صفحات الحوار

إكرام أنطاكي: القَدَمُ والخطوة

إكرام فتاة مجازفة. غامرت كثيرًا وكتبت كثيرًا. دخلت في روح النصِّ، ودخلت في روح المكان، ودخلت في روح الزمان. هاجرت من سوريا منذ عشرين عامًا إلى المكسيك، وعادت حاملة معها تقاليد وكتبًا وتجربة في وسعها أن تغيِّرنا كثيرًا. لذا نعتذر قبل أن نبدأ ونعدِّد بعضًا من الأعمال البارزة لإكرام أنطاكي: هنالك، أولاً، “مغامرات حنَّا المعافى حتى موته” هذا الديوان الذي من الصعب جدًّا نسيانه، الذي عَبَرَ الحدود فعلاً؛ وعبوره كان مؤثرًا وفعالاً وحاسمًا في القصيدة كمطلق. ومثله كانت مجموعتها “مغامرات حنَّا في التاريخ”، وهو عمل آخر. ثم كان “ثقافة العرب” وهي دراسة حازت إكرام فيها على الجائزة الوطنية للأدب الهامة جدًّا في المكسيك. ثم كان “سرُّ الإله” (رواية)؛ “الحريق” (ديوان شعر) وغيرها مجموعة كبيرة من الأعمال في حدود الـ13 عملا حتى تاريخه، ومن ضمنها عمل له علاقة بالعمارة الإسلامية لأن إكرام أنطاكي، على ما يبدو، امرأة متعددة جدًّا، وموهوبة جدًّا، ومؤثرة جدًّا.

الجديد: لا أعرف من أين سنبدأ. لنقل، نبدأ من إكرام “حنَّا المعافى حتى موته”.

إكرام أنطاكي: كلا، نبدأ من حيث نحن الآن.

الجديد: الآن، ثم نعود إلى الوراء.

إكرام أنطاكي: ثم نعود إلى الوراء. لقد أضحى لي الآن عشرون سنة في المكسيك، أنجزت خلالها 13 كتابًا، من بينها 5 دواوين شعرية، 6 أبحاث، وروايتان. وحاليًّا أعمل على كتابين، أحدهما بحث والثاني رواية. مما يعني – وأريد قوله – أنه قد مضى وقتٌ طويل منذ أن بدأت أعمل وأعيش من نتاج عملي ككاتبة محترفة. في العام 1989، حين حصلت على الجائزة الوطنية المكسيكية للأدب، تركتُ التعليم الجامعي، وتفرغت بشكل كامل للكتابة، التي إلى جانبها أعمل أيضًا في الإذاعة وأيضًا في التلفزيون، كما تعمل أنت. ومن حين إلى آخر، أكتب مقالاً للصحافة. أنا لست صحافية، لكنِّني أكتب مقالات صحافية.

ولديَّ برنامج إذاعي يدعى “مأدبة أفلاطون”  وهو عبارة عن برنامج ثقافي أتحدث فيه عن الثقافة والفلسفة والعلم، وأطرح فيه آراءً. لا أقدم في هذا البرنامج مقابلات، إنما أتحدث أنا.

الجديد: عمَّ تتحدثين؟

إكرام أنطاكي: أتحدث عمَّا يخطر ببالي.

الجديد: مثلاً؟

إكرام أنطاكي: مثلاً، قدمت حلقة حول الماسونية، وحلقة أخرى عن سقراط، وأخرى عن منجزات علم الفلك، أمور كثيرة. حلقة عن أفكار ميكيافيلِّي.

عفوًا، أنا هنا أريد الاعتذار، قبل كلِّ شيء، على لغتي وكلامي بالعربية. لقد تبهدلتْ كثيرًا خلال هذه السنين.

الجديد: ما زالت ممتازة!

إكرام أنطاكي: هناك، في المكسيك، أنا لا أتكلَّم العربية، ولا أقرأ العربية. ثم هذه هي المرة الأولى التي أعود فيها إلى سوريا بعد عشرين عامًا من الغياب. وأنا عائدة الآن لبضعة أيام فقط؛ عائدة لأصفِّي حساباتي مع روحي.

الجديد: كيف يمكننا أن نصفِّي حساباتنا مع أرواحنا؟ تحدثنا عن البرنامج؛ وهو، على ما يبدو، برنامج ذو طابع فلسفي واضح، مما يعني نزوعًا فلسفيًّا لإنسانة هي إكرام أنطاكي، كانت أستاذة أنثروبولوجيا، كما هي شاعرة. أي أنك، في نفس الوقت، شاعرة، وباحثة في علم الشعوب أو الأقوام، وفي نفس الوقت أيضًا، تحملين شهادة في الفلسفة.

إكرام أنطاكي: أنا، آه…

الجديد: ميولك كثيرة. لكن، على الرغم من هذا الكلام، أنت جئتِ إلى دمشق لتصفِّي حساباتك مع نفسك. إنه لأمر صعب جدًّا أن يتسلل المرء إلى نفسه. لذا، تعالي سوية ندخل حتى نهاية أنفسنا ونصفِّي حساباتِنا معها.

إكرام أنطاكي: أنظر. هناك تعبير جميل جدًّا للفيلسوف الفرنسي ميشيل سير. إنه تعريف غير إيماني لفكرة إيمانية هي “الروح”، حيث يقول ما معناه أن “الروح هي هذه الطريق التي تقطعها بين ولادتك وبين موتك”. عندما تلد، تكون روحك هي ما أعطتك إياه الطبيعة؛ ثم تُضاف إليها جميع المخاطر التي تعرضتَ لها. وهذه المخاطر، حتى نهاية الطريق، هي ما يكوِّن روحَك. أي أن ما يكوِّن روحك، هو خبراتك، بالإضافة إلى ما أُعطيتَ إياه في البداية. فنحن نتعلَّم من الكتب، كما نتعلم من الآلام.

الجديد: الألم بمعنى… الوجع؟

إكرام أنطاكي: نعم الألم. فنحن نتعلَّم من تكبُّر العلم ومن تواضع العذاب. إذ أن هذا الخطر الذي على الطريق – طريق حياتك – هو ما يكوِّن روحك. وهذا، بالنسبة إليّ، كان جزء منه في سوريا، في هذه المدينة، دمشق، بشكل خاص، هذه المدينة التي عشتُ فيها شبابي، لأني غادرت من هنا في أواخر… لا، أنا لم أعد أعيش هنا منذ العام 1969 حين ذهبت إلى باريس للدراسة. درست هناك من العام 1969 وحتى 1975. ثم، في أواخر 1975، ذهبت نهائيًّا إلى المكسيك. مما يعني، في الواقع، أني لم أعش في سوريا فعليًّا منذ العام 1969؛ كما لم تعد لي أيّ علاقة جسدية بها منذ العام 1975. لكن هذا الجزء من حياتي في بداياتها، الذي قضيته هنا، هو جزء من روحي. وهذا الجزء هو الذي عدت لأصفِّي حساباتي معه.

الجديد: تعالي إذن لنتحدث عن هذا الجزء الذي هو أول جزء.

إكرام أنطاكي: هذا هو الجزء الأول حيث كانت هناك بنيَّة طيبة، ذكية مبدئيًّا، وثائرة جدًّا. أرادتْ، في حينه، أن تحطِّم كلَّ ما أعطوها إياه. ثم لاحظتْ، بعد وقت طويل، أنها حطَّمتْ أمورًا لم يكن من المفروض أن تحطِّمها لأنها جيدة. بمعنى، أنني كنت ولدًا دعيًّا بأنه يعرف ويفهم أكثر من جميع الذين سبقوه في تاريخ الإنسانية. ويعتقد بأنه سيصحِّح كلَّ ما تم خلال هذا التاريخ. ثم اكتشف، وقد تجاوز من العمر الأربعين،  وهو يواجه أمامه، في بيته، ولدًا ثائرًا آخر.

