“علم اجتماع الأدب” اليوم: في علاقة الأدب بالمعرفة الاجتماعية/ جاك لينهارت
الجزء الأول
ترجمة: إدريس الخضراوي.
مقدمة
يَكمنُ الغرض من هذه المقالة(1) في مناقشة الوضع الحالي لعلم اجتماع الأدب بوصفه علاقة بين الأدب والمعرفة الاجتماعية. إن طرح السؤال بهذا المعنى ينطوي على ضرب من الحذر، إذ يُعيّنُ، منذ الوهلة الأولى، مسافة بين الأدب والمعرفة الاجتماعية، تتجلى من خلال حرف العطف “الواو”، الذي يربط ويفصلُ بينهما. إن هذه المسافة المفترضة لا تشكّل حكمًا مسبقًا على العلاقة القائمة بين علم الاجتماع والأدب؛ بل تفتحُ، على العكس من ذلك، مساحة للتفكير بين هذين المتنين الخطابيين. وهذا أفضل بكثير.
أرى في ذلك علامة مميزة لِحالة من النضج يتسم بها التفكير في العلوم الاجتماعية التي تبنّت الشكّ الذي يثقل كاهل فكرة العلم، أو المعرفة، عندما يتعلق الأمر بمجال العلوم الإنسانية. إن استحالة الفصل بشكل واضح بين الذات وموضوع المعرفة، وهو أمر معروف منذ نشأة الفكر الديالكتيكي(2)، جعلت من الضروري توخي الحذر الذي يستشفّ من هذا العنوان. كما أنتجت هذه الاستحالة تطورًا ملحوظًا من خلال تعديل موقع الأدب في هذه الثنائية dyade. وبينما منحت مقولة “علم اجتماع الأدب”، الأدب الموقع الذي يشغله الموضوع في سيرورة معرفية أحادية الاتجاه، أصبحنا ندرك حقيقة أن الحدود بين الخطاب الاجتماعي والخطاب الأدبي كانت سهلة الاختراق، وأنه ربّما تضمّن الأدب كثيرًا من علم الاجتماع، بقدر ما تضمّن علم الاجتماع الأدبَ.
وعلاوة على ذلك، تمثلت إحدى إنجازات المرحلة البنيوية في إجبار جميع التخصصات على إدراك حقيقة أنها تمارس إرادتها في المعرفة في الحقل الملزم للغة. لذلك يجب على علم الاجتماع الآن أيضًا، مثل التاريخ، ألا يستجوب فقط معجمه الذي يعجّ بالمفاهيم التي تم تشكيلها مع مرور الوقت بخصوصِ التجارب الاجتماعية التي تعود أحيانًا إلى عدة قرون، ولكن عليه أيضًا أن يُراجعَ خطابه، وطريقته في إقامة البرهان، وفي بناء السببية الاجتماعية، وأخيرًا في مخاطبة القارئ و”تمثيل” الواقع له.
غالبًا ما نتحدث عن “علم اجتماع الأدب” كما لو كان تخصصًا مُؤسّسَ الموضوع والأساليب، وبالتالي كما لو كان من الممكن استعادة اللحظات المهمة التي طبعت تكوّنه. لقد كان الأمر، ولا بد من الاعتراف اليوم، يعني بالتأكيد الحديث عن ظلّ شبح. يلقي الكتاب التمهيدي القيم لبول ديركس(3): “علم اجتماع الأدب” Sociologie de la littérature الصادرِ عام 2000، الضوء على هذه الطبيعة التي تتأبّى على الضبط التي تسم موضوع “علم اجتماع الأدب” من خلال الإشارة إليه بوصفه “تخصّصًا متحركًا”. ينطبق هذا الوصف، بلا شك، على جميع فروع العلوم الإنسانية، لكننا سنستنتج من هذه الصيغة الثاقبة، أنها تسمح لنا بالتشديد على حقيقة أن تكوين موضوع قادر على إنتاجِ تخصّص، عملية تتم على مراحل، وأن [هذه العملية]، ربّما، ليس لها نهاية. إنها تشبه مسيرة طويلة تتخللها لحظات متفاوتة من الكثافة الفكرية والسياسية.
منذ بداية القرن التاسع عشر وتداعيات الثورة الفرنسية (راجع مدام ديستال، 1999- 4)، ساهمت العديد من الأعمال في بناء هذا الحقل العلمي. تأثرت هذه الأعمال أول مرة، كما يذكّرنا وولف ليبنيز(5)، بإرادة علم الاجتماع الناشئ في ترسيم حدود منطقة نفوذ خاصة به، من خلال المغالاة في تثمين اختلافه عن الأدب. لقد تعلّق الأمر بوضع عقبة صمّاء بين عالم المحادثة المتمدّن الذي فيه تم التعبير عن فكر القرن الثامن عشر، والمعرفة الاجتماعية الجديدة.
وفي الواقع، انْتقِدَ كتّاب تلك الفترة لأنهم لم يقوموا بالتفريق، بشكل واضح، بين المعرفة العامّة وخطاب “علمي” مشيّد، وبترسيخ الأشكال الصارمة للتخصص الأكاديمي. لقد تطلب العلم الجديد جهدًا منهجيًا كان يجب أن يكون ملموسًا في شكل الخطاب ذاته. وفي بعض الحالات، يُمكنُ أن تظهر المصطلحات بوصفها مظهرًا من مظاهر العلمية. لقد أدرج التمرين الشاق للعقل المنهجي، العقل الرياضي في العلوم الإنسانية: كان من الضروري أن تستند العلوم الإنسانية إلى محو التفرد الذاتي لصالح العمومية الإحصائية.
