مقالات سينمائية

في مديح الكاميرا ولغتها الكثيفة: ليست مجرّد آلة!/ محمد بنعزيز

تعلن شركات الاتصالات حاليًا عن تسويق هواتف بثلاث كاميرات بعضها بجودة 4K… ويتسابق الزبائن للتسلح بهذه الآلة الصغيرة. ويعرف قاموس السرديات الكاميرا بأنها “إحدى التقنيات التي يتم بها تسجيل الأحداث ونقلها وكأننا أمام آلة تسجيل محايدة” (1). صار التسجيل مستمرًا وصار جسد الإنسان ونمط حياته معروضًا أمام عشر كاميرات على الأقل في كل متر مربع لأن كل شخص مسلح بثلاث كاميرات في اليد… ثلاث كاميرات في الكف وهذا أفضل حالًا من كاميرا في حجم شجرة كما في فيلم “رجل مع كاميرا” (1929) من إخراج الأوكراني دزيغا فيتروف. فيلم من زمن كانت فيه الكاميرا آلة نادرة. والآن صارت الآلة الصغيرة في كل مكان، بأقل الأثمان وأصغر الأحجام. ثلاث كاميرات في اليد. فما أثر شيوع الكاميرا الآن؟ كيف تخلق الكاميرا تأثيرًا بصريًا؟ كيف تجعل الكاميرا فعل الأكل في كل سيلفي ممتعًا أو بشعًا؟ ما هو الموقع من حيثما تلاحظ الكاميرا الحدث؟ وأي دلالة تترتب على ذلك؟ من يستطيع تفسير الصور؟

تتلصص الكاميرا يوميًا على حياة الناس سواء كان الأمر إراديًا أو لا. وغالبًا ما يقع شِجار إذا انتبه الشخص المُصَّور لوجود مَن يصوره. لا تخجل الكاميرا من تلصصها على الآخرين… وغالبًا ما تكون النساء هن ضحايا كاميرات وقحة تصور وتخزن وتبث. النتيجة: صارت كل لحظات المتعة والاحتفال والنميمة والشوق والحماقات التي كانت عابرة في حياة البشر مخلدة بعد شيوع الكاميرا التي صارت أكثر انتشارًا من الأقلام. وكل لحظات الفرح والبكاء التي كانت فردية شخصية حميمية تتبدّد صارت علنية خالدة مبثوثة على مواقع التواصل الاجتماعي.

لم يسبق للإنسان أن كان مكشوفًا أمام نفسه كما هو اليوم. بقبول هذا الانكشاف والتعايش معه، يقع تحول اجتماعي تحديثي هائل. تنتصر ذهنية المديني المتبرجز المهووس بعرض نرجسيته على ذهنية الفلاح المحافظة المحبة “للستر”… تقدم مواقع التواصل الاجتماعي عينة ساخنة لما يتم تصويره. لا يمكن اتهام الكاميرا على ما تصوره من جمال وفن أو وقاحة. هذا محتوى لم تخترعه الآلة. الكاميرا تصوّر وتخزن والبشر ينشرون صورًا وفيديوهات قد تصير أدلة إثبات في المحاكم وقد تصنع فضائح أخلاقية فتضع أيديولوجية الدولة والمجتمع والفرد في موضع عرض ونقد.

لقد ابتلعت آلة الهاتف عشرات الآلات، صار مُنبّها وبوْصلة وبريدًا وكاميرا وحقيبة ملفات ومعجمًا ومصباحًا وجهاز تسجيل ومذياعًا. كل هذه التكنولوجيا هي عامل تغيير اجتماعي وسياسي. حسب كارل ماركس “التكنولوجيا أكبر وأوسع من مجرد آلة”. ولهذا تأثير هائل في إخراج البشر من عزلتهم.

حاليًا صار كل فرد يكتب سيرته الذاتية والجماعية بالصّور. كل عام تكشف له مواقع التواصل الاجتماعي صورته الأكثر إثارة للإعجاب… كل صورة وذكرى بألف كلمة. يقول مارتن هايدغر “ليست التقنية وسيلة فحسب، بل هي نمط من الانكشاف… مجال الانكشاف، أي مجال الحقيقة” (2). 

