ملف موجز تناول “القبيسيات” في سورية
لماذا تثير القبيسيات هذه الكراهية؟/ حسام جزماتي
لا يعلم جمهور الثورة أن حاضنة النظام تنظر إلى القبيسيات بعين حمراء وقلب أسود. وسواء أكانت هذه الحاضنة طائفية أو أمنية أو عسكرية أو علمانية إقصائية، أو مزيجاً من هذا وذا وذاك؛ فإنها لا تمل من التذكير بأن الثورة خرجت من الجوامع، وأن اجتثاثها كلياً رهن بتجفيف المنابع وإلا فإن جذورها ستبقى مرشحة للاشتعال مجدداً، الآن أو بعد جيل.
وضمن منظور يرى في التجمعات الإسلامية درجات متعاضدة وقابلة للتبادل عبر أوان مستطرقة؛ يعتبر هؤلاء أن النفَس المحافظ الذي تبثه القبيسيات يمكن تصريفه إلى عملة إخوانية قابلة للتحويل، بدورها، إلى الجهادية. ولا يرون في التصريحات التبجيلية التي تسفحها القبيسية سلمى عياش في مدح بشار الأسد، واصطحابها عدداً من بنات الدعوة المبتهجات إلى اجتماعات معه متى شاء؛ أكثر من محاولة خبيثة للخداع وقع الرئيس الطيب في حبائلها، أو اضطر إلى قبولها بحكم موقع الدولة التي تلتزم، بكل أسفهم، بأن تكون لكل مواطنيها.
وفي المقابل كشف رحيل مؤسسة الجماعة، منيرة القبيسي، قبل أسبوع عن أثر الجرح الحاد الذي تركه هذا السلوك في نفوس أكثر أبناء الثورة الذين رأوا في تقارب قبيسيات مع النظام خياراً أصيلاً لدى حركتهن في الانحياز إلى القاتل الذي كان يدك ريف دمشق ومناطق عديدة من سوريا بأعتى آلات حربه بينما كان يلتقي بهن، منظّراً وصدر مجلس دون هيبة.
والحق أن الجماعة وجدت نفسها في موقف غير مسبوق بعد الثورة. فعندما نشأت في الستينات كانت أضأل وأقل تنظيماً من أن تثير اشتباه أجهزة أمن البعث غير مفرطة الحساسية آنذاك. كما أتاح انفراج السنوات الأولى من حكم حافظ الأسد للجماعة فرصة النمو، وصولاً إلى صدام السلطة مع الإخوان المسلمين في مطلع الثمانينات، وهو الذي وضع القبيسيات تحت المجهر بسبب القرابات العائلية التي بدت بين عضوات في هذا التيار وبين أفراد في جناح الإخوان المسلمين بدمشق. وفي حين لاحقت أجهزة الأمن الثاني فإنها وضعت الأول تحت عين لصيقة من الرقابة، لخصوصيته النسائية الحساسة، ولأنه لم يشارك فعلاً في التمرد ولم يدعمه قولاً، التزاماً منه بالقواعد التي بني عليها من عدم التدخل في السياسة. أما العامل الآخر الذي نتج عن أحداث الثمانينات فهو ظهور التيار الاستئصالي في الحزب والدولة، ومثّله رفعت الأسد وعدد من كبار ضباط المخابرات والجيش الذين خاضوا صراعاً مريراً ووجودياً مع الإسلاميين، وتدثُروا بالعلمانية المعلنة للحكم وتقدميته لفتح باب الاقتلاع والتطهير والمسح وزراعة البطاطا.
لم تكن سنوات الثمانينات سهلة على القبيسيات اللواتي لجأن إلى وسائل عديدة للاستمرار في دعوتهن، ومنها اختراق بيوت بعض المسؤولين السنّة عبر استقطاب الزوجات أو الأخوات أو تدريس الأبناء. كما تقبلت الجماعة «اختراقاً» معلناً من الطرف الآخر، حين تأقلمت مع وجود من ينسّق مع الأمن من داخلها، تأكيداً منها على أنها دعوة إصلاحية سلمية وسطية ليس لديها ما تخفيه عن «المراقبين».
في التسعينات كانت الدعوة تتوسع وتُهيكل وتُمكّن، مستغلة الانفتاح النسبي لحكم حافظ الأسد في الأمن والسياسة والاقتصاد. وكان لهذا العامل الأخير أهمية أكبر لدى حركة غير مغرمة بالقطاع العام فراحت تبني مؤسساتها التعليمية على هامشه، دون أن تتوانى عن دفع ما يلزم هنا وهناك للحصول على التراخيص والحماية الوقائية. وقد كانت الجماعة تتبلور كقوة مالية معتبرة نتيجة تسديدها، منذ البداية، على بنات العائلات البارزة والميسورة في العاصمة، وبناء صندوقها الخاص.
حملت السنوات الأولى من حكم بشار الأسد، التي بيّنت تردده، عوامل متناقضة للقبيسيات. فمن جهةٍ سمحت لهن شعارات الإصلاح المرفوعة بالعمل بحرية عالية، ومن جهةٍ أخرى أتيحت الحرية للمتوجسين منهن للتعبير عن ذلك في وسائل الإعلام بطرق مختلفة. ولم يكن ذلك بعيداً عن يقظة متناثرة للتيار الاستئصالي في أجهزة الأمن التي عبّر أحد كبار ضباطها عن توجه لإخراجهن من «أوكارهن». وهو التعبير الذي اعتمده إعلام الثمانينات لوصف قواعد الإخوان المسلحة، لكنه عنى الآن انتقال القبيسيات من الاجتماع في البيوت إلى التدريس في المساجد تحت أعين الأمن ووزارة الأوقاف.
لم تكن الجماعة، القائمة على السرّانية النسائية تكويناً ولو دون أسباب موجبة لذلك، ترغب في هذا الانتقال، لكنها اضطرت إليه تحت الضغط. كانت قد بنت، خلال العقود الماضية، علاقات طيبة مع مشايخ دمشق البارزين. وقد تولى تجسير عملية الانتقال هذه اثنان منهم يتمتعان، بالإضافة إلى ثقة القبيسيات، بصلة متينة مع النظام؛ هما الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والشيخ محمد حبش.
حين قامت الثورة لم تكن الحركة مستعدة لحدث بهذا الحجم. فمنذ نشأتها سلكت كدعوة عمقيّة تراهن على زمن لامتناه من العمل على تحفيظ القرآن ونشر العلوم الشرعية وقراءة الأوراد وتغيير المجتمع بالقوة الناعمة، وتكره النزق والتحولات السريعة. وقد تعزز هذا مع تضخمها وثقل حركتها وتقدّم «آنساتها» في العمر، وعلى رأسهن «الحجة» التي كانت في نحو الثمانين. لكن الحركة دفعت في هذه المرحلة ثمن تمددها إلى ريف العاصمة والمحافظات الأخرى، عندما لم تستطع ضبط قواعد من المريدات والآنسات اللواتي انخرطن في الحراك الثائر في محيطهن. وعبر هؤلاء كانت أخبار الاعتقالات والقتل والقصف تُنقل، بالسند المتصل، إلى القيادة البطريركية العجوز وتضعها في زاوية أخلاقية حرجة.
استغرق الأمر ثلاث سنوات تقريباً من الضغوط، من النظام من جهة ومن هذا الجناح الثائر من جهة أخرى، على الحركة لتعلن موقفاً. وأثناء ذلك انشقت الكثيرات عنها أو تشظين بفعل النزوح، حتى سمحت لجناح موالٍ فيها أن يتصدر المشهد ويبدو وكأنه الممثل الوحيد.
لم يسبق للقبيسيات أن أعلنّ هذه الدرجة من الموالاة، لكن بيان الحرب التي قررها الأسد لم يترك مجالاً للمراوغة، فقد أوضح أن عليك أن تكون معه أو ضده دون لبس. ومن وجهة نظر الحركات الإصلاحية فإن الخيار البديهي هنا هو مصانعة الوالي والانحناء للعاصفة.
في العمق ترى الدعوة أنها أرسخ من الماجريات، وأنها ولدت قبل حافظ الأسد وستظل بعد ابنه، وأنها وُجدت قبل الثورة وستبقى بعدها وبغض النظر عن نتائجها. ولذلك يكرهها خصومها الاستئصاليون بوصفها حركة باطنية معندة عملياً، ويحنق عليها ثوار لأنها ظهرت أنانية ومتعالية على آلامهم. وتجاه هذا وذاك لم تهتم الحركة بالتفسير فهي لا تحبذ المكاشفة الإعلامية، وليس لها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد رحلت زعيمتها دون أن تترك صورة واحدة!
تلفزيون سوريا
——————————–
تنظيم القبيسيّات وعلاقته بالنظام السوري/ سمير سعيفان
أثارت وفاة الآنسة منيرة القبيسي، مؤسّسة تنظيم القبيسيات، النسائي الإسلامي في سورية، والذي امتدّ إلى بلدان عربية وأجنبية أخرى، نقاشاتٍ كثيرة عن تنظيم القبيسيات ومنشئه وأدواره. وتناقش هذه المطالعة علاقة التنظيم المركّبة مع النظام السوري.
الحقيقة المعروفة أنه لا يمكن لجمعية أو جماعة أن تنتظم وتنشط في سورية بدون موافقة صريحة أو ضمنية من أجهزة الأمن. وتنظيم القبيسيات الذي ملأ نشاطُه المدن السورية على مرأى ومسمع من الجميع، ويقدّر عدد الأعضاء فيه بأكثر من 75 ألفا في سورية وحدها، لا يمكن أن ينمو ويكبر بدون قبول النظام، بل وبدون دعم أجهزة هذا النظام ورعايتها بهذا القدر أو ذاك، فمعروفٌ أن أجهزة النظام قد قمعت بالحديد والنار تنظيماتٍ أصغر من “القبيسيات” بألف مرة والأمثلة كثيرة.
تنظيم هرمي متماسك
يمتاز تنظيم القبيسيات بكل مواصفات التنظيم السياسي غير العلني، فهو لا يعلن عن أهدافه ولا هيكله التنظيمي ولا نظامه الداخلي. يقوم على السمع والطاعة، ويطبّق على المنتسبات إليه نمط اللباس الموحّد، وتُعرف مرتبة “القبيسية” من لون منديلها. ولدى التنظيم نهج مدروس بعنايةٍ لسبل الدعاية والتحشيد والتجنيد. يتوجّه بنشاط التجنيد نحو الزوجة؛ لكونها من توجّه الأبناء، فضلًا عن تأثيرها في حياة الزوج. وتركّز “القبيسيات” على استقطاب زوجات التجّار والمسؤولين وأبناء العائلات والفئات الغنية وزوجات مشايخ الدين، وينشطن في ترتيب الزيجات، وتزويج الداعيات من رجال أعمالٍ ومسؤولين ومتنفّذين وأبناء العائلات. وفي هذا الصدد، يقول الباحث القريب من تنظيم القبيسيات، الشيخ محمد حبش: “معظم (إن لم يكن جميع) زوجات الشيوخ الكبار أو بناتهم هنّ من الداعيات القبيسيات”. وهذا يؤكّد أن التنظيم يستهدف بنات الفئات النافذة في المجتمع وذات التأثير والزوجات فيها.
تركّز القبيسيات على قطاع التعليم وافتتاح المدارس والمعاهد ورياض الأطفال، وهي مؤسسات ومراكز للتنشئة وفق عقيدة التنظيم. وتشرف القبيسيات على تدريس عشرات آلاف من التلاميذ منذ نعومة أظفارهم، بطريقة محافظة. ويتابع التنظيمُ تلاميذه في المراحل اللاحقة، عبر الدروس الدينية في حلقات البيوت، بيوت الأغنياء، أو المساجد، كما يستخدم المساعدات الخيرية والأهلية. ويقدّم التنظيم خدمات طبية من خلال مشاف يمتلكها أو يديرها، وذلك لأن المساعَدات تفتح الطريق الى القلوب. ويوفّر الكتبَ التي تتضمن أفكار القبيسيات، من خلال مكتبات يمتلكها. ويهتم التنظيم بالتشبيك مع المؤسسات الدينية الأخرى، وبإقامة علاقات حسنة مع علماء الدين والمشايخ وتجمّعاتهم.
بالنظر إلى ما سبق، يظهر أن تنظيم القبيسيات هرميّ صلب متماسك، له أيديولوجيا وأهداف وأدوات ولباس موحّد وطقوس وأدوات عمل ومصادر تمويل، ولديه قاعدة واسعة من الأعضاء، من نخب المجتمع، أي إن لديه كل مواصفات التنظيم السياسي، بغض النظر عن تسميته.
جدل حول تأسيس التنظيم
مؤسِسة التنظيم هي الآنسة منيرة القبيسي، وهي إحدى تلميذات الشيخ أحمد كفتارو، وهو أحد مشايخ نظام البعث – الأسد، وقد تلقّى دعمًا كبيرًا من النظام، وبقي مفتي سورية من سنة 1964 حتى وفاته في 2004، وهو شيخ الطريقة الصوفية النقشبندية في سورية.
تتأرجح الآراء بشأن القبيسيات بين اتهام بعضهم له بأنه تنظيم مخابراتي أسّسته مخابرات الأسد، بينما يحاجج آخرون بأنه مجرّد نشاط مجتمعي دعوي ديني صوفي نقشبندي محافظ، بعيد عن السياسة، ويدعو إلى إطاعة السلطان وعدم الخروج على الحاكم. بل كثيرًا ما تعرّضت القبيسيات للمضايقات الأمنية والاستدعاءات.
وفي نظام الأسد، لا شيء بعيدا عن السياسة، وفي قناعة كاتب هذه المطالعة أن جماعة القبيسيات ليست من صنع أجهزة الأمن وليست تنظيمًا مخابراتيًا، بل نشأ بقوة الدفع الاجتماعي للمجتمع السنّي الدمشقي تحديدًا، وكما يقول محمد حبش إن القبيسيات هنّ “صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي خاصة، وأن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان”. ثم انتقل التنظيم إلى المدن الأخرى بأوساطها الغنية، ومنها الى البلدان العربية في مناخات صعود التيارات الدينية منذ سبعينيات القرن العشرين بعد تراجع التيارات القومية واليسارية بعد هزيمة حزيران 1967، وبعد صعود دور البترو – دولار. ويعدّ امتداد التنظيم خارج سورية نجاحا يحسب له، ولمنيرة القبيسي ومساعداتها الأقرب.
ولكن لأجهزة الأمن في سورية الأسد جعل مثل هذا التنظيم حيًا، ما لم يكن ثمّة منفعة وضرورة لوجوده، ولا يمكنه أن ينمو إلى هذه الدرجة بدون مساهمة نظام الأسد في هذا، بطريقةٍ أو بأخرى. رغم أن بدايات نشاط منيرة القبيسي سابقة لسنة 1970، ولكن التنظيم بدأ يبرز وينمو منذ النصف الأول لسبعينيات القرن العشرين، واستفراد حافظ أسد بالسلطة بعد الانقلاب الذي قام به في نوفمبر/ تشرين الثاني 1970.
يمكن فهم العلاقة المصلحية بين نظام الأسد والقبيسيات بأنها بين ضدّين اضطرا للتعايش معًا، فالقبيسيات هن من تعبيرات المجتمع المديني الذي طاولته إجراءات حزب البعث خلال سنوات ما بين 1963 و1965، وجرّدته من سلطته السياسية وثرواته الاقتصادية ومكانته المجتمعية، وهو مجتمعٌ ينتمي، في معظمه، للمذهب السني، فالمجتمع الدمشقي، والمجتمع المديني السوري عمومًا، ومجمل الفئات الوسطى والعليا التي كانت بيدها السلطة والمال والمكانة الاجتماعية قبل 1963، لن تنسى ما حدث لها في ستينيات القرن العشرين، ولن تغفر ولن تسامح من سلبَها السلطة والثروة والسلاح والمكانة الاجتماعية، حيث صادرت سلطة “البعث” ملكيات كبار الملاكين، ووزعتها على أعداد كبيرة من الفلاحين، كحق انتفاع من دون تمليك، ثم أمّمت الشركات الصناعية والتجارية والمصارف، ما جرّد العائلات المدينية، ومعظمها من السنّة، بحكم تكوين المجتمع السوري، من ثرواتها، بعد تجريدها من السلطة السياسية، ففقدت، بالتالي، مكانتها الاجتماعية. ولأن السلطة التي اتخذت هذه الإجراءات كانت بيد ضباط من الأقليات، وخصوصا العلويين، سيما بعد انقلاب 23 شباط (1966)، ثم بعد انقلاب حافظ الأسد في نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، واستفراده بالسلطة، وهو شخصٌ غير مسلم سنّي مديني؛ بل ينتمي إلى أقلية كانت حتى الأمس “هامشية جدًا” في تركيب المجتمع السوري. هنا نشأت ما سمّيت “مظلومية سنّية”.
أدرك حافظ الأسد حقيقة هذه “المظلوميّة السنّية” التي باتت تعبّر عن ذاتها بأشكال مختلفة، وعرف أنّ مكمن الخطر على سلطته يأتي من مصدرين: الجيش، فعمل على تأميمه وجعل معظم ضبّاطه، وخصوصا الضباط القادة من العلويين. والمجتمع السنّي السوري الذي بدأت تنمو مظلوميته، وخطره يكمن في أن السنّة يشكّلون معظم المجتمع السوري، ولهم امتداد عربي وإقليمي كبير.
حرص حافظ الأسد، بعد توليه السلطة، على تسويق نفسه صاحب منهج وسطي على مستوى السياسة الدولية والإقليمية والداخلية، مقارنةً بالمنهج الراديكالي للقيادي البارز في حزب البعث وفي السلطة، صلاح جديد، فكان لا بدّ له من ترويض السنّة عبر استخدام سياسة العصا والجزرة، ولا بد من التقرّب إلى المجتمع المديني والطبقات المدينية، الوسطى والعليا، لما لها من دور وتأثير على المجتمع. وبالتالي، على استقرار سلطته، فإضافة إلى الإفساح في المجال أمام عودة نشاط القطاع الخاص، منح النشاطات الدينية البعيدة عن السياسة فسحةً، وشيئًا من المزايا، على أن يكون ذلك بشكل محسوبٍ ومدروس، بحيث لا يتيح لهم التحوّل إلى قوّة يمكن أن تطمح إلى الوصول إلى السلطة أو تهدّدها. وضمن تلك الأجواء، نشأ تنظيم القبيسيات، وتساهل الأسد معه، وتركه ينمو تحت رقابته، فكان بمثابة تنظيم نسائي إسلامي يوازي الاتحاد النسائي الحكومي.
كان على المجتمع السنّي السوري أن يقبل ذلك ويرضى به مُضمِرًا هدفًا آخر، وهو استعمال هذه الفسحة من أجل السيطرة على المجتمع، فيترك للسلطة السيطرة على الدولة ومقدّراتها مقابل السيطرة على المجتمع بانتظار ما هو آتٍ. ولم يأتِ هذا القبول إلا بعد فشل مقاومته السلطة العسكرية الجديدة التي سيطرت بعد انقلاب مارس/ آذار 1963، وكانت مقاومته قد بدأت بأحداث حماة في إبريل/ نيسان 1964 وإضرابات دمشق 1965، وتحرّك المجتمع السني سنة 1962 ضد النسخة الأولى من الدستور التي لم ينصّ فيها على أن دين رئيس الدولة الإسلام، وإجبار الأسد على الاستجابة لمطالبهم، وغيرها من تحرّكات. ثم فشل المحاولة الثانية الدموية التي قامت بها الطليعة المقاتلة بين 1977 – 1982، والجراح التي تركتها في جسدي المجتمع والسلطة؛ فباتت هناك قناعة مجتمعية سنية بأن إزاحة السلطة بالعنف أمرٌ غير ممكن. ولذا توجّهت المؤسسات السنية إلى ميدان آخر، ولعب لعبة أخرى ذات تأثير على المدى الطويل، بانتظار ما يحمله المستقبل.
وهنا، اكتملت عناصر “تفاهم شفويّ غير المكتوب”، بين قوى المجتمع (صلبها قوى السنّة ومؤسساتهم الدينية، بسبب غياب الأحزاب) وسلطة الأسد، فقد كان حافظ الأسد بحاجة لتيارات إسلامية تمالئ السلطة، وخصوصا بعد الصدام مع الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة، فتوسّع في الإفساح في المجال للمؤسسة الدينية السنّية بالنشاط الاجتماعي، فنشأت معاهد حافظ الأسد لتحفيظ القرآن، وظهرت موجة بناء المساجد في سورية، وموجة ارتداء الحجاب، تعبيرا عن هوية مفارقة لهوية السلطة الحاكمة. وحرص حافظ الأسد على اكتساب تأييد قطاعات من سنّة المدن، وتكوين شبكة من رجال الدين الإسلامي السنّة، كي يحصل على قبول اجتماعي ويضفي شرعية على سلطته، واستعمل المنافع المادية، ومنح المكانة الاجتماعية لفئاتٍ وشخصياتٍ سنّية. وكان تنظيم القبيسيات ضمن هذا النهج، فهو حركةٌ نسائية إسلامية تمالئ السلطة مقابل منحها فسحةً للنشاط المجتمعي البعيد عن السياسة. ولا شك أنه خلال هذه العقود المنصرمة كان ثمّة تنسيق مستمر بين النظام وحركة بحجم القبيسيات، ويُشاع أن معاون نائب الرئيس للشؤون الأمنية، محمد ناصيف، كان صلة الوصل الرئيسة، ومنح التنظيم رخصا لتأسيس معاهد ومدارس ورياض أطفال، وبإقامة الحلقات المنزلية، وإعطاء الدروس في المساجد. وفي المقابل، تقوم القبيسيات بالدعاء للرئيس الأسد. في وقت فرض على أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية، وهي الجهة القائدة للدولة والمجتمع بموجب الدستور، عدم النشاط في المدارس والجامعات. ولكن رقابة الأمن بقيت لصيقة بالتنظيم، ونشأت بعض الاحتكاكات في بعض الأحيان. وحين انتسبت بعض القبيسيات إلى تنظيم الإخوان المسلمين في سبعينيات القرن العشرين، اعتقلهن النظام من دون رحمة.