الجديد: الذي هو ابنك؟

إكرام أنطاكي: الذي هو ابني. الذي وقف أمامي ونظر إليَّ مدَّعيًا أنه يعرف أكثر من جميع الذين سبقوه في تاريخ الإنسانية، وأنه سيصلح جميع الأمور غير الصحيحة التي صنعتها الإنسانية قبله. عندها، فهمت، أخيرًا، أنه قد سبق لي أن مررت أنا على نفس هذا الطريق.

لكن، لما كان هذا ليس صحيحًا؛ لما كانت، كما سبق وقال غاليليو، “ما زالت تدور”، فقد جاء الآن من جديد من يأخذ دوري! لذلك، أنا الآن أحاسب هذه الطفلة التي كانت تعيش هنا.

الجديد: وهذه البنيَّة التي جئتِ لتصفِّي حساباتِك معها كانت “عليمة بكلِّ شيء”، شيء بمعنى مرحلة هي مرحلة مطلع السبعينات؛ مرحلة كانت مرحلة التساؤل الكبير لتمرُّد كبير. حينئذٍ كان جيل بكامله يتمرد؛ كان عالم بكامله مُقبِلا على السؤال. ولم تكن هناك حينئذٍ إجابات ناجزة. وحتى الآن، ليست هناك إجابات ناجزة، لأن الدنيا، كما يبدو من تاريخها، إن أمست فيها إجابات ناجزة، أصبحت مقابر ناجزة. أنا أعتقد بأن الإجابة تعني المقبرة. السؤال هو الحياة!

فهذه البنيَّة التي تساءلت، في حينه، وقدَّمتْ ملامح تجربة بَدَتْ وكأنها استثنائية، لماذا أنت تريدين تصفية حساباتك معها؟ تعالي نتحدث عن هذه البنت التي تريدين تصفية حساباتك معها.

إكرام أنطاكي: أنظر. ما قُدِّمَ لهذه البنت لم يكن شيئًا سيئًا على الإطلاق. فقط هي لم تكن حينئذٍ تعلم أنه لم يكن سيئًا، حيث لم يكن الفكر الذي أعطي لها ضئيلاً، ولا الكرم شحيحًا، ولا النبل قصيرًا. ولأن ما بحثتْ عنه لم يكن أكبر من الذي تركتْه. فقط أنا لم أكن أعرف هذا.

أنا أتيت من أسرة فيها كتب. استغليتُ أكبر نتاج عدم العدالة في العالم، الذي هو وجود طفل في بيت فيه كتب وفيه فكر، من دون أن يكون له أيُّ فضل في اكتساب ذلك. وكان هذا ما أُعطيتُه. أنا جئت من أسرة بورجوازية، حيث أُعطيتُ مدارسَ وجامعاتٍ وإمكانية التفكير. وهي أمور كبيرة لم أقدِّرها حينئذٍ حقَّ قدرها، حتى اكتشفتُ ما يعنيه الظلمُ الاجتماعي الحقيقي. لأن الظلم الاجتماعي الحقيقي ليس فقط ألاّ يكون عندك المأكل والمشرب، إنما ألاّ تكون لديك إمكانية الاتصال بالكتب وبالفكر. أنا أرى الآن أن ما أعطيه لابني من فكر وكتب، ما سيلحظ بعد فترة قد تطول أنه أخذه من بيته، إنما هو ثروة كبيرة جدًّا. وهذه الثروة لم تكن هناك ضرورة للثورة عليها. وإن ثرنا عليها، فلم يكن من الضروري لهذه الثورة أن تطول فترة طويلة. كما لم يكن من الضروري أن نقول ما قلناه في “الثورة”، التي أعطيناها مفهومًا رومانتيكيًّا مقابل ذلك الاحتقار الذي تعامَلْنا فيه مع مفهوم أو كلمة “محافظة”. هنالك نبل في مفهوم المحافظة لم أكتشفه إلا مؤخرًا ، إذ أن الإنسان لم يتطور كثيرًا منذ هبط من على الشجرة؛ استطاع أن يكتسب فقط بعض الأمور القليلة التي جعلت منه، إلى حدٍّ ما، إنسانًا: كأن يتوقف الرجل عن ضرب المرأة؛ أو ألاّ يستغل الكبار عمل الصغار وجهدهم؛ أو أن يصنع الإنسان بضعة أبنية، أو بضعة كتب، أو بضع لوحات، أو بضع قطع موسيقية، وهي أمور يجب أن نحافظ عليها، كما يجب أن نحافظ على مكارم الأخلاق وعلى بعض تلك الأشياء النبيلة التي اكتسبتْها الإنسانية خلال قرون. فكلمة “محافظة” هي إذن كلمة نبيلة جدًّا. وأنا لم أكن أعرف هذا في حينه. وهذه هي بعض الحسابات القديمة.

ثم إنه ليست هناك فقط كلمة “حسابات”. أنا ربما قلت هذه الكلمة بشكل سريع؛ وأنت أصررت عليها. إنما هناك أيضًا قيمة كبيرة للمحبة. وهذه لم أكتشفها إلا بعد سنوات طويلة. حين كنَّا صغارًا، لم نكن نعطي لهذه المحبة قيمتها. كنَّا نعرف كلّ شيء ونحاسب العالم كلَّه. كنَّا حكامًا على العالم كلِّه، وعلى الناس، وعلى الأفكار. كنَّا نريد أن نصحِّح كلَّ شيء. أنا أرى اليوم هذه الأشياء من الماضي بعينين مختلفتين، من خلال هذه الروح التي تراكمتْ لديَّ؛ من خلال طريق الألم والولد والكتب والانكسار والارتفاع. كل ما مضى، وأصبح له، بالنسبة إليّ، عمرٌ يقارب الثلاثين عامًا.

الجديد: إكرام، أنت طلعت من سوريا بنتًا صغيرة.

إكرام أنطاكي: نعم، طلعت وذهبت إلى باريس.

الجديد: عشتِ الزمن.

إكرام أنطاكي: نعم عشتُ الزمن.

الجديد: وعشتِ المكان بتنوعاته. إكرام أنطاكي طلعت من دمشق… جابَتْ أفريقيا. ما أعرفه – ولست متأكدًا من صحَّة معلوماتي – أن إكرام قطعت مسافات هائلة على أقدامها.

إكرام أنطاكي: أنا عشت فترة طويلة في دمشق، ثم في باريس حيث درستُ، ثم في المكسيك حيث عشتُ أطول فترة. هناك تزوجتُ وعملتُ، وكتبتُ كتبًا، وأنجبتُ طفلي. معظم كتبي كتبتُها في المكسيك. والمسافة التي قطعتُها كانت طويلة جدًا. لكن، أتعلم، يا نبيل، أنه بعد سنٍّ معين، لا تعود الأمور الهامة تحصل في الخارج إنما في داخلنا، بما معناه أنه إذا صار بوسعك أن تضعني اليوم في أيّ مكان فإن هذا لن يغير من الأمر شيئًا؛ لأن ما هو مهم بالنسبة إليّ أضحى يتم في داخلي.

الجديد: لقد أصبحنا نحن المحتوين للأشياء المهمة.

