نقد ومقالات

أين الفن؟، انقر على هذا الرابط!التاريخ وصالات العرض والسوق/ عمار المأمون

أين يمكن مشاهدة الأعمال الفنية؟. في المتحف، أم الصالة، أم الأرشيف المحكوم بالفقدان والقمع وغياب الجهود الجديّة لأرشفة تاريخ المنطقة؟ كان هذا السؤال مطروحاً بشدّة في السابق ولا يزال، خاصة خلال مرحلة وباء كورونا. اليوم، توجد منصات رقمية، هي بمثابة معارض افتراضية تتيح للمشاهد الاكتشاف والغرق في التجربة الجماليّة دون عناء البحث المجهد عن تفاصيل كلّ عمل فنّي. هنا قراءة في هذه التجربة وبعض المنصات الرقيمة التي تعرض الفن وتسوّق له افتراضيا.

صحفي مهتم بالشأن الثقافي، حاصل على ماجستير في الإعلام وليسانس في الدراسات المسرحيّة من جامعة دمشق، وماجستير في الدراسات الثقافيّة من جامعة السوربون. مختص في نظريات الأداء والصناعة الثقافيّة، يعمل في عدد من الصحف العربيّة والدوليّة.

يقع الباحثون والهواة على حد سواء في ذات الإشكالية حين محاولة الحديث عن “تاريخ الفن” في المنطقة العربيّة، وتزداد المشكلة حين الحديث عن صالات العرض والسوق. إشكالية تاريخ الفن في المنطقة مفاهيمية من جهة وعملياتية من جهة أخرى.

القسم المفاهيمي يتلخص بسؤال: هل تاريخ الفنون في المنطقة العربية مستقل عن تاريخ الفن الأوروبي، أم هو جزء أدنى منه تحكمه الأدوات والمركزية الأوروبيّة؟. والقسم الثاني من الإشكاليّة، أي العملياتي، يُلخص بسؤال بسيط: أين يمكن مشاهدة الأعمال الفنية؟. في المتحف، أم الصالة، أم الأرشيف المحكوم بالفقدان والقمع وغياب الجهود الجديّة لأرشفة تاريخ المنطقة؟

لا يمكن الإجابة عن كلّ الأسئلة السابقة، لكن يمكن القول، أنّ سؤال “أين الفن ؟” بمعناه الساذج ذو إجابة ولو متواضعة. السبب أنّ البنية التحتية التكنولوجية الحالية أتاحت إنشاء معارض رقمية وصالات دائمة لعرض الأعمال الفنيّة، الشأن الذي ازدادت أهميته أثناء فترة الحجر الصحي العالميّ، إذ أعادت المتاحف والمعارض النظر في أسلوب عملها بعد الاستغناء عن التجربة الحيّة، لتتحوّل الشاشات إلى مساحات لعرض الأعمال الفنية و”استهلاكها”.

ازدادت العلاقة بين “العمل الفني” و”الفضاء الرقمي” شدّة بعد ظهور تقنيات البلوك تشاين، وتحوّل الأعمال الفنية إلى NFT، يمكن عبرها “امتلاك” العمل الفني، أو النسخة الرقمية منه ضمن نموذج اقتصادي يتيح للفنان ومُشتري العمل الفني تقاسم الربح في كلّ مرة يباع فيها العمل الفنيّ، ناهيك عن الأثر السياسي لهذه التقنيّة، المتمثل بالاستقلالية وخلق بيئة فنيّة قادرة على التحرّر من سياسات المتحف، والصالة، والتمويل.

نشير إلى موضوع الاستقلالية بسبب الفضائح التي تحيط بعالم الفن والمتاحف، إذ اقتحم مثلا مجموعة من الناشطين متحف Moma PS1   في الولايات المتحدة  عام 2020، ومزقوا احتجاجاً لوحات الفنان العراقي  علي ياس، بسبب اكتشاف روابط وثيقة بين المتحف وشركة بلاك ووتر للمرتزقة. جدل جديد ظهر إلى السطح هذا العام في مهرجان دوكيمنتا في ألمانيا، بسبب تهم معاداة الساميّة التي لاحقته بسبب بعض اللوحات التي عرضت فيه.

وفرت المنصات الرقميّة مساحة مستقلة عن السياسات الثقافية الرسميّة، وهذا ما يتضح في عمل منصة “وزارة” التي تأسست عام 2021، بوصفها أول منصة رقمية في عالم المنطقة العربية، تتبنى تقنية “البلوك تشاين”، وأقامت أول معرض عام 2022، بعنوان “أرقام”، استقلالية “وزارة” تستند على العامل المادي، إذ توّفر المنصة خدمات النشر خلق الـNFT، إلى جانب حملات التمويل، ليكون الفنان والمنصة والجمهور أنفسهم “ملّاك” للعمل الفني ومساهمين به، ما يحرّر المنصة من سياسات المتحف وصالة العرض التقليدية المرتبة بعملية التسعير والأرباح الأولية والناتجة عن عمليات البيع المتعدّدة.

تتيح الاستقلاليّة الاستغناء عن رسوم العرض الباهظة، والتقليل  من النسبة التي تحصل عليها الصالة بعد البيع، ناهيك أنها تتيح للـ”جميع” تلقي العمل الفنيّ، بعيداً عن فضاء المتحف، صحيح أن تجربة المشاهدة مختلفة، أي أن نقف أمام لوحة لا يشابه أن نحدق بها على الشاشة، لكن  أتاحت هذه التقنية لأي أحد “الوصول” إلى العمل الفني الذي يريد، وسهلت عملية الشراء العلنيّة، إذ يمكن عبر تقنية البلوك تشاين ملاحقة التحويلات المادية واكتشاف عدد المرات التي بيعت بها القطعة وما هي النسب التي يحصل عليها كلّ شخص، ما يبعد شبهات غسيل الأموال والتهرّب الضريبي.

الأرشيف والتحرر من المكان الماديّ

سؤال “أين الفن؟”، لا يرتبط بزمن طرحه، بل يمكن أن يسأل في أيّ حقبة زمنية، وعادة ما تساهم الأرشيفات بالإجابة عنه، لكن فقر المنطقة العربية بأرشيف فني منظم، دفع العديدين إلى إنشاء منصات رقمية -فنيّة، تحوي مواد أرشيفية لا يستهان بها، مواد تدفعنا لإعادة النظر في تاريخ الفنّ في المنطقة العربيّة، في الحالة السورية هناك الخشبة-أرشيف المسرح السوري، و أرشيف الكاسيت السوري وغيرها من المنصات التي تسعى لجمع المنتجات الثقافية والفنية ضمن مساحة واحدة، تكون فيها متاحة (للجميع) مختصين وفضوليين على حد سواء.

المحاولات السابقة تسعى بعكس الأرشيفات الرسميّة إلى تبني الحياد، الذي قد يكون إشكالياً في الكثير من السياقات، سواء كنّا نتحدث عن طبيعة الأعمال الفنية وصناعها، أو تقنيات الأرشفة نفسها، وقدرتها على تبني المصداقيّة ونيل الاعتراف الرسميّ. الحياد هنا، ذو أبعاد سياسية خصوصاً في ظلّ الأيديولوجيات المتصارعة و(أدلجة) الأعمال الفنية نفسها من قبل السلطات. المثال الواضح على ذلك  هو “دريد لحام”، كيف يتم التعامل مع مسيرته المهنيّة، هل أرشفة ما عمل ضمنه يتطلب تعليقات على مواقفه السياسية أو لا؟.

الملفت في التجارب الأرشيفية-الفنيّة، أنها تعي بدقة النقص الذي تشهده المنطقة وتحاول سده، ناهيك عن إدراك أهمية المواد الأرشيفية، سواء كانت شرائط منسوخة ومتداولة بوصفها “أغراض مبتذلة” أو عروض مسرحيّة منتجة رسمياً. هذا الحرص على الأرشفة الفنيّة، وتوفير المواد الأرشيفية للعلن يفتح الباب أمام قراءات مغايرة للتاريخ عن الأغراض المتنوعة، سواء كانت فنية أو استهلاكيّة. يلفت الانتباه هنا الكتاب الصادر مؤخراً ” ميديا الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة.” الذي يحاول قراءة تاريخ مصر الاقتصادي (هجرة العمال  نحو الخليج)  والسياسي (انتشار الأغنيات الوطنيّة) والديني (علاقة الشيوخ وأسلوب ترتيلهم مع الأزهر) عبر الكاسيت وانتشاره في الفضاءات العامة.

