ثلاثة مشاريع أهلية قام بها السوريون في زمن بعيد بعيد/ سامي مروان مبيض
أنجح المشاريع عادة هي التي لا تتدخل بها الدولة إلا عند الضرورة، وما أكثرها في تاريخ سوريا الحديث. سنحاول هنا المرور على ثلاثة مشاريع من هذا النوع، قامت بها النخب الاجتماعية السورية قبل 100 عام، وكانت جميعها عبارة عن مبادرات أهلية ومدنية ناجحة بجميع المقاييس، بعضها استمر حتى اليوم، والبعض أجهض باكراً في زمن الانتداب الفرنسي.
الضريبة على الأغنياء لا على الخبز
في سنة 1905 قرر الوالي العثماني ناظم باشا نقل مياه عين الفيجة من سفح وادي بردى إلى مدينة دمشق عبر قساطل، ولكن خزينة الدولة كانت خالية ولا يمكنها تحمل أعباء مشروع ضخم من هذا الحجم. الهدف من وراء المشروع كان لتحرير مياه نهر بردى، الملوثة في كثير من الأحيان، والتي كان أهالي المدينة يستخدمونها للشرب والسقاية والاستحمام. كلفة جرّ المياه كانت أربعين ألف ليرة ذهبية: عشرون ألفاً لإيصال المياه من النبع إلى الحوض، وأربعة عشر ألفاً لإيصالها من الحوض إلى المنهل، وستة آلاف نفقات إنشاء وأجور عمال.
ولكن الخزينة العامة يومها كانت لا تحتوي إلّا ثمانية آلاف ذهبة فقط لا غير، فقرر ناظم باشا إشراك الأعيان في جمع المبلغ المطلوب. عُقد اجتماع في داره حضرهُ الوجهاء الشيخ عبد المحسن الأسطواني والشيخ محمود أبو الشامات وعطا الله باشا البكري. تباحثوا في كيفية جمع المبلغ المطلوب، واقترح أحدهم فرض ضريبة على الخبز، تيمناً بالسلطان عبد الحميد الثاني الذي كان قد فرض ضريبة على اللحوم والمسالخ في كافة أنحاء البلاد لتأمين نفقات إنشاء كلية الطب العثماني في دمشق قبل سنتين، ولكن عطا الله البكري عارض الفكرة وقال بغضب: “أتريدون أن يدفعها الفقراء؟ اجعلوها على الكاز… لأن الفقير يشعل ضوءاً واحداً، والغني يشعل أضواءً كثيرةً، فيكون قد أخذها من جيوب الأغنياء”. أُعجب ناظم باشا بالفكرة، وهكذا فعل.
وعندما أصبح المبلغ جاهزاً، أمر الوالي بوضع خزانين للمياه، واحد بالقرب من النبع، والثاني في منطقة الفواخير بحيّ الصالحية شمالي منطقة المهاجرين. كان عدد سكان دمشق يومها لا يتجاوز 300 ألف، فحُدِّد خمسة آلاف وخمسمئة لتر من الماء لكل منهم في اليوم الواحد، أو مليون وستمئة وخمسون لتراً تُضَخ بمعدل ساعتين يومياً في الصباح وساعتين في المساء. تحسُّباً لأي طارئ، مثل لزوم إطفاء الحرائق أو زيادة استهلاك المدينة نتيجة احتفال أو استقبال، وضع ناظم باشا كمية من المياه الاحتياطية في خزانات المدينة، وزعت مع الكمية الأصلية على حوض الصالحية عبر قساطل تصل إلى 175 منهلاً و400 سبيل.
تجديد المشروع في زمن الانتداب الفرنسي
مع بداية العشرينيات، كانت جميع تلك القساطل التي أوجدها ناظم باشا قد أصبحت غير صالحة للاستخدام، على الرغم من مرور أقل من خمس عشرة سنة على إنشائها. فقرر نائب رئيس غرفة تجارة دمشق لطفي الحفار تأسيس شركة مساهمة لتطوير المشروع، بعد زيارته إلى مصر ودراسة شبكة المياه المتطورة الممتدة داخل القاهرة والإسكندرية. عاد إلى دمشق بعد اكتمال معالم المشروع في ذهنه، وعرض الفكرة على غرفة التجارة التي تبنتها على الفور.
