المهندس القيادي الميّت الركن/ عروة خليفة
أَخبرهُ ابن خاله بأنّ السيارة مسرعةٌ أكثر من اللازم في هذا الضباب، وأنّ أمامهم دوّار طريق المطار. لم يستمع مدمن الأدرينالين لنصيحة قريبه، واستمرّ في تسارعه المبالغ فيه، لكن وعلى ما يبدو لم يستطع مانع الانزلاق في سيارة مرسيدس الحديثة مجاراة تهوره، جنحت السيارة واصطدمت بحاجز، وطار وليُّ العهد من الزجاج الأمامي (لا يحب ارتداء حزام الأمان بالطبع).
خرجَ ابن خاله حافظ مخلوف من السيارة، دون أن يكون مصاباً هو أو السائق الذي كان يجلس في المقعد الخلفي بأي أضرار تُذكر؛ مجرّد رضوض.حملَ جسدَ ابن عمته مذهولاً. توقفت سيارة بيجو 504 بالقرب من الحادث علّها تساعدهم، لم يَدرِ السائق أنّ المصاب في الحادث هو باسل الأسد حتى نظرَ إليه، وجد الإصابة بالغة في الرأس، قال لحافظ مخلوف: «هاد ميّت»، صاحَ حافظ مخلوف بهستيرية: «خراس هدول ما بيموتوا». أسعفته سيارة البيجو إلى المشفى الجامعيِّ الذي حمل اسمه لاحقاً، وعندما يئسَ الأطباء من إحياء ميّت بعد أربع ساعات من المحاولة، اضطروا لإعلان الوفاة.
عندما استجمعَ المستشارون الشجاعة لإعلام حافظ الأسد، كان أول سؤال له: «هل حصل انقلاب؟».
اهتزّت المنظومة التي كان حافظ الأسد يرتِّبها، وأشغل جميع من حوله بالمساعدة بترتيبها والتهيئة لوراثته من ابنه الأكبر. كان الوحيد الذي ارتاح ربما هو الشيخ البوطي، الذي كانت تأتيه مكالمات بعد منتصف الليل من باسل الأسد يسأله فيها أسئلة غريبة، مثل إن كان يجب إعادة صلاة الوتر بما أنه صلى بعدها قيام الليل، وذلك كما كان يدّعي وفق نصيحة عرّابه محمد ناصيف.
أما محمد ناصيف، فكان ببساطة سينقل رعايته إلى الوريث الجديد، رغم أنّ عدداً من المنافسين، من بينهم بهجت سليمان، سيزاحمونه على هذه المهمّة.
توفي الوريث جامع المليارات في بنوك النمسا، عاشقُ التهور والسرعة، مشروع زوجٍ لم يعش لأميرة في بلدٍ جار، مخترع سجن الطاحونة، وأمل أبيه الدكتاتور. لكن قبل أن يموت، كان باسل الأسد قد بدأ مشروعاً سيورثه لأخيه بشار مع منصب الوريث؛ دورة المهندس القياديّ، التي اخترعها هو وأبوه لكي يحصل على منصب في الجيش دون أن يدخل من المسار التقليدي لذلك.
عند تخرجه من كلية الهندسة المدنية عام 1984، أطلق باسل الأسد دورةً خاصةً في الجيش السوري ضمن كلية المدَّرعات، وهي دورة المهندس القياديّ، من أجل دخول الجيش دون الاختلاط مع الضباط المتطوعين العاديين، ودون تَحمّل أيَّة أعباء كانت تفرضها شروط تلك الكلية. لكن على ما يبدو، كان الهدف أيضاً تربية ضباط مقربين على مدى سنوات، سيكون لهم موقعٌ خاص فيما بعد. هكذا كانت الخطة.
ضمّت الدورة تلك في كل جولة جديدة عدداً صغيراً، بين العشرة والخمسة عشر متدرباً فقط، تم انتقاؤهم بعناية، خاصةً في الفترة التي كان فيها باسل الأسد مشرفاً على مسار هذه الدورات. أوس أصلان ابن اللواء علي أصلان كان في الدورة الأولى مع باسل الأسد، فيما التحقَ بالدورة الثانية أشخاصٌ مثل مناف طلاس ابن مصطفى طلاس، وكفاح ملحم ابن اللواء محمد ملحم وبسام الحسن.
