اليوتيوبرز الغربيون والأسد: “سوريا بخير” بين الأنقاض/ كارمن كريم
نحن نعرف سوريا – الأسد، لن تخدعنا لقطات دافئة وزوايا جميلة لسوريا – اليوتيوبرز، لن تخدعنا الأماكن الأثرية أو تجارب أجنبي زار بلدنا.
“تمّ تعذيبي في سوريا” (I Was Tortured In Syria)، هذه ليست صرخة نجدة أو وصفاً لتجربة اعتقال في سجون الأسد، إنما عنوان لفيديو نشره صانع المحتوى الدنماركي غوستاف روستد بعد زيارته سوريا. استخدم هذه العبارة ساخراً لوصف تجربة “الحمام التقليدي” التي تتضمن الفرك بشدة والدعك و”التكييس” واستخدام المياه الساخنة.
الاستعانة بعنوان كهذا، ليست إلا طريقة رخيصة للحصول على المشاهدات، مقابل الاستخفاف بآلام الآلاف ممن قضوا في معتقلات الأسد، فغوستاف يدرك معنى هذه العبارة في الحديث عن بلد يضاهي عدد سجونه التي تحت الأرض، عدد البيوت التي فيه.
دمشق التي تحتضن “الجميع”
تحوي فيديوات المستكشفين وصانعي المحتوى الأجانب في سوريا، الكثير من التفاصيل المضلّلة، هي دليلٌ قاطعٌ على محاولة توجيه رسائل مشوشة عن حياة طبيعية في سوريا، لن يستفيد منها بطبيعة الحال سوى نظام الأسد واليمين المتطرف الأوروبي الذي يرفض وجود اللاجئين السوريين على أراضيه.
تبهر الفيديوات المتابع وبخاصة الغربي، إذ يشير اليوتيوبر إلى انخفاض الأسعار، فيخبرنا أنك تستطيع تناول سندويش بدولار واحد، وبأقل من دولار تشتري القهوة، لكن ببساطة، ما نراه مجرد كذب وهراء. يتجاهل صناع هذه الفيديوات أن الدولار الواحد نفسه غير متوافر، ومتوسط راتب الموظف لا يتعدّى الـ20 دولاراً، ولا يمكن الحكم على مستوى المعيشة بأن نقول سعر القهوة أقل من دولار واحد.
يظهر اليوتيوبر الدنماركي روستد في فيديو آخر وهو يصور الحياة الليلية في دمشق، منبهراً بالليل الدمشقي حيث مظاهر الرقص والاحتفال. لكن لنركز أكثر على ما صورّه وأين صوّره. روستد في بار محدد اسمه “أبو الزلف“، يقع في باب شرقي مقابل كنيسة الزيتون، هذا البار لمن يعرفه هو واحد من البارات المشهورة في المنطقة، والذي يرتاده في العادة أبناء الطبقة الغنية، فأسعاره باهظة، وهو من البارات القليلة التي حافظت على استمراريتها على رغم كل ما تشهده سوريا.
إن تمشّى زائر المنطقة قليلاً، لن يجد الكثير من البارات المشابهة، بمعنى أن اليوتيوبر الدنماركي انتقى أفضل حانة يمكن أن تعبر عن الحياة الليلية الصاخبة في دمشق! تعني الانتقائية هنا استبعاد الخيارات التي لا تتوافق مع ما يريد صانع المحتوى أن يقدمه للمشاهد الغربي. لا يمكن أن نقول إن هذا هو شكل الحياة الليلية في دمشق، بينما وعلى بعد أقل من كيلومتر واحد، هناك أحياء شعبية غارقة في العتمة والفقر، للمصادفة كنت ابنة إحدى تلك الأحياء المعتمة، وقد زرت أبو الزلف مرتين، ولم يكن ذلك سهلاً على الإطلاق، أقصد مادياً، فشرب “كأس” في ذلك المكان عبء حقيقي.
لكن، لطالما شدني ذلك المكان بأضوائه الموزعة على أشجار الزيتون أمامه، فوسط عتمة مهيمنة، أعتبر الجلوس تحت شجرة مضاءة مع كأس فودكا رفاهية، فالمكان مذهل بالفعل كما يظهر في فيديو اليوتيوبر، لكن ما غفل عنه روستد، هو أن المكان أشبه بنقطة ضوء وسط مساحة مظلمة، والمشي لعشر دقائق فقط، يكشف لنا أحياءً تنازع الفقر.