في عهد بشار الأسد
بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، جرى في عام 2006 تبليغ أجهزة الأمن بالتوقف عن مضايقة القبيسيات، ومنحهن فسحة أكبر للنشاط، وقد توسّط لهن شيوخ قريبون من السلطة آنذاك، مثل محمد سعيد البوطي، محمد حبش (كان عضو مجلس شعب آنذاك)، وأصبحت حلقاتهن تقام ضمن ما تسمّى المعاهد الشرعية في المساجد. وتلقين دفعة قوية لتوسيع تنظيمهن.
ونما دور القبيسيات منذ العام 2011، وزاد اعتمادُ النظام عليهن، وأفسح لنشاطاتهن مزيدًا من المجال، وبدا أن العلاقة أخذت منحًى جديدًا؛ حيث أفصح بيان وزارة الأوقاف في مايو/ أيار 2018 عن جزء من سياسة النظام تجاه القبيسيات، إذ نفى البيان وجود تنظيم اسمُه “القبيسيات”، وأعطى الداعيات القبيسيات صفة رسمية هذه المرّة، تحت اسم “معلّمات للقرآن الكريم”، وأتاح لهنّ العمل العلني في المساجد، وأصبح بإمكانهن إقامة احتفالات في المساجد، ومنها احتفالهن الكبير في المسجد الأموي ذاته. كما تم تعيين الداعية القبيسية سلمى عياش معاونة لوزير الأوقاف، لتكون مشرفة الإدارة النسائية في وزارة الأوقاف. ومنح إحداث إدارة خاصة للنساء في الوزارة القبيسيات صفة رسمية بطريقة مواربة. ويُقرّ بيان وزارة الأوقاف بأنه كان للقبيسيات “دور مشهود وبارز أثناء الحرب على سورية، في مواجهة التطرّف والطروحات الطائفية، بل كان لهن الدور الرائد في الدفاع عن الدولة ووحدة الوطن”. وأصبح بشار الأسد يظهر وهو يقف وسط حشد منهن.
تحالف الأضداد القلق
على الرغم من ذلك، لدى الأسد الأب والابن القناعة بأنّ تنظيم القبيسيات، وشيوخ المساجد الذين يدعون للأسد على المنابر اليوم، جميعًا يتمنّون ذهاب الأسد وزوال نظامه. ولذلك لا يمنح الأسد ثقته لأحد من خارج دائرته الموثوقة، وتبقى يده على الزّناد دائمًا. كما يعتقد الأسد ونظامه أنّ “معظم السنّة، موالين ومعارضين، عدا المستفيدين ماديا منه، يرحّبون بزواله، وأن المؤسّسات والتنظيمات الإسلامية الموالية والمعارضة تجمعها مشتركاتٌ كثيرة، وأنّ المصالحة فيما بينها ممكنة، إذا أتيح ظرفٌ مناسب، كأن يذهب النظام ويصبحوا هم القوّة الفاعلة، وسيجدون حينذاك طريقًا للتفاهم؛ فهم في نظر النظام “إخوة المنهج”.
أحدثت انتفاضة آذار في 2011 خضّة في صفوف تنظيم القبيسيات، فمن جهة شاع في 2011 و2012 أمل كبير أن النظام سيسقط قريبًا، ما شجّع كثيرات للتعبير عن آرائهن المعادية للنظام، خصوصا بسبب العُنف المفرط الذي واجه به النظام المتظاهرين أولًا، ثم استهداف أحياء السنّة المنتفضة في المدن والبلدات بالقصف الأرضي والجوي المدمّر والقتل والتهجير الواسع الذي طاول أكثر من نصف الشعب السوري. ورغم أن تنظيم القبيسيات لم يُعرب عن أي موقف من الحراك الشعبي، معه أو ضده، ولكن الجزء الأكبر من التنظيم، وخصوصا قياداته، قد انحازت إلى النظام، خصوصا وأن تلك القيادات والجسم الرئيسي للقبيسيات ينتمين إلى الطبقات المدينية المتوسطة والعليا، وهي طبقات وقفت إلى جانب النظام، خصوصا عندما اتضح أن النظام لن يسقط.
أحدثت وفاة منيرة القبيسي تباينًا في الأوساط المعارضة أيضًا؛ فمنهم من غلَّب انتماءَه الديني، وبقي يُكنّ التقدير، ويكيل المديح للآنسة منيرة القبيسي وللتنظيم؛ ومنهم من غلّبَ موقفَه السياسيّ، وبقي إلى جانب الثورة، وانبرى يدين سلوك التنظيم وموقفه وموقف الآنسة المعادي للثورة والمساند لبشار الأسد. وقد يفسح موت الآنسة منيرة القبيسي في المجال أمام تصدّعات في التنظيم تحتاج بعض الوقت كي تظهر.
العربي الجديد
—————————-
القبيسيات و”طبقة الخواء الثرية”/ رستم محمود
شكل رحيل مؤسِسة “شبكة النساء القُبيسيات” قبل عدة أيام، السيدة منيرة القُبيسي، مناسبة استثنائية لبروز “انسجام نادر” بين أقطاب النظام والمعارضة السورية، التي توافقت على نعي الراحلة وكيّل أشكال المديح لها ولمسيرتها الدعوية والتنظيمية.
ذلك التوافق الذي يدل على مجموعة من السمات الخاصة لشكل الحياة العامة داخل سوريا طوال عقود كثيرة مضت، والمتأت من التاريخ الأبعد لهذه الجهة الدعوية/النسوية، التي كانت من طرف محل قبول عمومي من مختلف المؤسسات و”زعماء” التيارات الدينية في البلاد، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الحركات الدعوية والسياسية الدينية السورية، حيث كان زعماؤه يشبهون حالة زعامات الحارات الدمشقية القديمة، متنابذين فيما بينهم، بالرغم من الوفاق الإيديولوجي. كذلك فإن القبيسيات كُن مقبولات ومرحب بهن من قِبل أجهزة النظام السوري وتنظيمات المعارضة الإسلامية على حد سواء، وهو ما كان أكثر ندرة بدوره.
يفتح هذا الموقع المتفرد الذي شغله هذا التنظيم، سؤالا كبيرا حول ما تكنه من سمات ونزعات وآليات عمل، وما توفره من شروط ومناخات وتلبية لمجموعة من المصالح، تجعل منه قادرا على البقاء في هذا الموقع غير العادي، كجهة وحيدة “مقبولة من الجميع”، بالرغم من التناقضات السياسية والإيديولوجية الهائلة بين هؤلاء، خصوصا في مساحة مركزية مثل العاصمة دمشق، التي كانت مركزا لمحصلة التناقضات السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والأهلية في البلاد.
يمكن استنباط الإجابة على ذلك من عدة مصادر أولية، متأتية بمجموعها من جذر وهوية هذا التنظيم الدعوي/النسوية، الذي لغير صدفة انطلق منذ أواسط الستينات، بالذات في العاصمة دمشق، وانتشر في أوساط الطبقة العليا والمحافظة من أبناء المدينة، وعبر نوعية خاصة من العلاقات والتراتبية التنظيمية، ودوما حسب قائمة من الخطابات والإيديولوجيات والرؤى الدينية.
فالفترة التاريخية التي أنبلج فيها التنظيم أواسط الستينات، كانت بالضبط المرحلة التي أنتهى فيها “عصر التحديث المحلي” في سوريا، بالذات في مدينة دمشق. تلك المرحلة التحديثية التي كانت قد انبعثت في عقد الثلاثينات من القرن المنصرم، أثناء سنوات الاستعمار الفرنسي، وطالت طبقات واسعة من أبناء المدينة، وكانت الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها البلاد تعبيراً وانعكاساً عنها. لكنها انتهت فعلياً مع الانقلاب العسكري لحزب البعث عام 1963، الذي أدخل سوريا في مرحلة كانت مزيجاً من العسكرة والبعثنة الإيديولوجية للحياة العامة وصراع الطوائف.
ضمن ذلك السياق، فإن الحركة القُبيسية، مثل غيرها من التنظيمات الدينية التي تنامت أثر ذلك، كانت واحدة من أدوات وتعابير تراجع طبقات مدينة دمشق الاجتماعية “نحو الوراء”، عما كانت تسير نحوه من تحديثه قبل ذلك.
لكنه أساساً، وعبر ذلك، كانت الأداة التي تمنح عشرات الآلاف من نساء الطبقة المدنية الثرية أدوات الوعي الأعلى في الحياة، كالثقافة العامة وأدوات الخطاب ونوعية السلوك ومعنى الحياة والرؤية للذات. فأبناء هذه الطبقة، التي من المفترض أن يكونوا “البرجوازية المحلية العليا”، ومع فقدانهم لسياق التحديث ومؤسسات الحريات العامة، الاجتماعي والثقافية والسياسية على حد سواء، صاروا متلهفين لمثل تلك الشبكات وإيديولوجياتها وخطاباتها، التي تكاثرت مع زيادة مستويات الشمولية السياسية وتراجع اندماج سوريا مع الكل العالمي.
لكن تناميها تنظيمياً في أواسط “العائلات الدمشقية الرئيسية”، كان علامة وردة فعل أخرى على الانفجار السكاني للمدينة طوال العقدين اللاحقين. فالمدينة التي كانت بقرابة نصف مليون ساكن فحسب في أواسط الستينات، ومعزولة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً حتى عن ريفها الأقرب، وجدت نفسها بعد سنوات قليلة غارقة في بحر مؤلف من ستة ملايين ريفي، مهاجر إليها من مختلف أصقاع البلاد.
كانت الشبكة القبيسية منصة كبرى للتلاقي العائلي والثقافي لأبناء المدينة الأكثر محافظة على المستوى الاجتماعي. هؤلاء الذين كانوا مشغولي البال بتبدد مجتمعهم المحلي وتحطم نوعية التراتبيات العائلية والمهنية والحاراتية فيما بينهم، إلى جانب تفكك عالم القيم الذي كان يشكل الروابط فيما بينهم من قبل.
فالحركة القبيسية، مثل مختلف أنواع التنظيمات الأهلية في الأوساط المحلية، لكن الدينية منها بالذات، كانت بمثابة عائلة كبرى، تتعارف فيه السيدات وتتبادلن الزيارات والعلاقات العائلية النسوية، تحصل في ظلالها تلك النوعية من الزيجات المحلية المحافظة، القائمة على توافق الأهل، إلى جانب بعض أشكال المساندة النفسية والدعم الاقتصادية والمؤازرة الاجتماعية التي كُن يتبادلنها.
في مستوى أعلى، فإن بقاء القبيسيات كمنظمة شبه احتكارية لأبناء الطبقات المجتمعية الأكثر ثراء وفاعلية في الفضاء العام متأت بدوره مما حدث مع أغلب أبناء العائلات الدمشقية هذه، وعلى مراحل متعاقبة، منذ أواسط الستينات.
فخروج هؤلاء من الحياة السياسية والهيكل السلطوي في البلاد، ترافق مع توافق مُضبط مع السلطة الحاكمة، وإن غير معلن، بالذات مع الرئيس السابق حافظ الأسد: قائم على متاركة متبادلة، بحيث يتخلى هؤلاء عن أية نزعة أو مطالب أو حضور سياسي، مقابل أن يؤمن لهم حضور ونفوذ اقتصادي متمايز في عالم الأعمال والتجارة في البلاد.
ضمن ذلك الفضاء، صار أعضاء هذه الطبقة يملكون شبكة كبرى من المصالح والمنافع الاقتصادية المشتركة، استطاع تنظيم مسموح به مثل “شبكة القبيسيات” أن يكون غطاء لخلق التواصل وتبادل العلاقات بين أعضاء تلك الطبقة، وإن عن طريق علاقات “الزوجات”، طالما كانت البلاد في حالة “منع عام” لأية تنظيمات اقتصادية أو سياسية عمومية، مثل الأحزاب والنقابات واتحادات رجال الأعمال.
فأعضاء التنظيم، بالذات أفراد الطبقات العليا منه، كانوا يسيرون شبكة سائلة من العلاقات والمصالح والمنافع المتبادلة، ويؤمنون مناخ من الطمأنينة فيما بينهم، تشبه تلك نوادي العلاقات النخبوية في مختلف بلدان العالم، التي قد ترى فيها فناناً مشهوراً إلى جانب سياسي سلطوي ورجل دين ولاعب رياضي على نفس الطاولة. فالكل بحاجة الكل، والكل يعرف ذلك ويتواطؤ معه وحسبه، كأعضاء في أعلى هرم المجتمع.
بجمع كل ذلك، يُكتشف بأن الشبكة كانت استجابة لظرف المدينة المركزية في البلاد، ومنبثقة من باطن الوقائع السورية. لأجل ذلك، فإنها كانت مناسبة لطرفي المزاحمة، الطبقات المجتمعية العليا من أبناء دمشق، الذين خرجوا من الحياة السياسية، فتآلفوا على مثل هذه التنظيمات. الأمر نفسه كانت تحتاجه السلطة الحاكمة، التي كانت تتلهف لابتداع أنواع من “التعويض الآمن” لأبناء هذه الطبقة، ليقبلوا بالبقاء الدائم خارج السلطة الحقيقية الحاكمة للبلاد. فجميع هؤلاء كانوا القمة العليا من “هرم القوة” في البلاد، وصراعهم السياسي على السلطة في البلاد طوال السنوات الماضية، لا يعني بأي شكل التاريخ المشترك المديد الذي كان بينهم، وغالباً سُيستعاد مرة أخرى عما قريب.
الحرة
—————————————
“القبيسيات”.. هل هنّ وجه دمشق “الحقيقي”؟/ إياد الجعفري
انفجر مجدداً ذلك الجدل، الذي كلما خفتَ، صعد من جديد، مع تقصّد النظام، تصدير جماعة “القبيسيات”، بوصفهن نموذجاً يختصر موقف المجتمع الدمشقي، حياله. المناسبة الأخيرة لتفجر ذاك الجدل، تمثّلت في فيديو ينقل نظرات “إعجاب” رشقت بها “قبيسيات” رأس النظام بشار الأسد، فيما كان يكيل لهن إحدى مواعظه “الفكرية”، على هامش الاحتفال بالمولد النبوي في الجامع الأموي بدمشق، قبل أيام.
ورغم أن الجدل الذي نقصده، ربما انحصر في نقاشات لسوريين عبر “السوشال ميديا”، هذه المرة، ولم يرتقِ إلى مستوى الجدل بين النُخب المثقفة، كما حدث في مرات سابقة.. إلا أنه كان، وما يزال، يعبّر عن قناعات وفرضيات شائعة بكثافة في أوساط شريحة كبيرة من الجمهور السوري. خطورة هذه القناعات تأتي في جانبين، الأول أنها تعبير عن “مناطقية” لطالما أضرّت بالنشاط الحركي والسياسي وحتى المسلح، المعارض، طوال العقدية الفائتة، وما يزال. ناهيك عن ضرره على مستقبل العلاقة بين ألوان الطيف السوري. أما الجانب الثاني فيتمثّل فيما تقوم عليه تلك القناعات والفرضيات، من تبسيط وسطحية، تغيب عنها أدنى أشكال المحاكمة المنطقية، في تعبيرٍ عن رواج التفسيرات الشعبوية في أوساط عموم السوريين، وهو ما يمكن ملاحظته في كثيرٍ من الجدليات بينهم، في قضايا مختلفة. يعزز هذا الاتجاه، ترصد وسائل الإعلام، على اختلاف توجهاتها، لما يمكن أن يثير التفاعل الجماهيري، وهو ما يضيف دعماً آخر للتفسيرات الشعبوية.
ويتأتى الجدل حول “القبيسيات” من فرضية أولى، مفادها أن هذه الجماعة “النسوية” الدينية، تمثل مرآةً للمجتمع الدمشقي. ويعكس تحالفها مع النظام، موقف هذا المجتمع، منه. وكما أشرنا أعلاه، تتصف الفرضيات والقناعات الشعبوية الرائجة في هذه القضية، بتبسيط وسطحية كبيرة، كما أنها تعبّر عن جهل هائل بطبيعة المجتمع الدمشقي، وبتاريخ “جماعاته” الدينية، حتى ذاك القريب للغاية. فمن يقول إن “القبيسيات” يعكسن المجتمع الدمشقي ومهادنته للنظام، يتجاهل وقوف أبرز الكيانات والشخصيات الدينية ذات الثقل الشعبي، إلى جانب الثورة في بداياتها. من ذلك مثلاً، جماعة الميدان، والشيخ كريّم راجح. وجماعة “زيد”، والشيخ أسامة الرفاعي. دون أن ننسى الداعية صاحب الأثر الكبير في الشارع الدمشقي، محمد راتب النابلسي.
أما الفرضية الثانية التي تقول إن “القبيسيات” تعبير عن طبقة الأثرياء بدمشق ومواقفهم، يتجاهل القائلون بذلك، الحراك الذي نشط في بدايات الثورة، بمسجد الشافعي البارز في حي المزة الراقي، الذي أصبح في ذلك التاريخ، مركزاً للنشاطات المناوئة للنظام. كما ويتجاهل الحراك الذي حدث انطلاقاً من مسجد الرفاعي –سابقاً- في حي كفرسوسة الثري، والذي كان لا يبعد سوى أمتار قليلة عن تجمع مقار أجهزة الأمن الأشهر، بالعاصمة.
أما في أشهر الفرضيات حول “القبيسيات”، والتي تختصر المجتمع الدمشقي، بثلة تجار متحالفين مع النظام، بذريعة عدم حدوث حراك جماهيري ضخم في العاصمة، على غرار ما حدث في مدنٍ كحماة وحمص ودير الزور، ينسى القائلون بذلك، أو يتناسون، جانباً على درجة عالية من الأهمية، أن دمشق ليست مدينة متجانسة اجتماعياً ومناطقياً، وهي لا تعبّر عن الدمشقيين، إلا في بعض أحيائها فقط. وهنا، حينما نقول الدمشقيون، تجب الإشارة إلى أن ذلك لا يُقصد به سكان دمشق. إذ كما هو معلوم –والذي يتم تجاهله دوماً في النقاشات حول موقف الدمشقيين من الثورة-، فإن العاصمة يسكنها خليط ينحدر معظمه من مختلف المدن والمحافظات السورية. وفي ذلك صدرت دراسات محدودة قبل العام 2010، تحاول الإجابة عن سؤال: كم نسبة الدمشقيين الأصليين -المتحدرين من دمشق لثلاثة أجيال على الأقل- من سكان دمشق؟ وكانت الإجابات دوماً تعطي هذه النسبة أقل من النصف، أو أكثر بقليل. ومن سكن دمشق وخبرها لفترة طويلة، يعلم أن المجتمع الدمشقي يظهر بتجلياته الخاصة به، في بعض أحياء العاصمة، وليس في جميعها. أبرز تلك الأحياء، الميدان والمزة وكفرسوسة. وهي الأحياء ذاتها التي شهدت انتفاضات ضخمة في بدايات الثورة، وتعرضت لقمع شديد. وقد أشرنا أعلاه، إلى أن الكيانات والشخصيات الدينية ذات الأثر الشعبي الكبير، في تلك الأحياء، انحازت جميعها، للحراك الثوري، في بداياته. وقد تعرضت للتنكيل والقمع، وتحولت إلى المنفى، وشكّل أبرز رجالاتها، ما بات يُعرف لاحقاً، بالمجلس الإسلامي السوري، المعارض.
الجدل حول لماذا لم تنتفض دمشق، عن بكرة أبيها، في بدايات الحراك الثوري عام 2011، كان وما يزال يتجاهل –قصداً أو جهلاً- عدم التجانس الاجتماعي – المناطقي بين سكان دمشق، الأمر الذي لا يتيح خلق مظلة أمان اجتماعي تشجع على حراك ضخم، على غرار ما حدث في مدن أخرى تتمتع بدرجة أعلى بكثير من التجانس. ناهيك عن تجاهل مدى قوة القبضة الأمنية في العاصمة، حيث لا تشيع ثقافة حمل السلاح، وتتدنى مستويات التماسك الاجتماعي العائلي، خلافاً لما هو شائع في الأرياف.