يعمل الباحث والناشط الثقافي إنريكو دي انجيلس بالتعاون مع مجموعة من الفنانين على إطلاق “غاليري مينا- MENA gallery”، وهي منصة تجمع أعمال فنانين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (سواء كانوا مقيمين في بلدانهم أو مهجّرين أو منفيين) لعرضها ضمن مساحة تتيح تلقيها ومعرفة تاريخها والاطلاع على جمالياتها، والأهم اقتنائها، سواء كانت هذه الأعمال رقمية أو ماديّة.

يهدف مشروع مينا الذي ما زال قيد التأسيس إلى جلب العالم العربي وشمالي أفريقيا إلى العالم، العبارة التي تبدو تقليدية، لكن القائمين على المشروع يسعون لتقديم المنتجات الفنية الشرق أوسطيّة والشمال أفريقية بعيداً عن السياق الحالي الذي تقدّم به في أوروبا، أي خارج نطاق المعارض ذات الثيمات الهوياتيّة والسياسية (فن اللاجئين، فن المهجرين، فن دول الجنوب …الخ)، إلى جانب العمل على إدخال المنتج الفني ضمن السوق الأوربية بوصفه ذو خصائص جماليّة، ولا يعبّر فقط عن شرط سياسي أو وضعية إدارية يخضع لها الفنان .

تتيح منصة “مينا” أيضاً شراء الأعمال مباشرة من قبل المتصفحين والمهتمين، ما يحرّر المنتج الفني من الوسطاء، خصوصاً في ظلّ انفتاح السوق الأوربي على فناني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن شروط أدخلته ضمن فئات ثانويّة أكسبته صفة الأنثروبولجي والإثنوغرافي والناشطية السياسيّة، يكفي أن نستذكر معرض “المقاومة العالميّة” الذي أقيم في باريس عام 2020 لنرى كيف أصبح المنتج الفني أسلوباً لاستثارة التعاطف،  وخلق نوع من التضامن الاستعراضي مع الدول التي تمرّ بأزمات ومشكلات سياسيّة.

الشرط الآخر الذي يحكم المنتجات الفنية التي تنتمي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتمثل بالسوق ضمن دول الخليج ، التي تتحوّل إلى مركز ثقل ثقافي وفني مدعوم بأموال طائلة، تفرض، ولو بصورة غير مباشرة، شكل محدّد من الجماليات والخطابات السياسيّة، هذا السوق الجديد يحاول أن يعيد تقديم المنتج الفنيّ عبر نزعه من سياقه المحلي والسياسي ولصقه على “جدار” المتحف والمعرض الأبيض، بوصفه يتحرّك فقط ضمن الإطار،  ولن نشير هنا إلى اتهامات تهريب الآثار التي تلاحق لوفر أبو ظبي، بل إلى العرض المسرحي “متحفي اللوفر أو / و رفس الموتى” لوليد رعد، الذي عرض في باريس عام 2019، والذي يسخر فيه من عملية نقل الأعمال الفنية من (الخارج) إلى لوفر أبو ظبي، العملية التي أدت إلى تشوّه هذه الأعمال وتغيّر مكوناتها.

العوامل السابقة والقوى التي تتحكم بأسلوب عرض العمل الفني جعل من المنصات الرقميّة مساحة أكثر قدرة على مخاطبة “المستهلك” وأقل تأثراً بـ”السوق” وسياساته، في رهان  على الشرط التكنولوجي الذي يتيح للمشاهد الاكتشاف والغرق في التجربة الجماليّة دون عناء البحث المجهد عن تفاصيل كلّ عمل فنّي.

حكاية ما انحكت

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button