في امتناع وجود معارضة سورية/ راتب شعبو
بعد الاحتجاجات في محافظة السويداء واقتحام مبنى المحافظة وحرقه، مطلع الشهر الماضي، صدرت مواقف سلبية تجاه المحتجين، في منطقة الساحل السوري. أقل ما قيل في المحتجين أنهم مخربون لأنهم حرقوا مبنى المحافظة، وأسوأ ما قيل فيهم أنهم عملاء. وصدرت مواقف سلبية أيضاً من مناطق شمال غرب سورية، تنكر على محتجي السويداء انتسابهم إلى الثورة السورية، وتقلل من “هيبة” احتجاجهم بوصفه احتجاج جوع. القاسم المشترك لهذه المواقف هو انعدام التضامن أو حتى التعاطف مع محتجين يحركهم الحرمان الباهظ نفسه الذي يعاني منه، بنفس الدرجة أو أكثر، أصحاب المواقف. ومن الواضح أن الدعوة التي أطلقها أبناء السويداء إلى الاعتصام، لم تجد صدى وتفاعلاً في المناطق السورية المختلفة، لا تلك الخاضعة لنظام الأسد ولا لغيره.
غير أن القاسم المشترك لهذه المواقف السلبية لا يخفي التباين في المنطلق، فأهل الساحل يشتركون مع أهل السويداء في أنهم يخضعون، بدرجات مختلفة، لسيطرة نظام الأسد، وما يجعلهم معادين لاحتجاجات السويداء، ليس فقط الخوف من بطش النظام حيال أي تضامن فعلي مع هذه الاحتجاجات، بل، والأهم، خوفهم على النظام نفسه من السقوط. ينطبق هذا، بصورة خاصة، على العلويين الذين انتهى بهم الأمر (في سياق معلوم) إلى التماهي النفسي مع النظام. ونعتقد أن الكلام “الوطني” الذي يستخدمه هؤلاء في نقدهم لاحتجاجات السويداء، لا يعدو كونه تبريراً، فهم سيجدون دائماً ما ينتقدون به أي احتجاج مضاد للنظام.
أما الأهالي في مناطق شمال غرب سورية فيخضعون إلى سلطات مستجدة معادية لنظام الأسد، وينطلقون في سلبيتهم تجاه احتجاجات السويداء من أرضية مغايرة، أو قل معاكسة، مثل الرغبة في احتكار راية الثورة، أو اعتبار أهالي المحافظة موالين في النهاية لأنهم لم يلتحقوا بالثورة أيام عزها، أو لأن المطالب التي يرفعونها مثل “بدنا نعيش”، أقل “ثورية” مما يجب … الخ. وقد يكون ثمة، وراء هذه المواقف، ظل لتمييز سلبي مذهبي في منطقة تسيطر عليها جماعة سياسية عسكرية أعلن زعيمها أنه يطمح إلى إقامة كيان سني.
يبين هذا المشهد المتكرر أن المجال السياسي السوري قد تقطع إلى حدود لا سابق لها، حتى في مرحلة تقسيم سورية عقب الانتداب الفرنسي، ذلك أن سلطة الانتداب كانت حينها سلطة جامعة فوق سلطات الدويلات السورية، الأمر الذي لا وجود له اليوم، فلكل دويلة سورية اليوم حام أجنبي مختلف ولا وجود لسلطة عليا جامعة لها. كما يقول المشهد السوري اليوم إنه لم يعد دقيقاً، من الناحية السياسية، الكلام عن شعب سوري، بقدر ما يكون هذا المفهوم السياسي “الشعب” محدداً بخضوعه لدولة واحدة وبالتالي لمجال سياسي واحد. لدينا في سورية اليوم تعدد في المجالات السياسية، بتعدد السلطات التي بات لها حدود وايديولوجيا سياسية ورموز وقوات تحميها. في كل مجال يوجد جزء من “الشعب” السوري الخاضع لسلطة مختلفة ولشروط سياسية وأمنية مختلفة. لدينا في سورية أربعة مجالات سياسية على الأقل، مجال الإدارة الذاتية في شرق الفرات، ومجال حكومة الإنقاذ الإسلامية في ادلب، ومجال السيطرة التركية بواسطة “الجيش الوطني”، إضافة إلى مجال نظام الأسد الذي يحتكر تمثيل “سورية الرسمية”، والذي تتميز فيه المنطقة الجنوبية (درعا والسويداء) بوضع غير مستتب تماماً لسلطة الأسد.