قرر تجار الشّام تأسيس شركة مساهمة وطنية، كانت الأولى من نوعها بين القطاع العام والخاص (Public–Private Partnership PPP)، هدفها نقل مياه نبع عين الفيجة وتوزيعها على أهالي مدينة دمشق، مقابل مبلغ من المال يدفعونه سنوياً عن كميات المياه التي يطلبون الاشتراك بها، شرط أن تكون مرتبطة بالملك، لا يجوز التنازل عنها أو بيعها إلا مع بيع العقار، وتُسَجّل ملكية المياه في الصحيفة العقارية لجميع دور دمشق (ولا تزال كمية الأمتار تذكر في الصحيفة العقارية حتى اليوم).
شُكلت لجنة للحصول على الامتياز القانوني باسم “مدينة دمشق،” ضمت لطفي الحفار وعارف الحلبوني ومسلم سيوفي (ممثلين عن غرفة التجارة)، ومحامي الشركة فارس الخوري وكلاً من الأعيان سامي باشا مردم بك وأنطون سيوفي (صاحب مصرف صباغ وسيوفي)، وعطا العظمة ويحيى الصوّاف. قدّرت تكاليف المشروع بـ150 ألف ليرة عثمانية ذهبية، وقرر الحفار فتح الاكتتاب العام ليباع المتر الواحد من الماء بالتقسيط لمن يرغب بقيمة 30 ليرة ذهبية.
وفي شباط/فبراير 1924، بدأت الأعمال الإنشائية لكنها توقفت بسبب اندلاع الثورة السورية الكبرى في تموز/يوليو 1925. شُكّلت لجنة جديدة لإعادة إحياء المشروع بعد انقطاع دام ثلاث سنوات ضمّت لويس قشيشو من المسيحيين، وإكليل مؤيد العظم عن عائلات دمشق الكبرى، وموسى طوطح عن الطائفة اليهودية، ومحمد سعيد اليوسف، نجل أمير الحج الدمشقي أيام العثمانيين، عبد الرحمن باشا اليوسف. أنشأوا جمعية ملّاكي المياه، ذهبت رئاستها لعبد الحميد دياب، التاجر والصناعي الذي ارتبط اسمه لاحقاً بالشركة الخماسية.
طلب الحفار من المؤسسين تأجيل أقساط كل المستثمرين وأصحاب الأسهم الذين تضرروا من تدمير أملاكهم ومتاجرهم خلال الثورة، ونتيجة زيادة عدد سكان دمشق من النازحين بسبب تلك الأحداث الدامية. رفع عدد العمال إلى 2500 لحفر أربعين نفقاً في الجبال بين دمشق ونبع الفيجة، ووُضع خزان جديد على أعلى قمة من جبل قاسيون، أكبر بأربع مرات من خزّان الصالحية، لتلبية حاجات سكان دمشق الجدد.
دُشِّن المشروع بعد عشر سنوات في 3 آب/أغسطس 1932 بحضور رئيس الجمهورية محمد علي العابد، الذي خطب وبارك جهود الأهالي والتجار، ثم تلاه فارس الخوري على المنبر، بصفته أحد المؤسسين قائلاً: “أجل إن أمّتنا فقيرة بالمال، ولكنها غنية بالإيمان الوطني، ومتى كان للأمة إيمانها فإنها تكون قادرة على صنع المعجزات”.
مكتب البارودي
أما المشروع الأهالي الثالث، فكان مشروعاً فكرياً وسياسياً لا علاقة له بالاقتصاد، وهو أول مركز دراسات وأبحاث عرفته منطقة الشرق الأوسط (think-tank) الذي أقامه نائب دمشق وزعيمها فخري البارودي في داره سنة 1934. قام البارودي بشراء مطبعة خاصة لأجل الشروع، الذي أطلق عليه اسم “مكتب البارودي”، وفيها بدأ بطباعة دوريات وأبحاث علمية، ليتم إرسالها إلى النخب السياسية في سوريا والمنطقة، وتوزيعها مجاناً على الصحف والجوامع والكنائس والمدارس والجامعات.
