هنا سوريا… الحياة تحت بطانية UNHCR/ أنجيلا السهوي
تحزنني حقيقة أنهم لم يستطيعوا اختيار لونٍ أكثر بهجة للبطانية، أقلّ حيادية، يذكّرني الرمادي بأنني مولودة في إحدى دول العالم الثالث، ماذا لو أنهم يوزعون بطانيات ملونة؟
لا عيد في جرمانا الواقعة في العاصمة دمشق، لا زينة في الشوارع أو خلف النوافذ، لا وقود، لا مدافئ، عطلٌ رسمية بسبب فقدان الوقود، شلل عام وفتورٌ في إيقاع الحياة، بردٌ قارسٌ يقصُّ الحجر والبشر، لا شيء أمامي سوى البطانية، بطانية الإعانة الرمادية تحديداً، المطبوع عليها لوغو UNHCR، تلك التي تجدها في كل منزل سوري اليوم، باستثناء من حالفهم الحظ ولم يتضرروا جراء الأزمة، أو من لم يحالفهم الحظ في الحصول على سلّة إعانة داخلها بطانية دافئة.
أحبُّ هذه البطانية، فهي دافئة، مصممة للأزمات والأخطار، وحالات الطوارئ، اعتقد أنه لم يخطر للأمم المتحدة أن هذه البطانية ستصبح جزءاً من أثاثِ منزل أحدهم، وعندما ينتقل من بيت الى آخر سيحرص على الاحتفاظ بها. في كل حال، أصبحت الشعارات الخاصة بالأمم المتحدة جزءاً من النسيج البصري في البيوت والشوارع الشعبية في سوريا، فشعار برنامج الغذاء العالمي مطبوعٌ على عبوات الزيت وأكياس المؤونة التي تباع على البسطات، كما أن الشوادر تحمل شعار مفوضية شؤون اللاجئين. أحياء كاملة تغطيها تلك الشوادر، وكأن الأحياء باتت جزءاً من إعانة أكبر، ملصقات إعلانية على باصات النقل الداخلي، مساعدة من الصين، وهدايا من اليابان، مدرّعات روسيّة على سبيل المثال، الكثير من الشعارات الأممية احتلّت الهوية البصرية في شوارعنا، من الطبيعي جداً حدوث ذلك ولكن ليس من الطبيعي أبداً أن نشعر نحن السوريين بالولاء لهذه الشعارات، أو حتى بالحنين إليها!
تحزنني حقيقة أنهم لم يستطيعوا اختيار لونٍ أكثر بهجة للبطانية، أقلّ حيادية، يذكّرني الرمادي بأنني مولودة في إحدى دول العالم الثالث، ماذا لو أنهم يوزعون بطانيات ملونة؟ تبعث في نفوسنا بعض التشجيع، على سبيل المثال البرتقالي للحماسة، الأصفر للأمل، الأزرق للسلام، أو ربما القليل من الزركشة، بعض الزهور المنثورة على الرمادي الباهت كتلك التي تزين بطانياتنا محليّة الصنع، لكن لا، إنها وصمة أخرى، رسائل مبطّنة، مؤامرة يحيكها خيالنا التعيس، كختمٍ لن يزول.
وهكذا باتت جميع منازلنا ملونة بالرمادي، بلون حيادي بغيض، لا لون لنا، لا قرار، ولا حيلة لنا. للحقيقة إنني مفتونة بالتعاطف الدولي مع أزمتنا، 12 عاماً من العطاء الذي لا يتوقف، أو على الأقلّ ما يظهر منه على شاشات التلفزيون والجرائد والمواقع الالكترونية، 12 عاماً حتى اليوم، لا غبار على هذا العطف، إعانات بمليارات الدولارات وصلت الى سوريا، سواء على شكل أموال أو حصص غذائية، للصغار والكبار، تشمل كل احتياجات الإنسان اليومية، بطاريات للإنارة، أطعمة أساسية، بطانيات، شوادر، كهربائيات، حقائب، قسائم… والكثير الكثير!
لا غبار على سلال المعونات، بل جبل من الغبار فقط في أفواه المسؤولين عنها، البنك المركزي، المؤسسات “غير الربحية”، الأفراد على الكراسي الجلدية الدوارة، المنظمات “الإنسانية”، الكثير من الغبار عليهم، وكلما فتحوا أفواههم أقسم أن عواصف رملية تخرج منها، فتغرق عيوننا بالدمع والحسرات، ولا عزاء لنا سوى شرب المتة أو الشاي، نسارع بشُربها قبل أن تبرد، ستدفئ جوفنا البارد الجائع، ندثّر أنفسنا بالبطانية الرمادية، فيما نسمع الأخبار، نتصفح الانستغرام، لنشاهد سوريا التي لسنا جزءاً منها، سوريا المالكي وأبو رمانة، سوريا “الانفرتر” وخطوط الكهرباء المسروقة وربما سوريا الساعتين بـ4 من الكهرباء، وحدهم السوريون سيفهمون هذا.
