نجوم «المهمشين»… أو كيف صار التنمّر بديلاً للجدل/ محمد سامي الكيال
يمكن اعتبار قصص معظم نجوم كرة القدم المعاصرين كلاسيكية جداً، تتبع قالباً له نظائر في أعمال ثقافية عديدة، من الروايات التاريخية وحتى مسلسلات الأطفال. خاصة إذا كانوا من أصول «مهمّشة». والتهميش هنا له دلالات متعددة، فقد يعني الانتماء لبلد عالمثالثي أو «جنوبي»؛ أو الانحدار من أقلية عرقية في الدول الغربية؛ أو حتى الارتباط بجذور عمّالية، ومدن وبلدان غير «محظوظة» في الجنوب الأوروبي (البرتغال، مدن جنوب إيطاليا، إلخ). دائماً هنالك طفل يعاني لأسباب ما، هو وعائلته، ثم يعشق كرة القدم ويتميّز بها، وصولاً إلى أن يحقق النجاح، ويصبح من أصحاب الملايين.
الحديث عن «قالب» لهذه القصص لا يعني أنها غير صادقة، بل يعني أساساً أن في إمكان النجوم، والفريق العامل معهم من خبراء إعلام، استخدام أدوات سردية لتبسيط تعقيد حيواتهم، وتقديمها بصورة جذّابة، تخلق تعاطفاً وارتباطاً معنوياً كبيراً بهم بين الجمهور. وتبسيط التعقيد من أساسيات أي خطاب. إلا أن الأمر لا يتعلّق فقط بفن التسويق، بل يدخل أيضاً في السياسة والثقافة السائدة في بلد ما، وكذلك الرموز الثقافية القابلة للتداول المعولم، وبالتالي فإن هذا التسويق له وظيفة أيديولوجية أساسية، يمكن قراءتها على مستويات عدة.
يوجد نقد يساري شهير لهذا النوع من القصص: الحديث عن إنجازات النجوم من أصول مهمّشة يُعلي من قيم النجاح الفردي بدلاً من التضامن الجماعي؛ ويُغرق أبناء الطبقات الأدنى بالأوهام، ومنها قدرتهم جميعاً على تحقيق الشيء نفسه. بلغة الأرقام والإحصائيات يوجد ملايين وملايين من «المهمّشين» الذين لن يصبحوا يوماً ميسي أو كريم بنزيما، أو حتى من محترفي أندية الدرجة الثانية والثالثة، وسيغرقون باليأس والإحباط، عندما يدركون أن كرة القدم لا يمكن أن تكون خلاصهم وخلاص طبقتهم. يصعب إنكار صحّة هذا النقد، إلا أن للمسألة جوانب أكثر تعقيداً، لأن قصص النجاح هذه ليست مجرد أفيون للفقراء، بل تحوي عناصر أيديولوجية موجّهة لجميع الفئات والطبقات، وعابرة للحدود والثقافات، من أهمها ربما إنتاج الصورة/الخطاب منزوعة الأشكلة. يبدو النجم هنا مادة قابلة للاستهلاك على مختلف المستويات: أحلام الفقراء؛ محبو الرفاه والسلع «الاستفزازية»؛ المهتمون بالعلاقات الرومانسية والعائلية ومعايير الجسد المثالي؛ بل حتى «القضايا العادلة» مثل معاداة العنصرية والبيئة والعمل الخيري.