حاليًا تتكشّف الحقائق بالصور. التواصل اللساني يتراجع والتواصل المرئي يسيطر… كان طلب القدامى هو “شنّف أسماعي بما يفيد” فصار الطلب حاليًا هو “متع عيني بما يستحق أن يُرى”، ولهذا تأثير على التعليم.

إن اللغة هي مفتاح المدرسة، بينما الصورة هي مفتاح مواقع التواصل الاجتماعي. توجد هوة مهولة بين المدرسين التقليديين الذين يعتبرون اللغة وسيلة التواصل الوحيدة والمتعلمين صغار السن الذين يتواصلون بأيقونات مواقع التواصل الاجتماعي. إن اللغة والكتب أقل تشويقًا لأن الكاميرا – التي تخاطب العين – هي أفضل من يَصف ويَسرد ويُؤرخ ويعرض الماضي بطريقة فنية مشوقة.

صحيح أن الحضارة البشرية بدأت بالكتابة بالأشياء التي تدل على ما تقدمه. كانت الكتابة الهيروغليفية بالصور كونية تقرأ بالعَين وغير قابلة للنقل للأذن. ثم جاءت الحروف الأبجدية التي تعبر عن ما لا تُشبهه لأن العلاقة بين الكلمات والأشياء اعتباطية. إن حروف الأبجدية تقرأ وتترجم ليصل المعنى إلى أذن المتلقي في لغته الخاصة، بينما كل صورة تخبر عن نفسها ولا تحتاج شرحًا إلا إن لم يعرف ملتقطها المكان الصحيح للوقوف ليكون المشهد مكتملًا. لا تطمئن النفس إلا برؤية الحقيقة دون فوتو شوب. في عالم الصور يسمى تزوير الحقيقة: فوتو شوب.

توجد فوارق بين السجل اللغوي والسجل البصري في تحليل الخطاب. كانت الصورة تعبر عن أصلها ثم جاء الحرف ليعبر عن الصوت. تم استبدال الصورة بالصوت… بعد ستة آلاف سنة تستعيد الأيقونة والصورة مجدها. تهيمن الكاميرا في زمن الموت السريري للقراءة. جاءت الكاميرا لتصور الأشياء التي تدل على ما تقدمه. لري العطش للصور”يقدم الوسيط المرئي للعين سبعة أضعاف المعلومات التي تتلقاها الأذن” (3) وهذا ثراء لا مثيل له.

كل صورة هي وجبة دسمة للعين. هكذا وفرت التكنولوجيا تواصلًا بصريًا كونيًا غير مسبوق بين البشر. بحسب رولان بارت “الصورة أكثر ضرورة من الكتابة، لأنها تفرض الدلالة دفعة واحدة دون أن تقوم بتحليلها أو بعثرتها” (4) وقد صارت الصّور أكثر قوة، وهي تتتابع وتحكي على شاشة السينما.

تنشر الكاميرات اللغة السينماتوغرافية. يعرف روبير بريسون (1901-1999) الإخراج بـ”أن تجعل الكاميرا ترى الفيلم كما تراه أنت في عقلك”. بفضل الاستخدام اليومي للكاميرا صار الفرد المصوّر يتفنن، يدرك العلاقة بين الفضاء والنظرة، لذلك يختار بدقة أين سيضع الكاميرا وكيف سيقف أمامها وما هي الخلفية الفضاية التي يريدها أن تظهر… بفضل انتشار طائرة (الدرون) كثرت الأفلام التي تحتوي مشاهد كاميرا تُحلق وتحدّق كنسر، كما في فيلم “المغرب نظرة من السماء” (2017) للمصور والمخرج يان أرتو برتران الذي قدم لقطات من موقع رؤية ذكي، لقطات تعرض تنوعا بصريًا هائلًا لشواطئ المغرب التي تمتد على 3500 كم.

الكاميرا جهاز ينتج صورًا خامًا تتكلم وتخبر بالحقيقة. صارت الكاميرا، وهي آلة، وسيلة وفعالية إنسانية تتعامل مع الوجود. هذا زمن مجد العين، مجد الكاميرا. كان جل المتفرجين (88966 شخصًا) في نهائي مونديال قطر 2022 بين فرنسا والأرجنتين يحملون كاميرات ليوثقوا الحدث التاريخي في حياتهم. إن مهمة الكاميرا هي إنتاج بلاغة بصرية.