إكرام أنطاكي: نعم، في تلك الأيام [فيما مضى]، كان المكان والمسافة مهمين. الآن أنا أعلم أن ما أقطعه من مسافة أصبح في داخلي. أنا أعرف أني امرأة حرة. لكني أعرف أن حريتي هي أفضل أنواع الحرية، هي تلك التي لا نعمل بها شيئًا: أنت تعرف أنك حرٌّ، ولا تتحرك من مكانك. إن الذي لا يعرف ما هي الحرية يعتقد أنها الأشياء التي يقوم بها من خلالها، بمعنى أنك تخرج كثيرًا، وتشرب كثيرًا، وتتحرك كثيرًا، وتشاغب كثيرًا، وتتكلَّم كثيرًا. هذه ليست الحرية؛ هذه هي الفوضى chaos. الحرية الحقيقية هي تلك التي لا تُستعمَل. حين تكون متأكدًا أنك حرٌّ، لا تجد ضرورة لأن تبرهن على ذلك، لأنك تعلم أنك حر. أنا أبقى في منزلي لثلاثة أسابيع ولا أبرحه؛ وأنا أكثر حرية من جميع المشاغبين الذين في الشارع. لكن هذا لم أفهمه إلا بعد ثلاثين عامًا. إنها الحياة. حين لا تعود هناك حاجة لا للمسافات، ولا للناس، ولا للضوضاء. لقد أصبحت الحرية داخلية.

الجديد: وهذه نقلة جوهرية، حصلتْ في مفاهيم إكرام أنطاكي الفتاة التي كانت ذات يوم مشاغبة ومثيرة للضجيج.

إكرام أنطاكي: نعم، كانت تتكلَّم كثيرًا، تصيح كثيرًا، تحتك بأناس كثيرين، وتخطئ كثيرًا.

الجديد: وبعد هذا أصبحت إكرام التي تتعاطى مع الحرية بذاتها ولذاتها.

إكرام أنطاكي: نعم، لأنه لم تعد هناك ضرورة.

الجديد: التي لا تستعير أدواتها من الخارج…

إكرام أنطاكي: لم تعد هناك ضرورة لأن تتحرك.

الجديد: هي الحركة، يا ست إكرام، تمارَس باللغة، وبالنص، وفوق الوقت أيضًا.

الحرية، كما تمارَس بالصمت، تمارَس بالحركة؛ وكما تمارَس بالحركة، تمارَس باللغة؛ وكما تمارَس باللغة، تمارَس بلغة النص. إكرام أنطاكي لقد عملتِ في الرواية.

إكرام أنطاكي: أنا صنعت كتبًا.

الجديد: والرواية..

إكرام أنطاكي: ليس فقط رواية يا نبيل، ليس فقط رواية. أنا صنعت كتبًا. كانت أداتي هي الكلمات التي هي الأداة الأكثر هشاشة في العالم. بمعنى: لو كانت أداتي المعرفية هي الرياضيات كانت هذه أكثر ثباتًا؛ ولو كانت الفيزياء لكانت أيضًا أكثر ثباتًا. أنا أداتي “الكلمة”: هي الأداة الأكثر هشاشة، لأن الكلمة تتحرك. لأن معناها قد يختلف بيني وبينك؛ في هذه المسافة التي قد لا تتجاوز الثلاثين سنتمترًا يختلف معناها. نفس الجملة، أنت تفهمها بشكل، وأنا أفهمها بشكل. اللغة العربية، خلال 20 عامًا – فارق جيل واحد – تتغير فيها معاني الكلمات وطريقة الكلام، لأن اللغة شيء حيٌّ؛ وبالتالي فهي شيء ليس بثابت. ورغم هذا، هي أداتي؛ وبالتالي، أنا أكتب كتبًا. حين أحتاج إلى الشعر، أكتب شعرًا؛ وحين أحتاج إلى الرواية، أكتب روايةً؛ وحين أحتاج إلى البحث، أكتب بحثًا، لأنه ليس من الأهمية بمكان أن أثبت بأني راوية أو شاعرة أو باحثة. أنا أكتب كتبًا: ما بوسعي أن أقدمه؛ أكتب ما أنا في حاجة إليه.

الجديد: معنى هذا الكلام أن اللغة ضاقت على إكرام أنطاكي. هل أفهم هذا؟

إكرام أنطاكي: لا. هذا معناه أن اللغة ليست هي المهمة إنما المهم هو المعرفة. وهذا شيء اكتشفه قبلي الإغريق. لا بل اكتشفه الجميع. لكنني لم أكن على علم بذلك. لم أكن أعلم أن الكلَّ اكتشفه قبلي.

الجديد: أي لأنه نحن عندنا وهم بأن….

إكرام أنطاكي: نحن سنفعل كلَّ شيء. نحن أشطر من الجميع. لكن، فيما بعد، نكتشف ونفهم قليلاً، لأنه بوسعنا أن نقرأ ولأنه لدينا بعض الكتب في المنزل. نفهم ما هي تلك الأتاراكسيا (ataraxia) [“راحة النفس” في الفلسفة الرواقية] التي كان يتحدث عنها الإغريق؛ ونفهم ما عملوه في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ونتعرف إلى ما قاله أفلاطون، وما قاله أمباذوقليس؛ وما قاله الجميع قبلنا. نحن لم نكتشف شيئًا.

الجديد: لكن أفلاطون، بالمناسبة…

إكرام أنطاكي: اللغة، دعني أكمل…

الجديد: أيضًا أفلاطون لم يكتشف شيئًا، إنما هو نتاج تراكم مَن سبقه. كما أنت تراكمين لمن سيأتي بعدك.

إكرام أنطاكي: نعم.

الجديد: لكن دعينا لا نتواضع كثيرًا.

إكرام أنطاكي: ليست القضية قضية تواضع.

الجديد: لأنه تكون هناك مشكلة إن نحن قلَّلنا من شأن أنفسنا. تكون هناك مشكلة.

إكرام أنطاكي: لا توجد هناك أيّ مشكلة. فالكبرياء الحقيقية هي التواضع. أنا أعرف ما هو دوري الذي لا يستطيع أيُّ إنسان على هذه الأرض أن يلعبه. كما أعرف أيضًا أنه حتى الإنسانية ليس لها دور كبير. بمعنى أن العلم، حتى هذه الساعة، مازال يقول إن الإنسان لم يكن هذا الشيء الضروري لتطور المادة. فقط هو موجود، وهو يتألم؛ وهذا دوره. لقد أصبحت أفهم هذا بشكل أفضل. لقد أصبحت أفهم هذا الألم بشكل أفضل،  وهذا هو المهم. ودوري أنا هو أن أعمل ما ينبغي عليَّ أن أعمله. أنا أعمل ما عليَّ. هذا ضميري. وهذه كبريائي. لكن، فقط إلى هذا الحدِّ. لا يهمني بعد هذا إن كان ما أفعله سيبقى أو لن يبقى. لا يهمني حتى كونه سيُفهَم أو لا يُفهَم. المهم، بالنسبة إليّ، هو أن أعمله فقط لأنه من واجبي أن أعمله. بالمناسبة، الأميركان، الذين ليس لديهم فلاسفة كبار، لديهم عبارة جميلة جدًّا تقول ما معناه إن “على المرء أن يفعل ما عليه أن يفعل”** – فقط!

الجديد: إنها جملة لشكسبير.

إكرام أنطاكي: إنها جملة جميلة جدًّا.

الجديد: إنها لشكسبير وليس للأميركان. ما ينبغي فعله، يجب فعله عندما ينبغي. وفقط!

