“محاضرة في المطر”: ذكريات مأهولة بالنسيان/ يزن الحاج
في إحدى حلقات مسلسل “عقول إجرامية”، يقتبس جيسن غديون عبارةً للعميل الفيدرالي جون ريس عن الأدلّة التي يستحيل فحصها في ذاتها؛ إذ كيف لنا فحص الحب أو الغضب أو الكراهية أو الهوس؟ ولعلّ هذا السؤال يمتدّ ليشمل كلّ ما نعرف، وما لا نعرف، وما نودّ أن نعرف، عن الفن والفلسفة والأدب. كيف لنا أن نعبّر عمّا يستحيل التعبير عنه بمعانٍ ملموسة؟ ربما كان هذا تعريف الفن، إن كان له تعريف: “أن ننقل ما لا يُنقَل، أن نعبِّر عمّا لا يُعبَّر عنه، أن نكتب ما لا يُكتَب”. لعلّنا نُعرِّف الشيء ونَعْرفه بما نحسّه؛ ولكنّ الحواسّ قاصرة بطبيعتها.
لعلّنا نعرفه ونُعرّفه بنتائجه؛ ولكنّ هذا، مرة أُخرى، قاصرٌ، إذ يرتبط بتجربة ذاتية. ما نراه حبًّا قد يراه غيرنا كراهية، وما نراه غضبًا قد يراه آخرون لطفًا. ولكن ماذا عن الأشياء الملموسة القابلة للقياس والفحص، والعصيّة على القياس في آن معًا؟ كيف لنا أن نقيس القُبلة، على سبيل المثال؟ أو ارتعاشة بَرْد الفجر؟ أو المطر؟
هذا ما يحاول الكاتب المكسيكي خوان بيّورو (1956) فِعْله في كتابه “محاضرة في المطر”، الصادرة نسخته العربية أخيرًا عن “منشورات تكوين” بترجمة مارك جمال. أقول “يحاول”، لا بمعنى النجاح أو الفشل، أو استحالة الكتابة عمّا لا يُكتَب، أو تفسير ما لا يُفسَّر، بل استعادةً للكلمة الفرنسية “essai”، التي قدّمها لنا مونتيني في القرن السادس عشر، وبتْنا نترجمها “مقالة”، في حين أنها “محاولة”، كما رآها مونتيني، وكما لا بدّ أن يراها كل مَن يريد كتابة هذا الجنس الأدبي المراوغ.
فكتاب بيّورو ليس شعرًا أو نثرًا على وجه الخصوص، ليس مونولوغًا مسرحيًا أو تأمّلًا، وليس فلسفة أو نقدًا صرفًا؛ هو كلّ هذا وليس أيًا من هذا على حدٍّ سواء. هذا الالتباس مُغوٍ دومًا، بقدر إغواء التباس كلمة “conferencia” الإسبانية في عنوان الكتاب، التي تكون “محاضرة” أو “ندوة”، وتكون “مسافة طويلة”. ولعلّ هذه المسافة الطويلة هي ما تلخّص عبثية الكتابة وجمالها؛ أن تكتب عن موضوع بعينه، فتكون الكتابة نسبية والموضوع نسبيًا والفهم نسبيًا والنتيجة نسبية، والمسافة نسبية، إذ هي قريبة وبعيدة في آن معًا: نقبض على المعنى ويتملّص منّا ومن كاتبه ومن مترجمه.
كل ما تقوله صفحات هذا الكتاب هو محاولة مُحاضِر (ما اسمه بالمناسبة؟)، يعمل أمين مكتبة، إلقاءَ محاضرة عن المطر، وقد نسي أوراق نصه، أو لعلّه تناساها، أو لعله لم يُحضّر أوراقًا أصلًا. يبدأ بالمطر ويختتم بالمطر، غير أن باقي كلامه ليس عن المطر، أو ليس تمامًا عنه، إذ يظلّ المطر حاضرًا رغم غيابه وبسبب غيابه. كلّ ما يبوح به أمين المكتبة عن حياته، وعن ذكرياته، وكتبه، ونسائه، وتأمّلاته، وأصدقائه، وعن الوقت الذي عاشه، والوقت الذي لم يعشه، والوقت الذي تمنّى لو عاشه؛ هو عن المطر وليس عن المطر في الوقت ذاته، وكأنما المطر هو الضيف الغائب الذي نستشعر حضوره بالنقصان؛ هو الحاضِر لأن مكانه حاضر، لأن صوته حاضر، لأن ذكراه حاضرة، وهو الغائب لأنه غائب بكل بساطة.