برز دائماً نجوم رياضيون حملوا قضايا اجتماعية وطبقية تتعلق بـ«التهميش» ربما كان أشهرهم الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي، إلا أنهم في ما مضى كانوا شديدي الإشكالية، ومثيرين لجدل سياسي كبير. اليوم لا يثير النجوم أي جدل، أسوأ ما قد يتعرّضون له هو عواصف «التنمّر» على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يكون السؤال الأفضل هنا عن الأبعاد الأيديولوجية لنزع الأشكلة في ما يتعلّق بالتهميش: لماذا لا تثير صور اليوم جدلاً، وإنما تثير تنمّرا؟
مينستريم معاداة التنمّر
يواجه المهمّشون تنمّراً مستمراً. هذه من المقولات المكرّرة التي لا تثير كثيراً من الاعتراضات، إذ أن التنمّر أداة لإذلال الطرف الأضعف، ومن المُفترض أنها تعكس علاقات القوة الاجتماعية. وتعميم هذا المصطلح من عوالم الأطفال والمراهقين في المدارس إلى مجالات الحياة المختلفة، ربما يكون، في جانب منه، فهماً لدور المؤسسات المدرسية في إعادة إنتاج الهرميات الاجتماعية والرأسمال الرمزي. في حالة التنمّر على النجوم والمؤثرين من أصول مهمّشة، يُفهم من «خطاب الكراهية» ضدهم النية في الانتقاص من فئة أو هوية ما واضطهادها، دون الالتفات هنا لعوامل قوة أخرى، مثل أن نجوماً يمتلكون أرصدة مصرفية متضخّمة، بيوتاً كثيرة، وأساطيل من السيارات قد يكون أقوى اجتماعياً ومادياً وسياسياً من جميع العنصريين المتنمّرين.
ما يطرحه هؤلاء النجوم، إلى جانب ألعابهم وفنونهم، الحضور الأيقوني لهوية ما، وهو حضور له جانبه التمثيلي: في عالم المشاهير وأصحاب الملايين المحلي أو العالمي، لا يوجد فقط «رجال بيض» أو أشخاص منتمون للأغلبية القوية، بل أيضاً أناس من مختلف الأصول، التي كانت مهمّشة. «النظام» اتسع ليُمكّن الجميع، وما التنمّر هنا إلا عنصرية خائبة تنتمي للماضي، صادرة من أشخاص يريدون عرقلة إصلاح النظام لنفسه، أي أنهم يقفون في وجه مسيرة التاريخ، بشكل من الأشكال. وبغض النظر عن الحساسية اليسارية، التي تعتبر كل هذا محض خداع، فإن فهم منطق انتشار صور المشاهير المهمّشين، ومعاداة التنمّر ضدهم، يساعد في تفسير نزع الأشكلة: تمثيل المهمّشين في صدارة المشهد الاجتماعي يجب أن لا يثير جدلاً، أو يؤدي لاعتراضات جذرية، وإلا فإن آليات التمثيل في النظام ستختل، ولن تتمكن من تأدية وظائفها في تأمين القبول والاعتراف، لا يمكن اعتبار السجال هنا صحّياً، وكل اعتراض لن يكون إلا تنمّراً.
مشاهير الماضي، الذين ارتبطوا بحركات الحقوق المدنية أو التحرر الوطني، لم يكونوا موضوعاً لتمثيل هوياتهم في متن يجب أن يستوعب الجميع، بل تصرّفوا بمنطق التناقض: لون بشرة محمد علي كلاي، اسمه، لكنته، وملامحه التي تعكس قسوة الحرمان، كانت في حد ذاتها إدانة للفئات المسيطرة، لم يطلب اعترافاً بقدر ما طرح الفرضية النقيضة، وهي أن ملايين ممن يشبهونه سينتزعون حقوقهم في عالمهم، على حساب مجتمع السادة إن استلزم الأمر. حقق كلاي في النهاية الثروة والنجومية، وربما القبول، لكن هذا لم يكن الأساس في سيرته، فصورته لم تكن صورة «المؤثّر» ذي الحياة الرغيدة، بل المناضل. الأهم أن هذا النمط من المناضلين كان دائماً مثيراً للجدل، حتى إسلام محمد علي كلاي لم يكن منزوع الأشكلة، لا بين الأمريكيين ولا بين المسلمين أنفسهم. وهذا مرتبط بطبيعة الخطاب النضالي آنذاك. لا بد من أن يبتكر المتمرّدون شيئاً جديداً، أو يعيدوا إنتاج ما هو معروف، كي يطرحوا فرضيتهم البديلة.
