلالها فهم مجريات الواقع المرقّع، ومعرفة مفهوم “الترخيص القانوني” الذي يباع على حدة، إذ كان حارس السكن يكتفي ببسكويت عادي، بسكويت بقيمة 50 ليرة سورية تمكنك من أن تدخل إلى السكن من دون وصل رسمي لك، ثم بدأت تزداد قيمة هذه الرشوة وذلك تناسباً مع ارتفاع سعر الدولار، إذ أصبح الحارس يطلب أنواعَ بسكويت مختلفة وذات سعر مرتفع يصعب على الطلاب في غالبيتهم شراؤها، أو أنواع دخان أجنبية ذات نكهات مختلفة، وبقيت هذه الرشوة تزداد حتى وصلت في نهاية عام 2019 إلى زجاجة نبيذ.. 

ارتبط اسم “باسل” بذاكرة الأجيال السورية منذ ولدت، كَبُرَ معها ورافقها في كل زمان ومكان.. الكتب المدرسية، شعارات الترديد، الإعلانات الحزبية، أسماء الطرق والمدارس والمرافق العامة، والمؤسسات كافة. لطالما سخط كثر من خطة تأليه هذا الاسم، هذا التكرار المستخفّ ألا يجعلنا نتساءل، كما يقول سامر (اسم مستعار) وهو طالب جامعي: “ماذا فعل باسل الأسد حقاً كي نذكره دائماً! هل اشترى لنا الخبز؟ هل أنقذ عمي من القتل، وحمى خالي الشهيد؟، هل حمل عني دلو الـ 20 لتراً من المياه نحو الطابق السادس؟ هل عالج ألم أقدامي من الوقوف! هل وصل لي الكهرباء حينما كنت أدرس في العتمة والبرد! هل أمّن لي غرفة وسرير في مدينته الجامعية الكبيرة؟ لو فعل ذلك لكتبت اسمه فوق سريري إن لزم”.

أمّا تمام فيقول: “مدينة باسل الأسد الجامعية، منذ قرأت هذه العبارة عند مدخل حرم السكن الجامعي، علمت أن الداخل عبارة عن كارثة لا أكثر، كارثة مغلّفة إعلامياً ورقابياً تحت غطاء حزبي كي لا تفضح المستور”.

“ماذا فعل باسل الأسد حقاً كي نذكره دائماً! هل اشترى لنا الخبز؟ هل أنقذ عمي من القتل، وحمى خالي الشهيد؟، هل حمل عني دلو الـ 20 لتراً من المياه نحو الطابق السادس؟ هل عالج ألم أقدامي من الوقوف!”

ترميم الغرف الحزبية في السكن الجامعي

الضغط الهائل للطلاب أمام برود الجهات المعنية وتكاسلها في تأمين وحدات سكنية لطلاب، يمكنه صنع ثورة حقيقية لهذا البلد كثورة ربيع 2011، لمَ لا تروّض هذه الحكومة قدرة هذه الأجيال الثورية على بناء البلد؟ أحقاً لا تستطيع حكومة واجهت حرباً كونية على حد وصفهم، بناء وحدات سكنية إضافية ذات خدمات متدنية على أقل تقدير مثل باقي الكتل البنائية؟ في المقابل، كان بناء الجوامع والمساجد يزداد في جوار المنطقة السكنية، والطلاب ينتظرون صلوات تنقذهم من هذا الجحيم.

حجة ترميم بعض الوحدات السكنية طالت أكثر من سنتين ونصف السنة، جعلت وحدتين سكنيتين مغلقتين تماماً في عز ازدحام طلابي زاد على 10 آلاف طالب من مختلف المحافظات السورية. وأدى تعطُّلْ هذين البنائين إلى زيادة عدد القاطنين نحو 5 الى7 طلاب في الغرفة الواحدة، غرفة لا تزيد مساحتها على الـ 7.5 متر مربع تتسع على الأكثر لطالبين في أفضل الأحوال، تحوي سريرين  وفراشاً للنوم فقط بسبب ضيق المساحة، أي هناك ما يقارب الـ3 طلاب سينامون على سرير  واحد، أو سيضعون دوراً ليليّاً للنوم كما فعل محمد ومحي الدين وبشار في الغرفة، يقول بشار ساخراً: “لا بأس.. سنعتبر هذا تدريباً لما سيحدث لنا في فترة تجنيدنا العسكري”.

