عمر أميرالاي… لا نجاة للعقل ما دام يُفكِّر ويتأمَّل/ أنور محمد
كأنَّ المخرج السينمائي التسجيلي عمر أميرالاي (1944-2011) قد اشتغل أفلامه الـ19 بإحساس مفكِّرٍ سينمائي (نهضوي) متجاوزاً التعصُّب الأعمى للدولة العربية المستبدَّة، التي ترى في التخلف ميداناً- حلبةً لحكمها تصرعُ فوقها مَنْ يتحدَّاها بـ”النُقاط”، للتدليل على ديموقراطيتها، وليس بالضربة القاضية. وهذا ما ذهب عمر أميرالاي إلى تصويره وتحليله في سينماه التسجيلية، لنرى تلك الوجوه العارية للضحايا وقد بدت فيها آثار أنياب الجلاد وأظافره.
ربَّما من هذه الفرضية جاء كتاب الناقد والروائي فجر يعقوب، “عمر أميرالاي العدسة الجارحة” (منشورات المتوسط- إيطاليا 2022)، ليتحدَّث وبأسلوبٍ جارح عن سينما هذا المخرج الاستثنائي الذي جعل من مقارعته للتخلف والاستبداد، وبعين العدسة، همَّاً وهدفاً إنسانياً نبيلاً. فهو في سينماه لا تَصالُح ولا إصلاح، ولا مُراوحة بين التقدُّم والخنوع، ولا أخذ ولا ردَّ، إنَّما نقدٌ ونقد.
يرى يعقوب في كتابه أنَّ ما فعله أميرالاي في أفلام “الأربعین ذبیحة” (كان أميرالاي كلَّما أخرَج فيلماً، ذَبح خروفين أو ما في حكمهما، كنذرٍ يفيه للشيخ محيي الدين بن عربي الذي كان يسكن بجواره عندما وُلِد) أنه أعاد اكتشاف بلده سوریا بمبضع الجرَّاح السینمائي، ولولا ھذا المبضع الإبتكاري لما أمكنه أن یشرِّح واقع ھذا البلد المسوَّر بإیدیولوجیا وعقیدةٍ كانتا تُمعِنان في جرحه على الدوام، وكانت لدیه أسبابه لیمقتھا، ویفكِّكھا، ولا یعید تركیبھا، لأنَّ ھذه لم تكن وظیفته على الإطلاق. فالعقل السينمائي لصاحب “الحیاة الیومیة في قریة سوریة” كان یمتلك حدسا رؤیویاً دفعه لأن یبتعد عن الإیدیولوجیات المباشرة في عمله السینمائي، واكتفى من محاولات السیاسي بالانتصار للمفكِّر السینمائي المثقَّف، ولم یقف عند باب من أبواب الأحزاب التي كان قریباً منھا، وظلَّ یدخل في أفلامه من الشبابیك المسوَّرة بالغموض، والألغام، لیجلو حقیقة الإنسان السوري في واقعه المزري، بدلاً من تنكب الأساطیر السیاسیة التي كانت تصنع واقعاً فنیاً مزیفاً من حوله.