اليوم، لا يزال “علم اجتماع الأدب” لا يشكّل تخصصًا بالمعنى الذي يفهمه العالم الأكاديمي. لا توجد مجموعة من القوانين والقواعد التي يُمكنُ لأي باحث أن يعرفها، ويجب أن يلتزم بها. وهذا أحد الأسباب التي تفسّر مدى هشاشة موقعه في الفضاء المؤسسي للتعليم العالي. يبدو علم اجتماع الأدب مثل جسد أوزوريس، فمجاله موزّع بين العديد من التخصصات وحقول المعرفة التي تمتدّ من اللسانيات الاجتماعية إلى التاريخ الاجتماعي للكِتاب، أو التاريخ الاجتماعي، للمؤلفين، ومن تحليل الأجناس الأدبية إلى النقد الاجتماعي. ويفسّر هذا التشتت، في دوره، تعدّد الأسماء التي يُعرّفُ بها الباحثون المقاربة التي يستخدمونها: “علم اجتماع الأدب”، “علم الاجتماع الأدبي”، “علم اجتماع الواقعة الأدبية”، و”النقد الاجتماعي”، وغيرها من التسميات.
صعوبة تحديد موضوع خاصّ بعلم اجتماع الأدب
يَتجنبُ علم الاجتماع الأكاديمي عمومًا معالجة الموضوع الأدبي بشكل مباشر، لأسباب سبق أن حددها دوركايم في عمله العمدة: “قواعد المنهج في علم الاجتماع”. ومن أجل التمكّن من درْس موضوعه بوصفه موضوعًا مستقلًا، كما هو مناسب لأي علم، نبّه دوركايم إلى الاهتمام بتعريف موضوع العلم انطلاقًا من “الخواص الجوهرية المتأصلة فيه”. وهذا هو الشرط لتجنب الركون إلى “فكرة مثالية إلى حدّ ما”(6).
ومع ذلك، كيف يُمكنُ تعريف الأدب من خلال الخواصّ المتأصلة فيه؟ هل ثمة، كما اقترح رومان جاكوبسون مفهوم “الأدبية” (littérarité)، مؤشرات قادرة على تعريف الأدب بمعزل عن أنواع أخرى من النصوص؟ مثل هذه المحاولة التي أفسحت في المجال أمام العديد من الأفكار في الستينيات والسبعينيات، آلت إلى الإخفاق. لقد انحسر أفق مثل هذا العلم مع تقدم البحث. يمكننا أيضًا أن نطرح السّؤال نفسه عن التخييل: هل له خواصّ متأصّلة فيه؟
بما أنّ علم الاجتماع غير قادر على تحديد “أدبية” الأدب، أو “تخييلية” (fictionalité) التخييل، فإنه يُفضّلُ دراسة موضوع “الأدب” انطلاقًا من سياقه، ومن خلال ما يحيط به: علم اجتماع الجمهور، والمؤلفين، والنقاد، والنشر، والقراءة. إنها استراتيجية تستأنف ذلك الضرب من التعريف للأدب عن طريق إسقاطه، بخلق موضوع، على الأقل، في مُتناولِ المعرفة الاجتماعية. وبقدر ما يوجد الأدب خارج جوهره اللغوي والخيالي، سيكون لعلم الاجتماع الموضوع الذي يمكنه الاستحواذ عليه. ومع ذلك، فمن الواضح أن تعريفَ الأدب باستبعاد ما يكوّنُ فعاليته التخييلية، يعني حرمانه من ذلك الجزء الأهمّ في انتمائه إلى المجتمع، والتخلي عما ينبغي أن يكون ذا أهمية قصوى في التعاملِ مع علمِ اجتماعٍ يهتمّ بالأنظمة الخيالية التي على أساسها تبنى المجتمعات. لذلك من الضروري عدم التخلي عن هذه الجوانب، حتى لو كانت هذه الرؤية الأوسع لا تعني بوضوح تخلينا عن المقاربات التي تَدرسُ ظاهرة “الأدب” بما لا يندرج في النص، ولا في الأبنية الخيالية التي توفّر هذه الإمكانية. على العكس من ذلك، باقتران هذه المستويات المختلفة، يَتقدمُ البحث والمعرفة بخصوص الوجود الاجتماعي لـ”الأدب”.
الموضوع والمنهج
إن هذا التخلي عن النظام المنهجي يأتي، بلا شك، من حقيقة أنه في ما يَتعلقُ بالموضوعات الرّمزية ينظر إلى علم الاجتماع، عند عديد السوسيولوجيين اليوم، على أنه واقع تحت تأثير الطريقة التي طرح بها دوركايم مسألة المقدّس. وبالنسبة إلى هذا الأخير، فإن المقدس يَتبلورُ ويوضع في الطقوس، وينبع منها. إن تجمّع المؤمنين، والأفعال التي ينتجونها أثناء اللقاء ـ الحماسة والحب والإيمان ـ يبني المجتمع ويقوي تماسكه، في الوقت نفسه الذي يبني فيه [المؤمنون] موضوع الإيمان، أي الدين. من دون الطقوس، لن يكون الدين موجودًا ببساطة. وبتطبيق هذه المقاربة على مجال الأدب، فإنها تغالي في تثمين الإيمان بقيمة العمل الفني، وهو ما يتجلى في الطقوس الاجتماعية التي تُصاحبُ ممارسة الفن، أو الأدب. ومع ذلك، ومن خلال الإصرار بشكل أساس وحصري، على مظاهر الطقوس الاجتماعية التي تحيط فِعْلَ الإقبال على الفنّ، والتي توصف أحيانًا بأنها ضرب من “حبّ الفن”، أو “حب الأدب”، فإن هذه المقاربة النظرية تَميلُ إلى اختزال الممارسة الاجتماعية للأدب، إلى الحدّ الذي تتعيّن فيه بوصفها تعبيرًا عن الصراع بين الرساميل الرمزية، والتي يَترتّبُ عليها، كما أوضح بيير بورديو بقوة، هيمنة سلوكيات التمييز الاجتماعي.