إكرام أنطاكي: وفقط… وفقط… بمعنى أنك، حين تصل إلى الحكمة، تعرف ما هو دورك. ولا مكان هنا لادِّعاء شخصي. تفهم أنك فريد ولا شبيه لك. لكنك، في نفس الوقت، تفهم أن هذا ليس بالأمر الكبير جدًّا. ما هو كبير هو هذا القليل من المحبة والتعاطف الذي نحمله. وهذا، بشكل أساسي، ما قالتْه كلُّ الأديان وكلُّ الفلسفات. ما عبَّر عنه العمل الروحي للبشرية جمعاء خلال مئات القرون. أنت جزء منه. هذا ما يجعلك كبيرًا، وهذه كبرياؤك. وأنا جزء من هذا. مما يعني أنْ ليس مهمًّا إلى أين سيصل هذا الكتاب. في آخر كتاب لي “روح قرطبة” هناك فيلسوفان يتناقشان. ليس في هذا الكتاب أيّ مغامرات، ولا أيّ حركة، ولا أيّ إضافات من أيِّ نوع كان. فقط هناك فيلسوفان يتناقشان: أحدهما هو ابن رشد، والثاني هو ابن ميمون. وهما يتناقشان ويصفِّيان حساباتهما. في هذا الكتاب يقول ابن رشد لابن ميمون “ليس مهمًّا مَن يقرأ الكتاب. ليس مهمًّا كم سيفهمونه. أنا أشبه المعادلة الرياضية. هي موجودة في الكون، والناس لا يحلُّون لغزها. الرياضيات والأرقام موجودة في الكون وستبقى، وإن لم يفهمها الناس. نحن لم نخترع الرياضيات، إنما هي جزء من قانون السماء”. نفس الشيء بالنسبة إلى الكتاب. ما أقوم به أنا، تلك الأفكار التي أحاول اكتشافها ببطء، شيء أكبر منِّي؛ أنا جزء منها، وليست هي جزءًا منِّي فقط، سواء فُهِمَتْ أم لم تُفهَم؛ أو حصل وبيع الكتاب أو لم يُبَعْ؛ أو اعتُرِفَ بي أم لم يُعتَرَف؛ أو أُهِنْتُ أو لم أُهَنْ… جميع هذه الأمور ليست بالمهمة. المهم هو الطريق؛ وليس المهم إلى أين ستصل.

كان هناك شاعر يوناني من أوائل القرن يدعى كافافي؛ ولهذا الشاعر قصيدة جميلة جدًّا بعنوان “الطريق إلى إيثاكا” – وإيثاكا هي هذه المدينة – الجزيرة التي يخوض أوذيسيوس مغامراته في البحر للعودة إليها؛ يخوض كلَّ هذه المغامرات والأخطار ليصل في النهاية إلى إيثاكا التي هي، في النهاية، جزيرة صخرية قاحلة وقبيحة. وفي نهاية قصيدته يطلب الشاعر ألاّ تُحاسَب إيثاكا على قبحها، أو على كونها ليست جميلة، لأن المهم كان طريق الوصول إليها. هو هذا الطريق.

الجديد: ووصلتْ إكرام أنطاكي إلى إيثاكا. وطريقها هو طريق الحكمة أو المعرفة أو المفاهيم. هذا هو المهم. المهم هو الطريق، وليس إيثاكا. ماشي الحال. على هذا الطريق مرَّت إكرام أنطاكي بمجموعة من التجارب المهمة بشكل مؤكد، والتي شكَّلت إكرام، بمعنى أننا نتشكل بالحركة أولاً. ثم كانت المفاهيم التي ابتدأت تحيط بنا أو نحيط بها، تكبر بالنسبة إلينا أو نكبر بالنسبة إليها. هنالك أحيانًا مفاهيم أقوى منَّا: هناك نوع من المفاهيم تشعر وكأنه ليس بوسعك استيعابها، إنما هي التي تستوعبك في داخلك، وكأنك، بالتالي، أنت محتويها. وأين إكرام من هذه التجربة؟ أنا أركز قليلاً على الرواية، لأن الرواية ربما تكون هي نحن، أكثر من أيِّ شيء آخر.

إكرام أنطاكي: وممكن الشعر أكثر؛ وممكن البحث يكون أكثر، كلُّه نفس الشيء. بمعنى: نحن لسنا كالجامبون تقطِّعنا قطعًا. أنت البحث، وأنت الرواية، وأنت الشعر؛ وأنت الحياة العادية؛ وأنت هذا البكاء الذي بكيتَه؛ وأنت هذه الفترة من السنة التي لم تكتب خلالها أيَّ حرف؛ وأنت هذه السفرة التي قمت بها، ولِمَ كان قرار سفرك الآن، وليس بالأمس أو غدًا؛ أنت هذه الطريقة التي تحيا بها، وهذا الكلام الذي تعبِّر من خلاله؛ أنت هذا الصوت الذي أضحى منخفضًا بعد أن كان عاليًا؛ أنت هذه النظرة التي أضحت منخفضة بعد أن كانت “منفجرة”، أنت كلُّ هذا. وأنت أيضًا جزء من مسيرة البشر، وجزء من هذه الآلام.

الجديد: وبهذه المسيرة قطعنا مسافة ما بين “حنَّا المعافى حتى موته”، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.

إكرام أنطاكي: وما بين علم الأنثروبولوجيا، أنا مثلاً نادمة الآن على علم الأقوام. على فكرة، الدكتوراه التي أخذتُها كانت في علم الأنثروبولوجيا. بعد هذا كان إحساسي أنِّي أضعت وقتي في علم الأقوام. بعدها درست الفلسفة؛ والفلسفة قادتْني، بشكل طبيعي، إلى علم الفلك، مثل الفلاسفة القدماء كانوا جميعًا علماء رياضيات وفلك. إذن، أوصلتْني الفلسفة إلى ما نسميه اليوم بالأستروفيزياء. وانتسبت إلى كلية العلوم، وكان عمري يومذاك 37 سنة. انتسبتُ إلى كلِّية العلوم [في المكسيك]، وكان إلى جانبي على مقاعد الدراسة في الـInstituto، في معهد علم الفلك، “أولاد صغار” عمرهم في حدود الـ17 سنة، أي أصغر منِّي في حدود 20 سنة. انتسبتُ إلى هذا المعهد وقلت لأساتذتي يومذاك أني جئت لأتعلم منهم قوانين السماء. ولم أكن بفعلتي هذه أجدد شيئًا، لأننا، إن استعدنا الفلاسفة القدماء، كُلاً على حدة، لوجدنا أنهم جميعًا كانوا علماء فلك. مع التأكيد هنا، طبعًا، أنه ليس بوسعك، وقد أصبح عمرك 37 سنة، أن تصير عالم فلك. الفرق بين العالم والأديب هو أن الأديب لا يصبح أديبًا قبل الأربعين؛ بينما العالم يصبح عالمًا وهو في العشرين. إن وقتنا نحن الأدباء وقت طويل؛ أما وقت العلم فهو وقت الشباب. لذلك حين أصل إلى العلم وعمري قد تجاوز الـ37 سنة فإن هذا ليس بالطريق الطبيعي. وأنا أعلم أني، في هذا المجال، لن أعطي شيئًا. ودوري هنا أشبه بدور العشيقة التي لا تنجب أطفالاً، إنما فقط تحب، بمعنى أن علاقتي مع العلم لن تعطي أيَّ نسل، إنما ستكون فقط هي حب العلم. وقد أتيت إلى العلم بفضل الفلسفة؛ وهذا أصبح اليوم مبرر حياتي. أنا أعرف أنه، على الأقل منذ 5 سنوات وحتى هذا اليوم، أضحت المتعة الأساسية في حياتي هي متعة المعرفة. إنها ليست لذة الحياة العادية. وهذا الأمر لم أكن أعرفه حين كنت ابنة العشرين. أنا أعرف أن ليس بوسع الإنسان أن يكون سعيدًا. ولكن، قطعًا، هناك في حياة الإنسان لحظات سعادة عميقة جدًّا، شبه إلهية، قريبة من الدين، من دون أن يكون فيها أيُّ شيء ديني. في العشرين من عمري لم أكن أعرف لذة المعرفة. لقد انتظرتُ حتى أصبحت في الأربعين لأتعرف إليها. إنها متعة ليس بوسع ابن العشرين عامًا أن يتعرف إليها. عليه أن يسير طريقًا طويلاً إلى إيثاكا ليتعرف إليها.

الجديد: ولم تصل إكرام بعدُ، بدليل أنها ما زالت تبحث، وما زالت تتعرف، وما زالت تتساءل. وبعد هذا كلِّه، ها هي ذي تأتي لتحاسب نفسها! أنت جئتِ لتحاسبي إكرام أنطاكي المشاغبة والمشاكسة التي كان عندها، في لحظة من اللحظات، خطابٌ مثير جدًّا حول الدولة والمجتمع والأسرة، وتفكيك المجتمع، وتفكيك الأسرة. وها هي ذي الآن امرأة تدعو دعوة صريحة تمامًا للحفاظ على المجتمع؛ تدعو لكلمة “محافظة”. تصوري هذه المسافة! لذلك، قبل الدخول في المفاهيم، لم لا نتحدث قليلاً عن بعض التفاصيل الشخصية. ما بين “مغامرات حنَّا المعافى حتى موته” وبين “روح قرطبة” مسافة في الزمان والمكان والمعرفة والمفاهيم.

إكرام أنطاكي: لم أكن هنالك.. عشرون سنة بين الكتابين.

الجديد: أنا معك، عشرون سنة. أنا بوسعي أن أقول…

إكرام أنطاكي: لم أكن أكثر من هذا بكثير…

الجديد: إن عشرين سنة هي جهد ابن آدم. إن عمر ابن آدم هو سلَّة كبيرة مليئة بالمواد والزمان. هناك مشكلة الزمان، مشكلة المقاييس، الصعبة موضوعيًّا. أنا أعتقد، من خلال الإسقاط، أن المقياس الموضوعي للزمن مختلف بين إكرام وأيِّ شخص عادي. يا إكرام، يا دكتورة إكرام، ماذا فعلت بـروح قرطبة؟ ماذا فعلت بـمغامرات حنَّا المعافى حتى موته؟ – حيث حاولتِ أن تفكِّكي كلَّ قصيدة اللحظة – النص وبنية النص وقدسية النص، قدسيته التي هي قدسية الكلاسيكيات – وحاولت إتباع لغة فيها الكثير من التفكيك. وفي روح قرطبة ماذا فعلتِ؟

إكرام أنطاكي: أخذتُ أكبر فيلسوفين في القرن الثاني عشر: ابن رشد وابن ميمون…

الجديد: وجعلتيهما يتحاوران، أقمتِ حوارًا بينهما.

إكرام أنطاكي: وعرَّفتُ واحدهما إلى الآخر…

الجديد: اسمحي لي، عرَّفتِ ابن رشد وابن ميمون واحدهما إلى الآخر. هما ماذا عرَّفاكِ من خلال هذا الحوار؟ وهل كانت علاقة ثنائية أم ثلاثية؟

إكرام أنطاكي: تصور كم هي كبيرة القضية! كان الاثنان يدَّعيان أنهما من أتباع أرسطو. إن ابن رشد هو الذي عرَّف الغرب إلى أرسطو، وهو الذي شرح آنذاك أكبر أعماله. لقد كانت فكرة الكتاب في البداية في منتهى البراءة، حيث قلت لنفسي إن هذين الفيلسوفين، كبيري ذلك العصر، اللذين عاشا في نفس المدينة، لم يفصلهما زمنيًّا إلا حوالي الثماني أو التسع سنوات، لم يتعرفا واحدهما إلى الآخر! فرأيت أن “أصلح” هذا الخطأ التاريخي، وأعرِّف كلاً منهما إلى الآخر. جعلتهما يتكلمان فيما بينهما، ووضعت فيما بينهما شخصًا خياليًّا غير موجود، أسميتُه زيدون الذي هو أنا، وجعلتهم يتحدثون. وقد تحدثوا ما يقارب الـ47 سنة؛ ثم أفلتوا من بين يدي.

هذا هو العظيم في الرواية، أنك لا تعلم حين تبدأها إلى أين ستوصلك هي. عندما بدأت الرواية، بعد فترة قصيرة، أحسست أن القضية ليست فقط قضية نقاش بين ابن ميمون وابن رشد، ووجدتني أتحدث عن بدايات الحضارة الحديثة. تصوّر معي العرب وقد خرجوا من “جزيرتهم”، وكيف التقوا، في منتصف القرن الثامن، بنصوص الإغريق، فترجموها إلى العربية على يد من كان يعرف الترجمة في سوريا وفي مناطقنا. وقد انبهر العرب أمام نصوص الإغريق، فصنعوا منها ثقافة، وصنعوا منها فلسفة، وصنعوا علمًا؛ صنعوا عصرهم الذهبي في القرن التاسع في بغداد؛ ثم، بعد 50 عامًا، في قرطبة في القرن العاشر. ثم حين جاء القرن الثاني عشر، كان هذا العصر الذهبي قد انتهى، وكانت الكتب التي لم تعد تُترجَم قد بدأت تُحرَق؛ فتنتقل هذه الترجمات العربية عبر جزيرة بادو، من بادو إلى فرنسا، فتصل إلى السوربون حيث تُرجِمَتْ إلى اللاتينية. وبهذا أصبح عصر النهضة ممكنًا: أصبح من الممكن أن يصنعوا كوبرنيكوس؛ أصبحت الثورة الصناعية ممكنة؛ أصبحت الثورة الفرنسية ممكنة؛ أصبحت الحداثة الأوروبية ممكنة. نحن هنا لم نعد نتحدث عن الشرق، إنما أصبحنا نتحدث عن بدايات الغرب. فنحن الذين ولَّدنا الثقافة الغربية الحديثة. من خلال الإغريق، عن طريق البحر الأبيض المتوسط، عن طريق هذه الالتفافة التي هي الأندلس، من خلال جبال البيرينيه إلى فرنسا، إلى غرب أوروبا، إلى الغرب الحديث. لقد كنت أتحدث عن هذا كلِّه، وكانت هذه هي القراءة الثانية للكتاب.

أما القراءة الثالثة، فهي القراءة الإنسانية الواسعة، لأني في هذا الكتاب أتحدث عن إنسان [هو ابن رشد] لا يحب معشر الناس، إلا أنه يشعر بالشفقة تجاههم لأنهم يتألمون. وهو يعرف أنه سيأتي شبابٌ بعد حين ليقولوا هذه الأشياء التي كنَّا نتحدث عنها أنا وأنت في البداية، ويدَّعون، يقولون، وينقدون، ليصلوا بعد عشرين عامًا إلى نفس النقطة التي وصل هو إليها.

الجديد: وأين هي إكرام في هذه الرواية؟ أين أنت، ما عدا ما تطرحينه كمفاهيم؟ حيث يبدو وكأن المفاهيم قد استحوذت عليك أو أخذتك.

إكرام أنطاكي: كلا…

الجديد: هناك اجتياح مفاهيم واضح.

إكرام أنطاكي: لكن هناك أيضًا حياة الناس. تخيل من خلال هذا المثل الواضح جدًا: لقد احتجتُ إلى امرأة في هذه الرواية. وأنا ليس لديَّ امرأة لأن جميع الذين يتكلَّمون فيها هم من الرجال. فأتيت بشخصية عجيبة جدًا من تاريخ الفلسفة، هي شخصية هيباتيا التي عاشت في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس (370 – 415)؛ وهي آخر أستاذة للمدرسة الأفلوطينية في مكتبة الإسكندرية؛ وقد قتلت عام 415. يومذاك هجم عليها الرعاع وقتلوها، ثم أحرقوها، ثم أجهزوا على المكتبة وأحرقوا الكتب. هنالك في تاريخ الحضارة كره شديد للكاتب. ورغم كلِّ شيء، ما زالت الأرض تدور. فرغم حرق الكتب يبقى هناك من يصنع كتبًا من جديد. وتبقى الأرض تدور. هناك كره شديد للفكر وللكتب. إذن، أتيت بهذه المرأة التي كانت فيلسوفة كبيرة، تتعاطى الرياضيات، وتتعاطى الموسيقى، وتتعاطى علم الفلك، وقُتِلَتْ، ولم يكن عمرُها يتجاوز الخامسة والأربعين؛ أي أن عمرها قريب جدًا من عمري الآن. أتيت بها لتناقشهم.

الجديد: أتيتِ بها لتكون أنتِ.

إكرام أنطاكي: أتيت بها لتكون…

الجديد: لتكون إكرام.

إكرام أنطاكي: طبعًا، طبعًا.

الجديد: استحضرتِها لتكون شاهدًا على صوت إكرام.

إكرام أنطاكي: طبعًا، نعم. استحضرتُها من سنة 415، وجعلتُها تقفز إلى القرن الثاني عشر، ثم إلى القرن العشرين. وهذه ليست مشكلة، لأن بوسعي في الرواية أن أفعل ما أشاء. أتيت بها لأني كنت بحاجة لامرأة. مما يعني أنه لم يكن هنالك فقط اجتياح أفكار، إنما أيضًا اجتياح حياتي، واجتياح ألم.

الجديد: تعالي لنتحدث في الحياة. فإكرام تكتب بلغة ليست لغتها. وتعيش في مكان كان يُفترَض طبيعيًّا ألا يكون مكانها. أنا هنا لا أقصد بالـ”طبيعي” ما يعنيه الطبيعي، أي الـnatural، إنما أعني الطبيعي، بالمعنى الوضعي، حيث لا المكان مكان، ولا الزمان زمان، ولا اللغة لغة. هناك ثلاثة عناصر أساسية أنتِ انتُزِعتِ منها، ووُضِعتِ في مكان آخر، بلغة أخرى، وفي زمن آخر.

إكرام أنطاكي: لكنّ أحدًا لم ينتزعني. أنا فعلت ما فعلته بنفسي، من دون أن يجبرني أحد على ذلك!

الجديد: طيب، كيف فعلتِ ما فعلتِ واخترتِ هذا المكان؟

إكرام أنطاكي: لا. توقف قليلاً. أنا قلت منذ قليل…

الجديد: أحدِّد: هنالك حكاية من بين حكايات كثيرة، تقول، على ما أذكر جيدًا، حكاية تردَّدتْ وكانت لها أصداء، أن إكرام أنطاكي أمسكت بالكرة الأرضية ووضعت أصبعها صُدْفةً على مكان المكسيك. هنالك صُدَفٌ في حياتنا. وهذه الصدف تصنع تحولات.

إكرام أنطاكي: هناك صُدَفٌ نختارها نحن ونصنعها نحن.

الجديد: نحن نخترعها…

إكرام أنطاكي: هناك أمور نعملها في العشرين؛ لكن من غير الممكن أن نقوم بها في سنِّ الأربعين.

الجديد: لكن السؤال يبقى: كيف فعلناها؟

إكرام أنطاكي: لقد عدت إلى سوريا بعد أن انتهيت من فرنسا في العام 1975، ثم قررت الذهاب إلى نهاية العالم. لم أكن أعرف أين هي نهاية العالم. لذلك، أخذت الأطلس، وأخذت الفرجار، ووضعت أحد طرفيه في دمشق؛ ثم فتحته، فكان الطرف الآخر هو، من جهة، اليابان، ومن الجهة الأخرى، المكسيك. أذكر أنني اضطررت أن أوسِّع فتحته سنتيمترين لأصل به إلى المكسيك. فكان آخر الأرض، بالنسبة إليّ، إذن، هو المكسيك.

الجديد: وقررت الذهاب لآخر الأرض.

إكرام أنطاكي: قررت الذهاب إلى المكسيك. ولم أكن أعرف شيئًا عنه، ولم أقرأ حوله لا مقالاً ولا كتابًا. لم أكن أعرف شيئًا.

الجديد: ووصلتِ إلى المكسيك.

إكرام أنطاكي: لم أصل إليه بعد. فقط قررت الذهاب إلى هناك قبل أن أعرف أيَّ شيء. فأمسكت المعجم، وكان هذا أول ما قرأته حول المكسيك بعد قراري الذهاب إليه. رأيت صورة كُتِبَ تحتها Papocatepetl، وهي صورة فوتوغرافية لجبل تكلِّله الثلوج، صورة تشبه الكارت بوستال [بطاقة بريدية] لجبل تغطيه الثلوج، وفوقه غيمة كالدخان. فقلت لنفسي: هذا بركان حيٌّ، وعليه ثلج، فيا لها من فرجة! على هذا الأساس حسمتُ أمري. وصلت إلى المكسيك يوم 14 كانون الأول 1975. لم أكن أملك لغة، ولم تكن لديَّ عناوين. لم يكن هناك أيُّ شيء، ولا حتى معرفة. وما حصل بعد هذا قررتْه الحياة عوضًا عنِّي.

الجديد: كيف قررتِ، كيف جاءك القرار…

إكرام أنطاكي: بدأت أتجول في الشوارع؛ بدأت أدخل الأمكنة. رأيت مكتبة فدخلتها. في هذه المكتبة تعرفتُ إلى من كان سيصير فيما بعدُ زوجي. كان هذا بعد وصولي إلى هناك بثلاثة عشر يومًا. تعرفت إليه، وبدأنا نتحدث بشكل عشوائي. أنا ألخبط بالفرنسية، وهو يلخبط بالإسبانية. أنا أتحزَّر ما يقول، وهو أيضًا. بعد سنة من هذا التاريخ أصبحت بيننا علاقة، ورُزِقْتُ بولد. مع مجيء الولد لم يعد من الممكن أن أتنقل بهذه السهولة. الولد ليس كالحقيبة لتحمله تحت إبطك وتتنقل به. أصبح عندي زوج وأصبح عندي ولد. من هذه الناحية كانت الحياة هي التي قررتْ. لقد أصبحتُ أمًّا. لفترة طويلة كانت الحياة صعبة جدًّا جدًّا.

الجديد: هو إذن الولد، هو مجيء الولد الذي وضع حدًّا للشغب.

إكرام أنطاكي: نعم. أتعلَم ما الذي اكتشفتُه من خلال الولد؟

الجديد: أنه وضع نهاية للضجيج…

إكرام أنطاكي: لقد اكتشفتُ الخوف!

الجديد: لقد وضع نهاية لتوتر المكان. لتوترات المكان… OK…

إكرام أنطاكي: يا نبيل! أنا لم أكن أعرف ما هو الخوف. مع الولد اكتشفت الخوف. وكان هذا، بالنسبة إليّ، اكتشافًا كبيرًا جدًّا. واكتشفت “المادة”، حيث لم تكن “المادة” مهمة بالنسبة إليّ قبلئذٍ. واكتشفت ضرورة أن يكون هناك مكان معين فيه أمان. أنا لم أكن أعبأ بالأمان. واكتشفت ضرورة الحب، الذي لم أكن أعرف ما هو. واكتشفت الألم الحقيقي الذي هو من أهم عناصر بناء الروح، أهم من الكتب. وإلى جانب الكتب، أصبح هناك ولد.

الجديد: جاء الولد. والولد وضع حدًّا لشغب إكرام.

إكرام أنطاكي: نعم.

الجديد: ووضع حداً  لتوتر الجغرافيا، لتوترات المكان؛ وأعاد الاعتبار لحساب الروح. هذه ثلاثة أشياء صنعها ابنُك.

إكرام أنطاكي: وتوقفتُ عن الكتابة لفترة…

الجديد: لكن [هناك] أيضًا ذاكرة مكانية كانت موجودة قبل الولد؛ ذاكرة زمان [كانت موجودة] قبل الولد؛ ذاكرة أشخاص ما قبل الولد. يا إكرام، لقد مشيتِ كثيرًا في شوارع دمشق، ورأيتِ الكثير من حياة دمشق.

إكرام أنطاكي: أنت تتحدث عن الآن؟

الجديد: لا…

إكرام أنطاكي: [تتحدث عن] قبل..

الجديد: [أتحدث عن] قبل هذا الذي تخطيتِه وتجاوزتِه ووضعتِه وراءك. والآن تعيدين إنتاجه وصياغته بلغة جديدة.

إكرام أنطاكي: توقف قليلاً..

الجديد: نسيتِه، مما يعني أنه أضحى من الذاكرة.

إكرام أنطاكي: لا. لم يسقط شيء. لكن هناك أمورًا تسبق أمورًا أخرى، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون لديك أبدًا همٌّ واحد. البشر شيء معقد جدًّا، والروح شيء معقد جدًّا. في أيِّ وقت، نحن لدينا ما لا يقل عن الثلاثمائة هم؛ لكنّ هناك دائمًا همًّا أكبر من غيره، بمعنى أنه حين لا يكون لديك ما يكفيك طعامًا فإنه ليس بوسعك التفكير بالفذلكات الجمالية، لأنه ليس وقتها. إن هذا لا يعني أنه لم يعد عندك حسٌّ جمالي، إنما أنك صرتَ تعرف ما الذي يمشي قبل غيره، لأن أهم شيء بالنسبة إليّ، في حينه، كان أن يعيش الولد فقط لا غير. ومرَّتْ فترة لم أعد أكتب فيها؛ أصبحت أعيش للولد. ثم عدت إلى الكتابة عندما أمَّنتُ على حياة الولد. أنتم، معشر الرجال، لا يمكنكم أن تعرفوا هذه الأمور!

الجديد: نعرفها…

إكرام أنطاكي: نحن [اللواتي] نعرف هذه الأمور.

الجديد: كلا، نحن أيضًا نعرفها. وهناك “أبوبة” مثل ما هناك أمومة.

إكرام أنطاكي: كلا، الأمر مختلف. لا أريد مناقشته. فقط أنا أعتقد أنه ليس الشيء نفسه. هذا بالنسبة إليّ مؤكد. وعدتُ إلى الكتابة بعد فترة، كما عدت إلى القراءة. تصور أنه خلال السنة والنصف الأولى من حياة الولد لم أكن أقرأ. بالنسبة إليّ كان كلُّ شيء يتلخَّص في أنه يجب أن يعيش. خلال السنوات التسع الأُوَل من حياته لم أشاهد حتى فيلمًا للكبار؛ كنت أشاهد فقط أفلام أطفال. إنما أقول لك إنني، خلال الست أو السبع سنوات الأخيرة، كتبت 8 كتب. خلال السنوات الخمس التي سبقتْ هذه السنوات، كتبتُ كتابًا واحدًا، وهذا له معنى.

إن مجرد كوني امرأة أمرٌ كبير، لا بل كبير جدًّا، بمعنى أنه أمر هام وليس قضية هامشية. ربما كنت أفضل لو لم أكن امرأة. لكني أعرف أن مشكلتي الأساسية في هذه الحياة إنما تنبع من كوني امرأة. وهذا ليس لأني لا أحب أنوثتي، الله يعرف أن ليس لدي أيّ مشكلة مع أنوثتي! لكن طوال عمري كنت أعرف أن معركتي هي معركة من أجل المعرفة. وقد اضطررت، طوال حياتي، أن أحارب على جبهات ليس لها علاقة بالمعرفة. أنت ليست لديك مثل هذه المشكلة. أنا يُفترَض أن أبرهن على نفسي عشر مرات أكثر منك حتى يعترفوا أني جيدة.

الجديد: على كل حال اعترفوا أنك جيدة. واعترفت بك قارة المكسيك. إنها قارة، بالمعنى التاريخي، إلى حدٍّ ما، قارة في عزلة من القارات. على الأقل يعني أن عزلة المكسيك أعطتك روح القارة، يعني روحًا خاصة.

إكرام أنطاكي: تبدو المكسيك مثل القمر.

الجديد: بالضبط.

إكرام أنطاكي: إنه بعيد.

الجديد: طيب، يا ست إكرام. إنه الولد الذي خلق هذا الانكسار أو هذا الانعطاف في حياتك، الذي هو ما حصل، ما هزَّها للحظة، ما هزَّ تاريخك الشخصي.

إكرام أنطاكي: ليس فقط الولد، يا نبيل.

الجديد: هنالك شيء آخر بالضبط. وهذا ما كنت أريد الوصول إليه. هنالك دائمًا في تاريخنا وفي ذاكرتنا شيء يهزُّنا؛ هنالك شيء نتوقف دائمًا عنده؛ هنالك دائمًا هذا المنحدر الذي يحدِّد ما سيأتي بعده. أين كانت هذه المنحدرات بالضبط؟

إكرام أنطاكي: إنها جميع الأشياء معًا. جميعها معًا جاءت في نفس الوقت.

الجديد: لا بدَّ أنه – اسمحي لي – أنه من الصعب جدًّا أن نقول [مثلاً] إن كلَّ أضواء المدينة متشابهة، لأن هناك دائمًا شيئًا ما يعنينا أكثر من باقي الأضواء.

إكرام أنطاكي: أنظر نبيل. هنالك الولد؛ وهنالك، مثلاً، اكتشاف الفقر. أنا كنت فقيرة خلال طفولة ابني. أنا جئت من أسرة بورجوازية ليس عندها مشاكل مادية كبيرة؛ بمعنى أنني لم أتعذب. أنا ذقت العذاب هناك [في المكسيك]. الآن أصبح وضعي مستقرًّا. لكنني لبضع سنوات خَلَتْ، اكتشفت الفقر الذي لم أكن أعرفه من قبل، وقد كان هذا الاكتشاف رهيبًا جدًّا! واجهتُ هنالك [آنئذٍ] خوفًا على حياة الولد وخوفًا من الفقر. ثم إنِّي وجدتُ نفسي في جوٍّ لا أعرف عنه شيئًا؛ بمعنى أنني لم أكن حتى قرأت شيئًا عن المكسيك. فلو أنك ألقيتني في باريس، لما كانت هناك مشكلة، فأنا لديّ علاقات ثقافية مع فرنسا. أنا درست في مدرسة فرنسية. كان ممكنًا أن أواجه مشاكل هناك [في فرنسا]؛ لكنها ليست مشاكل بهذا الكبر. لقد كانت المكسيك، بالنسبة إليّ، عالمًا غريبًا جدًّا؛ مما يعني أن ما اكتشفتُه من خلال الكتب قد اكتشفتُه من خلال الألم، وليس من خلال النظريات.

الجديد: وهذا المكسيك، حيث الألم، هو الذي جعلك تكتبين هذا الكمَّ الهائل من الكتب. لكنني أعتقد أن هذه الكتب وهذه الأعمال ليست إكرام؛ إنها جزء من إكرام. هي شيء من إكرام، وليست إكرام، لأن إكرام مساحة أوسع من حدود الكتب.

إكرام أنطاكي: صح!

الجديد: وبالرغم من هذا، هنالك مفاهيم جديدة كليًّا، [مفاهيم] مفاجئة جدًّا، وهذه لها علاقة بإكرام. إنها أداة تكون مفاجئة لأنه، خلال تاريخ طويل عاشتْه إكرام، أو لنقل، بعد هذا الابتعاد الطويل كلَّ هذه السنوات، يحصل انتقال من مفهوم إلى مفهوم آخر. ونجد أن إكرام اليوم تدعو إلى وحدة المؤسَّسة وإلى وحدة العائلة.

إكرام أنطاكي: أنظر…

الجديد: هناك تغيرات…

إكرام أنطاكي: هناك تغيرات كبيرة.

الجديد: [يعني] ابن آدم هذا الذي كان يريد تحطيم المجتمع والأسرة حتى النهاية، نجده بدوره [قد تحول] ويريد الحفاظ على تاريخ المجتمع، وتاريخ الأسرة، وتاريخ الأفكار، التي كنت تعتبرينها شيئًا فوق التاريخ.

إكرام أنطاكي: أنظر نبيل. أنا لا أحب زمني، ولا أحب الزمن الذي سبقه. لكنني لست متأكدة من أن الزمن الذي سيأتي سيكون زمنًا أفضل. نحن نعيش اليوم نهاية قرن خطرة جدًا؛ نشهد فيها تفكُّك دول. والدولة شيء كبير جدًّا. نحن لم نكن نعرفها من قبل. وقد أصبح من الواجب [اليوم] التعرف إليها، لأنها أساسية وحيوية، لأنها تُلزِم كلَّ تلك القبائل والمعتقدات والأديان على العيش سوية ضمن إطارها، على أساس مثلاً أنهم “سوريون”. إن [هذه القضية] هي نفسها بالنسبة إلى فرنسا؛ ونفس الشيء بالنسبة إلى المكسيك. إنها تصعيد لعنصر انتماء الدم إلى ما هو عنصر انتماء فكري، الذي هو فكرة كونك “سوريًّا” أو “فرنسيًّا” أو “مكسيكيًّا”. فإن كنتُ أريد تحطيم هذه المؤسَّسة التي هي الدولة، والتي هي أكبر من الحكومة، ومن رؤساء الحكومة، ومن أيِّ شيء – إن كنتُ أريد تحطيمها والتقليل من قدسيَّتها واحترامها – فإن هذا يعني أن الناس سيعودون إلى قبائلهم. أنا لا أرغب [مثل ما حصل في] يوغوسلافيا لبلدي؛ أنا أريد هذه الدولة – [ومستعدة] لأدافع عنها بأظافري وأسناني – لأنها تجمع هؤلاء الناس، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والعائلية، وكل هذا تحت اسم فكرة، هي فكرة وطن. أنا أعرف أن نهاية هذا القرن تحطِّم هذه الفكرة. لذلك فإن الثوري الحقيقي لم يعد ذاك الذي يدعو إلى الثورة، إنما هذا الذي يدافع عن هذه المؤسَّسة القديمة التي اسمها الدولة. نفس الشيء بالنسبة إلى الأسرة. بماذا تريد أن يتعلَّق الناس؟ دعهم يتعلقون بهذا الشيء الذي تمَّ بناؤه والذي هو ليس بسيء. طبعًا، هنالك أشياء كثيرة سيئة في الدولة؛ وهنالك أشياء سيئة في الأسرة. لكن يبقى الأهم أن نعرف أن حصيلة نتاج هذه “المؤسَّسات” كان جيدًا بشكل عام. فإن أزلنا [للناس] ما هو بين أيديهم فإنهم سيعوضونه، ليس بما هو أفضل منه، إنما بما هو أسوأ. لذلك يجب الدفاع عنه.

الجديد: هذه هي إكرام أنطاكي. “من مغامرات حنَّا المعافى حتى موته” إلى “روح قرطبة”؛ من فوضى المكان إلى استقرار المكان؛ من فوضى الأفكار إلى الأعمال المتكاملة؛ من البنت المشاكسة المشاغبة إلى الأم. يا إكرام، إنه ليصعب عليَّ الالتحاق بعالمك لأنه متنوع جدًّا، متعدد جدًّا، ويحتوي مفاهيم لم أعرف بعد كيف حملتِها. أنا أتخيل أن هذه المفاهيم التي تحملين يُفترَض لأيٍّ منها وحده أن يحملك، بمعنى أنك تحملين كمًّا كبيرًا من المفاهيم والأفكار والتجارب، [بمعنى] ذاكرة مكانية، وذاكرة مفهوم، وذاكرة زمانية؛ وأيضًا أقول ذاكرة بصرية؛ فقد رأينا عندك في هذه الكتب لوحات مهمة.

وبالرغم من كلِّ هذا الكلام، كنت أتمنى لو كان الوقت معنا أوسع. لكننا أسرى الوقت، أسرى الدقيقة والساعة التي كنَّا منذ هنيهة نتعامل مع مضمونها. تعالي نقرأ شيئًا من روح قرطبة، شيئًا نختتم به هذه المقابلة.

إكرام أنطاكي: من آخر صفحة؟

الجديد: شيء نختتم به.

إكرام أنطاكي: شيء نختم به.

الجديد: نقرأ بالمكسيكية.

إكرام أنطاكي: بالإسبانية…

الجديد: آسف، بالإسبانية. ونترجم إلى العربية، نترجم مفاهيمنا وأرواحنا.

إكرام أنطاكي: لنر ماذا أستطيع أن أعطيه كترجمة.

الجديد: اسمعي دقات الساعة.

“… Yo sigo de paso en mi extranjer?a. Este libro deb?a haber sido el ultimo magisterio, la ecuaci?n m?s completa. La poética m?s bella, y no fue m?s que lo que es: un libro. He hablado de la impasibilidad, y mi propia ira me destruye. He afirmado la necesidad de establecer una distancia con los hombres, y el m?s ligero entre ellos puede llevarme, con una sola de sus expresiones, a la orilla de la muerte. ?D?nde est? la sabidur?a y donde la ataraxia? ?Qué es lo que he aprendido? Que los sabios se van, al igual que los tantos…”

إكرام أنطاكي: أترجم لك قليلاً: “… أنا أستمر في مروري من خلال غربتي. لقد كان يفترض أن يكون هذا الكتاب هو آخر التعاليم، المعادلة الأكمل، والشعر الأجمل. لكنه لم يكن سوى ما هو: مجرد كتاب…”.

الجديد: ما هو إلا هو…

إكرام أنطاكي: نعم، مجرد كتاب. [أكمل] “… لقد تكلَّمتُ عن الهدوء، وغضبي يحطِّمني. تحدثت عن ضرورة وضع فاصل بيني وبين البشر، وأنا أعلم أن أصغر واحد فيهم بوسعه أن يأخذني إلى حافة الموت من خلال جملة واحدة. أين الحكمة من كلِّ هذا، وأين الأتاراكسيا؟ ما تعلَّمته هو أن الحكماء يذهبون كما يذهب الأغبياء…”.

الجديد: تعلمتِ…

إكرام أنطاكي: تعلمتُ أنهم سيذهبون…

الجديد: إكرام أنطاكي، أتمنَّى لك مساءَ الخير للمرة الثانية، [مؤكدًا] أنه لا بدَّ لنا من قراءة “مغامرات حنَّا المعافى حتى موته” لأننا لم نقدر على نسيانه، على الرغم من أنك تدَّعين أنك تجاوزتِه. تصبحين على خير.

نبيل الملحم

روائي من سوريا

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button