تحت البطانية الرمادية أنت وحيد، لا تملك سوى الأحبة، أو من تبقى منهم، أو أصدقائك في الخارج الذين يرسلون لك الهدايا والدعوات في أن تسافر إليهم في العيد المقبل، هم حزانى أيضاً، وحيدون في المهجر، حزانى على أهلهم وهم يتقدمون في العمر ويعتاشون على الـ100 دولار أميركي شهريّاً، والتي تتضاعف قيمتها مع تضاعف سعر الصرف، بالمقابل تعيسٌ من لا يملك طريقاً إلى السوق السوداء ويعتمد على شركات الحوالة الرسمية.
وبينما لا أزال تحت البطانية، يتناقص اصدقائي شيئاً فشيئاً، يتهافتون على أبواب السفارات، وامتحانات “التوفل” و”الغوته”، ويبكون حين يأتيهم رفض ولا يتوقفون عن المحاولة، أما أنا فبدأت أفقد الأمل في المحاولة، لماذا؟ هل تنقصني هزائم جديدة؟ ببساطة لن أحاول!
أيام الدراسة تمضي في كلية الفنون الجميلة وسط دمشق، بينما اشتغل المشروع الجديد على CANVAS القديم (الكانفس تعني القماش المشدود على إطار اللوحة الخشبي)، رسمت أربعة مشاريع على لوحة واحدة، أغطيها بالأبيض وأعمل، أطمُس وأرسم من جديد. راودتني في الفترة الأخيرة فكرةُ لوحةٍ أساسها بطانية الإعانة، ستحكي هذه اللوحة عن علاقتنا مع الإعانات، كلاجئين ضمن أوطاننا، كغرباء حيث ولدنا، سأرسم عليها الألوان التي اشتهيت أن تحملها، وقد أجد في هذا النسيج وسيطاً يشرح علاقتي معها بوصفها فكرة، ولكن ما جعلني أمتنع عن التنفيذ نهائياً أنني خشيتُ ألا أستطيع الحصول على بطانية أخرى، وحتى لو حصلت على بطانياتٍ أخرى، لن أقوى على اضاعتها لأجل معرض رسم، يلفت أنظار البرجوازيين، فيشفقون على من تدثر بها، يصفقون لإبداعي، يشترونها بأبخس الأثمان، يجعلون منها شمّاعة للإنسانية المدّعاة، وبعد انتهاء المسرحية، أعود الى مسكني ومعي ثلاثون من فضة بعتُ فيها قلبي لمن لا يستحقّ، لأمكث في البرد وحدي دون غطاء. حريٌّ بهذه البطانيات أن توزع على الفقراء، وحري بكل فنٍّ يحكي عن الفقر والبؤس والظلم أن يُحرق أمام أقدام الفقراء والبائسين، وهكذا ستتحقق العدالة، سأكتب أعظم أفكاري حتى لو كنت تحت غطاء الإعانة.
ينصحني الأساتذة في الجامعة بالاحتفاظ بلوحاتي فهي أرشيف لي، ولكن كيف لي أن أفكر في المستقبل! أي أرشيف هذا وأنا أنهي اللوحة في يوم أو يومين، بلون واحد أو لونين، بأدنى التكاليف! أي مستقبل هذا الذي سأحكي فيه عن أرشيفي وقد أسافر قريباً ولا أحمل معي سوى حقيبة صغيرة! أي مستقبل هذا وأنا متدثرة ببطانيتي العزيزة، مفتقدة لأبسط حقوقي، أي أرشيف سأرغب بتذكّره و عقلي يحاول أن ينسى بعد حينٍ كيف كنت أعيش أثناء تكوينه؟
الوقت يمضي ببطء على من ينتظر أو كما يقال (a watched pot never boils)، هذا ما يحدث، أنا الإبريق الآن، والجميع يراقبني من الخارج، ينتظر اللحظة التي سأغلي فيها، سأنعم بالدفء، سأعمل، سأذهب وارجع، سأجني الأموال، سأغير حياتي وحياة من أحب ولكنني تحت البطانية الرمادية، المكتوب عليها بالبنط العريض UNHCR.
درج