لكن هل يعني ذلك أن الدمشقيين موالون للأسد، أو أن “القبيسيات” يختصرن تمثيلهم؟ تبدو الإجابة بنعم، تحمل درجة عالية جداً من العَسَف حيال واحدٍ من أكثر المجتمعات السورية، التي لطالما حُمّلت أكثر مما تحتمل، وقُرئت بسوء نيّة نابع من مشاعر مناطقية، عمل النظام دوماً على تعزيزها بين السوريين، باختلاف ألوان طيفهم وحساسياتهم، وحصد ثمارها صراعاً وصل إلى درجة الاقتتال –في بعض الأحيان- بين بعض فصائل المعارضة في مراحل من الحراك المسلح، خلال العقديّة الفائتة.
—————————
منيرة القبيسي.. توليفة فريدة لشخصية مؤسطرة/ ليلى الرفاعي
ورد اليوم خبر وفاة الداعية الدمشقية، الآنسة منيرة القبيسي، المولودة في ثلاثينينات القرن الماضي ومؤسسة “جماعة القبيسيات”، الجماعة الدينية – الاجتماعية القائمة على توليفة تنظيمية فريدة، تجمع المركزي واللامركزي، والشبكي والهيكلي، والمنهج العلمي الرصين مع الطقوسية المطعّمة بشيء من النسوية الإسلامية المغلفة بعبادة الفرد – وهو ما يظهر بتسمية الجماعة المتداولة شعبيا (القبيسيات) المنسوبة للقبيسي نفسها، المتوارية عن الأنظار منذ عقود -كأسطورة- لم يرَها إلا قلة.
في الحقيقة، تستحق القبيسي شيئا من هذه الأسطورية في المجال الديني السوري، فقد تفردت بجمعها المسار التعليمي التقليدي (أي التعليم في حلقات العلم والمعاهد الشرعية والجماعات) مع التعليم الأكاديمي في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وهو تقاطع لم يجمعه غيرها سوى الشيخ البوطي، الذي تفوقت عليه كذلك بكونها تلقت تعليما “دنيويا” بدراسة العلوم الطبيعية في جامعة دمشق. وبذلك، فهي لم تحصل على العلم كـ”مضمون” وحسب، بل حازت معه العلاقات والمعرفة ورأس المال الرمزي ضمن النخبة المدينية السنية الدمشقية، التي حولتها لشبكة علاقات اقتصادية وسياسية، سواء داخل النظام أو خارجه، ضمن المؤيدين والمعارضين على السواء، سيتضح أثرها فيما بعد.
التوليفة التنظيمية الفريدة التي استخلصت بها القبيسي الميزة الأفضل من كل الأطراف تعززت بشبكة علاقات بينية مايزتها عن الجماعات الأخرى واتبعت فيها قواعد ناظمة لعلاقتها مع ثالوث: النظام، والفاعلين في المجال الديني (باختلاف موقفهم السياسي)، والمجتمع، باستراتيجية تعتمد على اتخاذ مسافة واحدة من الجميع واللعب ضمن قواعد النظام من دون مخالفتها، والتركيز بداية على الاستقطاب الطبقي في المجتمع على حساب الانتشار الجغرافي الأوسع، وهو ما تجلى بشبه الإجماع الاستثنائي عليها في طيف فريد يمتد من الإخوان المسلمين السوريين إلى نقائضهم السياسية متمثلة بالبوطي وكفتارو، والاستمرار في سوريا التي يتسم تاريخها الحديث بالاضطرابات، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل والانتشار خارجها بفروع واسعة ومؤثرة، ليس في بلاد الشام الثلاثة الأخرى (بطباعيات الأردن وبنات فدوى فلسطين وسحريات لبنان)، وحسب؛ بل وصولا إلى الكويت والإمارات، ذات التكوين الاجتماعي المتباين عن الشام، وأخيرا إلى أوروبا وأميركا.
الجانب الفارق الآخر، بجانب التنظيم والعلاقات، والذي تجنبت به الجماعة تحدي القبضة الأمنية والهامش الضيق الذي يتيحه النظام للفاعلين الدينيين، هو كون الجماعة نسائية فقط، ما يفرض سعة حركة داخل المجتمع مقابل صعوبة اختراق من قبل النظام، الذي تقف وحشيته عند حدّ معيّن في الاعتقال والملاحقة والإساءة المباشرة، حرصا على عدم إزعاج المجتمع الدمشقي، الذي حرص نظام حافظ الأسد على تهدئته واستدخاله، اقتصاديا بتخفيف الوطء على الأعمال التجارية الصغيرة، واجتماعيا بتعزيز دور المشيخة الدمشقية به والحفاظ عليها.
وككل الجماعات الدينية فإن جماعة القبيسيات مُنيت بتصدّعات على كل الصفوف مطلعَ الثورة السورية، إلا أنها استفادت من تجربتها خارج سوريا وبدأت بنقل بعض أدواتها الدعوية المستخدمة خارجًا كافتتاح مراكز للتعليم شبه الممنهج خارج المساجد مثلًا، كما ساعدتها خلاياها خارج سوريا على احتواء المهجّرين من الجماعة وإعادة لملمة الصفوف من جديد على أمل العودة إلى دمشق يومًا.
ولكن، يبدو للمراقب أن “رمزية” و”أسطورية” الآنسة القبيسي قد تصدعت ويرجع ذلك إلى ما قبل الثورة بقليل، بكسر الحركة لخطوط عامة متعارف عليها، بالظهور الإعلامي الكثيف، على وسائل إعلامية عربية وغربية، و”خروج إلى السطح”، وظهور شخصيات يمكن أن تعدّ من الصف الثاني نسبيا، كأسماء كفتارو، خصوصا إذا علمنا أن الآنسة القبيسي، حينذاك، كانت في الثمانينيات من عمرها.
بالنهاية، وفي عام 2018 وضمن خطة النظام بتأميم الجماعات الدينية ومأسستها تحت ظل الدولة، أعلن وزير الأوقاف عن عدم وجود ما يسمّى بـ”القبيسيات” وإنما هنّ داعيات تابعات لوزارة الأوقاف بمهامَّ محددة، مما يعني أن الجماعة، كانت منذ 2018، وربما مع 2011، أو حتى قبل ذلك تجاوزا، كانت قد “ماتت” قبل الآنسة المؤسسة بأعوام طويلة، وهو ما يفتح سؤالا حول الجماعة، أو “الجماعات”، التي سنشهد صعودها أو هبوطها في الأيام المقبلة.
ليلى الرفاعي
———————————
لها مالها وعليها ما عليها/ أحمد جاسم الحسين
حضرت في الأيام الماضية، حين وفاة الشيخة منيرة القبيسي عبارة: “لها مالها وعليها ما عليها”، وكانت قد غدت “ترند” حين وفاة حسني مبارك، بل باتت لافتة عريضة يستعملها كثيرون، إنْ أرادوا التسويغ لمن تختلف الآراء حوله، وتجاهلوا أن مثل تلك العبارة يمكن أن تستعملها حتى بحق بشار الأسد وأبيه: لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، بحيث تغدو تسويغاً لتصرفات أي شخص.
أثارت وفاة منيرة القبيسي، قبل أيام، سيلاً من التعليقات حول جواز التعزية بمن وقف مع النظام القاتل، أو عدمه، وبدا أن المحتجين على التعزية ينقسمون إلى:
المحسوبين على اليسار السوري، رداً على ما يقوم به الاتجاه المتدين في حال وفاة أحد من المحسوبين على اليسار، الذين يستحضرون “له ما له وعليه ما عليه”.
ملاك اليقين الثوري، الذين يرون أن كل من لم يقف مع الثورة بصوت عال، خارجٌ من جنة التعزية المعارضاتية، وأنه من العار والثبار والدثار التعزية به.
الباحثين و”العاقلين” السوريين والأحرار في التفكير، الذين يجدون أن المرجع في جواز التعزية من عدمه يجب ألا يعود إلى الانتماء الديني أو الموقف السياسي، بل إلى الموقف الأخلاقي والإنساني والقيمي، بحيث إنه من المنطقي ألا يسكت الشخص الذي ينشغل في الشأن العام عن الجرائم التي ترتكب أمامه، حتى لو كانت قناعات تلك الشخصية الدينية بخلفيتها الأشعرية لا تجيز الخروج على الحاكم كما صرح بذلك الباحث الشيخ سعيد البوطي ذات مرة.
في كل وفاة تحضر هذه المقولة، ويبرز ذلك الخلاف بين السوريين، اللغة والمعجم والمواقف والحدة ذاتها تستعملها كل الأطراف، حين تبتغي التعبير عن حالة عصبوية، تغيب لغة العقل وتحضر لغة الانفعال. يحضر ذلك بين العرب والكرد والقسديين والشمال المحرر وإدلب والمناطق التي يحكمها النظام. شهدتُ ذلك مؤخراً عبر مجموعات الواتس آب حين وفاة الكاتب وليد معماري والدكتور فؤاد المرعي.
مردّ الأمر في كل ذلك الأرضية الفكرية التي ينطلق منها كل فريق، ومرجعيته، وما الذي يجوز وما الذي لا يجوز؟ ومن يحدده؟
لا يحدث ذلك في الوسط الإعلامي والثوري والسوشال ميديا فحسب، بل كذلك على الصعيد الأكاديمي، لي زملاء يعملون في جامعة عربية، تدعم تلك الدولة الثوة السورية، ولا تزال، أنْهِي عقدُ أحدهم قبل سنوات، وهو يظن أن سبب الإنهاء أن زملاء سوريين آخرين له “اشتغلوا” به لدى إدارة الجامعة، لأن موقفه تشبيحي، فيما كتب من روايات. زميلنا السابق الذي عاد إلى أحضان الوطن بعد إنهاء عقده يقول: موقفي لم يكن تشبيحياً، هذه قناعاتي وعبرت عنها، وهذا أكثر إيلاماً!
وبات يبحث عن خلفيات موقف أولئك الزملاء؛ فأراح نفسه بالقول: الغيرة من كونه حقق حضوراً عربياً في مجال إبداعي هي السبب! تقتضي الأمانة الأخلاقية أن الزميل المتهم بأنه اشتغل في الزميل الآخر كي ينهي عقده، لا أظن أنه يفعلها، بحكم معرفتي السابقة به، لأن لديه أرضية أخلاقية تمنعه أن يعمل بمجال “قطع الأرزاق”، أما الغيرة من التميز الإبداعي لزميلنا الشبيح، لو سلمنا به، فلا يمكن أن يتجاوز حجمه خمسة في المئة من حجم الموقف، الذي أظن أن أرضيته أخلاقية معيارية دينية.
المهم ها هنا ليس الموقف السياسي للزميلين فحسب، بل الموقف والمأزق الأخلاقي، فكيف يستطيع أن يصمت روائيٌّ عن إجرام النظام أو أن يسوغ له، ويتفرغ لفضح مشكلات المعارضة فحسب. لا بدّ من عدم إغماض النظر عن أصل المشكلات في سوريا، عن المجرم الذي قتل نحو نصف مليون سوري، وأسقط البراميل على الأهل في جريمة لا شبيه لها في التاريخ، حيث يتحكم الهواء وسرعة الرياح والجاذبية في نوع الضحايا الذين يختارهم البرميل وهم من شريحة سورية واحدة!
زميل سوري آخر يعمل في الجامعة نفسها، ومتخرج من أوروبا، “اشتغل” في زميل آخر سنوات طويلة كي لا يحصل على فرصة بسيطة، وهي عضوية هيئة تحرير دورية عربية، لموقفه السابق العصبوي ضد زميله ولثقته باليقين الوهمي، ولكن للمفارقة أن الشخص الذي أنصت إليه طُرِدَ بعد فترة بتهمة سرقة، فغدا الموقف الأخلاقي للواشي والمصغي في حالة حرج وإرباك!
تعود زعزعة القيم في المجال الإنساني اليوم إلى أمرين رئيسيين هما: أن الوضع السوري وضع متحول ومتبدّل، فالحقيقة في مناطق قسد هي غير الحقيقة في مناطق الجولاني، ومناطق الشمال ومناطق النظام، كلٌّ منهم لديه صح وخطأ، ومنظومة قيمية ومرجعيات وسلوكات يومية، ويحمل سيف التكفير والتشهير والتقديس والتمجيد تبعاً لظروفه ومعطياته ويقينه.
والأمر الآخر أن اليقين والحقيقة اليوم صارا، عالمياً، متحولين بسرعة، بفعل الثورة الرقمية والتحولات، وسرعة المتغيرات واهتزاز اليقين المعرفي والقيمي، أمام سيل المعلومة والمتعة، التي تخرجها كل ثانية السوشل ميديا.
لدي زميل جامعي كردي سوري يقيم في كوردستان العراق، أنظر إلى حالاته على الفيسبوك، وأجد أن معظم من يعتز بهم بصفتهم أبطالاً، يعدون مجرمين عند شريحة معارضة أخرى من السوريين، وأتساءل كيف للسوريين المعارضين أن يجدوا مشتركات بينهم، دعك من الموقف العنيف بين النظام والمعارضة، وهل يمكن استعادته وتعميقه مستقبلاً، ذات سوريا! أنظر إلى تجارب الشعوب الأخرى فأستعيد الأمل!
لا يزال فريق كبير من الثوريين والناشطين والمعارضين السوريين يرون أن كل من حصل على منصب ما في عهد بشار الأسد عليه ألا يكون في صفوف المعارضة أو أن يستقيل أو مشكوك بأمره، وهكذا نعاود السيرة منذ عقد إلى يومنا هذا.
تريحنا نحن السوريين القطيعة الكلية، تخفِّف من وطأة الدخول في المناطق الرمادية وتقليب الوجوه، ونتناسى أن الحياة في جلها ليست إلا مناطق تفاوضية وأخذ وعطاء. وما الحياة في وجه من وجوهها إلا “مطاطة” كي نستمر بها، وربما لو اتبعنا نظرية الأبيض والأسود لما أكملنا يومنا مع أنفسنا ومع أعز الناس علينا.
تقلييب الوجوه وتقليب القول من أفكار العرب القديمة كي ترى للموضوع وجهاً آخر، ويقارنون ذلك بأن أي أمر يمكن أن تنظر إليه وأنت في غرفتك من عدة زوايا، لكن هل يصح ذلك على القيم والمبادئ؟ وما المرجع: الإنساني، الديني، الحزبي، الوطني، الطائفي، القومي؟
هل نحن بحاجة، كسوريين معارضين، اختاروا خيار الثورة السورية، لمدونة سلوك؟ ومن سيصوغ هذه المدونة؟ عرب، كرد، متدينون، يساريون، باحثون وإعلاميون وكتاب؟ وما مرجعياتها، تجاربنا وتجارب الشعوب الأخرى؟ وما مكوناتها؟ وهل أصول التعزية والتهنئة، أصول التعامل عبر الفيسبوك؟ ما نقرؤه؟ ما نشاهده، وما نشجعه؟
لي صديق يحب أغاني علي الديك وحسين الديك ويشغل موقعاً معارضاً مهماً، هل يمكن أن تمنعه مدونة السلوك تلك من ذلك، دعك من اتهام بعضنا بحب الطرب “الكراجاتي” أو سوى ذلك. فالطرب الشعبي والدبكة جزء من تراثنا.
وأذكر أنه حين عزفت الفرقة السيمفونية السورية أول حفل أوركسترا 1991 في مجمع إيبلا على طريق مطار دمشق، اشتُرِطَ علينا أن نلبس لباساً رسمياً، وأن نلتزم بالصمت وألا نصفق، كان ذلك مفاجئاً وشاقاً علينا، فقد تعلمنا في طلائع البعث وشبيبة الثورة وخطابات القائد وتحية العلم الصباحية أنك كلما صفقت بقوة يكون ذلك تعبيراً عن الإعجاب والفخر الشديدين. تساءلت يومها: هل حياتنا السورية تسمح بهذا الجو الأوبرالي؟ وهل يليق بالأنظمة المستبدة أن تنتج مثل تلك الموسيقا البالغة بالعمق، والتي لا يخطر ببال من يحضرها، أنه قد يُعْتقل من قبل المخابرات مثلاً!
قد يكمن جل المشكلة في بحثنا عن التطابق، ونبذنا للمختلف، فهل من المعقول أن نكون كسوريين معارضين على نفس الطريقة والمنهج والرؤية؟ بالـتأكيد لا، وإلا لما قامت ثورتنا! لكن من المهم أن تكون هناك مناطق مشتركة وخيوط عريضة بيننا وألا تكون مساحة الاختلاف كبيرة على منظومة القيم الأساسية الإنسانية. ومن الضروري أن نترك الحراك المجتمعي السوري يأخذ مداه، ويسير بهدوء نحو الأمام، ليفرز منظومته.
وتكمن أهمية النقاش الذي يحدث عند وفاة الشخصيات العامة في أنه يحرك الساكن ويعيد طرح الأسئلة، ويسهم في التخفف من اليقين، خاصة أننا في سوريا اعتدنا أن نتجاوز الكثير من الخلافات إبان التعزية.
يحدثني صديق كان يعمل في شعبة الحزب في كلية الآداب بجامعة دمشق أن وجوده في الشعبة أنقذ فتيات جامعيات سوريات كثيرات من الاعتقال، حيث كان يسرب لهن أخبار المداهمات، أو يفتح الباب الخلفي لشعبة الحزب كي يخرجن، معرضاً حياته للخطر، وأن ذلك لم يحسب له، بل حُسِبَ حساب من خرج في مظاهرة وصور نفسه! ذلك جانب من المسكوت عنه في سيرة الثورة السورية! رددتُ عليه بالقول: إنْ سألك أحدٌ من العدميين السوريين بعد اليوم، قل له: لي ما لي، وعلي ما علي أسوة بما قيل عن حسني مبارك ووليد معماري ومنيرة القبيسي رحمهم الله!
تلفزيون سوريا
——————————-
—————————–
القبيسيات: الجماعة “النسائيّة” التي صادقت نظام الأسد/ كارمن كريم
القبيسيات جماعة “نسائية”، لا يجمعها مع النسويّة المعاصرة سوى أن أعضاءها من نساء، يمارسن حقهنّ بالعمل والخروج من المنزل كغطاء لدعوتهن الرجعية، يزدرين أجسادهن، ويتعالين على من لا ينضم إليهن.
تُعرف”القبيسية” مباشرة حين تمشي في الشارع، ويمكن تمييزها وسط حشد ببساطة، هي و”رفيقاتها” ذوات زيّ مميز يلفت الانتباه، “مانطو” كحلي، وحجاب إما أبيض أو كحلي أو بترولي أو أسود، ومن يعرف معاني الألوان، يعرف سلطة كل واحدة منهن.
القبيسيات تنظيم”نسائي” لا يعادي السلطة في سوريا، تنظيم تمكّن من فهم علاقات القوة في سوريا الأسد واللعب ضمنها، هنّ جماعة مُلتزمة دينياً، تسعى الى حفظ الثروة بين العائلات الغنيّة، وتأكيد دور الأسرة النووية، كما يُعتبرن لاعباً أساسياً ضمن شبكة العلاقات السنيّة في المجتمع السوري عموماً والدمشقي بخاصة.
استُخدم لفظ “نسائي” لوصف التنظيم، لأن لا علاقة له بـ”النسوية” المعاصرة سوى بجنس المنضمّات إليه، إذ تستهدف القبيسيات الفتيات والنساء على حد سواء، لديهن ما يشبه المنهج، تعاليم جسدية وروحيّة لأجل العفة، إذ تُمنع الصغيرات من السباحة لأن المياه تجعل الثياب ملتصقة بالجسم، ويتم التأكد من لباس الفتيات إن كان “شرعيّاً”، عبر ضبط سماكة الجوارب الطويلة تحت المانطو. تهدف تعاليم القبيسيات إلى نبذ الجسد المؤنث وملذاته، والتعامل معه كشأن مشين، إذ ممنوع نتف شعر الوجه ونكح اليد، ويحصل “الاختلاط” مع الرجال ضمن شروط محددة.
تقتحم القبيسية ميادين الحياة، ولا تخاف الغواية، هي عفيفة، محمية، وزوجة مطيعة تمارس الجنس لأجل الإنجاب، جنس اقتصادي وفق شهادات من تركن الجماعة، جنس لا يهدف الى اللذّة، بعكس الفانتازم المنتشر حولهن، تتحرك الوحدة منهنّ بين البيت والمدرسة والشركة والباص بخفة في سبيل رضوان الله، والتقرب من منيرة القبيسي.
نشأة منيرة واستراتيجيات الدعوة
يعود تأسيس الجماعة إلى منيرة القبيسي، ابنة تاجرٍ فلسطيني استقر في دمشق أوائل القرن العشرين، والتي ولدت عام 1933، وتخرجت في كلية العلوم وبدأت حياتها العملية بالتدريس في حي المهاجرين، وتتلمذت على يد الشيخ أحمد كفتارو، ويُقال أنها تبنت الطريقة النقشبنديّة، القائمة على الذكر الدائم لله، وهذا ما يميز القبيسيات، شفاهُهنّ تَفتِرُ دوماً بذكر الله.