الناقد فجر يعقوب، في قراءته لفكر عمر أميرالاي السينمائي، يبحث عمّنْ مَنَعَنا مِنْ تعلُّم السباحة حتى نغرق إذا ما نزلنا في الماء- ماء البحر أو النهر أو الحُفَر المصائد. كأن لا نجاة للفكر، للعقل، ما دام يُفكِّر ويتأمَّل. فيعتبر أنَّ أمیرالاي ذهب في أفلامه إلى الاشتغال بالبحوث السینمائیة الشمولیة، فصنع أفلاماً في بیروت، والقاھرة، وتونس، ولاھور وسواھا من العواصم التي صارت في مرمى عدسته: “مصائب قوم”1981 عن الحرب اللبنانية، “الحب الموؤود”، “العدو الحميم” عن المهاجرين العرب في فرنسا، “رائحة الجنة”1982، “فيديو على الرمال”1984، “سيِّدة شيبام”1988، “شرقي عدن”1988، “إلى جناب السيِّدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو”1990، “نور وظلال”1994 عن رائد السينما السورية نزيه الشهبندر، “فاتح المدرِّس”1995، إضافة إلى الفيلمين الأخيرين اللذين اشتغلهما بالتعاون مع محمد ملص وأسامة محمد، “في يوم من أيَّام العنف العادي، مات صديقي ميشيل سورا…”1996 عن صديقه ميشال سورا صاحب كتاب “الدولة المتوحشة” الذي اغتالته العام 1986 جماعة تطلق على نفسها اسم الجهاد الإسلامي في لبنان، “هنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدَّث عنها المرء”1997، “طبق السردين”1997، “الرجل ذو النّعل الذهبي”1999. وصار یكتشف العالم من حوله من خلال شخصیاتٍ عامة مؤثِّرة في سیاقه وتطوره، وسیحُسب له في سیاق نقدٍ سینمائي موضوعي یؤرِّخ للسینما الوثائقیة العالمیة أنه خلّف للذاكرة أفلاماً عن شخصیات ذات وزن، ومؤثِّرة في إدارة شؤون بلادھا على الصعد المالیة، والسیاسیة، والإنسانیة والفكریة. ففي فيلم “الدجاج”1977، رصد عمر أميرالاي ما یعجز المثقَّف عن قوله في حَواري الكبت، فیحیله إلى لغة الحیوان بالتخاطب، إذ يكتشف الناس حین استیقظوا فجأة من سبات اللعنات والطبیعة “المتزمتة” أنَّ الدجاج وسیلة أخرى لفھم ھذا العالم المحیط بھم. نقنقة الدجاج تحل محل اللغة الآدمیة، ربَّما یسُھّل ذلك التفاھم بلغة لم تعد مأمونة بین البشر أنفسھم، اللغة الآدمیة التي تخلق مساحات لعداواتٍ غیر مفھومة بین البشر أنفسھم، وأنَّه لیس بوسع الدجاج أن یجفل ویخاف من الضوضاء المحیطة به إن اعتاد على صوت الرادیو القوي.
يذكر فجر يعقوب في “العدسة الجارحة” أنَّه استوقفَ عمر أمیرالاي في ساحة الروضة القریبة من مبنى المؤسَّسة العامة للسینما بدمشق، ولم تكن تربطه به معرفة من قبل. عرَّفه بنفسه، وسأله عن إمكانیة أن يُشاھد فیلمه الأخیر حینھا “الرجل ذو النعل الذھبي” فردَّ عليه عمر: تقصد “الرجل ذو النعل الحدیدي”. هذه الجملة الاعتراضیة من أميرالاي كشفت للناقد يعقوب موقفاً نقدیاً صریحاً من الفیلم، الذي اعتبر البعض أنه شذَّ عن رؤى عمر أمیرالاي النقدیة والفكریة، حتى إن البعض حمَّل أميرالاي “إفك” حلفٍ غیر مقدَّسٍ بینه وبین الرئیس الراحل رفیق الحریري كان یأمل أن یقرِّبه من مثقفي لبنان و”شطَّارھا” الذین كانوا ینتظرون بالمقابل من صاحب “الحیاة الیومیة في قریة سوریة” أن یقدِّم لھم رأسه على طبق سینمائي من ذھب. وعن مشاركة الرئيس الحريري في فيلمه كبطل حقيقي، فقد تردَّد كثیراً قبل أن یوافق على مشاركته، لأنَّ سمعة أميرالاي كمُخرج “مشاكس” قد سبقته إلیه، ومع ھذا لم یبخل “بطل” الفیلم من منحه الوقت الكافي لتخلیص الفیلم من “شوائب” مونتاجیة، وأَشراكٍ بصریة وقع فیھا، وھو لنزاھته المھنیة استعرض المادة المصوَّرة مع بطله الرئيس رفيق، وحین أزفت اللحظة المناسبة التي أقلقته، وقلبَّت مواجعه النقدیة، قال له الحریري متطامناً؛ إنَّ الفیلم لم ینتهِ، وبوسعه إكماله من حیث یشاء.