لم نعد أمام زمن سياسي سوري موحد، ولا أمام شعب سوري واحد. من الصعب، والحال هذه، بروز معارضة سورية موحدة تتجاوز هذا التباين بين هذه المجالات السياسية المختلفة. المفارقة أن المجموعات السياسية التي تقفز فوق هذا التباين، تتشكل خارج سورية، من سوريين لا يزالون يفكرون بسورية على أنها بلد واحد، وشعب واحد. والحال أن هذا بات هدفاً ليس في المتناول.
من طبيعة الأمور أن تنشأ في كل مجال سياسي معارضة للسلطة المسيطرة فيه، وعلى هذا، يتوافق مع المنطق الحديثُ عن معارضات سورية تتعدد بتعدد السلطات، ويحول هذا التعدد دون وحدتها، إن على المستوى التنظيمي أو السياسي. إلى ذلك فإن المعارضة في كل مجال سياسي، إن وجدت، تجد نفسها مقيدة، نظراً إلى أن إضعاف السلطة “المحلية”، لا يقود إلى سلطة أوسع تمثيلاً، بل إلى تمدد السلطات الأخرى على حسابها. لا توجد بين السلطات السورية التي استقر لها الحال اليوم، أي سلطة جاذبة، يرغب محكومو السلطات الأخرى بتمددها.
تشمل هذه الظاهرة كل المناطق السورية، وتوجد حيث توجد سلطة على هذه المناطق، مهما كانت سلطة محدودة القوة والمساحة. أساس نشوء الظاهرة المذكورة هو تعدد السلطات واستقرارها وثبات حدودها وتعاديها المتبادل وامتداد هذا العداء على خطوط هوياتية تطال “جمهور” السلطة الأخرى وليس فقط نخبتها. تشبه هذه الحال الصراعات الخارجية بين الدول، الصراعات التي تسير على خطوط انقسام قومية أو وطنية. معلوم أن الصراعات السياسية الداخلية، والانقسامات الداخلية، تميل إلى التنحي أمام صراع خارجي “قومي”. ومن الشهير في التاريخ كيف تغلبت الانقسامات القومية على الانقسامات الطبقية عشية الحرب العالمية الأولى، فانقسم “عمال العالم”، بدل أن يتحدوا، واصطفوا خلف حكوماتهم. شيء من هذا القبيل، وإن على نحو دقيق وأكثر تشويشاً، نجده اليوم في بلد واحد هو سوريا.
على هذا، يعرض علينا الواقع السوري المعقد، ظاهرة طريفة وهي امتناع بروز معارضة تشمل سورية، وامتناع بروز معارضة “حقيقية” محلية، نظراً لغياب الإرادة في تغيير السلطة القائمة، على اعتبار أنها ضمان من سيطرة سلطة أخرى لا تقل سوءاً، على ضوء التعادي الذي تكرس على أساس هويات قومية ومذهبية. الطريف الذي يعرضه الواقع السوري هو نشوء حال بين السلطات ومعارضيها يميل إلى المحافظة على السلطة “المحلية”. التوافق بين السلطة ومعارضتها على ديمومة السلطة، يجعل أقصى طموح المعارضين (إن جازت لهم هذه التسمية) من السلطة التي يخشون “سقوطها”، هو نصيب فيها. هذه ظاهرة تستحق التأمل.
بات الواقع السوري من التعقيد أشبه بعقدة غوردية التي تحدت من يحلها، ولا يلوح في الأفق “إسكندر كبير” يعالج العقدة السورية كما عالج الاسكندر الكبير عقدة غوردية بسيفه، حسب الأسطورة الشهيرة.