لا يمكن اعتبار المدينة القديمة المكان الوحيد الذي يستحق الزيارة في دمشق، لكن ربما يعرّج عليها “السوّاح” في تدليل للمتخيل الاستشراقي والإكزوتيكي للمدينة، ناهيك أن هؤلاء “المستكشفين” يمارسون نوعاً من “الغسيل الوردي”، إذ يظهر في الفيديو ذاته شاب مثلي، الغريب ألا مكان لمجتمع العين/ ميم في سوريا في العلن، كونهم يعانون الاضطهاد، لكن يبدو أن هذا الشاب يناسب الصورة!
المفارقة أن هذه الحكايات عن الحياة الطبيعية والمدينة القديمة وجنة مجتمع الميم/ عين، تلائم الصورة التي يحاول النظام السوري أن يروج لها، والتي تترافق مع جهد سياسي ودعوات إلى “عودة اللاجئين”، الذين تُكذب هذه التسجيلات حكاياتهم وروايتهم عن “الخطر” في بلادهم، ما يعني التأثير في صناع القرار الأوروبيين الذين يمكنهم ببساطة أن يقولوا، أنظروا، هذا سائح دنماركي، زار دمشق، ولم يعتقله أحد.
الصورة التي لا (نـ)ـصدقها
نحن نعرف سوريا – الأسد، لن تخدعنا لقطات دافئة وزوايا جميلة لسوريا – اليوتيوبرز، لن تخدعنا الأماكن الأثرية أو تجارب أجنبي زار بلدنا.
مرةً، كنا نتجول أنا وأصدقائي في حارات دمشق القديمة، كان أحدنا يحمل كاميرا، وخلال مرورنا أمام أحد الحواجز الأمنية، حيث يجلس العناصر على كراسٍ بلاستيكيّة يدخنون النرجيلة أو يشربون المتة والشاي، أوقفونا، وسألوا صديقي عن سبب حمله الكاميرا، على رغم أنه لم يكن يستخدمها في حينها، وحين أخبرناهم أنها لالتقاط الصور التذكارية، قال إن هذا ممنوع وطلب مشاهدة ما التقطناه من صور، وبعدما تأكد من أن الصور لنا وليس فيها أي شيء مثير للشبهة، تركنا لنمضي.
أعود إلى هذه القصة لأتحدث ببساطة عما يحصل للراغبين في التقاط الصور في دمشق أو في أي مدينة سورية، حمل الكاميرا لا يختلف عن حمل السلاح بالنسبة إلى النظام، وما حدث معنا ليس استثناءً. يعلم كل السوريين أن التصوير في الأماكن العامة والسياحية والأسواق مقيّد بشدة.
ذات مرة، هجم علينا عنصر أمن وطلب مشاهدة الصورة التي التقطتها صديقتي على هاتفها، وأجبرها على مسحها لأن الموقع قريب من حاجز أمني. باختصار، التصوير في سوريا ليس بالأمر الهين، وما يظهره اليوتيوبرز الأجانب خاضع ومن دون شك لرقابة وموافقة ومتابعة من الجهات الأمنية في سوريا، فمن هذا الغربي الذي سُيسمح له بنقل الواقع في بلد ادعى نظامه أنه يتعرض لمؤامرة من الغرب؟
سوريا التي ينقلها اليوتيوبرز جميلة ودافئة، فيها حياة وصيحات وفرح وناس بسطاء وتجارب طعام وكرم، نعم الشعب السوري طيب ومضياف، هذا ما تنقله قصص اليوتيوبرز الذين يظهر خلفهم مراهقون يلوحون أو يحاولون ترديد كلمات بسيطة بالإنكليزية، يمرون قرب أناس طيبين يلقون التحية، لكن هذه ليست الصورة الكاملة عن سوريا، إنما ما يريده النظام أن ينتشر بعيداً من كل الفوضى وصور الموت والخراب والفقر، وهذا ما يعيه النظام بدقة. ودخول صانع محتوى أجنبي ليصور “دمشق الجميلة”، ليس سوى جزء من استراتيجية تبييض الصورة وتقديم حكاية مختلفة عن تلك التي يتبناها الغرب.
صانعو المحتوى أمام صورة الأسد
المثير للاهتمام أن اليوتيوبرز الذين زاروا سوريا لم يتطرقوا إلى الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هنا، متذرعين بأنهم سيّاح ينقلون تجاربهم فقط، ويكتفون بالإشارة إلى أن هذا الجزء من سوريا مدمر بالكامل أو “انظروا إلى المنازل المهدّمة”. يكررون كليشيهات جاهزة لا تحوي اتهاماً للنظام أو حتى تسمية للأطراف المتصارعة. كأن الحرب وقعت في بُعدٍ أو زمن آخر، وكأن السوريين يعيشون نتائجها وحسب.