مارست منيرة الدعوة سراً مطلع الستينات، ويقال أنها تعرضت للسجن مرات عدة بسبب ذلك، ترددت في الوقت ذاته على دروس الشيخ عبد الكريم الرفاعي، مؤسس “دعوة زيد”، ثم درست في كلية الشريعة في دمشق، حيث احتكّت بأساتذة من قادة جماعة الإخوان المسلمين، كمصطفى السباعي مؤسس الكلية وفرع التنظيم في سوريا.
لم تواجه القبيسيات معارضة دينية حقيقية، وبعد مجزرة الإخوان المسلمين، تضاءل نشاط الجماعة، لكن يقال أنهن على عداء مع الإخوان المسلمين في سوريا. لم تتضح علاقتهن مع النظام السوري إلا بعد أن أصبحت الدعوة علنيّة عام 2008، ولم يعد وجودهن مقتصراً على المنازل والجلسات السريّة التي استفادت منها القبيسيات كغطاء لنشاطها، ففي سوريا، اجتماع الرجال إشكالي في نظر السلطة، أما اجتماع النساء، فلا مشكلة فيه. هنا لا يمكن إنكار وعيهن بالأدوار الجندرية التقليديّة والعمل على ترسيخها في سبيل نشر تعاليمهن بين النساء من دون خوف من رقيب خارجي.
سلطة الآنسة والتعليم وجهاً لوجه
تسعى الجماعة الى ضم “أعضاء” جدد عبر الإلحاح الدائم على الفتاة أو المرأة لاستمالتها باللين لا بالشدة، إذ يمكن الفتاة أو المرأة أن تحضر دروس الجماعة الأولى من دون حجاب أو غطاء رأس، وتعمل في الوقت نفسه على تنشئة الجيل الجديد من الفتيات. الموضوعات دوماً محط الشك والخوف من المعاصي التي قد ينسقن إليها في أية لحظة، وهنا يبرز دور “الآنسة”، تلك التي تقدم للفتيات النصح في شؤون الحياة والدين.
تستشير الفتاة آنستها في تفاصيل حياتها كافة، من الوضعيات الجنسية إلى تفسير الأحلام، ويمكن القول أن أوامر الآنسة أكثر تأثيراً في الفتاة من تعاليم عائلتها، وخضوع الفتيات لآنساتهن يعتبر الخطوة الأولى في تنشئة القبيسيات، المنصاعات الى العائلة والزوج، الشأن الذي يلقى قبولاً لدى شريحة واسعة من الناس، إذ يحرص رجال كثر على الزواج من فتيات تتلمذن على يد القبيسيات، ما يختصر طريق السيطرة على الفتاة، ويؤمّن للزوج أماً وربة منزل من دون عناء أو عصيان.
تُعرف “القُبيسية” مباشرة حين تمشي في الشارع، ويمكن تمييزها وسط حشد ببساطة، هي و”رفيقاتها” ذوات زيّ مميز يلفت الانتباه، “مانطو” كحلي، وحجاب إما أبيض، أو كحلي أو بترولي أو أسود، ومن يعرف معاني الألوان، يعرف سلطة كل واحدة منهن.
تحوي جماعة القبيسيات تراتبية صارمة يميزها لون غطاء الرأس، تبدأ من طالبات الحلقات المفتوحة، اللاتي يحضرن الدروس العامة ويرتدين الحجاب الأبيض، يليها طالبات الحلقات الخاصة ومن دخلن في صلب الجماعة أولئك يرتدين الحجاب البترولي، لتأتي بعدهن الآنسات المشرفات اللواتي يقمن بالتدريس في الحلقات، ويرتدين الحجاب الكحلي، وأخيراً الآنسات الكبيرات والمقربات من الآنسة منيرة ويرتدين معها الحجاب الأسود.
الفتيات وطريق المعصية
يركز البعض إثر وفاة منيرة القبيسي على الجانب السياسي فقط من نشاط الجماعة، كونهن مقربات من نظام الأسد، علماً أن هناك حكايات عن تعاون التنظيم مع المتظاهرين والثوار، لكن كأي تنظيم يحاول البقاء والاستمرار، يميل دوماً نحو المصالحات السياسية وعدم الوقوف في موقع المواجهة.
يمكن القول أن الجانب السياسي للتنظيم أمر طارئ، لكن الأهم فيه هو الجانب النسوي ، إذ لا يمكن إنكار أننا أمام حركة نسائيّة منظمة، ذات ثقل وقوة اقتصادية وقدرة على توحيد الصفوف والنشاط ضمن نظام دموي كنظام الأسد، لكن إشكاليّة جماعة القبيسيات تكمن في نسويتهن نفسها، صحيح أن القبيسية تمتلك الحق بالعمل، والتملك، والتمتع بحياتها ضمن شروط محددة (تقيم القبيسيات نشاطات نسائية فقط تشمل الولائم والمسرحيات التعليمية والاحتفالات الدينية التي يتخللها بذخ لا يظهر الى العلن)، لكنها تعتبر جسدها دَنِساً، لا بد من تطهيره في حدود الشرع، أما الشهوة الجنسية فليست إلا خطراً لا بد من محاربته.
تحوي الجماعة أيضاً تمييزاً طبقياً على أسس اقتصاديّة، فالفتاة التي تنتمي إلى بيئة متواضعة تخضع لضغوط ومتطلبات أكثر من ابنة التاجر المعروف. تقول مي وهي إحدى الناجيات من الجماعة في منشور لها: “خلال هدول السنوات، كان التميز والمناطقية لصالح الشوام أو الناس اللي وضعهم المادي منيح ممارسة عادية. مثلاً معظم الآنسات شاميات وكانوا يصرعونا بالحكي عن البنات بالشام وأديشهم عظيمات وشاطرات والله راضي عنهم ومتقبلهم”.
تسمَّى المشرفة والمعلمة بـالـ”آنسة”، وهي من “أهل الله”، أي أنها أفضل من الفتيات الناشئات المتهمات على الدوام بالمعصية أو الاقتراب منها. ركّزت آنسات الدعوة على استقطاب الطالبات والخريجات الجامعيات، واستهدفن بنات الطبقة الثرية من دون الاقتصار عليهن، لكنهن كنَّ الأساس، وهكذا اكتسبت الحركة قوة اجتماعية ومالية وسياسية، ما أشاع في الجماعة شعوراً بالنخبوية والأفضلية والاستعلاء على الأخريات في الوسط الديني وخارجه، وهذا ما يبرر وجودهن في غالبية السياقات التعليمية والمهنيّة، فالقبسية ليست ربة منزل فقط، بل صاحبة دعوة، تخرج الى الشارع لتقوم بمهمتها، وتحاول إقناع المراهقين الشباب في مراحل الدراسة الابتدائيّة بأن نزار قباني شاعر سيئ ومبتذل ومكروه، رغم أن قصائده موجودة في المنهج المدرس، وتدغدغ هرموناتهم وشهواتهم .
الآنسة أشبه بالله
تكمن خطورة العلاقة بين الفتاة والآنسة في تشبيهها بعلاقة الفتاة مع الله، إذ أحاطت الآنسات أنفسهن بنظرة تقديسية، ربما هذا سبب حرص منيرة القبيسي على البقاء في الظل بعيداً عن الإعلام أو الإدلاء بأي تصريح، ناهيك عن عدم وجود أي صورة لها، وهكذا تعتقد الفتاة أنها وكلما تفانت في طاعة آنستها أو شيختها القبيسية، سيزداد اقترابها من الله ورسوله وفق زعم الجماعة.
تزدري القبيسيات الأجساد، ويقفن بوجه اللذة، فلا مكان للشهوة في حياتهن، ما جعلهن محط مُتخيّل فانتازمي وصل حدّ اتهامهن بارتداء حزام العفّة والانتماء إلى الماسونيّة.
لا يمكن فصل شكل حياة القبيسيات عن المجتمع السوري الدمشقي المحافظ بصورة تامّة، لأن الحركة ظهرت في قلب هذه البيئة مع تركيز أكبر على النشاطات الدينية الدعوية، والدروس الدينية والموالد النبوية والاحتفالات الدينية يقول د. محمد حبش أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أبو ظبي: “القبيسيات هنّ صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي بخاصة، وأن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان منذ خمسين عاماً ولا يزال”.
القبيسيات يتغلغلن في النظام التعليمي السوري
تشجع الجماعة التعليم الأكاديمي للفتيات وانخراطهن في ميدان العمل، لكن الأمر ليس إلا جزءاً من الدعوة، وسعياً الى نشرها في شكل أكبر ضمن أوساط مختلفة، وإذ أردنا فهم خطورة هذه الجماعة على حرية النساء يمكن الاستدلال عليها من خلال ما تقوم به على أرض الواقع، إذ تشرف الجماعة على نصف مدارس تحفيظ القرآن تقريباً، ومئات المدارس الخاصة وبعض المدارس العامة، هذا التغلغل في النظام التعليمي في سوريا ساعدهن على فرض رؤيتهن الخاصة أثناء تنشئة الأجيال، الرؤية التي كانت مقبولة لدى شريحة واسعة من السوريين كونها تقوم على تعليم الدين في صورة مفرطة إضافة إلى الصرامة في التربية، ما جعلهن على اختلاف مع الفئة المحافظة في المجتمع، لتتحوّل المدرسة نفسها إلى مساحة صراع، بين تيار ديني متشدد وآخر تقليدي محافظ، كلاهما يقفان بحيرة أمام أسئلة موجودة في منهج العلوم في سوريا تتعلق بنظرية التطور وأصل خلق الإنسان.
لا يمكن أن نعرف بدقة تأثير “طائفة دينية” متغلغلة في النظام التعليمي على الأجيال، لكن الصرامة المعروفة عن القبيسيات لم تخف على أي سوريّة، كتبت المدونة فرح يوسف عن تجربتها في روضة خاصة تديرها القبيسيات، واصفة معاملة المدرّسة لها بعد ترديدها شتيمة لم تكن تعرف معناها: “ثلاثة أيام طويلة مرت وأنا أجلس في المقعد الأخير من الباص، لا تُجاب نداءات يدي المرفوعة للإجابة عن الأسئلة، ولا أحصل على نجمة على جبيني حين تكون وظائفي من دون غلطة واحدة، وكلما طال الوقت انضمت واحدة جديدة الى عصابة الجلادات، تنبذني وتحقرني وتسأل زميلتها ما إذا كنت اعتذرت أم ليس بعد”.
الأسد يرحب بالقبيسيات
يحرّم تيار واسع في الفقه الإسلامي الخروج على الحاكم، هذه الفتوى التي ما زالت محط جدل، تبناها الدين الرسمي في سوريا عبر المتحدثين باسمه كالشيخ كفتارو والبوطي والجماعات الأخرى التي وجدت نفسها “صوفيّةً” لا علاقة لها بالسياسة بل تعض على دينها إلى حين يأتيها اليقين. فضلت القبيسيات الصمت عام 2011، ولم تتخذ الجماعة أي موقف تجاه نظام الأسد حتى عام 2014 حين شاركن في حملة ترويج للأسد، ضمن احتفال كبير، دعت فيها الآنسات الى الوقوف مع الأسد، كما استقبل الأسد مجموعة من القبيسيات والتقطوا الصور معاً، توطدت لاحقاً علاقة القبيسيات مع النظام الديكتاتوري إلى حد وصول إحدى المريدات، فرح حمشو، إلى مجلس الشعب كما تسلّمت الداعية سلمى عياش منصب معاون وزير الأوقاف في سوريا.
ازداد بعد لقاء الأسد والقبيسيات الضجيج الإعلامي والاتهامات التي تصفهن بالتطرّف، لتصدر وزارة الأوقاف السوريّة عام 2018 بياناً، قالت فيه: “لا وجود لتنظيم اسمه القبيسيات، وإنما توجد حالياً معلمات القرآن الكريم، مهمتهن تحفيظ القرآن وتفسيره، ويعملن فقط في المساجد وبتراخيص ممنوحة من الوزارة “.
جدل القبيسيات ليس سياسياً فقط، وإن كان في أحد جوانبه يمثل النظام الديكتاتوري، إنما هو أيضاً جدل في طبيعة هذا التنظيم الديني المتشدد، في خلق ودعم تطرف نسوي من نوع جديد، يقوم على تدمير صورة المرأة الذاتية عن نفسها ونبذها لرغباتها، في مقابل تراجع واضح في حقوق المرأة السورية.
درج
——————-
«المساعد جميل» يحلّ لغز «الآنسة منيرة»!/ حسام الدين محمد
في مقابلة تلفزيونية على قناة «دراما» السورية عام 2022، يضع شاب لمسات على سيناريو إحدى حلقات مسلسل إذاعي: «حكم العدالة» وتظهر ببداية الصفحة الأولى البسملة وآية قل هو الله ثم دعاء: «رب يسّر ولا تعسّر». الشاب هو منيب، وهو يتحدث عن إرث والده هائل اليوسفي، الذي بدأ كتابة برنامج «حكم العدالة» الإذاعي عام 1977، وورثه الابن عنه عام 1998.
لن تنسى أجيال من المستمعين السوريين صوت ضابط الشرطة في المسلسل يهدّد المتهم بإنزاله إلى «المساعد جميل» أي إلى قبو التعذيب، وانتهاء الحلقات باعتراف «المجرم» وبحكم تصدره المحكمة «حضوريا» باسم الشعب، بإعدام أو سجن المتهم.
يمكن اعتبار المسلسل تلخيصا فنيا لطبيعة النظام السياسيّ السوري برمّته، الذي، يشكل فيه «المساعد جميل» ونظراؤه المرعبون في أقبية فروع الأمن والمخابرات، الجذر الأساسي لعمل النظام، وما يحصل في مخافر الشرطة وقاعات المحاكم هو «حكم العدالة». حل «حكم العدالة» محل مسلسل بعنوان «الجريمة والعقاب» للكاتب نفسه، ويمكن اعتباره «اسما فنيا» لجغرافيا الإبادة الجماعية والثقافية للسوريين، التي تكثفت وتبلورت بعد عام 2011، كما يمكن اعتبار حفرة «حي التضامن» التي حفرتها عناصر المخابرات عام 2013 ليلقوا فيها رجالا ونساء جمعوهم جزافا على الحواجز، وحكموا عليهم بالإعدام دون أن يعرفوا السبب، ودون حتى لمساعدة «المساعد جميل» إحدى قاعات «حكم العدالة» الآنف الذكر!
لغز نعي المعارضة والنظام لـ«الآنسة منيرة»
بدأ السوريون نقاشا ضاريا حول وفاة منيرة قبيسي، مع تفاجؤ البعض من نعي شخصيات إسلامية معارضة لها، بالتزامن مع نعيها من قبل النظام. أشار الكاتب السوري محمد أمير ناشر النعم، إلى قلة المعلومات حول قبيسي وجماعتها وإلى أن «جل من نعاها لا يعرفونها أيضا. لم يلتقوا بها في يوم ما، ولم يجلسوا إليها ولم يسمعوا منها» وأنه لم يكن للسيدة المتوفاة «كتاب أو مقال يقرأونه، ولم يُؤثر عنها حتى سطر واحد أو درس أو حديث مسجل يُستمع إليه!». في غياب الكتاب والمقال والحديث المسجل لـ«الآنسة منيرة» كأدلة منطقية للنقاش أشار بعض الإسلاميين إلى ثمار الجماعة الظاهرية (وجود جماعة من آلاف الفتيات والنساء المحجبات) وهو ما رد عليه ناشر النعم بالإشارة إلى «الناجيات من شرنقة هذه الجماعة ممن يتحدثن عن الأثر السلبي السيئ الذي عانين منه، وكيف أنهن لم يستعدن توازنهن النفسي إلا بعد الانسحاب منها والانفكاك عنها».
يساهم معتز الخطيب، أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة حمد بن خليفة، «القبيسيات ونظام الأسد: من فضاء المنازل الى فضاء النظام» بإضافة بعض «المعلومات المتاحة» لتقديم قراءة مختلفة لظاهرة القبيسيات، تبدو أقرب لتفسير نعي الإسلاميين لها. يرى الخطيب أن الجزم بسردية واحدة عن منيرة القبيسي، وجماعتها، «أمر محلّ إشكال» ويفسّر ضرورة قراءة «الدليل» الذي استخدمه مجمل من انتقدوا منيرة القبيسي وجماعتها، بشكل أكثر عمقا، متوصلا إلى أن «صورة اجتماع وفد نسائي ببشار الأسد ووزير الأوقاف سنة 2012» كانت تمثل «تتويجا لسعي النظام إلى ضبط هذه الجماعة والتحكم فيها». تظهر الجماعة، ضمن المقال الآنف، موضوعة، بعد اندلاع الثورة عام 2011، تحت ضغوط سلطوية لتدجينها وتشغيلها تحت جناح النظام، مثل باقي الأفرع الدينية له، كجماعة كفتارو، ووزارة الأوقاف، وهو ما يظهرها، عمليا، بصورة الجماعة الدعوية الممانعة للتدجين. يشرح الخطيب أن الضغط تم عبر أربعة مسارات وتدرج من رسم صور سلبية لها من خلال الدراما السورية، وإرهاب زعيمتها باستدعائها أمنيا (قبل الثورة) وإجبارها على الخروج من المنازل إلى المساجد، وصولا إلى اغتيال إحدى «الآنسات» عام 2013، وسجن بعض أفراد الجماعة.
يحلل الخطيب «تقريرا مفصلا» في حوزته حول اللقاء الأول مع بشار الأسد، الذي حضرته «قبيسيات» عام 2012، ويعتبر أن ما جرى كان «استدراجا» للجماعة إلى جامع العثمان بحجة عقد لقاء إلزامي مع وزير الأوقاف، لمناقشة مسائل تتعلق بالمدارس الشرعية، ثم اختيار 80 من مديرات المدارس الشرعية وموظفات الأوقاف اللاتي حضرن لقاء مع بشار الأسد أبلغهن فيه أن لا رجعة عن الحل الأمني. عقب اجتماع آخر مع الأسد حضرته قبيسيات، عام 2014، تم تعيين سلمى عياش أخت زوجة وزير الأوقاف، والقيادية في الجماعة، في منصب معاون وزير الأوقاف، وهو ما اعتبر «رسالة صريحة ومباشرة عن العلاقة بين النظام والقبيسيات» و«انحيازا صريحا وعلنيا» و«مكافأة للجماعة» «التي تم تدجينها».
تكرر الظهور مع الأسد، وآخره كان عام 2022، لكن ثمة من رأى، مثل الشيخ أسامة الرفاعي، أن عياش مثلت انشقاقا داخل الجماعة. تحدثت عياش في كلمة في لقاء مع الأسد عام 2014 باسم «الدعوة النسائية» وأكد بيان لوزارة الأوقاف، عام 2018 عدم وجود تنظيم القبيسيات، فيما تحدث الأسد حينها عن «معلمات القرآن» وحسب الخطيب فقد أنهى النظام «الجماعة رسميا وشعبيا».
ما جرى للقبيسيات، حسب الرواية الآنفة، هو إنزالهن إلى قبو المساعد جميل، حيث خرجن جماعة جديدة مع إعلان ممثلته في الجماعة سلمى عياش، الحكم «حضوريا» بانتظام الجماعة ضمن أجهزة النظام. كان ما يحصل ثورة ضد النظام، ولم يعد هناك وقت جلد وصبر للنظام للتعامل مع الشكليات. الحجاب والمنازل أداتان للمقاومة، والرد هو بكشف الحجاب (وإن بطريقة مختلفة عما فعلته مظليات رفعت الأسد في ثمانينيات القرن الماضي) وبإخراج النسوة من منازلهن وعليه فقد صارت الجماعة «دعوة نسائية» تحت إشراف وزارة الأوقاف، وصار أعضاؤها «معلمات قرآن».
«حفظ النوع» في مواجهة الغزاة!
تمثّل الجماعة، التي نشأت عام 1960، في اعتقادي، رد فعل اجتماعي ديني ومناطقي على الدولة العسكرية ـ الأمنية، التي بدأت باستهداف الاجتماع المدني، وطبقاته العليا اقتصاديا وسياسيا، بدا ذلك نكوصا متدرجا لمواجهة غائلة كبرى، تمثلها الدولة التسلطية. الجماعة، بهذا المعنى، بدأت كمنظومة دفاع وصد أهلية، عبر نظام تحجّب جماعي، وعودة للمنازل. في ظل الدولة الشمولية، التي تحتكر الصعود السياسي والاجتماعي، يكون نظام الشبكات الأهلية، هو تنظيم دفاعي نكوصي. تنظيم يواجه عسكرة وأمننة الدولة وانتهاكها للضوابط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بنظام رقابة وضبط وتبادل منافع نسوية واجتماعية. العلاقة بين الدائرتين هو ما يجمع أو يفرق نظام قهر عام مع منظومة ضبط وقهر خاصة. واضح أن النساء الدمشقيات اللاتي بدأن الحركة تعاطين مع الخبرة التاريخية المريرة للمدينة مع «الغزاة» فرقة «الآنسة منيرة» إحدى التعبيرات المعقدة عن هذا التاريخ وهو ما يجعلها تحمل الكثير من مفارقاته وتناقضاته، وهنا، وقبل أي اقتراحات سياسية للتفكير، يمكن التفكير في البيولوجيا، وقانون حفظ النوع. تبدو أدوات التحليل السياسي والفقهي غير كافية، وعليه يفترض الاستفادة أيضا من مناهج الأنثروبولوجيا، لفهم الدوائر المتداخلة بين الدعوي والسياسي والمناطقي، وكذلك علم الاجتماع النفسي، للسماح بدراسة طرق تشكل الجماعات النكوصية، في ظل الحاجة الاجتماعية الكبرى لمعنى (الدين ونظام الضبط الخاص).