تقترن نظرية التمييز عند بورديو، كذلك، بنظرية الاستخدام “الأدبي” للغة كما يمارسها الكتاب. يستخدم الكتّاب اللغة استخدامًا جماليًا، ويخاطبون قراءهم من خلال توجيه الكلام نحو الحساسية. ومن خلال إعطاء أهمية قصوى للحساسية، يَسمحُ الكاتب لقارئه أن لا يرى حقيقة الواقع، وهذا العماء سيكون جزءًا من المتعة الأدبية. يوضح بورديو ذلك قائلًا: “يمارس التشكيل الذي يقوم به (الكاتب) وظيفة تلطف المعمم في التعبير، كما يسمح له الواقع الذي يقترحه بعد أن نزعت عنه واقعيته، وفرض عليه الحياد بواسطة التعبير الأدبي، بأن يشبع [لدى القارئ] إرادة للمعرفة مستعدة للاكتفاء بالتسامي الذي تقدمه له الكيمياء الأدبية”(7).
وفي مقابل هذا الكون الأدبي المفكّر فيه من زاوية ألعاب اللغة التي تمارس تأثيرها على الحساسية، والتي من شأنها أن تحرف إرادة المعرفة عن موضوعها، يُشدّدُ بورديو على الصّرامة السوسيولوجية بوصفها ضربًا من الفهم الخالص للفن، ورفضًا لجماله السّاحر. “القراءة السوسيولوجية تحطّم السحر والفتنة. فهي إذ تقوم بتعليق التواطؤ الذي يماهي ما بين المؤلف والقارئ في علاقة إنكار الواقع الذي يعبّر عنه النص، تكشف عن الحقيقة التي يَنطقُ بها النص، ولكن بصيغة غير مصرّح بها”(8). وبالتالي، فإن الأدب كلّه محروم من أي قيمة معرفية. مُذْ ذاك، لم يعد في إمكان عالم الاجتماع أن يهتم بالعمل الأدبي، سواء لأسباب منهجية، أو للحفاظ على فعالية البحث الاجتماعي. ومهما كان لدى المرء من الاتفاق، أو الاختلاف، مع أطروحات بورديو، فإن السؤال الأساس هو أن هذا المفهوم الأفلاطوني بعيدٌ تمامًا عن الأدب بوصفه ضربًا من الخداع، لا يمكن الاحتفاظ به [كاستنتاج ذي أهمية]. لا يقع الأدب في مستوى النطق بحقيقة الواقع. إنه ليس في صراع على هذا المستوى مع علم الاجتماع، وليس لدى هذا الأخير سبب يدعو إلى تقديم تفسير أفضل لحقيقة الواقع هاته، لأن هذا ليس هو ما يَهدفُ إليه الأدب، وما يدّعيه.
جاك لينهارت: باحث فرنسي من مواليد 1942، متحصّل على الدكتوراة في علم الاجتماع والفلسفة، وهو مدير الدراسات بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في فرنسا. تتركز اهتماماته البحثية على الأدب والحياة الثقافية والفنية. وهو مدير فريق: “الوظائف التخييلية والاجتماعية للفنون والآداب” منذ 1996، كما أنه أسس عام 1993 سلسلة: “الفن والطبيعة” التي تصدرها دار أكت سود Actes Sud. يعد لينهارت من أبرز نقاد المنتصف الثاني من القرن العشرين، حيث أسهم بقوة في تطوير علم اجتماع الأدب ذي المنحى التجريبي الذي يهتم بشروط إنتاج الأدب بما في ذلك المؤسسات والقراءة والنشر والتوزيع. ألف عددًا من الكتب، منها: “القراءة السياسية للرواية” (1973)، “سوسيولوجية القراءة” (1982، 1992)، “قوة الكلمات: دور المثقفين” (1982).
هوامش:
(1) Jacques LEENHARDT , Existence et objet de la sociologie de la littérature, Sociologias, Porto Algere, ano 20, n°48, maio-ago 2018 , p.30-46.
(2) يرى بيير أوبوك أن التقليد الديالكتيكي يتعين داخل التقليد الفلسفي الغربي، بوصفه تقليدَ معارضة؛ جهدًا مضادًا، الغرض منه أحيانًا التموقع ضدّ التيار. وبهذا المعنى، فإن أب الديالكتيك الفلسفي هو، بلا منازع، سقراط وأسلافه السفسطائيون. هذا الديالكتيك، في الأصل، هو رد فعل ضدّ الخطاب السلطوي الآمر، المونولوجي والمغلق. ومنذ أن وضع أرسطو القواعد التي تضفي المشروعية على الخطاب المونولوجي، أي الخطاب الذي يجد في ذاته، لا في غيرها، مبدأ انسجامه وتطوره، أي المنطق، مذ ذاك صار الديالكتيك مساءلة واسعة للعلم في حدّ ذاته. ففي التقليد الممتد من أرسطو إلى كانط، يبدو الديالكتيك بمثابة الأطروحة المضادة للعلم الوضعي، والملاذ الأخير للذين لا يمتثلون للآفاق الضيقة للبحث التجريبي. (المترجم) أنظر: Pierre Aubenque, Evolution et constante de la pensée scientifique, In https://www.jstor.org/stable/20845809
(3) Paul DIRKX, Sociologie de la littérature. Paris: Armand Colin, 2000.
(4) Madame DE STAL, De la Littérature considérée dans ses rapports avec les Institutions Sociales (1798-1800). Paris : GF Flammarion, 1999.
(5) Wolf LEPENIES, Les trois cultures, entre science et littérature, avènement de la sociologie. Paris : Maison des Sciences de l’Homme, 1990.
(6) DURKHEIM, mile. Les Règles de la méthode sociologique. Paris : Presses Universitaires de France, 1947, p.35.