تراوحت المواضيع من توثيق الجرائم الصهيونية في فلسطين مروراً بمطامع تركيا في منطقة لواء إسكندرون، إضافة لإجراء استبيانات حول معدلات الفقر والبطالة في سوريا. وتعاقد البارودي مع مجموعة باحثين شباب لإجراء تلك الدراسات، أصبحوا بعد سنوات من قادة المجتمع السوري مثل الدكتور قسطنطين زريق (رئيس جامعة دمشق ثم رئيس جامعة بيروت الأمريكية)، الدكتور أحمد السمّان (رئيس جامعة دمشق في زمن الوحدة مع مصر)، منير الريّس (صاحب جريدة بردى)، والدكتور ناظم القدسي (رئيس سوريا سنة 1961).
كما جاء بأكرم زعيتر من فلسطين، وكاظم الصلح من لبنان، لوضع دراسات عن الأوضاع في بلادهم. تراوحت دراسات هؤلاء الباحثين ما بين جامعة بيروت الأمريكية وجامعة كولومبيا وجامعة جينيف، وكانت مرتباتهم تدفع من جيب البارودي للقول لهم ولبقية الباحثين الشباب إن البحث العلمي في سوريا مجدٍ من الناحية المادية، ومفيد من الناحية الوطنية. وقد شكّل هؤلاء الشباب الهيئة العامة لمركز الأبحاث، وانتخبوا البارودي رئيساً له لمدة خمس سنوات.
إضافة لإنجاز الأبحاث العلمية، قام “مكتب البارودي” بتوظيف مصورين شباب داخل الأراضي الفلسطينية لالتقاط صور فوتوغرافية عن تجاوزات العصابات اليهودية ومصادرتهم للأراضي والأملاك. كان البارودي يجمع تلك الصور، ثم يقوم بإرسالها إلى كبرى الصحف الأمريكية والبريطانية مُطالباً بنشرها، مرفقة برسالة رسمية تحمل عبارة: “مع تحيات مكتب البارودي”.
أسس غرفة خاصة للحفاظ على الخرائط السورية، قبل وبعد ترسيم الحدود عند انهيار الدولة العثمانية، وغرفة ثانية لحفظ أوراق ملكية الأراضي الفلسطينية (الطابو)، المدرجة ضمن مطامع الوكالة اليهودية، والتي نقل الكثير منها لاحقاً إلى مركز الدراسات الفلسطيني في بيروت، ليتم حرقها أو مصادرتها ونقلها إلى تل أبيب خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982.
أمّا عن تمويل مكتب البارودي فقد كان يأتي عن طريق الاشتراكات بالدوريات وتبرعات الأعيان والمؤسسات السورية، إضافة لتبرعات البارودي الذي دعم المكتب بمبلغ قدره 40 ألف قرشاً سورياً. وقد قام مكتب البارودي بطباعة كتاب عن مؤتمر بلودان وكتيب آخر باسم “دليل الشرطي” للبارودي، يحتوي على إرشادات لرجال الأمن والشرطة وتعليمات مصوّرة متعلقة بكل تفاصيل مهنتهم. أخيراً قام المكتب بترجمة مُذكّرات أدولف هتلر من اللغة الألمانية، التي صدرت بعنوان “كفاحي”.
وأقام مكتب البارودي أول سوق عمل في الوطن العربي (المعروف اليوم باسم Job Fair) وكان يدعو الخريجين الجدد من الجامعة السورية إلى حفل كوكتيل في داره، بحضور نخبة من الصناعيين والتجّار ومدراء المصارف. كان يطلب من الطلاب وضع وردة حمراء في عروة معطفهم، دلالة على أنهم “يبحثون عن عمل”، ويطلب منهم التغلغل بين الشخصيات الاقتصادية للتعريف بأنفسهم ودراستهم. وقد حقق مشروع البارودي نجاحاً باهراً في سنواته الأولى، ولكنه أغلق بأمر من سلطات الانتداب الفرنسي عند اعتقال البارودي في 21 كانون الثاني/يناير 1936.
رصيف 22