يتركنا التجاهل المتعمد السابق أمام أسئلة أساسية، هل يتقصد صانعو المحتوى الآتون من الغرب تجاهل تسمية الأشياء بمسمياتها؟ هل دخولهم وتصويرهم بحرية يعنيان تنسيقاً مع النظام وتقديم صورة يباركها نظام الأسد وتضمن لهؤلاء فرصة مثالية لدخول بلد شديد الحساسية ومغلق أمام العالم بأسره؟ إذا كانت السياحة تعني زيارة أماكن أثرية، فما الذي تعنيه زيارة أماكن أثرية مدمرة؟ يبدو أن نظام الأسد يستفيد من “سياحة الكوارث” أو “سياحة الموت”، متيحاً لمن يسمح لهم فرصة اكتشاف أثر الحرب، والمشي بين الأبنية المهدمة وإخبار العالم عن سوريا التي دُمرت لكنها بخير.
يبدو هؤلاء “السياح” كمن جاء ليكذّب ألم الآخر، يشاهده نازفاً فيقول له “لكنك بخير”، يسمع صراخه ويقول “هنا كان الناس يصرخون من الخوف في الحرب التي لا أسماء لأطرافها!”.
يبدو أن للنظام واليوتيوبرز رسائل أخرى يريدون إيصالها من خلال هذه الأعمال، منها انفتاح النظام وتقبّله الآخر المختلف، وهذا ما نجده في المحتوى الذي يقدمه معظم المغامرين الآتين إلينا، ناهيك بالأبعاد الدينيّة في الصور، إذ يركض صانعو المحتوى لزيارة كنيسة حنانيا الشهيرة أو مدينتي صيدنايا أو معلولا، وهي مدن مسيحية معروفة في سوريا، كنوع من الالتزام الأخلاقي والديني بـ”إنقاذ مسيحيي الشرق” والتأكد من أن الأماكن المقدسة بخير، وقد نجت من الحرب ولا بد من جمع التبرعات لأجلها من كل أنحاء العالم.
إذا قارنا محتوى الفيديوات التي صوّرت في سوريا خلال السنوات السابقة، نكتشف أنها ضمن سياق واحد، منسجم، لا يختلف في جوهره، بل في مُقدمه وطريقة طرحه وحسب، فالشام القديمة جزء من صورة السياحة السورية، وحلب المدمرة التي يحاول سكانها العودة إليها وبناءها، جزء من محاولة السوريين الوقوف على أقدامهم، إنها تركيبة مثالية لصناعة محتوى جذاب عن نظام الأسد.
تمكن اليوتيوبر درو بينسكي، المدون ومصور الرحلات الأميركي، من إيصال رسائل مبطنة لمتابعيه، إذ جاء بصفته سائحاً لا ينوي الدخول في السياسة، وحين يتحدث عن معارك وقعت قريباً من مكان وقوفه، لا يقول إن النظام قصف المباني، لكن هذا لا يمنع مرافقه من إخباره أن تركيا منحت المعارضة أسلحة حديثة، يمكن سماع أصواتها أثناء التسجيل. كما لا ترف عين لدرو وهو يجلس أمام صورة بشار الأسد مردداً عبارات ساذجة عن خلاصة ما رآه، قائلاً إن المستقبل هو اليوم والناس سيعملون معاً كي تعود الحياة إلى ما كانت عليه، فهل هذا كله مصادفة، أم سيناريو يؤدَّى؟
يبدو مشهد اليوتيوبرز الأجانب في سوريا، مستفزاً، بخاصة للسوريين حول العالم، ليس لأنهم يتنقلون بحريّة في بلد منهك ويصورون الأجزاء الأكثر إشراقاً، معدّلين ما صوروه بالمونتاج ليخرجوا في النهاية بفيديو يحصد ملايين المشاهدات، بل لأنهم يختلقون سوريا غير موجودة، ويقدمونها للعالم في دقائق عبر منصات التواصل الاجتماعي، ما فتح أمام السوريين اللاجئين والمهاجرين معركة جديدة، تحتّم عليهم الدفاع مجدداً عن سبب هربهم من بلادهم وتفسير أنفسهم ومعاناة أحبائهم في الداخل، أمام صورة سائح يشرب الشاي ويأكل المناقيش فرحاً في دمشق القديمة.
درج