على الكاميرا وضع الجوهري في قلب الصورة، لكن دون حياد. قد تكون الكاميرا في موقع يوحي بعظمة الشخصية وقد تكون في موقع يوحي بدونيتها. بهذا الشكل تستولي الكاميرا على موقع وسيط سابق.

يعرف قاموس السرديات الكاميرا نقلًا عن بطل رواية يقول “أنا كاميرا مفتوحة المصراع، سلبي تمامًا، أسجل ولا أفكر” (5)، هذا ادعاء حياد مشكوك فيه. ولكل موقع كاميرا رسالة ومعنى. يقول تودوروف “كل وصف يقدمه السارد يشمل تقويما أخلاقيًا” (6)، كذلك حال الكاميرا.

إن الكاميرا وسيط جديد يتجاوز الوسائط السابقة.

تنشر الكاميرات اللغة السينماتوغرافية. مع تعود كل مواطن على التقاط الصور من مواقع مختلفة ينتقل إلى العمل على الإضاءة ودرجات اللون… هكذا يتعلم، بالممارسة، الكادراج وفيزياء الألوان في علاقتها بالضوء.

يمكن للكاميرا أن ترمش كما في الحلقة خمسة من سلسلة فرويد (2020، على نيتفليكس، إخراج مارفن كرين). عندما ترمش الشخصية تظلم الشاشة. هناك تماهي الكاميرا وعين الشخصية. وقد يحلم أحد المتفرجين في فيلم “تيتانيك” (1997، لجيمس كاميرون) بأنه يغرف أو يحلم مشاهد بأن رمحًا في فيلم ساموراي ياباني يقصد عينه… في علم السينما “يحظى تارانتينو بالتقدير لأنه يلعب بالوسيط السينمائي” (7) أي بالكاميرا. يظهر هذا التلاعب في موقع الكاميرا أيضًا في فيلم “اثنا عشر رجلًا غاضبًا” (1957) حين خصص المخرج سيدني لوميت عدسة لتصوير كل شخصية لكي يجعل عوالمها مختلفة عمن حولها. كانت الكاميرا عامل تنوع.

إن كل فيلم هو حكاية على طبق من صور. يعمل الناقد السينمائي على هذا الطبق المرئي والمسموع. النقد السينمائي هو تعامل مع موضوع مرئي سجلته الكاميرا.

في السينما الكاميرا هي الراوي الذي يتوقع وينتقي ويوجّه… في الفوتوغرافيا تقف الكاميرا من الجانب الآخر للمشهد الذي تصوره، في السينما تستعير الكاميرا عين الشخصية فتقفز معها في السماء وتصطدم معها بصخرة وتغرق معها في بحر وتُقبر معها في حفرة… هكذا تجسد الكاميرا الرؤية الذاتية… مهمة الناقد السينمائي هي رصد هذه الأساليب الفنية وتفسيرها.

الكاميرا ليست مجرد آلة. يمكن القول إنها وسيلة لصوغ شكل التواصل في الحياة الإنسانية.

هوامش:

(1) برنس جيرالد: قاموس السرديات، ترجمة السيد إمام، دار ميريت، ط. 1، القاهرة 2003. ص 28.

(2) مارتن هيدغر: التقنية- الحقيقة- الوجود، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، ص53.

(3) مجموعة مو: بحث في العلامة المرئية من أجل بلاغة الصورة، ترجمة سمر محمد سعد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، ص 81.

(4)  رولان بارت: أسطوريات، ترجمة توفيق قريرة، منشورات الجمل، بيروت، 2018، ص 227.

(5) برنس جيرالد: قاموس السرديات، م. م. ص27.

(6) تزفيتان تودوروف: “مقولات السرد الأدبي”، في كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، ترجمة ح بحراوي، ب قمري، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط. 1، الرباط 1992. ص. 64.

(7)  كين دانسايجر: فكرة الإخراج السينمائي، كيف تصبح مخرجًا عظيمًا؟، ترجمة أحمد يوسف، المركر القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2009. ص 84.

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button