مَنْ يشاهِد أفلام عمر أميرالاي سيجد فيها مصَّاص دماء، ناشر الشر، باعث الفساد الاقتصادي والسياسي والقانوني والمعرفي. صور مأسوية، صور واقعية وليست خيالية مُمَثَّلة. ما يجري في “الميزانسين” هو حقيقة، حركة، أفعال جدلية لفكر يجدِّد فكره باستمرار، فتسمع وترى حوارات وحواريات، وقائع وواقعات مادية بأصوات أصحابها، لا مُمَثِّل ينوب عنهم. هم الصورة؛ هم الذات والشعور.
في فیلمه “وھناك أشیاء كثیرة كان یمكن أن یتحدَّث عنھا المرء”1997، بطله في هذا الفيلم الكاتب المسرحي سعد الله ونوس الذي زلزلت عقله وكادت تطحنه زیارة الرئیس المصري محمد أنور السادات إلى إسرائیل حيث بحث عن وَھْمِ السلام، ولیس عن السلام كما أراد في خطبه المكتوبة التي قرأھا على أعضاء الكنیست الإسرائیلي. فقد شعر ونوس بالذھول یومھا، ویبدو ذلك واضحاً من الكامیرا المثبَّتة على وجھه في لقطة “كلوز – أب” یمكن للمُشاھد أن یتتبَّع خیط ھذا الذھول في وجهه وھو یبلع ریقه حیناً، أو یَبِّل ریقه بشفِّ بعض الماء من كأس زجاجي بیده. وهنا نتساءل: ماذا يفعل المثقَّف العربي إزاء مثل هذه الخيانة التي قام بها جهاراً رئيس أكبر دولة عربية، فيما العرب العاربة والمستعربة تتفرَّج عليه مستنكرة، وكأنَّ بيانات الاستنكار ستُعيد لنا فلسطين. الفيلم كان محاكمة مثقَّفَيْن؛ سينمائي ومسرحي، لرؤساء يعقلنون الخيانة تحت شعار (العلم والإيمان) والوحدة العربية، غير آبهين بالناس- أو الدجاج، فيما نراهم يحتقرون العلم والتعليم والإيمان.
ربَّما لا تكون صدفةً، وهذا ما يخلص إليه فجر يعقوب، بأن یبدأ عمر أمیرالاي مشواره السینمائي بفیلم “محاولة عن سد الفرات”1970، وینھیه بفیلمه الإشكالي “طوفان في بلاد البعث” 2003. ذلك الشریط الطویل من الأفكار المتأجِّجة في وعي وعقل المخرج الأكثر إثارة للجدل في بلاده، كان یختصره أحیاناً، بفكرةٍ عبثیةٍ طالعة من شتات العدم، الذي رسخت فیه أطراف ھذه الأرض المعذَّبة وناسھا. ثلاثة وثلاثون عاماً في مختبر الفیلم الوثائقي، لو جمعت بأناة صبر نقدي، وتشریحي جمالي وفني، لما تجاوزت سبع عشرة ساعة من العمل الدؤوب، والمراقبة النقدیة، لأكثر الحالات عصیاناً وتعقیداً في مجتمع تتغلَب فیه سطوة الریف على المدینة.
السينما التسجيلية التي اشتغلها عمر أميرالاي؛ برأيي لا تُفسِّر بل هي مشروعٌ ليؤثِّر، ولا نقول ليُغيِّر، باعتبار أنَّ السينما التسجيلية هي فعل عقلاني يكشف وينقد عالم السلعة الذي يبتلع العلم والوعي والثورات، ويبتلع كذلك الإنسان ويحوِّله إلى شيء. السينما التسجيلية، كما جاء في أفلامه، هي نشر الفاعلية الجمالية بعدسته التي حوَّلتنا إلى متفرجين، بدلاً من مُشاهدين، لأنَّ لهذه السينما فاعلية المسرح، إذ نبدأ بتحسُّس واسترداد واستملاك إنسانيتنا التي يتمُّ تشبيحها وتعفيشها في النظم الاستبدادية. المؤلِّف فجر يعقوب في استعراضه ونقده للصراعات التي رصدتها عدسة عمر أميرالاي، يذهب ما بين “ديونيزوس” حيث العنف والقسوة والثمالة، وبين “أبولون” حيث الحلم والنور.
المدن