(7) Pierre BOURDIEU, Les Règles de l’art. Paris : Seuil, 1992, p.60.
(8) Ibid., p.60.
المترجم: إدريس الخضراوي
—————————————-
الجزء الثاني
الظروف الفكرية
قبل أن نفتح مسارًا لتعيين مفهوم أوسع للأدب، قد يَكونُ من المهمّ أن نَفهمَ في أي سياق كان يُمكنُ تطوير المفهوم الذي ذكرته للتو. لا تفلت نظريات علم الاجتماع أكثر من غيرها من الحركات الأيديولوجية التي تهزّ المجتمعات. ولذلك من المجدي دائمًا أن يكون كلّ منها متصلًا بعضه ببعض، حتى لو كان ذلك فقط لكي يتمكّن المرءُ من التفكير في كيفية استجابتها للظروف التي تَظهرُ فيها.
دعونا نتوقف أولًا عند فكرة أن الأدب يُمكنُ أن يَدخلَ في صراع مع خطاب العلوم الإنسانية. ذكرت أن الفصل بين هذين النمطين الخطابيين كان من أعظم القضايا التي شغلت القرن التاسع عشر، عندما تم تأسيسُ علم الاجتماع بوصفه تخصصًا. يَجبُ أن يُضافَ إلى ذلك، أن هذا النقاش اكتسب أهمية كبيرة في فرنسا من حيث أن بناء الهوية الوطنية، وخاصة في التعليم الثانوي، اعتمد بشكل أساس على عمل الكتّاب. لقد تم استثمار الأدب بشكل أضفى عليه قيمة مثالية في ترتيب التعامل مع اللغة، كما هي الحال في الأخلاق والسياسة. والهوية الوطنية لفرنسا، تستند جزئيًا إلى الإشارة الشعائرية والمقدّسة إلى كنزها الأدبي.
أخيرًا، يَجبُ أن يُموضعَ هذا الموقف النقدي في اللحظة الثقافية التي انطبعت بميسم البنيوية إبّان الستينيات، والتي اهتمّت بدرس المظاهر الميتا سردية للأدب. لقد كان ما يغذي هذه اللحظة، هو الشعور بالوصول أخيرًا إلى بناء علم للنصوص، وتحقيق ثورة في نظام الأدب حملت لواءها [جماعة] تيل كيل Tel Quel، بعد [حركة] الرّواية الجديدة Nouveau Roman. كما شكلت هذه اللحظة ضربًا من الاستجابة للاشمئزاز من الأيديولوجيا الذي استولى على المثقفين بعد انتهاء حرب الجزائر، ودخول فرنسا المُجتمعَ الاستهلاكي. لا شيء إيجابيًا يمكن أن ينبع من القوى الاجتماعية والسياسية، وهو المأزق الذي عبرت عنه أطروحة الهيمنة المطلقة للمصطنع simulacre على جميع الممارسات الاجتماعية. وفي هذا السياق، يبدو أن استعادة المسافة العلمية المناسبة، تقدم بديلًا على الرّغم من التشكيك في كل ممارسة.
باختصار، لقد كان الأمر يَتعلقُ بالقطع مع الأعراف التي كان جان بول سارتر Jean Paul Sartre رمزًا لها، حيث كان كلّ تفكير صحيح مرتبطًا بالمواقف السياسية بالضرورة. وخلافًا لهذا التقليد الذي ما يزال يتغذى من قبل الماركسيين المتصلبين المتأخرين، كانت مهمة النقد تكمن في فكّ الفكر، وبالتالي الأدب أيضًا، من الالتزام بوصفه ضرورة (1). لقد كان من الضروري ليس فقط فصل المعرفة عن الغموض المتأصّل في استخدام اللغة، والذي يُشيرُ إليه الاختلاف بين الصرامة الفلسفية للمفهوم، و”سحر” السرد والاستعارة، ولكن أيضًا فصل المعرفة عن التأثيرات، وعن عالم الحساسية الفردية المضطرب والمعقد.
وبالمقارنة بين القدرة على تفسير واقع الأدب وعلم الاجتماع، تطلق نظرية بورديو النقاش من جديد حول موقع وظيفة المحاكاة في العملية الأدبية. للمرء أن يتذكر الاستعارة الشهيرة التي تخيلها ستاندال Stendal عن الرواية: “الرواية مرآة تتمشى وتعكس مسافة الطريق” (2). هذه الاستعارة التي استخدمت لفترة أطولَ، كانت سببا في الكثير من سوء الفهم. لقد سخّرت، منذ ماركس، لبناء نظرية اجتماعية للأدب أصرّت في المقام الأول على علاقة المحاكاة التي تربط النص الأدبي بالواقع الاجتماعي المعاصر لنشاط الكتابة. وغالبًا ما تم تسخير هذا الاتجاه التأويلي إلى حدّ الكاريكاتير، بل أصبح، من خلال انعطاف أخلاقي، أمرًا موجهًا للكاتب بأن يظلّ في إطار الواقعية المفترضة بوصفها “الواقعية الاشتراكية”. ومع ذلك، فإن الموضوع الأدبي لا ينتمي إلى عالم المرايا، حتى لو كانت المحاكاة شبه جوهرية بالنسبة إليه (راجع أورباخ)- (3). لا يمكن للنشاط الأدبي أن يعكس الواقع ببساطة، لأنه [النشاط الأدبي] يقوم على بناء واقع خيالي في اللغة. وإذا كان الأدب يُفكّرُ انطلاقا من العالم الواقعي، فربما يتمّ ذلك على طريقة المرآة ذات الاتجاهين (Two-way mirror). تَحملُ المرآة ذات الاتجاهين، الشفافة والعاكسة، خطابًا متعدد الأوجه، يختلط فيه الواقع بعوالم متخيّلة تخصّ الكاتب والقارئ والثقافة والناقد وعالم الاجتماع. لذلك، فإن مسألة معنى العمل الأدبي، لا تعتمد فقط على “العالم الحقيقي” الذي يُمكنُ أن يشير إليه، ولكن أيضًا على التقابل بين هذا العالم وعوالم أخرى داخل النص الأدبي.