كانوا يُجرون تدريباتهم في مكانٍ خاص، بعيداً عن المتطوعين الآخرين. وحتى عندما يأكلون في صالة الطعام، كانت لهم طاولة خاصة. أما النوم فكان في فندق الضباط، وأصبحت كلية المدَّرعات مقراً لباسل طوال فترة تلك الدورة. صديقه المقرب سليمان فرنجية كان يزوره في الكلية، ويدخل بسيارته اللبنانية إلى قرب مكان إقامة باسل في فندق الضباط، في مشهد غير معهود.
لم يكن هناك ضابطٌ يمكنُه أن يُعاقِبَ أي دورة بشكل جماعي إذا كان فيها باسل الأسد.لذلك، وعلى ما يبدو من باب الشفقة على الضباط المدرِّبين، جمع باسل فريقه الخاص في دورة مستقلة، ضمّت أبناء الضباط والمسؤولين، ومهندسين سيكونون يوماً ما أذرع باسل الأسد في الجيش والأمن، لو أنه التزم بحزام الأمان طبعاً.
انتقلت الغالبية العظمى من خريجي تلك الدورات خلال فترة وجود باسل الأسد إلى الحرس الجمهوري، واستلموا على الفور قيادة الكتائب والتحكّم بمفاصل الحرس الجمهوريّ، الذي كان يقوده -إسمياً- قريب الأسد عدنان مخلوف، أحد عرّابي باسل المجهولين.
مناف طلاس انتقل إلى اللواء 104 في الحرس الجمهوري، وهو اللواء الذي سيقوده ويبقى في منصبه فيه حتى انشقاقه عام 2012 بعد عام على انطلاق الثورة في سوريا، ليكون المنشق الوحيد المتخرج من دورة المهندس القيادي تلك.
بسام الحسن أصبح شخصاً مقرباً من باسل الأسد، ورئيس أركان كتيبته في الحرس الجمهوري. الحرس الذي كان قد بدأ بتنفيذ المشاريع (أي مناورات بالذخيرة الحية) على شرف ضابط مستجد فيه، لا أمام قائده الفعلي عدنان مخلوف.
استمرًّ التحاقُ أبناء الضباط المُنتقين إلى دورات المهندس القيادي، التي كانت هيبتها بدأت تذبل إلى أن ارتفعت مجدداً عندما التحق بها ماهر الأسد.
اللحظة الفارقة الحقيقية كانت يوم وفاة باسل الأسد بحادث السيارة. استُدعيَ بشار الأسد على عجل، والتحقَ بداية شهر آذار بالدورة التي كانت قد بدأت فعلاً. لم تكن الحياة العسكرية هواية لبشار، الذي لم يستطع إتقان حتى المشية العسكرية، في حين التزم مرافقوه المئة، الذين تسلموا كل إجراءات الأمن في كلية المدرعات بتلك المشية. ورغم أنّ بشار لم يكن يحضر إلى الكلية إلّا بشكل متقطّع، فقد تخرج بشكل استثنائي في العام ذاته مهندساً قيادياً من مدرسة المدرعات (أو طبيب عيون قياديٍّ إن أردتم الدقة).
كانت آخر الدورات المُعتبَرة للمهندسين القياديين تلك التي التحق فيها إياد مخلوف بعد سنة من مقتل باسل، لتنتهي بعد فترة قصيرة رحلة دورة المهندسين القياديين التي لم يعد هناك حاجة ماسة إليها، إذ دخل أبناء حافظ الأسد الجيش هم وأبناء المسؤولين الذين تم انتقاؤهم.
كان المتخرجون من تلك الدورة قد بدأوا بالفعل بلعب أدوارٍ مهمة في سوريا منذ أيام باسل الأسد. كفاح ملحم كان مرافق باسل ومراسله لمسؤولي الدولة، بمن فيهم رئيس الوزراء محمود الزعبي آن ذاك، والذي كان يقطع أي اجتماع، بما في ذلك اجتماعات مع ضيوف أجانب، عندما يعلم بوصول ملحم إلى مكتبه كي يتسلم تعليمات الوريث الجديدة.