حملت حركة النساء هذه معنى إيجابيا بطريقة ما، لأنها تنتزع المبادرة من الرجال، وتقوم بتنظيم «أخوية» نسوية أقرب للرهبنة، حيث تنذر «الآنسات» أنفسهن لتطبيق نظام الدفاع الذي اجترحنه، كما تحمل المعاني السلبية للعودة إلى الكهوف، وتطبيق التنميطات الطبقية والجندرية والمناطقية. ما نقرأه من تجارب «الناجيات» و«الناجين» من الجماعة الدعوية، لا يساعد، على أي حال، في التأسف على مآلها، وإن كان يؤكد خسارة طرق الدفاع الأهلية أمام توحش الدولة التسلطية. التأسف، واجب، مع ذلك، على عموم السوريين الذين خرجوا على النظام، لكنّهم لم يخرجوا من منطق «حكم العدالة» الأسدي، بعد.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
————————
===================
تحديث 12 كانون الثاني 2923
———————————
حركة القبيسيات، تأميم الدين سلطوياً
الملخص التنفيذي:
شكلت حركة القبيسيات الدينية في سوريا جدلاً واسعاً منذ نشأتها؛ حتى وفاة مؤسستها بالأمس “منيرة القبيسي”، ولذلك لقربها من النظام من جهة، ولكونها استطاعت أن تتفوق على كل الأحزاب السياسية المؤدلجة في سوريا سواء كانت معارضة أو قريبة من النظام؛ ولدورها الكبير داخل الأسر التي تنتمي إليها.
نحاول في هذه الورقة دراسة حركة القبيسيات؛ وسبر أغوارها؛ من خلال الفكر والتحليل، من خلال المحاور التالية:
مدخل
النسوية الدينية من الصوفية إلى الأدلجة (القبيسيات)
القبيسيات
التأسيس والانتشار داخل سوريا
من الظلّ إلى الضوء
القبيسيات بين الجدل الديني والسياسي
المشكلات المستقبلية للنسوية الإسلامية ومأسسة العمل الديني الدعوي
خاتمة
مدخل
انتظمت النساء منذ أقدم العصور في جماعات، استهدفن من تشكيلها أغراضاً سياسية في مختلف أرجاء العالم، كجماعات الاحتجاج على الحروب، والتوسط لحلّ النزاعات، وزيادة حركات السلام.
وطيلة القرن العشرين بادرت النساء إلى تشكيل جماعات نسوية في كافة دول العالم، لكنها بقيت في المشرق العربي مجرد كائنات ظلالية صامتة، مثقلة بحمل من التقاليد والعادات والمفاهيم الدينية القامعة وبعيدة عن الإرادة الحرة.
فنقاط الضعف البنيوية التي سادت عمل منظمات المجتمع المدني وحركات التحرر النسوية، أنتجت فراغاً هائلاً، تم سدّه بنموذج راديكالي جديد يدور في فضاء الحركة المناهضة للأفكار الغربية في قضية تحرر النساء، ليصنع عالماً نسوياً ينطلق من هوامش الممكن في مشاركة النساء الروحية الذي أسست له الطرق الصوفية ليتحول في بعض أوجهه من جماعة صوفية إلى تنظيم نسائي متطرف، لا يغوص عميقاً في السعي الروحي التأملي ولا يدخل في صنع تغييرات لأوضاع النساء وثقافتهن، بل صنعن في العالم الدعوي قصور حرملك أو “مشيخية” نسائية ترفع أسوارها بين الجنسين بحيث يتعذر على الرجل أن يتجول “معرفياً” في عالم الآنسات، اللاتي تعددت أسماؤهن(القبيسّيات، السّحريات، الطّباعيات، بنات البيادر..) نسبة إلى “الآنسة” المؤسسة، ووصل مدّهن من سوريا ولبنان والأردن والكويت ومصر إلى أوروبا وأميركا وأستراليا وغيرها.
النسوية الدينية من التصوف إلى الأدلجة (القبيسيات نموذجاً)
منذ انهيار نظام الخلافة الراشدة اختلفت التصوّرات والقيم حول وضع المرأة ودورها الاجتماعي في تجاهات التديّن الإسلامي. وإذا كانت التوجهات الفقهيّة قد أبقت المرأة غائبة عن المشاركة في قراءة النص الديني بذاتها معتمدة على الاحتكار الذكوري للنسق الفقهي وموضوعاً للتفسير والبحث، فإنّه في حقل التديّن الصوفي، كان للمرأة موقعاً متميّزاً عمّا هي عليه لدى أنساق التديّن الأخرى، رغم وجود رؤى متناقضة ومتضاربة بين أشكال المعرفة الصوفية واختلافات واسعة حول صورة المرأة بين هذه الرؤى.
فصورة المرأة في التصوّف الفلسفي تختلف عنها في التصوّف الأخلاقي. في الأول، يُنظَر للمرأة باعتبارها مبدأ الحياة الإنسانية كلها، وبالنسبة لابن عربي، أبرز رموز هذا التيار، فإن العلاقة بالمرأة تمثّل تجديداً للعلاقة مع الألوهية والطبيعة “وكل مكان لا يؤنَّث، لا يُعوَّل عليه” (1).
وبعيداً عن الخوض في اختلاف الرؤى الصوفية والإسلامية ككل تجاه المرأة، سيجري التركيز على التصوّف باعتباره السردية التي تتبناها ما بعد البنيوية والحركة النسوية في حربها ضد السلطة الأبوية بكل أشكالها بهدف تفكيكها، بحيث “يتفككون جميعهم ويذوبون في كيان سديمي واحد بلا معالم ولا قسمات”(2)، وقد وجدت الحركة النسوية في التصوّف و”وحدة الوجود” ما يشكل صياغة أنثوية للوجود وحيازة موقع لها في نسق الولاية والصلاح. فهذا النمط التديني أعطاها طريقاً للخلاص الأنثوي، وفتح لها المجال لتثبت ذاتها وتتحرر من الدور التقليدي الذي فرض عليها نتيجة ما اتسم به الفقه في العصر الوسيط بإعطائه للمرأة صورة متراجعة عن الصورة والمكانة التي جاء بها الإسلام، فعُدّت المرأة ناقصة عقل ودين. وعمل بعض الفقهاء على إعطاء شرعية دينية لدونية المرأة بالنسبة للرجل، عبر تأويلات مجحفة وضيّقة للنص القرآني، وعلى إثر ذلك اختارت المرأة سبيلاً آخر وهو التواصل المباشر مع الله من خلال التجربة الفردية الخالصة والبعيدة عن حراس التقليد الإسلامي الرسمي والمؤسسات القائمة على الشأن الديني، التي يمثّلها التصوّف (3).
تجربة التصوّف النسوي لم تعد تقتصر على بعدها الروحي والاتصال مع الله فزمن “رابعة العدوية” انتهى، ووجود الشيخات والمريدات شكل أساساً لحركات نسوية تقترب حيناً وتبتعد حيناً عن التصورات والمفاهيم الصوفية الشائعة، وقد أخذت أكثر تجلياتها المؤدلجة مع تنظيم القبيسيات وأخواته.
حركة القبيسيات
ظهر تنظيم القبيسيات من رحم التصوّف والبنية السوسيو- ثقافية للدولة السورية. حيث نظام المشيخة وعلائقها ونشاطاتها متجذّرة تاريخياً في المجتمع السوري الحاضن للعديد من النشاطات الدينية الدعوية، وتعتبر الدروس الدينية والموالد النبوية والاحتفالات الدينية الأخرى من خواص الأسر السورية المحافظة.
تنظيم القبيسيات امتد إلى خارج سوريا عن طريق “الآنسات” اللاتي انتشرن واستطعن تأسيس جمعيات خاصة بهن، فبرزت”السَحَريات” في لبنان نسبة إلى سحر حلبي، وفي الأردن “الطباعيات” نسبة إلى فادية الطباع، وفي الكويت أسست أميرة جبريل، أخت أحمد جبريل، الأَمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، جمعية “بيادر السّلام” وتعدّ أشهر جمعية خيرية نسائية لتحفيظ القرآن والسنّة وتدريس العلوم الشّرعية وإقامة الأسواق الخيرية، وهذه التّسميات على اختلافها تصدر من خارج الجّماعة، لأن أعضائها لا يسمونها بأي تسمية.
تميّزت الجّماعة بأنها جماعة نخبوية، وأغلب منتسباتها على درجة عالية من الثقافة والعلم، وهذا شرط تشترطه “الآنسة القبيسي” لكل مريدة، وتعتمد في التّثقيف مجموعة من الكتب مثل “عقيدة التّوحيد من الكتاب والسنّة” للآنسة سعاد ميبر، و”الجامع في السيرة النبوية” للدكتورة سميرة الزايد، إضافة لكتب فقه العبادات التي تدرّس حسب اختلاف المنطقة والولاء، ففي دمشق ولبنان يُدرس الفقه الشافعي (فقه العبادات على المذهب الشافعي تأليف الحاجّة درية العيطة)، وفي حلب الفقه الحنفي (فقه العبادات على المذهب الحنفي تأليف الحاجة نجاح الحلبي) وفي السعودية الفقه الحنبلي ( فقه العبادات على المذهب الحنبلي تأليف الحاجّة سعاد زرزور)، وفي الكويت الفقه المالكي (فقه العبادات على المذهب المالكي تأليف الحاجّة كوكب عبيد)(4)
التأسيس والانتشار داخل سوريا
منذ ستينيات القرن الماضي تم تداول اسم “القبيسيات” لدى بعض الأُسر السورية عن طريق مؤسِّسة الجماعة وشيختها الكبيرة “منيرة القبيسي” خريجة كلية الشّريعة، التي تتلمذت على يد الشيخ “أحمد كفتارو” مفتي سوريا عام 1964 ذي الميول الصوفية النقشبندية، والشيخ “محمد سعيد البوطي” عميد كلية الشّريعة سنة 1977، الذي عُرف كمفكر وصاحب دراسات أكثر مما هو متصوّف أو صاحب طريقة.
تمتاز الطريقة الكفتارية بحضور قوي بين الطبقات الشعبية والوسطى في دمشق، بالإضافة إلى الطبقة البرجوازية الجديدة التي تشكلت مع الامتيازات الاقتصادية المكتسبة عن طريق العلاقات الشخصية مع جهاز الدولة في نموذج الإسلام الرسمي، وكان جزءاً من مسار الطريقة النقشبندية الكفتارية. فالتآلف البراغماتي السياسي الذي ساد سوريا بعد حكم حزب البعث؛ أسس لحلف مقدس بين طبقة البرجوازية السنية والإسلام المعتدل والسلطة. (5)
في هذا السياق انتعشت حركة “القبيسيات” معتمدة على النشأة المترفة والعلاقات الجيدة مع العائلات الدمشقية المخملية، وتقرّبت لزيادة نفوذها من الجماعات الإسلامية الدعوية في سوريا، مثل معهد الفتح للآنسة سعاد ميبر، وجماعة زيد الدينية الدعوية للشيخ عبد الكريم الرفاعي، وجماعة بدر الدين الحسني، الذي ساهم في تأسيس الجمعية الغرّاء عام 1924 برئاسة محمد هاشم الخطيب الحسيني.
لاقت جماعة القبيسيات رواجاً كبيراً بسبب إدارتها للمدارس الدينية، حيث ظهرت في تلك الفترة بعض المدارس التي تسيطر عليها فكرياً حركات دينية متنوعة لاستقطاب الفتيات في فعاليات اجتماعية خارج الإطار المدرسي، كمعهد “السيدة رقيّة” الشيعي الذي يُعتبر مرجعية لعدد من المدارس والمعاهد التي تقوم بالتبشير وجمع الأنصار.
حققت المدارس الإسلامية للأطفال برعاية “الآنسات” القبيسيات نجاحاً كبيراً وجذبت إليها الكثير من الفتيات، بسبب ما تقدمه من تربية مدروسة ومتقنة ضمن إطار الاسلوب النظري الإلقائي، البعيد نسبياً عن العلوم التطبيقية أو النشاطات الاجتماعية التربوية أو التكنولوجيا الحديثة. ولاقت مدارس الآنسات مثل “دار النعيم”، و”دار المجد”، التي يتم فيها تخصيص دروس إضافية لتعليم الدين، رواجاً كبيراً في الأوساط الدمشقية لما اشتهرت به من اهتمام بالدين وتحفيظ القرآن لكافة الأعمار إضافة للعلم “الدنيوي” بشكل بسيط، وللنشاطات المتنوعة الأخرى كالمخيمات الصيفية وغيرها، ولأن ريعها يعود لأعمال خيرية حسبما أشاعت نساؤها، وهو ما زاد انتشارهن وبحسب تقدير 2006 بلغت مدارسهن في دمشق وأحيائها 80 مدرسة، تديرها أكثر من 75 ألف مربية؛ إضافة إلى إقامة منظمات خيرية لمساعدة الفقراء والمساهمة في تزويج شباب المسلمين. (6)
من الظلّ إلى الضوء
بقي تنظيم القبيسيات خارج الضوء طوال عقود، إلى أن بدأت التيارات السلفية (في الكويت والأردن) وجماعة الأحباش(في لبنان) الهجوم عليه، ثم تحول جزءاً من واقع المجتمع السوري بعد ازدياد انتشارهن وتأثيرهن ونفوذهن الاقتصادي، وبدأت الصحافة تتناول الجماعة بطريقة لا تخلو من الإرباك والدخول في حيّز الشائعات أكثر من الدراسة المتعمقة، نتيجة قلّة المصادر الموثقة حول هذا التنظيم الذي تمّ ترخيصه وسمح له بالعمل العلني عام 2006، شرط أن تنقل حلقات التدريس والاجتماعات السرّية من بيوت الآنسات إلى المساجد العامة لوضعها تحت إشراف النظام، ليزداد تمدداً وتمكّناً كأقوى تيار نسوي خصوصاً في دمشق مكان إقامة “الآنسة الأم”، وفي حمص كمدينة ثانية في الانتشار، حيث بلغ عدد أتباعها أكثر من 175 ألف امرأة. وتشير التقديرات إلى أن “حلقات” الجماعة تضم أكثر 25 ألف امرأة وفتاة في دمشق وضواحيها، وباتت الجماعة تسيطر على أكثر من 40 مسجداً في دمشق وريفها، وهذا يجعلها كبرى الجماعات الإسلامية في سوريا (7).
ويرجع سبب انتشارهن لعدة أسباب منها:
1- أسباب أنتجتها التركيبة السياسية في سوريا خصوصاً بعد أحداث حماه وتوجّه النظام نحو علاقات استيعابية بدلاً من التدابير العلمانية العدوانية، حيث تمّ كبت وإحكام القبضة الحديدية على المعارضة الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مقابل رعاية البعض الآخر على نحو مُترّوٍ، التي نالت قسطاً من الامتيازات الاجتماعية مقابل استخدامهم كداعمين للمشاريع السياسية والاجتماعية لتكوين قاعدة اجتماعية، ومنها الطريق الكفتارية وجماعة القبيسيات كامتداد نسوي.
2- أسباب أنتجها الانزياح الواضح في الوسط السني من تبنّي مشروع سياسي واجتماعي صريح يهدف لانتزاع السلطة إلى تكثيف مظاهر التديّن والتقوى الفردية في المشهد العام، مثل زيارة المساجد وارتداء الحجاب كممارسات فردية، وحراك اجتماعي له صلات قوية بالتصوّف، بهدف الوصول إلى مجتمع إسلامي يأتي نتيجة تراكم التربية الأخلاقية للفرد، ما جعل القبيسيات يلقين دعماً واهتماماً كبيراً في الوسط السني نتيجة طريقة دعوتهم المعتمدة على المثقفات والميسورات، وابتعادهن عن التيارات السياسية والاهتمام بالدعوة الدينية والتركيز على الجانب الروحي في الإسلام دون إهمال الجانب العلمي.
3- حالة الضياع لدى المراهقات فتنوب “الآنسة” عن الصديقة والأم في حلّ مشاكلها وسدّ الفراغ الروحي “العرابة”. وتكون الطاعة الأكبر للآنسة الأم “القبيسي” أعلى مرتبة دينية في هرم الجماعة التنظيمي، وهي من تعطي العلم الشرعي، ما يمنحها صفة التقديس المبالغ فيه إلى حدّ التأليه، فهي الوسيط لدى المريدات، والطريق للوصول إلى الله (8). وتعمل “الحَجَّات” كمرجعية نهائية تدير الجماعة وحلقاتها، وتنظّم أمور الآنسات المسؤولات عن توجيه المريدات، بدءاً من ارتداء المريدة “الإيشارب” المنديل الأبيض، ثم “الإيشارب” الأزرق الغامق للآنسات، إلى السّماح بالزّواج أو منعه. “على الطالبات إخبار آنساتهن بكل ما يجري معهنَّ.. لأننا هنا في مستشفى إيماني والمريض في المستشفى يجب أن يُطلع طبيبه على كل شيء ليتداركه” قاعدة قبيسية (9).
4- اعتماد التنظيم على النخبوية الثقافية والاجتماعية أكسبه حجة اجتماعية للانتشار والتأهيل للدعوة انطلاقاً من نساء الطبقة المخملية للوصول إلى نساء الطبقات المختلفة. فنساء هذا التنظيم حافظات لكتاب الله، وتواكبن الحضارة الدنيوية بكل أبعادها من قيادة سيارة إلى إتقان التعامل مع التقنيات العصرية، ما يجعل منهن قدوة للكثيرات في الوسط الإسلامي حتى من غير المريدات.
القبيسيات بين الجدل الديني والسياسي
اختلفت التحليلات والتصورات حول هذا الوجه النسائي الدعوي، وذلك لما يلفّ هذه الجماعة من السرية والانعزال “التقية”، ماجعلها تتعرض من قبل بعض السلفيين والمعتدلين إضافة للعلمانيين لانتقادات وشكوك حول عقيدتها وأفكارها، وصلت حدّ الاتهام بممارستهن لسلوكيات وتصورات خاصة للإسلام بحرص وسرية وانعزال، وممارسة السحر وتحضير الجنّ، وأكثر الاتهامات رواجاً اعتبارهن طائفة صوفية متطرّفة وذلك لشهرتهن بكثرة الأذكار والموالد والإنشاد والضرب بالدفّ.
وفي خضم هذا الجدل ذهب بعض المفكرين على غرار د. محمد شحرور إلى حدّ القول بأن القبيسيات “شبكة تخترق صانعي القرار في سوريا وتسعى إلى إقامة دولة إسلامية على غرار “دولة طالبان”(10)
لكن د. محمد حبش أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أبو ظبي حالياً، يؤكد على أن القبيسيات هنّ “صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي خاصة، وأن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان منذ خمسين عاماً ولا زال”(11)
وقد أُخذ عليهن حالة الترهّب والعزوف عن الزواج وأن كثيرات منهن مطلّقات، وهذه ليست مصادفة، مع عدم وجود رهبانية في الإسلام، إلا أنه يمكن ردّها إلى تحريم التفكير بالرجل والزواج والجنس، وطريقة اللباس والاستغناء عن الأنوثة، ما يعتبر تطرّف جديد يسير عكس الفطرة الطبيعية البشرية. التي يمكن أن تجد تفسيرها في بواطن الصوفية القديمة وغاية الصوفي في اختراق حواجز الزمن والتاريخ للوصول إلى منطقة الخلود واللازمن، والتي تختلف عن تجربة النساء مع ذواتهن ومع المجتمع والتاريخ التي تأخذ دوائر ومسارات مغايرة، فإن النساء في رحلاتهن الروحية قد يبغين الالتحام مع ذاتهن وعقد تصالح مع الكون، وأن يندمجن مع المجتمع عن طريق تحقيق قدر كبير من الأتباع والمريدات(12).
“الدعوة إلى الله ليست حكراً على الرجل فالمرأة أيضاً تستطيع أن تجد معراجاً لروحها التوّاقة للمغفرة وهي، كما الرجل، تستطيع أن تسهم في تحرير أرواح شقيقاتها من ربقة الذنوب والولوج إلى بوابة المغفرة” (13).
واجهت القبيسيات الكثير من النقد السياسي نتيجة الولاء المطلق للنظام، فما عُرف عن أصحاب الطُرق الصوفية بديهية الاستنكاف عن أي مظهر من مظاهر السلطة، لصالح نظرة زهديّة شاملة لا ترى السياسة وعلائقها الدنيوية إلا شكلاً من أشكال الخروج عن الدائرة الأنطولوجية للفرد الصوفيّ السالك طريق “الحق”، إلا أن هذه القاعدة لا تنطبق على سوريا فحدود التأثير والتأثر مباشرة بالأحوال السياسية لجهة الانخراط الهامشي أو المساهمة في تجيير بيئة معينة نفسياً ومادياً لمصلحة السلطة، قد طالت معظم التيارات التي جرى استيعابها داخل شبكة الإسلام الرسمي ومنظومة الرعاية السلطوية(14)
وبدا واضحاًانتقال القبيسيات للعمل السياسي أثناء الحراك السوري، حيث وقفن بمعظمهن إلى جانب النظام، وشاركت “القبيسيات” في حملة ترويج للرئيس في العام 2014، وجرى احتفال كبير ضمّ أكثر من 4000 إمرأة، دعت فيها “الآنسات” الكبار للوقوف معه(15) ورغم رفض الآنسة “القبيسي” ترشّح إحدى القبيسيات في 2007 لمجلس الشعب كي لا يُتهم التنظيم بممارسة العمل السياسي، إلا أن انتقالهن الحالي للعمل السياسي بات واضحاً، ويصبّ في صالح النظام، وقد وصلت إحدى المريدات “فرح حمشو” قريبة رجل الأعمال الشهير محمد حمشو إلى مجلس الشعب(16)
وكانت أولى مطالبها منع الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، متجاهلة أن سوريا عرفت النوعين من المدارس أي أن الخيار الشعبي موجود، ولا داعي لفرض منع الاختلاط في المدارس طالما يعمّ كافة مناحي الحياة الاجتماعية، ويساهم في الانفتاح الفكري والتوازن لدى الجنسين.
كما تسلّمت الداعية “سلمى عياش” منصب معاون وزير الأوقاف في سوريا، وذلك في ربيع عام 2014(17) ومع ازدياد الضجيج حول القبيسيات وتمددهم في مفاصل المجتمع ووزارة الأوقاف السورية تحت مسمى“معلمات القرآن الكريم”، أنكر النظام وجود هذا التيار النسوي، الذي أشاد سابقاً بوقوفه معه ومساندته له، وقد أصدرت وزارة الأوقاف بياناً بتاريخ 21 أيار/مايو 2018 “أنه لا وجود لتنظيم اسمه القبيسيات، وإنما توجد حالياً معلمات القرآن الكريم، مهمتهن تحفيظ القرآن وتفسيره، ويعملن فقط في المساجد وبتراخيص ممنوحة من الوزارة “(18)، ولكن هذا النكران لا يلغي تمكّن التنظيم من اختراق المجتمع عبر الموازنة بين الأيديولوجية وسياسة الولاء للسلطة، وإن انتظامهن في صفوف المؤسسة الدينية جعل ظهور “القبيسيات” على القنوات الإعلامية السورية أمراً اعتيادياً، على عكس ما كنّ يبدينه قبل بداية الثورة، من أن “صوت المرأة عورة” ولا يجب على أحد أن يسمعه، وأنها لا يجب أن تشارك في السياسة، إضافة إلى أنه سيسمح لهن بالمشاركة في صنع القرار على صعيد تحديد المناهج الدينية في المساجد والنشاط فيها على حد قول أسماء كفتارو، حفيدة مفتي الجمهورية السابق أحمد كفتارو(19).
وتجدر الإشارة إلى أن المتغيرات التي حدثت في سوريا خلال السنوات السابقة، أدت إلى انكماش نشاطهن الدعوي، فازدياد العنف من قبل النظام أدى إلى انفصال الكثير من النساء عن الجماعة والالتحاق بالثورة، كما أن ردود الفعل المناهضة من قبل “موالي النظام” لوجود القبيسيات واعتبارهن حركة شبيهة بحركة الإخوان المسلمين وأنهن داعمات للتزمت الإسلامي(20) أدى إلى انتقال عمل “القبيسيات” من التوعية ضمن المساجد إلى إقامة ندوات عن “محاربة التطرف والإرهاب”، و”دور المرأة السورية في الحفاظ على أبنائها من الانضمام إلى صفوف الإرهابيين والانصياع لأفكارهم”(21)
المشكلات المستقبلية للنسوية الإسلامية ومأسسة العمل الديني الدعوي/القبيسيات
ملاءمة التنظيمات النسوية الإسلامية للتيارات الإسلامية وسهولة توظيف النساء من داخل الدين، يؤدي إلى استغلال هذه النسوية للمساهمة في خلق ولاءات وتجمّعات جديدة عبر السّيطرة على المرأة وتطويعها ضمن مجال ديني محدد تقوده أفكار مؤسسات التنظيمات الإسلامية.
2- قدرة التنظيمات الدعوية النسوية على التحكم بالمريدات، يكسبهن إمكانية السيطرة على الأسرة والمجتمع وتحويله إلى مجتمع متديّن بطريقة يشوبها الانغلاق الفكري. وبدل أن يكون رادعاً للإسلام السياسي فإنه سيشكل دعماً له في مثابرته على إعادة تشكيل إجماع شعبي متأسلم يمكن ضمّه أو جعله بيئة حاضنة لممارساته.
3- عدم الانفصال بين التنظيمات النسوية الإسلامية والتصور الفقهي للمرأة، يعمل على تأكيد الثوابت الأساسية الجامدة في اعتبار المرأة عورة، وما يترتب عن ذلك اجتماعياً وأخلاقياً وثقافياً، وفي اختصار وظيفة المرأة بالإنجاب وتربية الأطفال وغير ذلك، إضافة إلى وجوب احترام ولاية الرجل على المرأة وما يستتبع ذلك من نتائج سياسية من حيث مشاركة المرأة في السياسة والشأن العام.
4- استخدام الجماعة للدين الإسلامي لتحقيق مكاسب اقتصادية عبر تنمية وتطوير مشاريعها وأعمالها النفعية. واستخدام المدارس الدينية للتحكّم بأفكار جيل جديد من الفتيات اللاتي يصبحن مريدات وأتباع خاضعات، ومن الفتيان الذين تقدم لهم الجماعة عن طريق نفوذها وعلاقاتها الواسعة مساعدات متعددة كالحصول على منح دراسية، أو عمل عن طريق جمعياتهن، وهذا يؤدي إلى خضوع الشباب لهنّ اقتصادياً وسلطوياً.
5- تعزيز الثقافة التقليدية التي لا تعترف بالشخصية الفردية، فالمجتمع التقليدي ينتج أفراداً خاضعين حرفياً لإرادة الجماعة، أو لإرادة الشيخ الذي يشكل سلطة عليا، وهذا ما تفعله القبيسيات في ترويض المريدات عبر ربط المقدس بالإنساني، بدل تحويل السلطة من المقدس إلى الإنساني، واستغلال سلطة الدين للوصول إلى غايتهن. إضافة إلى التوجه نحو خلق ثقافتين لا ثقافة واحدة تجمع المتديّنات الإسلاميات بدل التأكيد على وحدة اندماج المجتمع والثقافة لا انفصالهما على أسس عنصرية أو نوعية.
خاتمة
إذا كانت النسوية الإسلامية تهدف عند بعض الداعيات لوجودها إلى تحرير العلم والثقافة والتراث الفقهي من سلطة الذكورة، وتضع يدها على الجروح في التراث الإسلامي الذي أصبح غطاء لكل التناقضات، باحثة عن الأسس والركائز التي تدعم مفهوم العدل والمساواة الإنسانية بين البشر لرفع الغبن عن النساء، فهذا لم يكن حال القبيسيات اللاتي ابتعدن عن الخطوط العريضة للنسوية الإسلامية في مفهومها النقدي ومضمونها الإصلاحي، ليبتدعن طائفة نسوية لها معارفها الدينية الخاصة وأحكامها التي اكتسبت قدسيّتها داخل جماعة لم تؤسَّس لتكون طريقاً للخلاص الأنثوي وتفتح المجال أمام مريداتها لإثبات ذاتهن والتحرر من الدور التقليدي الذي فرضه الفقه عليهن، بل جاءت بما هو أكثر في اخضاعهن وتدجينهن على طاعة الآنسة الأم.
المراجع
(1). النساء والتصوف: خصوصيّة التجربة وإشكاليّات التأريخ – منى علاّم / السفير- تاريخ 14 آذار/ مارس 2018
(2). PDF قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، الكاتب: د. عبد الوهاب المسيري, دار النشر: نهضة مصر – 1999، صفحة 36.
(3). PDF بركة النساء: الدين بصيغة المؤنث، الكاتب: رحال بوبريك، أفريقيا الشرق، صفحة 13.
(4). جماعة القبيسيات…. النشأة والتكوين/ جسور تاريخ 21/12/ 2017
(5).علاقة حرجة التصوف والدولة في سوريا- بقلم: باولو بينتو، ترجمة: حمزة ياسين/ معهد العالم للدراسات- تاريخ 02 تشرين الثاني/نوفمبر 2016
(6). قبيسيات سوريا- بقلم: راما الجرمقاني/الراصد – تاريخ 14 شباط/ فبراير 2008
(7). القبيسيات المعلن الدعوي والمضمر السياسي- بقلم: هوازن خداج/ العرب اللندنية- تاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 2016
(8). القبيسيات في السياق المجتمعي السوري (الجزء الأول)- سوسن زكرزك/ صالون سوريا- تاريخ 18 حزيران/ يونيو 2018
(9). القبيسيات.. تنظيم ديني “نسوي” لا يدخله الرجال – لينا الرفاعي/ ميدان الجزيرة – تاريخ 8 أيار/ مايو 2017
(10). حركة “القبيسيات” النسوية السورية: شكوك عقائدية ومخاوف سياسية/ دوتشيه فيله تاريخ 12/9/ 2010
(11). القبيسيات … الملف المجهول – بقلم: محمد حبش- موقع كلنا شركاء /منتديات فرسان الثقافة
(12) PDF التدين الصوفي في طبعته الأنثوية، ورهان النوع الاجتماعي، لالة ميمونه رمز الصلاح الانثوي، الكاتب: مراد جدي/ مؤسسة مؤمنون بلا حدود- بحث محكم – قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، صفحة 5.
(13). «فتنة المريدات».. – عمر رشدي/ الدستور تاريخ 13 نيسان/ أبريل 2018
(14). مرجع سابق علاقات حرجة التصوف والدولة في سوريا
(15). “القبيسيات”: من الدين إلى السياسة – رائد الصالحاني/ المدن- تاريخ 14/4/ 2016
(16) القبيسيّات.. كومبارس اللعبة الانتخابية السورية/ شبكة بلدي- تاريخ 15 نيسان/ابريل 2016
(17) “سلمى عياش” المرأة الاولى في سورية بمنصب معاون وزير / سوريا لايف- تاريخ 18 آذار/ مارس 2014
(18). بيان من وزارة الأوقاف السورية حول القبيسيات في سوريا / مراسلون 22 أيار/ مايو 2018
(19). مرجع سابق حركة “القبيسيات” النسوية السورية: شكوك عقائدية ومخاوف سياسية / دوتشيه فيله
(20)، “بذخ القبيسيات” يثير سخط موالي الأسد – بقلم أحمد العكلة/ أورينت نت تاريخ 14/6/ 2018
(21). مرجع سابق “القبيسيات”: من الدين إلى السياسة
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.
—————————–
قراءة في كتاب “القبيسيات.. الجذور الفكرية والمواقف السلوكية”/ أحمد العربي
اسم الكتاب: “القبيسيات.. الجذور الفكرية والمواقف السلوكية”
الكاتب: محمد خير موسى
الناشر: كتاب سراي – إسطنبول
ط1 2020م
عن دار كتاب سراي في إسطنبول صدر كتاب القبيسيات الجذور الفكرية والمواقف السلوكية للكاتب محمد خير موسى، الذي يظهر أنه من أجواء الحالة الإسلامية بتنوعها ومطلّ على واقع القبيسيات عن قرب وعمق، إضافة إلى محاولته الجادة أن يستمع للكثيرات من المسؤولات عن الجماعة، إن صح التعبير بدءاً من الآنسة منيرة القبيسي حتى الآنسات المسؤولات حولها وصولاً لكثير من الطالبات.
بدأت الآنسة منيرة القبيسي مؤسسة جماعة القبيسيات من أجواء المشيخية الدمشقية التقليدية في ستينيات القرن الماضي التي كان لها مشايخها المميزين ومساجدها ومعاهدها الدينية. تتلمذت أو حضرت دروس عند الشيخ عبد الكريم الرفاعي في جامع زيد بدمشق، وكذلك عند الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وكذلك عند الشيخ أحمد كفتارو ومعهد الفتح التابع له وغيرهم كثير. استمرت منيرة القبيسي تنهل من هؤلاء المشايخ وتؤسس لها مساراً خاصاً بدأ يتبلور أولاً بأول من سبعينيات القرن الماضي. كانت طبيعة الدعوة الدينية السنية الأقرب فقهياً للمذهب الحنفي كما ينتمي أغلب شيوخ دمشق إلى الصوفية النقشبندية، والتي كانت محكومة باعتبار الحرص على التعليم الديني المنفصل بين أوساط الذكور والإناث سواء من منظور إسلامي لا يرى مبرراً للاختلاط إلا ضمن شروط شرعية مدروسة. وكذلك طبيعة السلطة البعثية التي تماهت مع حافظ الأسد بعد انقلابه عام 1970م وأصبحت سلطته مطلقة ومهيمنة على كل مفاصل الحياة السورية. حيث كان يرى أن أخطر المعارضات المستهدفة حكمه هو التيار الإسلامي، الذي لم يصمت على استلام البعث للسلطة ولا على بروز اللون الطائفي العلوي في مراكز القرار والفاعلية فيها خاصة الأمن والجيش، حيث تحرك التيار الجهادي الإسلامي ممثلاً بالطليعة المقاتلة باكراً ضد البعث والسلطة منذ الستينيات، وتصاعدت بعمل عسكري في سبعينيات القرن الماضي امتد إلى أواسط الثمانينيات، انتهى إلى استئصال الجهاديين نسبياً وتم تصفية جماعة الإخوان المسلمين تحت دعوى أنها متورطة بالعمل العنيف ضد النظام.
المهم ووسط هذه البيئة استمر عمل المشيخية السورية في المساجد وفي المعاهد الدينية، تحت عين النظام ومراقبته والتوافق معه. كان الكل يعتمد على التقية بالتعامل مع النظام، وبعضهم وصل إلى درجة الترويج له والدفاع عن أفعاله التي وصلت إلى درجة المذابح في حماة وحلب وجسر الشغور وسجن تدمر، وصل عدد الضحايا لعشرات الآلاف، كان الشيخ البوطي نموذجاً لفقهاء السلطان المبررين المذابح بحق الشعب السوري في ذلك الوقت.
في هذا المناخ وجدت جماعة القبيسيات وتنامت، أعلنت أنها لا تقترب من السياسة بالمطلق، قاصدة أن تهتم بالجانب الديني التربوي التعليمي الفقهي إضافة لتحفيظ القرآن للفتيات اللواتي نشطت منيرة القبيسي وتلميذاتها معهم.
لم يكن هناك أي تميّز في الدعوة الدينية عند القبيسيات قياساً على المشيخية الدمشقية والسورية عموماً، كما أوضحنا سابقاً. لكنها اختصت بالنشاط وسط الفتيات وفي المدن وبين الأثرياء واعتمدت على صناعة شبكة علاقات، تؤدي لخلق ترابط يؤدي للتزاوج وربط الآنسات والتلميذات مع الآنسة منيرة القبيسي وبين بعضهم بعضاً. اعتمدوا لسنوات على اللقاءات في بيوت بعضهم بعضاً. لم يكونوا بعيدين عن المتابعة الأمنية، وكان يراهم نظام الأسد الأب هم والمشيخات التقليدية البديل الأفضل والأمثل عن الإسلاميين الجهاديين والإخوان المسلمين.
لم يتغير تعامل النظام السوري في عهد بشار الأسد في التعامل مع القبيسيات عن زمن والده، رغم محاولته رفع الغطاء عنهم وتشويه صورتهم من خلال الدراما السورية التي سلطت الضوء عليهم وتجنّت عليهم وأظهرتهم بصورة سيئة، كما أجبرتهم السلطة على الانتقال في اجتماعاتهم من البيوت إلى المساجد ليكونوا تحت عين النظام ومخابراته. لكن حصول الثورة السورية في ربيع عام 2011م وعدم إظهار أي دعم علني للثورة من الآنسة منيرة وتلميذاتها ضمن شعار عدم التورط بالسياسة بأي شكل، هذا طبعاً لا يلغي وجود الكثير من التلميذات والطالبات اللواتي التحقن بالثورة بصورة فردية.
لذلك سرعان ما استدعى الأسد الابن المسؤولات وكثير من الطالبات للقاء معه وإظهار ولائهم المطلق له ولسلطته. واستمر هذا كل الوقت وأصبحْن جزءاً من المطبلين والمزمرين للنظام السوري رغم إجرامه بحق الشعب السوري عبر سنوات الثورة وما قبلها لعقود سلفت، وما يعني هذا من إساءة للإسلام حين يعتبرون متدينات ويدعمن النظام المستبد القاتل، وجعل هؤلاء الفتيات عن نية طيبة تابعات بشكل أعمى لمواقف آنساتهنّ الخانعات للنظام مع ما يعني ذلك من إساءة لأنفسهنّ وأهاليهن وللشعب السوري المظلوم كله.
هذه أغلب معالم الكتاب الذي قرأناه، حاولت أن أدخل بعض الإضافات في الحيز التاريخي السوري لفهم حالة القبيسيات وحتى الحالة الإسلامية بشكل أفضل.
وفي التعقيب على الكتاب أقول:
بداية لابد من توسيع دائرة المراجعة للتيار الإسلامي العربي والسوري خصوصاً أنه مازال أسير عقلية دينية تقتات على أصول تأسيسية وفقهية لم يدخلها التجديد والتحديث والمزاوجة مع تطورات العلم والعصر الذي حصل في القرون الأخيرة. بحيث جعل أغلب الحالة الإسلامية السورية متخلفة عن العصر وبالتالي وقعت وستقع بأخطاء كثيرة.
كذلك كانت مشكلة الحالة الإسلامية السورية انقسامها بين تيار جهادي رمزه الطليعة المقاتلة، والإخوان المسلمين الذين يميلون إلى الاعتدال وبين الإسلاميين المشيخيين والمتصوفة الذين يسكتون عن النظام وبعضهم ينطبق عليه صفة فقهاء السلطان ويبرر جرائمه مثل الشيخ البوطي.
إن الخطأ الأساسي عند الإسلاميين عموماً هو ربط الديني المقدس بالسياسي المتغير والمحكوم بالمصالح والتنوع والتعديل المستمر. إن إعطاء العامل السياسي حمولة المقدس الديني جعل الكثير من الناشطين يتورطون في سلوكهم العنفي فيكونون في بنية التنظيمات الجهادية التي أهدرت دم المسلمين مثل القاعدة وداعش كنموذج.
علينا أن ننتقل إلى وضع كل في مكانه ودوره: الدين في الوجدان والروح والسلوك الحسن والأخلاق والتراحم والإنصاف ومساعدة المظلوم. ونحيل السياسة إلى علم السياسة والاجتماع وضرورات الزمان والمكان وأن يكون الصالح العام هو البوصلة التي تحركنا.
إن تورط بعضهم بطرح أنفسهم ممثلين للإسلام سواء كانوا حركيين كالإخوان المسلمين أو داعش أو القاعدة أو المشيخيين الذين سكتوا عن ظلم النظام لعقود وكذلك الذين برروا له ومازالوا يبررون له جرائمه بحق الشعب السوري. كل ذلك جعلهم بما فعلوا ويفعلون حمولة تظلم الإسلام كدين والمسلمين كمؤمنين وتحملهم أخطاءهم دون وجه حق.
ينطبق القول ذاته على القبيسيات اللواتي لا تبرر لهم نياتهم الحسنة ولا حرصهن على دينهم كسلوك وشعائر أن يصلن إلى درجة تبجيل النظام ورئيسه: قتلة الشعب السوري. هذا ظلم يقع على الشعب، وإساءة للإسلام الذين يرفعون لواءه، الإسلام نصير الحق والعدل والحرية، الإسلام رمز الكرامة الإنسانية. لكل ذلك كان الأولى بالقبيسيات ألا ينشطن كجماعة في ظل دولة استبدادية ظالمة تستغلهم حتماً لمصلحتها وضد مصلحة القبيسيات وإسلامهم ومجتمعهم.
أخيراً هناك مراجعات كثيرة مطلوبة من التيار الإسلامي السوري ليضع ما للإسلام في موقعه وما للسياسة في موقعها، منعاً للخلط والاستخدام والإساءة.
إن الشعب السوري ومصيره وحياته الأفضل على المحك، الشعب الذي قدم مليون ضحية ومثلهم مصابين ومعاقين وشرد ثلاثة عشر مليون منهم في داخل سوريا وخارجها، ودُمّر أكثر من نصف سوريا بفعل النظام وحلفائه وأصبحت سوريا محتلة من روسيا وإيران والميليشيات الطائفية وأمريكا والميليشيات الكردية الانفصالية الـ (PYD).
الشعب السوري ضحية ما حصل وكلنا مسؤولون عمّا يجب أن يحصل.