وعلى مدار الصفحات القليلة، يواصل المُحاضر محاولته تلك من خلال استدعاء المجازات تارةً، مع حرص شديد على إبعاد المجاز عن الابتذال الذي طاوله بعد تسليع كلّ شيء، ومن خلال طرح تعريفات قد تبدو إشكالية للوهلة الأولى، قبل أن ندرك دقّتها مع مضيّ الكلام والصفحات، فما المحاضرة “إنْ لم تكن شرودًا منظّمًا؟”، وما المطر، إذن، إن لم يكن نتاج مخيّلة تحاول خلق واقعها، مع إدراكنا ونحن نتحسّر بأن “المطر يتساقط أفضل في المخيّلة”؟
كيف نتلمّس المطر إذن؟ كيف نقرؤه؟ كيف نحاضِر فيه؟ كيف نقرأ محاضرة فيه؟ يلجأ أمين المكتبة إلى المخيّلة بذكرياتها وأحلامها والفرص التي كانت سانحة والفرص التي فوّتها. أمّا القارئ، فقد يلجأ إلى نصٍّ يماثل عبثية وجمال محاولة الكتابة عن المطر، كما تفعل آن كارسن حين تكتب “أنثروبولوجيا الماء”، حيث “كل شيء ماء”، كما يقول طاليس، حين يعمّم تجربة سقوطه في البئر على الكون بأسره، وكأنما الفلسفة ــ مرّة أخرى ــ محض تجربة ذاتية نسبغها على المطلق، أم لعله أكثر من هذا أو أقل؟ هو هذا كله، وليس أيًا من هذا، فالماء عصيّ على قبضتنا، كما تدرك كارسن.
“ما الماء إذن بحق الجحيم؟”، تسأل السمكة الساذجة في نص ديفد فوستر والاس “هذا هو الماء”، فيكون الماء هو ما نعيشه ونلمسه، ما يكون حقيقيًا وجوهريًا، وخفيًا وواضحًا في آن معًا، ما يكون حولنا ولا ندركه مع أننا نعيشه، ما يتملّص منّا، كما يدرك والاس، ويدرك بيّورو أيضًا.
لعل قارئًا آخر يلجأ إلى الاقتباسات، وكتاب بيّورو يعجّ بالاقتباسات التي تُخفي وتُفصِح على حدٍّ سواء، كما لو كانت قطرة مطر، أو حفنة ماء نحبسها بين أصابعنا، أو في كأس، فنظنّها البحر بأسره. نحن محقّون ومخطئون في آن؛ المطر هنا، وليس هنا. البحر كلّه في الكأس، وليس في الكأس.
هذا هو المطر، هذا هو الماء، بالتباساته وتملّصاته ومراوغاته، وببساطته وعذوبته، بتسكينه الآلام وبكونه مُسبّبًا للآلام. هو أنا حين أهرب من ترجمة كتاب عن العلوم السياسية إلى فسحة تدخين، وأفكّر بالمطر الذي لا أراه في شتاء الصحراء. هو قارئ يفكّر في كارسن ووالاس وبيّورو وهم يكتبون عن المطر والماء، وهم يحاولون كتابة ما يدركون ولا يدركون، يحاولون تقديم نصّ يكون لهم ولنا ولكلّ قارئ يعرف المطر ولا يعرفه، يفهم الماء ولا يفهمه. هو قارئ يقرأ ويعيد قراءة “محاضرة في المطر”، بترجمة هي ضربة معلّم أُخرى لمارك جمال.
* كاتب ومترجم من سورية
ضفة ثالثة