ضدّ هذا الفهم السيء لدور المحاكاة في العملية الأدبية، وكأن نشاط الكاتب من الضّروري أن يُخلّصَ من أي اعتماد على الواقع، عارض بعض المنظرين فكرة “حرية” الكاتب. وبإصرارهم على الظهور غير المقيد المزعوم للإبداع الفني، فقد أرادوا إخفاء أي تحديد للفعل الإبداعي. ومن الواضح أن ذلك كان من أجل بناء وهم جديد، بقدر ما يَعملُ نشاط الكتابة دائمًا انطلاقا من “مواقف” تشكل العديد من القيود، سواء كانت لغوية أو سيميائية أو أيديولوجية أو مادية. لا يعتمد عَملُ الكاتب في الواقع على الحالة التاريخية والاجتماعية للغة فحسب، بل يعتمد أيضًا على النماذج الأدبية التي تعدّ من المواد الرّمزية التي لا يَستطيعُ الهروب منها. وهذه النماذج تخدمه في ديناميات التبادل التي يقيمها بين العالم الخيالي والقراء الذين يستثيرهم. وفي أحسن الأحوال، كما أشار سارتر، تتمثل حرية الكاتب في إدراك المحدّدات التي تؤطره، وفي صنع عمل (الحرية) من [=هذه المحددات] وضدّها ومعها. هذا هو ما تهدف إلى إثباته السير الاجتماعية الأدبية العظيمة التي كتبها سارتر عن بودلير (4) وعن فلوبير (5) Gustave Flaubert . ومع ذلك، فإنّ تعريف الأدب على أنه تبادل، معناه أننا قد حرّرنا أنفسنا من فكرة أنّ العمل الأدبي هو نص قبل كل شيء.
لقد بنى التقليد الغربي، على مرّ القرون، مفهومًا عن النص ما فتئ يشتدّ صرامة، مما أدّى إلى تطوير أدوات التحليل التأويلي الخاصّة به. يَجبُ أن نقول أيضًا من منظور اجتماعي: إن فئة من القراء، غالبًا ما يقيمون في الأديرة، أصبحوا متخصّصين في تفسير النّصوص. لقد تحقق هذا الطابع الاحترافي الذي تم إضفاؤه على القراءة العلمية أولًا على محك النص المقدس: الكتاب المقدس. إن الحركات الفكرية التي أكدت منذ عصر النهضة على العودة الصارمة إلى نص العهد القديم أو الجديد، كان لها تأثير متناقض، تمثل في تفجير الموضوع الذي زعموا أنهم يجلّونه. لقد أدت المخاوف بشأن الأصالة إلى الكشف عن أن النصوص المكرّسة التي تم تلقيها على أنها نصوص مقدسة، قد “تم تأليفها” composés في الواقع، وأنها تشكل مجموعات من الشذرات التي أحكمت اتساقها المؤسسة الدينية مع مرور الوقت، ولها أصول محليًا وسياسيًا ولاهوتيًا. مذْ ذاك، يتكشف النص، الذي أشرق في الأصل في تفرد النور الإلهي، والذي كان من المفترض أن يكون الوحي، عن كائن معقد ذي أصول متعددة، ويتألق في تنوعه تحت مشرط التأويل. مثل هذه الشذرات كتبت من قبل مجموعة من علماء الدين docteurs de la Loi وأخرى مثلها كتبتها طائفة منشقة من المبشرين الأنبياء. وخلف التناسق الجميل الذي أعطاه له فضاءُ الكتاب، سمح النص بانفتاح هاوية من التعقيد داخله. وليس فقط في الكتاب المقدس.
أتاح هذا العمل على النص المقدس، تطوير النظريات النقدية والتاريخية المطبقة على النصوص. ولن يتم استخدام هذه المهارات الفيلولوجية واللغوية في قراءة النصوص الدنيوية إلا لاحقًا، مع ما سيُطلق عليه المنعطف اللغوي، والسيميوطيقا البنيوية. عندئذ فقط ستطور طبقة اجتماعية أخرى، والتي ستجد، من الآن فصاعدًا، مستقرًا لها في المدارس الثانوية والجامعات أكثر مما ستجده في الأديرة والمعاهد الدينية، سَتطورُ مهارات مماثلة لمهارات رجال الدين السّابقين. هذه الأعمال حول التأويل، والتي يجب أن يضاف إليها تطور العوالم الذهنية الذي جعل تحققها ممكنا، ستقود، بعد رحلة طويلة ستمرّ عبر ميخائيل باختين، إلى بلورة مفهوم التناص والتهجين النصي. سيكشف التناص في التخييل الأدبي عن الوظائف التي كانت فعالة لفترة طويلة، لكن النظرية لم تتعلم فهم ذلك إلا شيئًا فشيئًا. فعصرنا الذي ترك وراءه تعريفات الأدب الموروثة من عصور ما قبل الأدب- تقريبًا قبل القرن الثامن عشر-، يقترب مما أضحى الممارسة الأدبية، وقد تحرّرت في هذا الوقت من خطابات السّلطة: محور مرجعي، ونقطة التقاء المتخيلات.
