لماذا لا ينتفض العلويون ضد الأسد؟/ عادل حداد
لم تشهد مناطق العلويين في سوريا احتجاجات ضد الأوضاع المعيشية المتردية وغياب مقومات الحياة، ما يعني ضرورة إعادة النظر في علاقة النظام مع الطائفة في ظل المتغيرات الجديدة التي هددت فرضية تمثيل الأسد للعلويين.
تتكررُ أسئلة عدد من المعارضين السوريين حول غياب مظاهرات في البيئة العلوية ضد نظام بشار الأسد، رغم تدهور الأوضاع المعيشية وانهيار الاقتصاد السوري. هذه الأسئلة مشروعة، وتنطلق من مسلمة مفادها أن الأسد يستغلُ العلويين ويحتمي بهم، لمنع نظام عائلته من السقوط، وسط تجاهل للجزء الآخر من هذه الحقيقة، المتعلق بالعلويين أنفسهم وطبيعة علاقتهم بالأسد. ما يحيل إلى ما هو أهم، أي علاقة الجماعات بممثليها في سوريا، ودرجات تخلخل أو تصلب هذه العلاقة على وقع الحرب الأهلية، وما تلاها من تداعيات ونتائج.
التصور الشائع
هناك تصور شائع لدى نخب سورية معارضة، مفاده أن الجماعات لم تختَر ممثليها، أي العلويون لم يختاروا الأسد، والسنّة لم يختاروا “النصرة” والمليشيات الموالية لتركيا، والأكراد لم يختاروا “قسد”. هذه القوى نتاج “الأمر الواقع”، فرضت نفسها بالقوة والسلاح. هذا المنطق الذي يبدو بالشكل متماسكاً، بسبب غياب وجود صناديق اقتراع تفرز ممثلين عن الجماعات، ينقصهُ الاشتباك مع عدد من الإشكاليات، منها رهان هذه الجماعات على قضايا تتغذى من مظلوميات تاريخية أو راهنة، قضايا ذات مرجعيات متعددة تتبلور كطائفيةُ مضمرة (العلويين والأسد)، وقوميةَ (أكراد وقسد) وإسلاميةٌ معلنةَ (النصرة).
يهدسُ العلوي بحقبة ما قبل الأسد، وموقعه المهمش فيها، والسني مسكون بحقبة الأسد نفسها، فيما الكردي مسكون بالحُقبتين معاً. يندرج ممثلو الجماعات في سياق علاقة الأخيرة بقضاياها، بمعزل عن تفاوت تمثيلهم لها، وتفاوت خطاب التعبير عن هذا التمثيل. لا يقول الأسد عن نفسه أنه ممثل العلويين، مثلما تفعل “قسد” مع الأكراد، لكن النتيجة واحدة، والفرق هنا، بين ما هو ضمني، وما هو معلن. الإشكالية الأخرى التي يجب أن تشتبك معها نخب المعارضة، هي الحرب الأهلية وتأثيرها على الجماعات التي تصلبت قضاياها أكثر وأضافت إلى مظلومياتها التاريخيّة مادةً إضافية منتقاة من الراهن.
نقد التصور الكلاسيكي لعلاقة الجماعات بممثليها، بوصفها علاقة قسرية فقط، يمكن أن يتبلور أكثر، إذ تتداخل هذه العلاقة مع تطورات حكمت تاريخ سوريا الحديث، منذ استقلال البلاد وحقبة الانقلابات والديمقراطية الهجينة، مروراً بسطوة البعث فالأسديّة الدكتاتورية، وصولاً للثورة والحرب الأهليّة. السنّة في حقبة ما، مثّلهم الأعيان، والعلويين والدروز مثّلهم الإقطاع. ما يعني أن تمثيل الأسد للعلويين، أو علاقتهم به، مرتبطة بمسار تاريخي، يتعلق بالجماعة نفسها وبسوريا ككل. مسار تشوبه تناقضات (الريف والمدينة، الأكثرية والأقلية، المَركز والأطراف) لا يمكن فصل حافظ وبشار عنها وجعلهما حالة دخيلة على العلويين.
الإعجاب بالقمع
عقّدَ الأسدان المسألة أكثر بإضافة العائلي والمناطقي إلى الطائفي لبناء نظام سلطوي قمعي. وهنا يجب الأخذ بعين الاعتبار علاقة الجماعات بممثليها، وتحويل الممثلين هذه العلاقة إلى أداة تسلطيّة. يستخدم الأسد الدولة كجهاز قمع، وتفرض “قسد” رؤية حزب “العمال الكردستاني”، ولا جدل حول فرض “جبهة النصرة” للشريعة الإسلاميّة وفق تفسيرها الخاص. بكلمات أخرى، أن يكون للجماعات ممثلين عنها شيء، وأن يكون هؤلاء الممثلين قمعيين شيء آخر.