بالمقارنة مع ليونيل ميسي أو كريستيانو رونالدو نفهم أهمية التهذيب في صورة النجم المعاصر، لكي تكون مؤثراً يجب أن تظل في كل حالاتك، بما فيها الغرور والغضب والحسد، في مجال مهذّب، لا يشقّ صفاً، أو ينقض إجماعاً، وعندها لن يسعى للنيل منك إلا المتنمّرون.
إدارة الهامشية
لكن كيف ينعكس كل هذا على البشر، الذين يتمّ تصنيفهم بوصفهم هامشيين؟ لا شيء تقريباً، إنها قصص، صور، بوستات وستوريات ستلفت الانتباه لفترة ما، ثم تذهب في سبيلها. الملاحظ في هذه الظواهر أنها لا تؤدي إلى أي صيغة اجتماعية تتمتّع بشيء من الاستقرار. من يتشاجرون لأجل لاعبي كرة القدم اليوم، سينفعلون غداً لأجل ملابس فنانة ما، أو قد يشعرون بالتهديد بسبب تصريحات على إعلام دولة غربية بعيدة جداً، يعتبرونها «استعلاء». لا تنظيم فاشي، أو يساري، أو حتى ديني، سينشأ من كل هذا، فلا داعي للقلق.
إدارة «الهامشية» في زمننا، في أكثر نسخها استحداثاً، لم تعد تهدد حتى بنتائج غير مرغوب فيها، مثل تنظيم «داعش» وربما كان استعمال لفظ «الهامش» نفسه زيادة على اللزوم، إذ أن الهوامش باتت جزءاً أساسياً من تعريف المتن، وهو الحيّز الذي ينتعش بفضل الاستياء. إنه، تعريفاً، المجال المتسع لتسوية واستيعاب كل تناقض ممكن، ولذلك، فحتى حوادث الإرهاب والقتل الجماعي العبثي يمكن أن تُحال لـ»خبراء» قادرين على معالجة الحالة. لا يوجد إلا «اعتلال» ما، نفسي أو اجتماعي أو ثقافي، يُنقل «ضحاياه» إلى مصحّات نفسية أو إصلاحيات، ويتعرّضون للرقابة المناسبة لشفائهم، أو إبعاد خطرهم عن بقية الناس، لم يعد هنالك مجال لـ»مناضلين» يبعثون الرسائل، من وراء القضبان، لأنصارهم.
القيمة السوقية
لا تتمتع مفردة «سوق» بكثير من الاحترام في اللغة العربية، ومنها اشتُقت كلمة «سوقية» للدلالة على الوقاحة والجهل والانحدار القيمي، وبالمقارنة مع اللغات المنحدرة من أصول لاتينية/جرمانية فإن لفظ Vulgarity، في الإنكليزية مثلاً، يشير غالباً إلى دلالات متعلّقة بالعامة ولغاتهم وأسلوبهم في التعبير، وبهذا يمكن للعربية أن تقدّم بعض المساهمة في فهم التطوّرات الحالية. فإذا كانت نصرة «العامية» فعلاً أقرب للديمقراطية في السياق الغربي الكلاسيكي، فإن «السوقية» يمكن أن تشير إلى انعدام ملحوظ للمعنى في كل «القيم» المُسلّعة، التي يتم تصديرها في الإعلام الجماهيري، بوسائله القديمة والمُحدثة.
للنجوم الحاليين، ومنهم مشاهير كرة القدم، قيمة سوقية كبيرة، وهي بالفعل «سوقية» لأنها تشير إلى كل التكرار، الخالي من أي قيمة يمكن رصدها، لقصص يمكن أن تثير الانتباه والانفعال، لكنها لن تُنتج تغييراً، حتى على مستوى الثقافة الجماهيرية. وهذا قد يمكّننا من فهم السبب الذي يجعل لاعباً مثل مارادونا محبوباً أكثر من ميسي، رغم أن الأخير قد يكون أكثر «مهارية». ربما يكون مارادونا ممثلاً لـلـVulgarity، لكنه بالتأكيد ليس «سوقياً» مثل ميسي المهذّب.
كاتب سوري
القدس العربي