————————–
“القبیسیّات” في سورية … النسوية الصوفية والتوظيف الأمني/ محمد علاء الدين
حفلت مواقع التواصل الاجتماعي، في الأیام الماضیة، بجدل كثیر، وما يشبه استنفاراً في صفوف مؤیدي الثورة السوریة، استنكاراً لمدائح علماء ومشايخ محسوبین على الصف الثوري (خصوصا منھم التیار الدمشقي)، بالتمجید، ولیس الاكتفاء بالترحم، في مراثیھم منیرة القبیسي مؤسّسة التیار الدیني النسوي الذي عرف لاحقاً باسم “القبیسیّات”، والتي توفیت یوم 26 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، متجاوزة التسعین عاما. ولا تتعلق أسباب الاستنفار بعقیدة دینیة، ولا لموقف معلن لرائدة التیار ومؤسسته، ولا من الفكرة التي قام علیھا، وراجت، حتى باتت ظاھرة تجاوزت حدود سوریة إلى دول متعدّدة، بل بسبب ما تلا ذلك من توظیف أمني من السلطة الحاكمة في سوریة لتیار القبیسیات، بعد قیام الثورة، وعلى نحو علني ومباشر إلى درجة مستفزّة، وھو ما خلت تلك المراثي من ذكره أو الإشارة إلیه، الأمر الذي أجّج حملة شدیدة ضدھم، ووضعھم في موقف حرج، كون معظمھم في رأس ھرم المجلس الإسلامي السوري الذي يعدّ مرجعیة دینیة في الصف الثوري.
الآنسة المؤسّسة
مؤسسة “تيار القبيسيات”، منيرة القبیسي، من موالید دمشق 1929، ومن أوائل خرّیجات جامعتھا، قسم العلوم الطبیعیة، وھو المجال الذي امتھنت التدریس فيه، إلى أن درست العلوم الشرعیة، وبدأت حركتھا الدعویة في صفوف النساء فقط، منذ مطلع ستینیات القرن العشرین وقبل سنوات من تسلم حافظ الأسد السلطة. وتركّز نشاطھا الدعوي، منذ البدایة، ضمن نساء الطبقة الغنیة والمیسورة، لما لھن من مكانة اجتماعیة وتأثیرٍ سیسھمان لاحقاً في تعزیز انتشار تیارھا ورسوخه، مع المقدرة على افتتاح المدارس الخاصة والمعاھد والجمعیات. لم یخل نشاطھا في أول عقدین من تضییقات أمنیة، وقد جرى توقیفھا عن عملھا في التدریس الحكومي، ما جعلھا تلجأ لجامع أبي النور الذي توسّع لاحقاً إلى مجمع دیني متعدّد الأنشطة، فوجدت فیه ملاذاً ودعماً لدعوتھا بمنحاھا الصوفي من أستاذھا الشیخ أحمد كفتارو، أحد أقطاب الطریقة النقشبندیة في دمشق، والذي تسلم منصب مفتي الجمھوریة عام 1964 مع تفرّد حزب البعث بالسلطة، ثم بات شدید القرب من حافظ الأسد، وبقي في منصبه، حتى وفاته في عھد الابن عام 2004. ولا يزال كثیر من أسرار الحركة وعمق العلاقة بین الشیخ والآنسة منيرة مثار تساؤلات، خصوصا مع طلب إحدى بناته إلیھا علنا الامتناع عن مقابلته، وھو ما كان حتى وفاته، حین استأذنت لحظات للخلو بجثمانه. وقد وجدت تأییداً لاحقاً بعد انتشار دعوتھا من تیارات دینیة دمشقیة عديدة ذات المنحى الصوفي، وتباریاً في نسبة حركتھا إلى طرق هذه التيارات ومدارسھا.
بقیت دعوة منیرة القبیسي تعتمد في انتشارھا على حلقات ضمن المنازل، ولیس في المساجد، وسیلازمھا لقب “الآنسة” باعتبارھا لم تتزوج، إضافة إلى أنه لقبٌ يُطلق، في دارج اللھجة الشامیة، على المعلمة أیضاً، وستغدو دعوة البقاء من دون زواج أسوة بـ”الآنسة” لزیادة التفرّغ للعبادة، على نحو یقارب الرھبنة في المسیحیة، مثار استحسان في الحركة، وإن لم تكن مطلباً لفریق القیادة من النساء و”الآنسات” اللواتي سیتولین نشر الدعوة، تركیزاً في البیوت المیسورة، ومن ثم توسعاً في صفوف النساء من الطبقتين، الوسطى والشعبیة، مع مقدرة على تقدیم الخدمات، لتیسیر أمور المریدات اللائي یتعاملن مع آنستھن بتبجیلٍ وطاعة شبه عمیاء، بل وباستحضار صورتھا قبل كل عبادة، كما في تعامل سائر أتباع الحركات الصوفیة
جوھر الدعوة وبدایات التسییس الخفي
ركزت مؤسسة الحركة جھدھا في العمل الدعوي بمنحاه الصوفي، القائم على العبادة المتبتلة بأورادھا وأذكارھا، تقرّباً للخالق والآخرة. وعلى الرغم من ابتعادھا عن جانب صوفي في الزھد الدنیوي، وتركیزھا على ضرورات التعلم والعمل وتقدیم الخدمة الاجتماعیة بشكلیھا، الخیري والتكافلي، وإن بقي ذلك في حدود منتسبات الحركة ومحیطھن الأقرب الذي سیغدو شریحة اجتماعیة واسعة، تتجاوز المدن الكبرى إلى الأریاف مع مطلع الألفیة الجدیدة، لیصل عدد المنتسبات للحركة إلى عشرات الآلاف (75 ألفاً في معظم التقدیرات). أما الجانب الأھم من منحاھا الصوفي، وعلى طریقة شیخھا كفتارو، فكان الابتعاد عن السیاسة ضرورة، وعبر فتوى “دینیة سیاسیة” تحرّم الخروج على الحاكم، مھما فسد وبغى وفعل. وھذا ما سیجعل السلطة في عھد حافظ الأسد تمیل إلى الإفادة المتدرّجة من الحركة وتیارھا.
بقیت الحركة غیر ملحوظة في الشارع السوري، ولیست ذات تأثیر في العمق الاجتماعي حتى مطلع تسعینیات القرن الماضي. وفي ھذا السیاق، أخالف ما رواه عضو مجلس الشعب السابق، محمد حبش، یوم وفاة منيرة القبيسي، في “تلفزیون سوریا”، وھو القریب منھا ومن أستاذھا كفتارو، إن الحركة بقیت تتعرض لمضایقات من السلطة، حتى بعد سنوات من تسلم بشار الأسد السلطة. والصحيح أن منتسباتھا صرن ظاھرة في الشارع السوري، وفي أكبر مدینتین، دمشق ثم حلب، منذ مطلع التسعینیات، بلباسھن الممیز بلونه الأزرق الكحلي والعقدة الخاصة بغطاء الرأس، ونشاطھن الدعوي غیر السرّي. وقد حاورت أكثر من منتسبة من طالبات جامعیات وخرّیجات بینھن طبیبة متخصصة. ما ھو جدیر بالتسجیل أنھن، ومع أدائهن دورا نھضويا على صعید التعلیم الأنثوي والعمل التكافلي، كنت أدھش لاستلاب إرادتھن وجعلھن “آنساتھن” في مراتب قدسیة، تخوّل الآنسة البتّ في مجمل قضایا من ھي أدنى درجة، حتى على صعد الارتباط والعلاقات الزوجیة والأسرویة وسواھا من العلاقات العاطفیة والاجتماعیة. ولم يكن ذلك الانتشار الملحوظ للحركة، ببعدھا الدیني، لیمرّ من تحت القبضة الأمنیة المتشدّدة، لولا تعلیمات علیا خاصة بعد الصراع الدامي للأسد ومنظومته أوائل الثمانینيات مع جماعة الإخوان المسلمین وطلیعتھا المقاتلة، والذي أوصل عقوبة الانتماء لـ”الإخوان” إلى الإعدام. ولعل الأسد، وبدراسات أمنیة، ونصحٍ من مفتیه، وجد في تیار القبیسیّات ما یمكن أن یُجرّب بالتدرج وتحت المراقبة، خصوصا أن لآنساته ومعظم مریداته من نساء متعلمات دور كبیر في التربیة والتنشئة، فكانت بدایة الانتشار والتوسع الأفقي الذي اتسع لیغدو ظاھرة، وإن بقیت مجالات حلقاتھا في بیوت ومكاتب عمل، لتغدو تلك الحركة النسویة الدینیة مضاھیةً تیارات صوفیة ذكوریة الطابع قدّم لھا الدعم على امتداد الساحة الجغرافیة السوریة من أقصاھا في الحسكة إلى البادیة والأریاف وكبریات المدن، وصولاً إلى قلب العاصمة دمشق. ولعل حافظ الأسد استفاد من تجربته التي أوصلته إلى الحكم، بتحالفه مع الطبقة الاقتصادیة الدمشقیة، مخالفاً نھج قائده صلاح جدید الذي أوغل، بعد وصول حزب البعث إلى الحكم، في تطبیق قرارات اشتراكیة الطابع، بعسف، فیما مال الأسد إلى احتواء المتنفذین الاقتصاديین في دمشق على وجه الخصوص، وبتحالف ضمني بأن یكون لھم الاقتصاد وله الحكم، وكما یفصل حنا بطاطو في كتابه “فلاحو سوریة”، لیستفید الأسد كل الاستفادة من العلاقة الدمشقیة التواشجیة بین اقتصادیّیھا ومشایخھا، فتخرُج المظاھرات المؤیدة لانقلابه ھاتفةً “طلبنا من ﷲ المدد .. بعثلنا حافظ الأسد”. ولا تخفى على المتأمل في الھتاف لمسته الصوفیة، والتي تحرّم الخروج على الحاكم التي یفتي بھا مفتیه شیخ الطریقة، كفتارو، والمحتوي تلمیذته الرائدة، الآنسة منیرة القبیسي.
لا نجد في كل ما تقدّم، وما سیلحق، من مسیرة الشیخة منیرة القبیسي، أي دلیل أو كلمة أو اتھام مباشر لتعاونھا مع السلطات، أو لأي تورّط مباشر في السیاسة، إذ بقیت، على الرغم من نشاطھا الدؤوب عبر عقود، بعیدة عن الأنظار ووسائل الإعلام. ویؤكّد محمد جمال طحان، في كتابه “داعیات وأدعیاء معاصرون” (منشورات المتوسط، ميلانو، 2015)، أن ندرةً من الذكور، وحتى المشایخ، تعرّفوا إلى تقاطیع وجھھا الأسمر وملامحھا التي تنم عن شخصیة قیادیة ذات عزم وإرادة ومنطق بلیغ یستند إلى أرضیة صلبة من حفظ القرآن الكریم ودرایة واسعة بعلوم فقھیة اكتسبتھا بالدراسة والدربة. ما یلفت النظر في الكتاب أن الباحث أشار، في معرض التعریف، إلى الحركة القبیسیة النسویة مقابلا نظیرا من حركات الإسلام السیاسي “الأخوات القبیسیات حركة إحیائیة دینیة نِسویّة، ربما ھي الأولى من نوعھا في العالم الإسلامي، فھي لا تضم في صفوفھا سوى الإناث، وذلك على خلاف معظم حركات الإسلام السیاسي التي تضم كلا الجنسین، وھي لیست مجرّد جمعیّة ولا مؤسسة نسویّة تدافع عن حقوق المرأة، ھي حركة إحیاء دیني غیر مسبوقة. ولھذه الحركة النسویّة دور إیجابي في تماسك المجتمع النسائي… خصوصاً وأن ھذه الحركة لھا موقف إیجابي جداً من العصر”. وبعد ھذه الإشارة التي تربط الحركة القبيسية بحركات الإسلام السیاسي، یعود إلى التساؤل بصریح العبارة: “… بعد أربعة عقود من انتشار الدعوة القبیسیة، ما یزال الخلاف قائماً حول: ھل تمثّل الأخوات القبیسیات. تنظیماً، أم جماعة دینیة نسویة إحیائیة فحسب؟”.
تنظیم دولي وتوظیف أمني
نما تنظیم حركة القبيسيات في السنوات العشر الأخیرة من عھد الأسد الأب وتوسّع، وزاد تعمقها العمودي في صلب الوسط النسائي لعائلات دمشق العریقة وبین نخب منھن، بل وبدأ في تمدّد خارج الحدود مع انضمام أمیرة جبریل، زوجة أحمد جبریل، الزعیم المؤسس للجبھة الشعبیة لتحرير فلسطين – القیادة العامة، فقد انتقلت، بعد فقدان ابنھا الأكبر، جھاد، من ضفة اليسار إلى حالة قریبة من التصوف، وعلى نحو أثّر حتى على التوجه المعلن للفصیل، تزامناً مع السقوط المدوي للمنظومة الاشتراكیة بزعامة الاتحاد السوفيیتي الذي كان قد تفكّك. وكان لانضمام أمیرة جبریل ونخب من سیدات المجتمع الدمشقي بنفوذ عائلاتھن، وعبر علاقات محلیة وخارج الحدود من دول الجوار وما ھو أبعد، وبحكم علاقات تزاوج ومصاھرات وعلاقات عمل تزایدت مع أسر مرموقة في دول عربیة، ومع انتشار الفضائیات وما تلاھا من ثورة معلوماتیة عبر المواقع الإلكترونیة وشبكات التواصل، كان لهذا كله أكبر الأثر في انتقال تأثیر حركة القبیسیّات من نطاقھا المحلي لتغدو، بعد مطلع الألفیة الجدیدة، وانتقال الحكم في سوریة توریثاً من الأب إلى الابن، أقرب إلى تنظیم دولي وصل إلى أوروبا والولایات المتحدة، وھو ما زاد نفوذھا الداخلي وقوتھا ودعمھا واستثماراتھا التي بلغت في دمشق وحدھا عشرات المؤسسات التعلیمیة الخاصة. وقد تعدلت قوانین التعلیم لتُفتح لھا الأبواب. ولم تمنع أقساطھا العالیة من تنافس أسر على إدخال أبنائها في هذه المؤساسات. كما لوحظ تنافس أكبر بین أقطاب زعامات التیارات الدینیة للتقرّب أكثر من الحركة القبیسیة ورائدتھا (الآنسة الكبرى) التي باتت لھا أیضاً أذرع نافذة من عشرات كبار الآنسات، صاحبات النفوذ، بحكم علاقات اجتماعیة واقتصادیة متشابكة.
وبقي التوظیف الأمني لتیار القبیسیّات مستتراً ومكتفیاً بشقّ التسییس غیر المباشر حتى اندلاع الثورة السوریة وزعزعتھا أركان حكم الأسد ومنظومته، فكشرت السلطة عن أنیابھا الدمویة لكل أذرعھا، وفي مقدمتھا المؤسسة الأمنیة، التي ما عاد یھمھا التخفي، فأطلت بفجاجة. یروي زاھر، ابن العلامة إحسان بعدراني، إن رئیس مكتب الأمن القومي، اللواء ھشام بختیار، هو الذي كان تعیین وزیر الأوقاف یتم باختیار منه، استدعى والده في العام 2012، طالباً منه تولّي الوزارة بثلاثة شروط، أولھا بالنص “إخراج القبیسیّات من أوكارھن” لیعملن في المساجد وجمیع المحافل على المؤازرة العلنیة للرئیس والجیش، وبأوامر أمنیة مباشرة واجبة التنفیذ، وھو ما قوبل برفض العلامة البعدراني. أیّاً كانت مصداقیة الروایة المتداولة، فإن ذلك ما حصل تماماً على أرض الواقع، إذ تم تطویع معظم “آنسات” حركة القبیسیات، وبدأن یظھرن في حفلات مصوّرة ومروّجة ینشدن على طاولات یعتلینھا وسط حرم المسجد الأموي الكبیر، بكل رمزیته في قلب العاصمة دمشق، ویتسابقن إلى عبارات التمجید للقائد، والتقاط الصور معه ومع وزرائه في اجتماعات تعقد خصیصاً لھن، وھو ما تمتلئ به وسائل التواصل حالیاً، وتتعمد المنظومة الأمنیة ترویجه في ھذا السیاق. لا بد من الإشارة إلى أن مؤسّسة الحركة الراحلة، منیرة القبیسي، لم یظھر لھا أي كلام مؤید أو رافض، ولا أي ذكر عبر وسائل إعلام النظام، بل اعتمد على كبار “الآنسات” النافذات في الحركة، واللواتي استجابت شریحتھن الكبرى، فیما قلة انسحبن، وحین صرن في مأمن، أدلین بشھاداتٍ عن جوانب خفیة في الحركة یضیق المجال عن ذكرھا.
وفي شھادته في “تلفزیون سوریا”، یوم رحیل الآنسة المؤسّسة، وبحكم قربه منھا، قال محمد حبش إنھا قبل اندلاع الثورة، اعتزلت الحیاة العامة، بحكم تجاوزھا الثمانین وأمراض الشیخوخة، وإنھا لم تقل أیة كلمة لمصلحة أي طرف، وھو ما یراه الرافضون لذلك الصمت أمام فظاعة الإجرام، تماھیاً مع سلطةٍ رعت تیّارھا، لتعرف كیف توظفه ومتى، عبر أذرع مؤسّستھا وآنساتھا اللواتي بتن مغرّدات في كل محافل تمجید السلطة. وقد تشابهت مراثي الراثین من علماء ومشايخ محسوبین على الثورة، ومعظمھم من أقطاب مرجعیات دینیة، وكأنما ھناك توافق بینھم، على الرغم من فجاءة الموت. وقد جاء الرفض الواسع لهذه المرثيات، في معظمه، لما تضمنته من إسراف في التمجید من غیر اكتفاء بترحم على الراحلین. وفیما ذھبت تحلیلاتٌ إلى أن للأمر علاقة بتقالید وعلاقات قربى ضمن ما غمز به من “تقالید دمشقیة ضمن السور”، وھي عبارة معروفة الأبعاد في سوریة. لكن الخشیة الأكبر والتحذیرات مضت إلى ما هو أخطر، ووصلت إلى اتھامات تیار مشیخي بأنه یرسل رسائل مبطنة عن استعداده لمصالحات تُطرح مع نظام ترفض الحاضنة الثوریة أیة طریقة لمھادنته، بعد كل ما ذاقته من فقدان ونزوح وتشرّد، فیما یستمر جدلٌ أقرب إلى السخط بشأن جمیع المؤسسات الثوریة التي فشلت في تحقیق أقلّ التطلعات، وفي مقدمتھا المؤسستان، السیاسیة والدینیة، وبتشكیك في الأداء والمرامي الخفیة، إن قبلت تنازلاتٍ تجعل كل التضحیات ھباء منثورا.
العربي الجديد
———————————–
رحلتي مع القبيسيات/ لمى راجح
خوفاً من نشوء وانتشار تنظيماتٍ إسلامية معادية له، شجّعَ النظام السوري قيام حركات إسلامية غير سياسية، وسمَحَ لبعض رجال الدين المقربين منه، أمثال المفتي السابق الشيخ أحمد كفتارو والشيخ سعيد رمضان البوطي، بإقامة حلقات خاصة بتدريس الدين الإسلامي ضمن المعاهد الشرعية والمساجد. ومن رحم تلك الحلقات أسَّسَت منيرة القبيسي تجمعاً عُرف باسم «القبيسيات» خلال فترة السبعينات، بدعمٍ من الشيخ كفتارو.
منذ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي، شهد المجتمع السوري نوعاً من المد الإسلامي المعتدل في أوساطه، حيث اكتظت المساجد بالمصليين ولا سيما يوم الجمعة، ومن فئة الشباب على وجه الخصوص، كما ازداد إقبال النساء والفتيات على الدروس والحلقات الخاصة بحفظ القرآن الكريم.
وربما كان للفساد الاقتصادي والسياسي دورٌ في تغذية التيارات الإسلامية التي توصف بالمعتدلة، بعدما قطع النظام السوري الطريق أمام أي انفتاح سياسي ولا سيما بعد محاربته لجماعة الإخوان المسلمين، ليجد الشباب فرصتهم للانخراط ضمن هذه التيارات.
كان التجمع محظوراً في سوريا، وتعرضت بعض عضواته للملاحقة والاعتقال، مثلما حدث مع الشيخة التي أشرفت على تدريسي العلوم الشرعية ضمن إحدى الحلقات، وظل الأمر كذلك حتى عام 2006؛ عندما رفع النظام السوري الحظر عنهن، شريطة أن تقام حلقاتهن ضمن ما يسمى المعاهد الشرعية في المساجد.
1.الطريقة النقشبندية: طريقة صوفية تنسب إلى مؤسسها الشيخ بهاء الدين أحمد بن محمد الشهير بـ «شاه نقشبندية»، واشتق اسمها منه، ومن ثم عُرِفَت به. وهي الطريقة الوحيدة التي تدّعي تتبع السلسلة الروحية المباشرة مع النبي محمد عليه الصلاة السلام. وقد تبنى الشيخ محمد أمين كفتارو لواء النقشبندية في دمشق، حيث قام بتأسيس نواة إصلاحية قوامها العلم الشرعي والطريقة النقشبندية في جامع أبي النور. كما قام الشيخ محمد بمهمة التربية الروحية، وتزكية النفس، واستقطب العديد من الناس. واعتبر أن التصوّفَ والتربية الروحية القرآنية وسيلةٌ لا غاية، وأنه أسلوبٌ تربوي يساعد المسلم على تزكية النفس وتطهير القلب وتقوية الإرادة.
2.كتب الشيخ أسامة السيد بحث مطولاً بعنوان «دراسة شامِلة عن التنظيم النسائي السرى الخطير لمنيرة قبيسى وأميرة جبريل وسحر حلبى وفادية الطباع وسعاد ميبر»، ونُشر هذا البحث عبر الانترنت، وتضمن تهجماً واضحاَ على جماعة القبيسيات واقتباسات وأقاويل نسبت لهن. كذلك تبنى علي بن نايف الشحود في كتابه «موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة» مهمة تكفير جماعة القبيسيات.
كما تعرضت القبيسيات لانتقادات عدة منها اتباعهن للمذهب النقشبندي1، وعقد حلقات الذكر والابتهال لله، وإنشاد الأغاني الدينية، والضرب على الدف، حيث اتهم بعض رجال الدين القبيسيات بالخروج عن مسار الدين الإسلامي الصحيح2.
استطاعت القبيسيات التواجد داخل المجتمع الدمشقي لا سيما ضمن طبقاته الغنية، وساعدهن في ذلك الطابع الإسلامي لدى بعض الأسر، بالإضافة لانتماء القيادات النسائية ضمن التجمع للعائلات المعروفة. كما اشتهرن بافتتاح عدد من المدارس الخاصة، وكأنما ذلك أحد الطرق في استهداف الأطفال وتعليمهم أصول العقيدة الإسلامية منذ الصغر، فتمكنَّ من خلال الشيخات المنتميات للطبقات الغنية في دمشق والمنخرطات في التجمع من ترخيص عدد من المدارس، وقد بلغ تعدادها وفقاً لما كتبه الشيخ محمد حبش في مقالة بعنوان القبيسيات… الملف المجهول مائتي مدرسة في سوريا، مما عبّد الطريق أمامهن لمزيد من التوسع والانتشار.
الحلقات ملح القبيسيات
3.المانطو: عبارة عن معطف طويل يغطي كامل جسم المرأة حتى كاحلها، وهو زي شامي مشهور في دمشق.
منذ أن كنتُ طفلةً ألِفتُ مظهر بعض نساء عائلتي، وبنات منطقتي، وكذلك العديد من النساء الدمشقيات، يرتدين الحجاب الأبيض أو الأزرق الذي يُربَطُ عند الذقن بإحكام، والمانطو3 الكحلي. ولم أفكر يوماً إن كان هذا النوع من الملابس يعبّر عن حالة إيديولوجية دينية معينة، أم أنها مجرد زي نابع عن عادات بعض النساء الدمشقيات في نمط ارتدائهن للثياب. كما اعتدتُ رؤية بعض قريباتي المنتميات للقبيسيات ينشطن بنشر الدعوة الإسلامية، مستهدفات بنات العائلات الدمشقية.
4.كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين: ألّفه الإمام يحيى بن شرف النووي الدمشقي، ويجمع في هذا الكتاب الأحاديث الصحيحة المروية عن الرسول محمد في جميع شؤون العقيدة والحياة، ويعرضها مرتبة في أبواب وفصول، لتكون موضوعات يسهل على القارئ العودة إليها والاستفادة منها. يضم الكتاب 1903 أحاديث مروية بسند مختصر يبدأ بالصحابي غالباً، وبالتابع نادراً، مقسمة على 372 فصلاً، وتم اعتماد الكتاب من قبل «الآنسات» ضمن الحلقات لسهولة دراسته على الطالبات، وكذلك لتضمينه شروحاً للكلمات غير واضحة المعاني.
لم أكن قد تجاوزتُ السابعة عندما انضممتُ مع قريباتي إلى حلقات دينية خاصة بالفتيات الصغيرات؛ حيث ارتأت زوجة عمي أنه من صالح الأعمال طلب العلم الديني والدنيوي، ولا سيما خلال فترة العطلة الصيفية. فجمعت بنات العائلة ضمن حلقة صغيرة؛ من أجل حفظ القرآن الكريم، وترتيله، وتفسيره، بالإضافة لتعليمنا أصول الفقه، وحفظ الأحاديث النبوية من خلال كتاب رياض الصالحين4، وإقامة أنشطة أخرى منها تقديم المسرحيات التي تناسب الأطفال، وترديد الأغاني الدينية. وقد تم لاحقاً ربط هذه الحلقة بمجموعة أخرى من الحلقات، تشرف القبيسيات على إدارتها.
عند التدقيق في هيكلية الحلقات، سنجد أنها تتألف من مجموعات تتولى كل شيخة إدارة إحداها، وتلقب الشيخة بـ «الخالة الكبيرة» ولها احترام كبير من قبل الطالبات وأسرهن. يأتي في مرتبة أقل منها مجموعة من المريدات، وكنا نناديهن أيضاً بـ «الخالة أو الآنسة»، ويتولين زمام قيادة الحلقات. ومن الشروط الواجب توفرها لتصبح المريدة مقربة من «الخالة الكبيرة» ومشرفة على إحدى الحلقات هو أقدميتها في الجماعة، وتمكنها من حفظ القرآن الكريم وتفسيره وتجويده، وأيضاً إلمامها بالعلوم الشرعية.
أما عن لون الحجاب الذي يضعنه؛ والذي يتدرج ما بين اللون الأبيض، والأزرق الفاتح، أو الغامق، فقد قيل إنه للتمييز بين الطالبات والمريدات حسب تراتبية مكانتهن في التجمع، حيث ترتدي المريدة الجديدة الحجاب الأبيض، بينما تضع «الآنسة» الحجاب الأزرق الفاتح، في حين ترتدي «الخالة الكبيرة» حجاباً أزرقاً غامقاً أو أسوداً، ولكنني لاحظت أيضاً خلال تواجدي معهن أن بعضهن ترتدين الحجاب الأزرق الغامق كتعبير عن اقتناعهن بالفكر القبيسي، وفقاً لما قالته لي إحدى «الآنسات»، وذلك بغض النظر عن مكانتهن في التجمع.
جرت العادة أن تجتمع جميع الحلقات بين الحين والآخر في أحد بيوت الطالبات أو «الآنسات»، أو في إحدى المزارع في ريف دمشق؛ إما بهدف إحياء المناسبات الدينية كالموالد النبوية، والابتهال لله وإقامة الصلوات، أو بدعوى الاحتفال بالفتيات اللواتي تمكنَّ من حفظ القرآن الكريم.
كنتُ أشغرُ بالغيرة من الطالبات الحافظات للقرآن الكريم، كطفلة تتطلع لإرضاء «آنساتها» في جوٍ مشحونٍ بالتنافس بين بنات الحلقات، اللواتي يحلمن بالفوز بلقب «حفظة القرآن الكريم». ورغم محاولاتي لإنهاء أجزاء من القرآن، غير أنني لم أفلح في ذلك؛ ربما لأن استيعابي الطفولي عن مفهوم الحلقة انحصر ضمن إطار التواجد مع بنات عمومي، ولم يعدُ الأمر بالنسبة لي سوى مجرد مكان اجتمع فيه مع قريباتي، ألعب معهن من خلال الأنشطة التي أقيمت لنا.
عندما نجحتُ إلى الصف السابع كانت جميع طالبات الحلقة، بما فيهن بنات العائلة، محجبات باستثنائي؛ حيث جرت العادة أن تقوم بعض الأسر بتحجيب بناتهن عند البلوغ، تماشياً مع المعتقدات الدينية، والأعراف الاجتماعية. ومن هذا المنطلق بدأت بذور التواطؤ العائلي تنمو أمامي، كشجرة صلبة، معتقداتها راسخة بأنه حان الوقت لكي أرتدي الحجاب، ولا سيما أنني أصبحت بالغة ومحاسبة عن أعمالي.
لم أكن أملك أي قرار أو تحكم باختياراتي، ووجدتُ نفسي عام 1996، أقفُ بين يدي «الخالة الكبيرة» ضمن احتفال أقيم خصيصاً لذلك، ووضَعَت لي حينها ما تُسمى «الأمطة»، وهي عبارة عن قطعة قماش بيضاء صغيرة توضع على الرأس، وتساعد في تماسك الحجاب وتمنع انزلاقه، ومن ثم وضَعَت لي حجاباً لونه أبيض يُربَط عند الذقن.
رضختُ لأوامر الخالة، وكذلك لأوامر عائلتي، وارتديتُ الحجاب. ولكن الظروف شاءت أن أخرج عن عباءتهن وأنخرطَ في بيئات مغايرة، حيث كان لصديقات المدرسة غير المحجبات والمنحدرات من عائلات دمشقية معتدلة، تأثيرٌ على طريقة تفكيري مما دفعني إلى عدم التسليم برغبة «الخالة الكبيرة»، والابتعاد رويداً رويداً عن الحلقات الدينية، حتى انقطعت علاقتي مع الحلقة التي بدأتُ معها بعد عامٍ واحدٍ على تحجبي.
خلال المرحلة الإعدادية التحقتُ بحلقة أخرى برفقة ابنة حارتي نور؛ التي كانت تستضيف الطالبات في بيتها في حي الميدان. لم أواظب كثيراً على الحضور والتواجد معهن، مقارنةً بما كنتُ عليه خلال المرحلة الابتدائية، لأبتعد نهائياً عن ما يسمى حلقات الدين خلال المرحلة الثانوية، ومن ثم أخلع الحجاب عام 2001.
العودة إلى حضن القبيسيات
5.اسم مستعار.
6.اسم مستعار.
شاءت الظروف خلال المرحلة الجامعية عام 2005 أن تعرّفني صديقتي ريم5 على الآنسة هبة6، ابنة إحدى العائلات الميدانية المعروفة، والتي ستصبح مقربة لي، ومشرفة عليَّ لاحقاً ضمن حلقات دينية جديدة لمدة ثلاث سنوات.
لم تعد الحلقات الدينية مجرد مكان للهو واللعب مثلما كانت عليه خلال تواجدي ضمن الحلقة الأولى، فقد أصبحتُ مدركةً لجوهر العقيدة الإسلامية، ووجدتُ فيها فرصةً لأداء صلاة الجماعة، وإحياء الشعائر الدينية، كما رأيتها وسيلةً للتقرب إلى الله من خلال تكوين مزيد من الفهم عن الدين الإسلامي، وهذا ما شجعني على العودة والانخراط في الدروس الدينية.
اعتادت الخالة هبة على إقامة درسٍ واحدٍ في الأسبوع في منزلها؛ تفتتح الدرس بالترحيب ببنات الحلقة، بعدها تبدأ بالدعاء والذكر، والصلاة على النبي محمد، ومن ثم تنتقل لصلب الدرس حول أصول الفقه، أو تفسير آيات القرآن الكريم، أو سرد سيرة أحد صحابة النبي محمد.
أما بالنسبة للخالة الكبيرة فكان دورها يأتي بعد أن تنهي الخالة هبة حصتها؛ لتتولى بدورها زمام الحديث عن أحد الأمور الفقهية، أو تستكمل ما بدأتُه الخالة هبة، وكذلك تقديم النصح والموعظة للبنات. وتختتم الجلسة كما بدأت بالتضرع لله والصلاة على النبي محمد، وأحياناً يتم إنشاد بعض الأغاني الدينية والضرب على الدف.
كان نمط العلاقات الاجتماعية الذي ساد بين بنات الحلقات ملفتاً للنظر، ولا سيما تلك التي تشرف عليها الخالة هبة؛ فالعلاقات الاجتماعية قامت على مبدأ الأخوية، أي أنهن جميعاً «أخوات في دين الله»، ومن واجبهن الديني أن يعاملن بعضهن باحترام ويدعمن بعضهن بعضاً. انعكس هذا النمط الاجتماعي أيضاً بين «الآنسات» والطالبات، حيث تمكنت الخالة هبة من بناء علاقات قوية مع الطالبات وأُسَرِهن من خلال زيارتهن والاطمئنان على أحوالهن، بالإضافة لمحاولتها الاستماع إلى مشاكلهن ومساعدتهن في حلّها.
كثيراً ما تم الحديث عن الطاعة العمياء للخالة الكبيرة، وهنا لا أستطيع أن أؤكد أنها عمياء بقدر ما كانت طاعةً تنم عن احترام المكانة التي تتمتع بها، مما جعل كلامها موضع ثقة لدى الطالبات، فالكثيرات منهن اعتدن على مشاورتها ومناقشتها في أمورهن الشخصية كالزواج والدراسة، إيماناً منهن بخبرتها الحياتية والدينية. هذه المكانة التي تتمتع بها الخالة الكبيرة جاءت نتيجة أقدميتها في التجمع، وتحصيلها العلمي والديني، وتقدمها في العمر.
غير أن ما أثار دهشتي هو اعتقاد الطالبات بمقدرات «الخالة الكبيرة» الروحية؛ فما زلتُ أذكرُ كلام إحداهن عندما قالت لي: «الخالة تستطيع قراءة أفكارنا…»، وحذرتني من تحدثي في سري عنها، لأنها ستسمع ما أقول، والغريب في الأمر أن باقي الطالبات أكّدنَ كلامها.
وكما اعتقدت الطالبات أن الله كشف الغيب عن «الخالة الكبيرة»؛ فقد اعتدن أن يشاورنها علّها ترشدهن لما سوف يأتي في الامتحانات النصفية والنهائية، حيث تقوم بإمساك المقررات المدرسية والجامعية، ومن ثم تغمض عينها وتتمتم بعض الآيات، لتفتح بعد ذلك تلك المقررات، وتحدد الفقرات التي سوف تأتي الأسئلة منها. حاولتُ لاحقاً مناقشة «الخالة الكبيرة» حول هذه المعتقدات التي وجدتها غريبة، ولكنني لم أجرؤ خوفاً من أن تغضب مني.
اليوم يزخر عالم التواصل الاجتماعي بصفحات و«فيديوهات» تتضمن معلومات غير صحيحة عن القبيسيات، من قبيل أن الطالبات يقبلن أقدام «الخالة الكبيرة»، ويتم إجبارهن على التذلل لها، كذلك ما قيل عن «الآنسات» من أنهن تمارسن السحر والشعوذة، وتعزفن عن الزواج، ولا تستقطبن سوى الفتيات الجميلات والنبيلات… إلخ. هذه الإشاعات تروّج أن المريدات والطالبات مسلوبات الإرادة، وجاهلات؛ وعلى العكس من ذلك فقد كانت بنات الحلقات طالبات و«آنسات» متعلمات ومثقفات وعاملات في الشأن العام، ومنهن متزوجات وذوات مكانة اجتماعية.
خلال شهر رمضان عام 2008 كنتُ مع الطالبات في بيت الخالة هبة لأداء صلاة التراويح، وبعدما انتهينا من الصلاة، أفضت «الخالة الكبيرة» لي عن نيتها تحجيبي؛ أخبرتُها أنني أحتاج بعض الوقت، غير أنها أصرّت على موقفها، معلنةً لبنات الحلقة وأُسَرِهِن، ويقدر عددهن بما لا يقل عن 60 امرأةً، عن رغبتها تلك، ليتجمعن حولي ويضعن لي «الأمطة» والحجاب الأبيض. حينها تذكرت المرة الأولى التي تم تحجيبي بها، وكم كانت المرة الأولى شبيهة بالمرة الثانية.
عدتُ إلى المنزل وقررتُ ألا أخضع لرغبة «الخالة الكبيرة»، غير أن العصيان لإرادتها كان معناه خروجي من الحلقة. ومع ذلك رفضت أن أضع الحجاب فقط لأنها ارتأت ذلك، ما اضطرني إلى الخروج من الحلقة، لتكون هذه الحادثة هي الأخيرة بيني وبين القبيسيات.
القبيسيات يتأرجحن بين حبال الدين والسياسة
بين الحين والآخر أقرأ تعليقات الناس وآراءهم عبر صفحات التواصل الاجتماعي، حول موقفهم من القبيسيات؛ وتحديداً بعد أن ظهرن عبر وسائل إعلام النظام السوري وهنَّ يجتمعن مع بشار الأسد ووزير أوقافه عام 2012.
منذ ذلك الوقت اعتلى البعض منبر الهجوم على القبيسيات، بينما تبنى البعض الآخر موقف الدفاع عنهن. وما بين هذا وذاك كثرت الشائعات عنهن، ولفَّ الغموض أهدافهن؛ وخاصةً بعد أن تعمد النظام السوري إظهارهن وكأنهن المدافعات عنه، والساكتات عن إجرامه بحق المدنيين. وكثرت التساؤلات حول ما إذا كان لهنَّ أي موقف سياسي؟ أم أنهن مجرد تيار ديني لا شأن له بالسياسية؟ كما نشر إعلام النظام السوري مقطعاً آخر للقبيسيات عام 2014، وهنَّ يعلنَّ تحت قبة المسجد الأموي في دمشق ولاءهن لبشار الأسد وتجديدهن البيعة له.
طوال فترة تواجدي مع القبيسيات، حرصنَ على أن تقام حلقات الذكر في أحد البيوت وبشكل سري خوفاً من الملاحقة الأمنية، حيث كان محظوراً عليهن التجمع في العلن. وكثيراً ما توارينا خلف الرموز عندما كنا نتحدث عبر الهاتف بهدف تحديد مكان ووقت انعقاد الحلقة، فما الذي دفع بالقبيسيات إلى إعلان التأييد للنظام السوري لاحقاً؟
حتى اليوم لا أستطيعُ أن أتخذ موقفاً واضحاً من جماعة القبيسيات، رغم ما أظهره إعلام النظام السوري عن تأييدهن له، ولكن لا بد من التوضيح أن كثيراً من النساء يرتدين الحجاب الأبيض والمانطو الكحلي دون أن يكن منتميات لجماعة القبيسيات، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نعمم ونقول إن جميع اللواتي ظهرن في الفيديوهات من القبيسيات مثلما روّجَ بعض الناس.
من جهة أخرى، ووفقاً لما قالته معاونة وزير الأوقاف سلمى عياش، فإن النظام السوري في عهد بشار الأسد «نقل العمل الديني النسائي من البيوت حيث الظلام والضبابية، إلى المساجد حيث النور والضبط»، ولربما قدّمت جماعة القبيسيات بعض التنازلات في سبيل العمل العلني، بعدما عملن لسنوات سراً. وسلمى عياش هي أول امرأة من الداعيات يتم تعيينها في منصب معاون وزير الأوقاف في سوريا، وذلك في ربيع عام 2014. كما أنه توجد بينهن مواليات للنظام السوري، منهن: خلود خادم سروجي، سوسن فلاحة، وأميرة جبريل، اللواتي قد يؤثرن على قرارات التجمع.
أيضاً لا بد من التطرق لتأثير العوامل الاقتصادية على التجمع، فعلى الرغم من أنه بات يستقطب جميع الفئات الاقتصادية، ولم يعد محصوراً ضمن الطبقة الغنية كما كان سابقاً، غير أنه ما زال مرتبطاً بعلاقات قوية مع التجار وأصحاب رؤوس الأموال في دمشق، حيث يقوم العديد من التجار بالتبرع للتجمع كزكاة أو صدقة، أو من خلال نسائهم وبناتهم المنخرطات في التجمع، وهؤلاء التجار تربطهم علاقات قوية مع النظام السوري مما سينعكس حتماً على موقف القبيسيات.
حتى اليوم لم يصدر أي تصريح رسمي من قبل القيادات في تجمع القبيسيات عن موقفهن مما يحدث في سوريا؛ وكأنهن لا يردن الانحياز لأي طرف سياسي، ويفضلن العمل في نشر الدعوة الإسلامية فقط. غير أن النظام السوري لم يتوانَ عن ترويج أنه مدعومٌ من قبل القبيسيات، ليوصل إلى العالم رسالة مفادها أنه الراعي للحركات الإسلامية الأقرب للاعتدال وأهل السنة في دمشق.
في النهاية، كما توجد قبيسيات مؤيدات للنظام السوري، توجد بالمقابل أخريات معاديات له، حيث لم ينجُ التجمع من الانشقاق والتفرقة في الآراء، كما لم يسلم من أن يكون جزءاً من لعبة النظام السوري السياسية.
ثماني سنوات مضت منذ أن غادرتُ القبيسيات، مرّت كما لو أنني ما زلت معهن، فبين الحين والآخر أسترجعُ أجواء الدروس والرحلات التي قضيتها مع بنات الحلقة، وكلام «الخالة الكبيرة» عندما كانت تمازحني في كل درس وتقول: «تعي قعدي جنبي… لا تبعدي عني…».
وعلى الرغم من تعرض القبيسيات لكثير من الأقاويل، فإنني لستُ بصدد الدفاع أو الهجوم عليهن، حتى ولو اختلفتُ معهن، فالاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية كما يقال، إذ أقدّر العلوم الدينية التي تلقيتها على أيديهن، والسنوات التي قضيتها مع «آنساتي» والطالبات.
حاولتُ منذ فترة أن أطمئن على أحوال «الخالة الكبيرة» والخالة هبة، وقد وردتني أنباء أنهن ما زلن يعشنَ في دمشق، ويعملنَ في نشر الدعوة الإسلامية، غير أنني لم أفلح في الاطمئنان على بنات الحلقة رغم محاولاتي المتكررة لمعرفة أحوالهن.
موقع الجمهورية
—————————–
===================