الأدب والمعرفة السوسيولوجية
إن الأمر يَتعلقُ الآن، إذًا، بالتفكير في الطريقة التي يُمكنُ أن تدرس بها العلوم الاجتماعية المهتمة بالأدب، موضوع “الأدب” في تعقيده من خلال المشهد الذي يُشكلُ أبعاده المختلفة: المؤسساتية، والتخييلية والخيالية. تحدّد الأفكار القليلة التي تم اقتراحها للتو هذا الموضوع انطلاقا من ثلاثة مستويات. أولًا، لا يضع الأدب نفسه في مقابلة حقيقة المحاكاة مقابلة قطبية- وبالتالي فهو ليس في صراع مع علم الاجتماع- بقدر ما ينتج أنساقًا خطابية تدمج عوالم ممكنة؛ ويحافظ النص الأدبي، ثانيًا، على علاقة محاكاة ضرورية مع العالم الواقعي، والذي لا يصفه بشكل شامل بقدر ما هو مبني في اللغة، وبالتالي فهو عالم تخييلي (وليس خياليًا). الأدب، أخيرًا، وسيكون هذا موضوع الجزء الأخير لدينا، هو التبادل الذي يشرك الكاتب والقارئ معًا، داخل المؤسسات الاجتماعية التي تؤطر علاقتهما وتغذيها. وهذا التبادل يحدث في قلب العمليات الرمزية التي تشكل المجتمع. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، أعادت النظرة التي سُلّطتْ على الأدب، البعد التداولي للظاهرة الأدبية. لقد كان التحدي على وجه التحديد، هو انتزاع الكون التخييلي الأدبي من المتطلبات “العلمية” المشار إليها آنفًا. إن غياب التعيين الحرفي في التخييل (فالتخييل باطل من وجهة نظر إثباتية، فهو لا يعكس الواقع!)، لا يعني أنه لا ينتج المعرفة. ولكن لحل المأزق الذي تحصرنا فيه هذه النظريات، يجب أن نغير وجهة النظر، وأن نقرّ، كما قبلت بذلك نظرية التخييل أخيرًا، بأنّ النصوص التخييلية موجودة “فيما وراء الصواب والخطأ”، كما قال جيرار جينيت Gérard Genette بلطف (6). والاهتمام الذي أبداه القراء بالنص الأدبي، يعني بالضرورة درجة من الانغماس المحاكاتي. فهو يفترض أننا لم نعد نعتقد أن الغرض من التخييل هو أن يخدعنا. على العكس من ذلك، فإن غائيته الأدبية، وغرضه الاجتماعي اللذين قد يتحدث عنهما المرء، هما “بلورة مظاهر أو أوهام؛ إن أعمال الاصطناع التي يقوم بها، هي ببساطة المتجه الذي بفضله يمكنه تحقيق غائيته الحقيقية، وهي أن يقودنا إلى الانخراط في عملية بناء نموذج، أو بعبارة أكثر بساطة، أن يقودنا للولوج إلى التخييل” (7).
إذًا، لا يعرّف الصوغ التخييلي بسمات خاصّة، والتي سيكون علم اللغة والسيميائيات هما المالكان لسرها، ولا يتكوّنُ من خلال طرائقه الجمالية في استخدام اللغة، والتي ستكون بذاتها كاذبة: الحقيقة المرجعية ليست موضوعًا للفن، ولا للأدب بشكل عام، ولا هي موضوعًا للتخييل. وإذا كان العلم يبحث عن الحقيقة، فإنه يصطدم، كما يَعرفُ جيدًا، بنقاط ضعف النموذج اللغوي الذي يلجأ إليه، وهذا هو السبب في أنه يفضّل الصوغ الرياضي. لكن إذا كان التخييل لا يخدع القارئ، فذلك لأن المرء ليس قارئًا دون أن يعرف ذلك. تنبع الطبيعة المتناقضة للفضاء الذهني الذي يفتحه التخييل الأدبي، من حقيقة أنه لا يَنفصلُ تمامًا عن المحاكاة. تشبه العوالم التخييلية دائمًا العالم “الواقعي” بما يكفي للسماح بالانغماس في عالم مشابه، في وضع الـ “كما لو”. ومع ذلك، فهي تختلف عنه، ليس أقل بالضرورة، بحكم أنها لا يمكن أن تكون سوى صوغ لهذه العوالم، وهو خيار ذو مغزى، يتم إجراؤه بين العناصر المستمدّة جزئيًا من هذه العوالم الواقعية. في الوقت نفسه، فإن حقيقة أن العوالم التخييلية تتميز بالانزياح عن الواقع، لهو بالتحديد ما يضمن ويثير فضولنا واهتمامنا. ليس الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للكاتب الذي، حتى بالنسبة لـلكاتب “الواقعي الطبيعي” مثل زولا، بعد أن أطلع نفسه تمامًا على أدقّ التفاصيل التي تميز الواقع الذي سينقله في رواياته، فإنه يصيّره عملًا أدبيًا فقط بفضل الخلق الذي يدين لهذا الواقع في كل شيء ولا شيء. وكما يقول جون ماري شايفر J.-M Schaeffer مرة أخرى: “الانغماس المبدع، والانغماس الاستقبالي، ليسا سوى طريقتين مختلفتين للدينامية نفسها” (8).
لذلك فإن الغرض من الإنتاج الأدبي للعوالم التخييلية هو استخدام القارئ لها. ولضمان هذا التبادل، تتمثل استراتيجية الكاتب في إنشاء كلّ أعمال الاصطناع التي، بناءً على مصلحتنا العامة في العالم الذي نعيش فيه، ستقيم الجسور التي ستساعدنا على الانغماس فيه. سوف نسميها مع سيرل (9) Searle، “الاصطناع” أو سنتحدث مع ريكور Ricœur، عن “عوالم الـ كما لو”، مع العلم أن “وظيفة الاصطناع اللعبي هي خلق عالم وهمي، والأخذ بيد المتلقي إلى الانغماس في هذا العالم، وليس من أجل حمله على الاعتقاد بأن هذا العالم التخييلي هو العالم الواقعي” (10).
يعرف كل من الكاتب والقارئ العقد التخييلي الذي يجمع بينهما، والذي يحكم نظامًا للواقع يختلف عن ذلك الذي تفترضه المعرفة وقواعدها كما تم وضعها في إطار كل تخصص من تخصصاتها. يطرح عقد القراءة في نظام التخييل مسألة الصواب بداهة، ويثبت العلاقة “فيما وراء الصواب والخطأ”. يلغي هذا العقد، بالقرار الذي يُشيرُ إليه، كل صلة بمسألة الحقيقة أو الكذب. في الواقع، يُشكلُ التخييل، باعتباره فضاء للتبادل بين الكاتب، والقارئ، حقيقة فريدة من نوعها. وهذا هو الواقع الذي يثير اهتمام عالم الاجتماع. إنه بالفعل فضاء ذهني تخييلي، يمكن أن تتبلور حوله الأشكال المختلفة لعالم التمثيلات الاجتماعية المتغير. وإذا كان هذا ثابتًا ومرتبطًا إلى الأبد بحالة الأشياء كما هي في العالم الذي يسكنه الفاعلون، والكاتب والقارئ، فسيظل هذا العالم ثابتًا. وإذا لم تظهر إمكانية اتخاذ العالم لأشكال أخرى في الفضاء غير الواقعي للتمثيلات، فلن تدفعه أي قوة لأن يتغير، وسيظل ثابتا في واقعه الحالي، وبالكاد يتأثر بالتطورات البطيئة للنظام الشمسي. لكن العالم الاجتماعي الذي نعيش فيه، يتغير باستمرار بالإيقاع الذي به نغيّره ويُغيّرنا. يتأرجح الفضاء التخييلي التجريبي لهذه التحولات بين الحقيقي والممكن. إنه العالم المتغير باستمرار الذي يسمح لنا التخييل باختباره. كيف يمكن، إذًا، وصف هذا الفعل الذي تنتجه التجربة التخييلية في إطار أوسع لتجربة الواقع؟
يضع العقد التخييلي، سواء أكان اندماجيًا أو استبعاديًا، القارئ أمام عالم ممكن. لذلك فهو يساهم في إنتاج ما أسماه غولدمان Lucien Goldman (1964) بمجال “الوعي الممكن” conscience possible أي هامش التحول لمفهوم القارئ عن العالم، مع الأخذ بالاعتبار المكانة التي يحتلها في النظام الاجتماعي العالمي. الممكن هو أحد أبعاد الواقع، مؤطر بالموقع الذي يمكن للجميع أن يتخيلَ انطلاقًا منه. لا يعني مفهوم الموقع تحديدًا مكانيًا أو حتى زمنيًا بالضرورة. يمكن أن يتكون الموقع من وضعية في العلاقات الاجتماعية، ويمكن أن يشكل موقعا أيديولوجيًا. وفي العلاقة مع الممكن الذي أنشأه الميثاق التخييلي، تجري تجربة يمرّ خلالها القارئ بالمواقف، والعلاقات، والقيم والتمثيلات. في الموقف التخييلي الذي يقدمه الأدب، وأيضًا من خلال أشكال أخرى من التخييل، يختبر القارئ هذا الهامش، ويُجبرُ نفسه على مواجهته، وقياس قيمه ومعتقداته وخياراته.
وبالتالي، فإن علم اجتماع القراءة هو جزء لا يتجزأ من المعرفة السوسيولوجية عن الأدب. في البحث الذي كرّسته (11) لهذا الجانب، ظهر بوضوح أن ما يهم القارئ، وما ينظم ويبرّر نشاطه كقارئ، هو أولًا وقبل كل شيء القراءة التي ينجزها نفسها، وهي العلّة النابضة بالحياة لعلاقته بالنص. وما يحفزه هو الاستثمار الذي سيقوم به في لعب الأفعال، والقيم الممكنة التي أتاحها النص لتجربته. “بعبارة أخرى، ما هو محور اهتمامي، هو ما يمكنني الوصول إليه من خلال الانغماس المحاكاتي، أي الصوغ التخييلي لمجموعة من الأفعال والأحداث، والمشاعر، وما إلى ذلك” (12).
إن استعمال العوالم المتخيّلة التي يقدمها الأدب، يَلعبُ بطريقة محددة للغاية على محتوى القيم الذي تنقله الأعمال. فالتنشئة الاجتماعية من خلال استعمال الممكنات، تنطوي على انتماء خيالي، والذي يشكل هو ذاته الوساطة التي يتم من خلالها إعادة الاعتبار للتجربة، ورفع مستواها. هناك شكل من أشكال التعلم يتضمن إمكانية تصور العالم من خلال التجارب المتخيلة. يجب أن نعترف بالفعل أن الأدب، كما نفهمه في الغرب الديمقراطي، هو أحد المواقع الرمزية حيث يتم اختبار جميع أنواع العلاقات التي نتمتع بها مع إخواننا البشر، بامتياز. هذه المواقع الرمزية تصور وتخطط العلاقات الحقيقية أو الممكنة بين الرجال والنساء، وعلاقات المواطنين مع البيئة السياسية التي ينتمون إليها، وبشكل عام، جميع العلاقات مع الآخر. يشمل مفهوم التجريب هذا، عمل كل من الكاتب والقارئ. وبالنسبة لهذا الأخير، القراءة خطرة، ففيها يواجه عوالم لا يعرفها، ولا يتقنها، ولا يستطيع تغيير مسارها، على عكس الكاتب. إنه يخاطر، وهذه المخاطرة تشارك جزئيًا في الطريقة التي يجب أن يعيش بها ككائن اجتماعي، لاحقًا، في واقعه اليومي.
لا شك في أنه مع تطور التقنيات، فإن هذه الوظيفة التجريبية، التي كانت لفترة طويلة من صلاحيات الأدب، قد استولت عليها عوالم متخيّلة أخرى. نفكر ها هنا في السينما، والوسائط الجديدة، وألعاب الفيديو. ومع ذلك، مهما كانت الاختلافات، فإن البنية التخييلية لهذه العوالم المتخيلة منظمة وفقًا لأنماط مماثلة لتلك الموجودة في الأدب. فهي تشير إلى مخططات اللغة المشتركة، حتى لو كان تقطيعُ التلقي الخاص بأحدث أشكال النماذج التخييلية، يمكن أن يغير الوضع، ويعرض للخطر القيم المثالية التي تسوقها تجربة الأدب.
وبقدر ما يَتخيل عوالم ويصورها، أو مخططات للعوالم والعلاقات، فإن التخييل يَعملُ، كما رأينا من خلال “الصوغ المحاكاتي”. وليس هذا هو الموقع المناسب لتطوير مسألة الطرائق النفسية أو العقلية التي يتم إدخالها في نشاط التحفيز الذاتي الخيالي الذي هو القراءة. ومن ناحية أخرى، فما يجب أن يهتم به علم الاجتماع، هو أن نرى كيف أن المخططات التي تعمل في هذه العمليات نفسها، لها تأثيرات على المواقف التي يتخذها الفاعلون في المجتمع، وكيف يتم توزيعها بطريقة معينة، وتمييزها وفقًا للمجموعات الاجتماعية التي ينتمي إليها الكتاب والقراء. إن التصدّي المباشر، وبطريقة تجريبية، للطاقة المحددة لهذه المخططات، من شأنه أن يفتح الطريق أمام علم اجتماع التحولات الاجتماعية. وبالتالي، فإننا نتخلّص، عبر الإنصات للعوالم التي تتشكل في المتخيل من خلال التبادل التخييلي، من الطبيعة الارتجاعية الشديدة للتحليل الاجتماعي. وبإعطاء مكانة كاملة لممارسة الأدب في قلب الخيال الاجتماعي، فإن علم الاجتماع سيعطي لنفسه بعض الأدوات التي قد تسمح له بفهم أفضل للبعد الدينامي لحركة الأشكال الاجتماعية.
[انتهى]
جاك لينهارت: باحث فرنسي من مواليد 1942، متحصّل على الدكتوراه في علم الاجتماع والفلسفة، وهو مدير الدراسات بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بفرنسا. تتركز اهتماماته البحثية على الأدب والحياة الثقافية والفنية. وهو مدير فريق: “الوظائف التخييلية والاجتماعية للفنون والآداب” منذ 1996، كما أنه أسس عام 1993 سلسلة: “الفن والطبيعة” التي تصدرها دار أكت سود Actes Sud. يعد لينهارت من أبرز نقاد المنتصف الثاني من القرن العشرين، حيث أسهم بقوة في تطوير علم اجتماع الأدب ذي المنحى التجريبي الذي يهتم بشروط إنتاج الأدب بما في ذلك المؤسسات والقراءة والنشر والتوزيع. ألف العديد من الكتب منها: القراءة السياسية للرواية (1973)، سوسيولوجية القراءة (1982، 1992)، قوة الكلمات: دور المثقفين (1982).
هوامش:
(1) تجدر الإشارة إلى أنه في هذه النقطة، يختلف مفهوم سارتر عن الالتزام عما يمكن أن يسمى الالتزام السارتري. في كتابه “ما الأدب” (1947)، بخلاف ما نفهمه غالبًا، لا يطلب سارتر من الكاتب أن يلتزم، وهو ما يعني أنه ينحاز إلى جانب معين. إن ما يريده سارتر هو أن يفهم الكاتب أنه مسؤول، وأنه لا يستطيع الهروب من ذلك الموقف. كلّ إشارة فكرية هي في الوقت نفسه إشارة سياسية، بعيدا كل البعد عن التساؤل، بما يتماشى مع الواقعية الاشتراكية التي طالما ندد بها، وأن على الكاتب واجبا أخلاقيا في الكتابة للشعب، على سبيل المثال.
(2) قد يفهم من هذا القول أن الرواية هي محاكاة استنساخية للواقع، ولكن ستاندال يشير إلى ما هو أبعد من ذلك، بما في ذلك القارئ الذي تنعكس نفسه في مرآة الشخصيات والعالم الذي يحيط به (المترجم).
(3) Erich AUERBACH, Mimesis : La représentation de la réalité dans la, littérature occidentale. Paris : Gallimard, 1968.
(4) Jean-Paul SARTRE, Baudelaire. Paris : Idées-NRF, 1963.
(5) Jean-Paul SARTRE, L’Idiot de la famille : Gustave Flaubert de 1821 à 1857, Trois tomes. Paris : Gallimard, 1971-1972.
(6) يشرح كتاب جان ماري شيفر (1999) بطريقة واضحة ومقنعة للغاية، مآزق نظريات الدلالة، وأسباب اللجوء إلى المنظور التداولي الذي قدمه سيرل. كثير من الاقتباسات نستمدّها منه. قول جينيت موجود في الصفحة 210. لاحظ، أيضًا، الأهمية، في هذا المنعطف التداولي، التي يكتسيها كتاب جون سيرل (1982).
(7) Jean-Marie SCHAEFFER, Pourquoi la fiction ? Paris : Seuil, 1999, p.28.
(8) Ibid., p.228.
(9) John. R. SEARLE, Sens et expression, Etudes de théorie des actes de langage, Paris: Minuit, 1982.
(10) SCHAEFFER, Pourquoi la fiction ? Paris : Seuil, 1999, p.156.
(11) Jacques LEENHARDT; JOZSA, Pierre. Lire la lecture. Essai de sociologie de la lecture. Paris: l’Harmattan, 1999.
(12) SCHAEFFER, Jean-Marie. Pourquoi la fiction? Paris: Seuil, 1999, p.197.
المترجم: إدريس الخضراوي
ضفة ثالثة