بعد الانتهاء من الترميم في مطلع الـ 2019 ودخول الطلاب إلى هذه الوحدات، لم يُلحظ أي تغيّر واضح من الداخل سوى أن غرف الأشخاص المدعومين الحزبية دُهنت مجدداً، وتم تبديل أقفال الأبواب وإصلاح بعض تمديدات قواطع الكهرباء..، والتغيير الأوضح الذي حصل هو تغيّر لافتة اسم “مدينة الشهيد باسل الأسد” وتجديدها بوضع إضاءة ليلية لها، ووفق الدكتور غ.إ، مدير السكن الجامعي في حينها، استطاع بعض المسؤولين سرقة المبلغ المخصص للترميم، وهو يقارب الـ 100 مليون ل.س (150 ألف دولار آنذاك) وتقسيمه تبعاً للمنصب الوظيفي بينهم، فكلما زاد المنصب ازداد معه المبلغ، هذا التناسب الطرديّ هو أساس تعايش معظم الفاسدين السوريون الذي قرروا استغلال الأزمة وسرقة أموال الطلاب وأحلامهم معها، أكد لنا هذه الرواية أحد الموظفين المقربّين من مشرف إحدى الوحدات السكنية في حمص، والذي أخذ حصّته مقابل تكتّمه على الموضوع. 

لا تختلف هذه المعطيات عما قبل الحرب، فمن يقول إن الأزمة هي سبب هذا التكدّس البشري هو غير مدرك للواقع في شكل كافٍ، والدليل على ذلك تجارب العديد من الطلاب الذين اضطروا الى النوم في ممرات السكن بقرب الحمامات المتّسخة في عام 2010، أي قبل أن تبدأ الحرب السورية بسنة، وذلك بسبب ازدحام الغرف دوماً.

لا خصوصيّة لأجساد الطلاب

لنتخيّل حجم ثماني حيوات مختلفة لثمانية طلاب يعيشون داخل غرفة مساحتها تقدر بـ 7.5 متر مربع، يقول تمام: “لماذا ستتّسع هذه الغرفة؟ فالطاولة الواحدة تُستخدم للدراسة والطبخ ولإغلاق باب الغرفة المحطم ليلاً، التخت الصغير في الصباح هو مائدة للطعام، وفي المساء هو فراش ينام عليه طالبان على جانبيهما كي يوفر كل منهما مساحة للآخر، المغسلة المكسورة تُستخدم لغسل الأواني والثياب والأجساد المتعبة، فإذا أردت الاستحمام ما عليك سوى أن تُخرِج باقي رفاقك من الغرفة كي تأخذ حماماً سريعاً”.

يقول هيثم، وهو طالب في جامعة تشرين في اللاذقية يعاني من الربو، أنه اضطر إلى دخول المستشفى لأن شركاءه في الغرفة مدخنون ولا يستطيع أن يقيّد حرّيتهم في هذه الغرفة الصغيرة، فالكل حرٌّ ومحكوم في الوقت ذاته، لم يستطع إيجاد حل بديل، لا واسطة كبيرة له ولا يملك قدرة مادية تجعله يستأجر خارج السكن، الحل الوحيد الذي كان أمامه هو أن يسافر يومياً من بيته الواقع في محافظة أخرى إلى جامعته، ويعود بالعكس يومياً.

التحقيق في المؤسسات التابعة للنظام السوري قد يكلّفك حياتك، بخاصة إن حاولت فضح المستور. يحاول النظام جعل الداخل السوري أشبه بصندوق مغلق لا باب له، لذلك فإن الإفادات الشخصية التي حصلنا علينا، كانت في غالبيتها تحت مسمى مستعار كي لا تعرّض أصحابها لخطر الاعتقال والمساءلة. يقول أحد الطلاب الذي لم يذكر اسمه إطلاقاً: “إلى هذا اليوم، أذكر حين دخلت للمرة الأولى الوحدة السكنية، لم أصدق أن هذه الغرف هي ما يُسمى بالسكن الجامعي الأكاديمي، منذ وصولي الى الوحدة بدأ قلبي يرتجف حرفياً، استقبلتني روائح الحمامات المتّسخة ممزوجةً برائحة طبخ الطلاب الجائعة.. هذه الروائح شكلت مزيجاً منفراً جعلني أتساءل: هل سأمضي حياتي الجامعية كاملةً في هذه السجن؟”.

في النهاية، لا بد أن ينعكس هذا كله على تحصيل الطالب السوري العلمي، نعم  هذا ما منحتنا إياه الحرب: الهشاشة ونظام رخو يجلس على كرسيّه الثابت طوال الوقت، ينذرنا من “تمورور” الذي سيكون ملكه وحده. ماذا سنذكر من هذه البلاد وسنين الدراسة فيها! سوى روائح التعب والجوع والحمامات المتسخة، وأيامنا التي تصبح أخشن كل يوم.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى