منوعات

الصراع على «الشام»: لماذا تستمر المشاجرات عند «باب الحارة»؟/ محمد سامي الكيال

أثار ما يُعرف باسم «مسلسلات البيئة الشامية» معارك صحافية و«فنية» كثيرة، منذ تصاعد موجة إنتاج هذه الأعمال في الدراما السورية مع مطلع الألفية، وبالتحديد مع المسلسل الأشهر «باب الحارة» بأجزائه المتكاثرة.

الانتقاد الأساسي لهذه الأعمال أنها لا تقدّم صورة صحيحة عن تاريخ دمشق، بل تشوّه التاريخ، وتُعتّم على زوايا كثيرة فيه، كما أنها ترسم صورة شديدة التخلّف عن المدينة وأهلها، وتحطّ من قيمة نسائها. هذه الانتقادات اكتسبت مؤخراً دفعة جديدة، مع حديث الممثل السوري ياسر العظمة عن أن «باب الحارة» ليس أكثر من «تاريخ مزوّر وافتراء سافر» لا يشبه دمشق القديمة والحياة فيها. وهو حديث له حيثيته، باعتبار العظمة من أعمدة «البيئة الشامية» إن صح التعبير، ولطالما عبّر عنها، أو استقى من أساليبها السردية والأدائية، في مسلسله الشهير «مرايا».

قد يكون اعتبار هذا النمط من المسلسلات «تاريخاً» سواء كان حقيقياً أو مزوّراً، أمراً مثيراً للتساؤل، فأعمال الثقافة الجماهيرية عموماً لا تُعنى بالتأريخ، أو نقل صورة «صحيحة» لأي بيئة. ولعل أكثر أمثلتها العالمية أهمية أفلام «الويسترن» والأبطال الخارقين الأمريكية، فهذه الأعمال تستند غالباً إلى خلفية تاريخية «حقيقية» لكنها تطلق العنان للخيال والصور البرّاقة، ومعها كثير من القيم الأيديولوجية المقبولة في التيار الثقافي الرئيسي المعاصر لها. من النادر أن يجد المرء في فيلم «ويسترن» تدور أحداثه في الغرب الأمريكي في القرن التاسع عشر، أكثر من رعاة بقر يتراشقون بالرصاص من مسدساتهم اللامعة؛ أما أفلام الأبطال الخارقين فلا تهتم بتصوير الوضع الاجتماعي للمدن التي تشهد أحداثها. نيويورك، وغيرها من المدن الأمريكية، كانت مليئة بالحركات العمّالية ومناضلي الحقوق المدنية والأدباء والفنانين في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن الكوميكس الأمريكي لا يُظهر فيها إلا مجرمين أشراراً مخبولين؛ كائنات فضائية؛ و»سوبرمان» الذي يتساءل الجميع إن كان «طائراً أم طائرة».

في هذا المعنى فالزعران والقبضايات، الذين تحفل بهم مسلسلات «البيئة الشامية» ربما لا يكونون إلا نمطاً من «الكاوبوي» أو «السوبر هيرو» السوري، ولذلك نالوا شعبية في العالم العربي. فالناس قد لا يهتمون بالتاريخ، بقدر ما يريدون أن يشاهدوا كثيراً من الصور المسليّة، الحافلة بالثرثرة والتلصّص والمواقف الأخلاقية والبطولية المبتذلة، والمتفقة مع «المينستريم» السائد.

ربما يكون الأجدى فهم السجال بخصوص «باب الحارة» باعتباره صراعاً حول «المينستريم» نفسه، أي القيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، التي يمكن اعتبارها «التيار الرئيسي». هنا تصبح «البيئة الشامية» ذات دلالة خاصة، بل ومُلغّمة في السياق السوري؛ ويصير «التاريخ» منطلقاً تأسيسياً لأي خطاب أيديولوجي. لماذا هذا التركيز على المدن وتاريخها في صياغة القيم المقبولة سورياً وعربياً؟ وما دلالات الصراع حول «المينستريم» عموماً في شرطنا المعاصر؟