خريجو تلك الدورات، حتى من لم يحصل منهم على منصب رفيع، كان لهم وضع خاص. كانوا يستطيعون توجيه الطلبات لباسل أو بشار بعده، وكان المكلَّف بلقائهم وتَفقُّد أمورهم دوماً هو بسام الحسن، الذي ظلَّ يلعب هذا الدور حتى يوم مقتل العميد محمد سليمان عام 2008 وتعيينه خليفةً له.
وبعد تسلم بشار الأسد السلطة رسمياً، بدأ عمليات نقل لبعض خريجي تلك الدورات إلى أجهزة الأمن. عبد الحميد إدريس كان أحدهم، الذي نُقل إلى فرع الأمن العسكري في حماة وتسلم منصب نائب رئيس الفرع عام 2006. عمار شريفة، الذي كان من دفعة حافظ مخلوف، انتقل إلى شعبة المخابرات العامة (أمن الدولة). كفاح ملحم مراسل باسل الأسد انتقل إلى الأمن العسكري أيضاً، واستمر بالترقي حتى تسلَّم رئاسة شعبة أحد أبرز أجهزة المخابرات في عهد الأسدين.
على الرغم من أنّ قصة تلك الدورات تُغري بحياكة الكثير من الحكايات المتخيلة عن نخبة النظام السوري الحالي، الذين ورثهم بشار الأسد عن أخيه باسل عندما بدأ بإعداد نفسه وحاشيته لتسلم منصب الوراثة في ثمانينات القرن الماضي. إلّا أنّ خريجي تلك الدورات لم يكونوا دوماً على القدر ذاته من الأهمية أو القرب من رأس النظام. أن تكون خريج الدفعة العسكرية ذاتها مع باسل أو ماهر أو بشار، ذلك يؤهلك للكثير، لكنّه ليس شرطاً وحيداً. عددٌ من القيادات الأمنية والعسكرية التي تتصدر الواجهة اليوم، مثل غسان بلال مدير مكتب أمن الفرقة الرابعة وذراع ماهر اليمنى، لم يتخرج من تلك الدورات بل انتسب للكلية العسكرية بالطرق التقليدية. كما لم يكن محمد سليمان (أصبح عميداً ومسؤولاً عن المكتب الأمني قبل اغتياله عام 2008) من ضمن تلك الدورات، لكنّه تقرَّب من باسل الأسد بعد كشفه عن فسادٍ في صفقة شراء دبابات للحرس الجمهوري.
ليس نادياً سريّاً طائفياً كما يمكن أن يتخيل البعض، لكنّه نادٍ مهم من نوادي السلطة العديدة في سوريا، بعض منتسبيه يتحكّمون اليوم بمفاصل بالغة الأهمية في البلد ضمن منظومة الحكم الوحشية لبشار الأسد، أهمّهم ربما بسام الحسن مدير المكتب الأمني في القصر الجمهوري (بعد بشار وماهر طبعاً).
بالمقابل، فإنّ حكاية هذا النادي تقول الكثير عن كيف صنع آل الأسد منظومتهم خلال الخمسين عاماً الماضية. المحاسيب ضروريون للغاية في بناء تلك المنظومة، وتربيتهم وصناعتهم أمر بالغ الأهمية، إذ سيحصل آل الأسد بعد هذا الإعداد على الولاء والطاعة التامة، من أشخاص سيتسلمون مفاصل بالغة الحيوية في نظام الحكم، أشخاص تمّ تصنيعهم بعناية ومراقبتهم بدقة وبشكل مباشر (عندما نقول دقة وعناية، فالحقيقة أنه في بلد مثل سوريا لا يمكن أن تعكس تلك الكلمات المعنى ذاته في ألمانيا مثلاً).
هؤلاء بعض من يُصدرون أوامر القتل والموت في عموم البلاد نيابةً عن أسيادهم، جرى تدليلهم في كلية المدرعات لكي يقتلوا الشعب بإخلاص لصالح معلميهم.
موقع الجمهورية