يزيد القمع أحياناً إعجاب الجماعة بمن يمثلها، فالأسد “بطل” عند العلويين، كونه حارب “الإرهاب” و”انتصر” عليه، بمعنى أوضح حارب السنّة، وأبقى الجماعة في موقعها الامتيازي. الأمر قد ينطبق بالمبدأ على الجماعات الأخرى، لكنه يختلف بالدرجة، قمع الأسد لا يقارن بقمع الآخرين، فالنظام يستخدم براميل وتعذيب وإبادة ومعتقلات، القمع موجود عند “قسد” (ضد العرب) وعند “النصرة” (ضد الأقليات) لكنه أقل بكثير عن ذلك الذي يمارسه الأسد.
تلتصق الجماعات بممثليها أكثر كلما مارسوا القمع، لا سيما في الحروب الأهلية حيث التهديد الوجودي هو المحدد الأساس للمزاج العام داخلها. القامع هو المدافع الجماعة حتى لو كان قمعه موجه ضد الجماعة نفسها أحياناً، لكن يظل هذا القمع محموداً، كونه يأتي لتنقيتها وتصليبها ضد الخصم. يُفَسِرُ قمع بشار جزئياً التصاق العلويين به، كونه يلتبس مع القوة والسيطرة في وعي أبناء الجماعة، ليظهر كقادر على حمايتها، كونه الأكثر بطشاً، ويشاركها بشيء من قوته عبر الجيش والأمن. السيطرة على المناصب الحساسة في هذين الجهازين، كانت فعلياً لضمان الولاء، لكن من نتائج هذه الاستراتيجيّة إشراك الجماعة في عنف الدفاع عن نفسها.
التفسير الناقص
تفسّر غالباً علاقة العلويين بالأسد انطلاقا من ثلاثة عناصر، الزبائنية والتهديد الوجودي والقمع. بمعنى أن النظام، قّدم لأبناء الجماعة وظائف وأدخلهم بكثافة في قطاعات الدولة، كما قدم لهم الحماية من عدو مفترض، وفي الوقت نفسه، فرض عليهم الترهيب والقمع والخوف.
لو أعدنا النظر بهذه العناصر قياساً على الظرف الراهن، يتبين أن الزبائنية باتت بلا فعالية، بفعل الانهيار الاقتصادي، فما قيمة راتب موظف أمام الصعود الصاروخي للدولار. التهديد أيضاً لم يعد مقنعاً، لأن الأسد “انتصر” نظرياً والمعارضة انهزمت. أما القمع، وإن كان مفروضاً على جميع السوريين في مناطق سيطرة النظام، لماذا إذاً انتفض دروز السويداء رفضاً للأوضاع المعيشية ولم يفعل العلويون ذلك؟، ولماذا بالمقابل خرجت أصوات من الساحل السوري تهاجم الدروز وتتهمهم بـ”العمالة” لإسرائيل.
تفيد العناصر السابقة في تفسير ارتباط العلويين بالأسد شرط أخذها بعين الاعتبار حين الحديث عن العلاقة المركبة بين الطرفين، عندها تصبح الزبائنية امتيازات مقابل الولاء، والتهديد حماية مقابل المشاركة في تأمين الحماية، والقمع إعجاب بالقوة، لاتقاء خطر الخصم.
تعتبر علاقة العلويين مع الأسدين الأب والابن، جدلية ومتداخلة وتبادلية، تبدأ من مظلومية تاريخية، وتمر بإعادة تعريف الجماعة انطلاقاً من إدراجها ضمن مؤسسات الدولة والوظائف العامة وجهازي الأمن والجيش، وتصل إلى التهديد الوجودي على وقع الثورة وما تبعها من حرب أهلية. أي كلما تعقدت الشراكة اختلفت تجلياتها وفقاً للشرط التاريخي الذي يحكمها.
الإقرار بما سبق، قد يكون المدخل لفك علاقة الطرفين ببعضهما، أما الاسترخاء لمسلمات من نوع، أن الأسد يحتمي بالعلويين ويستغلهم، فهذا لن يساهم سوى بتعزيز التصاق الطرفين ببعضهما. على اعتبار أن هذه المسلمة تفصل الأسدين عن المسار التاريخي الذي صعدت خلاله الجماعة عبر رافعة العسكر بعد تهميش لسنوات طويلة.
درج