مسوخ أبطال الاستقلال

يطرح كثيرون، ومنهم ياسر العظمة، السؤال التالي: كان هناك في دمشق، إبان الاحتلال الفرنسي، سياسيون بارزون ومثقفون لامعون، لماذا لا يتم ذكرهم في «باب الحارة»؟ يصعب التفتيش في نوايا صانعي العمل لإيجاد إجابة، لكن ربما من المفيد والمثير أكثر، طرح السؤال بشكل معاكس: لماذا يجب أن يُذكر أولئك السياسيون والمثقفون في كل عمل تدور أحداثه في تلك الفترة؟ الإجابة ربما لأنهم المقاومون الحقيقيون للاستعمار، ومؤسسو الكيان الوطني الحديث للبلاد. وهذا يعني أن على الإنتاج الثقافي والفني أن يتذكّر دائماً هذه «الحقيقة» أي الرواية النظامية للصيغة السورية من التحرر الوطني.

«باب الحارة» جعل المقاومة مجرد «طوشة زعران» ضد مخفر فرنسي، وهو بالتالي يمسخ فكرة الكيان الوطني السوري، والتاريخ الرسمي لنشأته. اللافت أن ذلك العمل لم يقدّم «رواية بديلة» عن التحرر الوطني، ولم يُعن بتقديم محاكاة ساخرة لها مثلاً، بل فقط قزّمها وشوّهها عن غير عمد. أما القيم التي قدّمها، فيمكن إيجاد جذور لها في «الثقافة الوطنية» السورية والعربية عموماً في فترة ما بعد الاستعمار: الحفاظ على التقليد في وجه المستعمر؛ الافتخار بالشهامة والرجولة والشجاعة؛ الوطنيّة البديهية، أي الاستعداد غير المُفكّر به للقتال لأجل البلد والموت في سبيله؛ الارتباط بالقضية الفلسطينية، إلخ. ولهذا لا يمكن اعتبار «باب الحارة» نقيضاً لتلك الثقافة، بل مسخاً عنها.

وللإنمساخ دلالات ثقافية كثيرة، منها مثلاً ما يتحدّث عنه المفكر الإيطالي فرانكو موريتي في تحليله لرواية «فرانكنشتاين» لماري شيلي، وعلاقتها بالتحديث عموماً: المسخ نموذج مقلوب للجماليات والقيم التي يحلم بها من صنعه. أراد الدكتور فرانكنشتاين خلق «إنسان متفوّق» من أشلاء جمعها من جثث متفرّقة، لكن نتيجة عمله كانت مسخاً أثار اشمئزازه، فطرده من مختبره بلا رحمة. إلا أن المسوخ لا تموت بسهولة. يعود المسخ ليصبح المسيطر، ويدمّر حياة صانعه. ما كان يعني موريتي في تحليله «ديالكتيك الخوف» المتصاعد مع مطلع التحديث: أطلقت البورجوازية العنان لقوى اجتماعية هائلة، بدت لها ممسوخة، وخافت منها بشدة، باعتبارها تمثّل انعكاساً مشوّهاً لحياتها وطموحاتها وقيمها، وكان كابوسها الأسوأ قيام المسوخ التي صنعتها (الطبقة العاملة، سكان المستعمرات، والتقنية المدمّرة لأساليب الحياة القديمة) بنقل قذارتها إلى العالم النظيف للسادة. قد يمكن الحديث عن «ديالكتيك» مشابه إلى حد ما في حالة «باب الحارة» إنه النتيجة الممسوخة لمشروع التحديث والثقافة الوطنية لمرحلة ما بعد الاستقلال، و»القوى» التي أطلقتها، سواء على المستوى القيمي أو الفني أو الاجتماعي. لم يصوّر المسلسل مناضلي «البورجوازية الوطنية» من سياسيين ومثقفين، بل مآل روايتهم عن «الوطن» والحياة فيه: حارة بلاستيكية مغلقة، يجول فيها «زعران ونساء منسحقات» على حد تعبير العظمة مجدداً. سيثير هذا كثيراً من الاشمئزاز طبعاً، خاصة بين مَنْ حافظوا على إيمانهم بالصيغة الأصلية لتلك الرواية، ويرون «باب الحارة» نموذجاً مقلوباً لكل جمالياتها.

لماذا دمشق؟

قد يُلقي كثيرون اللوم على «الاستبداد» دون جهد كبير لتعريفه سياسياً أو بنيوياً، إنه فقط نظام الأسد الذي دمّر الثقافة «الأنظف» للبلد، ومَسَخَ السوريين. هنا تأخذ دمشق دلالة خاصة جداً، وبالتحديد تاريخها قبل البعثي، فهي المدينة الأعرق والعاصمة التاريخية، التي من المفترض أنها أنتجت المشروع الوطني الحديث لسوريا كلها، والذي كان ديمقراطياً ومتنوّراً، إلى أن جاء البعثيون وعائلة الأسد ليدمّروا الحلم عبر «الاستبداد».

قد يكون هذا التصوّر قريباً نوعاً ما من «باب الحارة» من ناحية الافتقار للدقة التاريخية. فحتى لو تجاوزنا وقائع معروفة، مثل الميل «الاستبدادي» للرئيس الدمشقي المنتخب شكري القوتلي، وسعيه لتمديد حكمه عبر تعديل دستوري؛ وما سمّاه كثيرون حينها «حكم المزرعة»؛ وتسييس الجيش؛ والحفاظ على العلاقات الزراعية المتخلّفة، فإن المدنيّة السورية عموماً، وعلى رأسها المدنيّة الدمشقية، لم ترتق يوماً لتأسيس مشروع يجنّب البلد مآلاً شبيهاً بمسخ «باب الحارة» لا على مستوى اقتصادي/سياسي، ولا على مستوى اجتماعي/ثقافي. أما آل الأسد، وغيرهم من العسكريين الانقلابيين من أصول ريفية، فلم يأتوا بالتأكيد من فراغ. في هذا المعنى فربما كان المسلسل التجسيد الأكثر «دقة» لسيرة فشل المدينة السورية.

تطهير المينستريم

شعبية «باب الحارة» خارج سوريا قد تدّل على سيرة فشل مشابهة لمشاريع التحرر الوطني في مختلف الدول العربية. كما أن للمسلسل نظائر في تلك الدول، خاصة مصر، تُعكّر صفو أنصار الثقافة الوطنية الرفيعة، وتدفعهم لنعي «الزمن الجميل» إلا أن زمن تقديم «المشاريع الوطنية» وكذلك الخطابات المضادة لها، قد ولّى غالباً، ليس فقط على المستوى العربي، وإنما عالمياً.

يُعتبر «المينستريم» حالياً الفضاء الأوحد للصراع على الهيمنة الأيديولوجية، بعد أن بات باستطاعته استيعاب الثقافات الفرعية و«المضادة» بل حتى التيارات التجريبية والطليعية. ومن هذا المنطلق يطالب كثير من الناشطين في الدول الغربية بتوسيعه، ليشمل كل الفئات التي كانت تُعتبر «مُهمّشة» وتطهير لغته وصوره من كل أشكال التمييز و«العدوان المصغّر». وإذا عدنا للمثال الأمريكي، فإن الكوميكس وأفلام الأبطال الخارقين باتت معنيّة جداً بتعديل نفسها، لتقدّم أبطالاً وبيئات متنوّعة، لا تتعلّق فقط بـ«الرجل الأبيض». فبتنا نرى أبطالاً خارقين من النساء والسود والمثليين والأمريكيين من أصول آسيوية.

كي لا نظلم «باب الحارة» فهو كان «منفتحاً» في أحد مواسمه، على هذا النوع من «الانتقادات» فأظهر امرأة مسيحية دمشقية قوية، قاومت بدورها الاحتلال الفرنسي. وربما هذا أقصى ما يمكن للتعليق الهوياتي أن يُحصّله من مكاسب. أما العودة لخطابات جمعيّة، من الطراز الوطني الكلاسيكي، فبات غالباً أمراً متقادماً وتجاوزه التاريخ.

يبتلع «التيار الرئيسي» كل هوامشه، ويعيد إنتاجها بما يتناسب مع هيمنته، وهو ما يدفع كثيراً من النقّاد للتشكيك بفائدة وصحّة مفهوم «المينستريم» أصلاً، إذ لا «خارج» فعلياً لما هو سائد ومهيمن، أو «حقيقة» مفارقة له. ولذلك فربما الأجدى، بدلاً من استسهال شتم «باب الحارة» التساؤل: كيف وصلنا إلى هذا النمط من «التيار الرئيسي»؟

‏كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى