صفحات الثقافة

الذات المديونة… أو كيف يغيّر التضخّم ثقافتنا المعاصرة/ محمد سامي الكيال

يمكن اعتبار التاريخ المعاصر، منذ نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي على الأقل، سيرة لموجات متعاقبة من التضخّم المالي، ومع كل موجة من تلك الموجات يتغيّر كثير من أنماط الحياة والقيم الثقافية، وتعريف البشر لأنفسهم وعالمهم. من الأمثلة الشهيرة والطريفة على ذلك حديث مؤرخين غربيين، من اليمين واليسار، عن أن ما يسمى «التضخّم العظيم» الذي عرفته الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية، ابتداء من عام 1965 وحتى عام 1982، ساهم في تقدّم حقوق النساء عموماً. إذ أن انخفاض الأجور الفعلية للعمّال، وأغلبهم من الذكور، أدى إلى «تقسيم دخل الأسرة» بعدما باتت ربّات المنازل مضطرات للنزول إلى سوق العمل للمساعدة في إعالة أسرهن، الأمر الذي لم يؤد فقط إلى تغيّر النظرة الاجتماعية للنساء، ودورهن في الحياة العامة، بل إلى انهيار الأساس المادي للعائلة الأبوية النووية، ضمن أوساط الطبقة العاملة، الذي كان قائماً على إنفاق الأب وحده على الزوجة والأبناء.

التضخّم شديد التأثير ثقافياً واجتماعياً لأنه يأتي بتأثير الصدمة، الذي يخلّف رضّاً كبيراً في وعي الأفراد والجماعات التي تعايشه، ورغم كونه الشكل الأهم للإفقار في عصرنا، إلا أنه يختلف عن ظواهر الفقر الاعتيادية، لأن المجموعات التي تعاني من الفقر المترسّخ تطوّر عادة أنماط حياة وروابط وقيماً اجتماعية، يتم نقلها عبر الأجيال، تصنع سماتها الثقافية والحياتية العامة، المألوفة بالنسبة لها. أما التضخّم فيفاجئ البشر، المُصنفين عادة من «الفئة الوسطى» والذين يستيقظون ذات صباح ليجدوا أن أموالهم ومدخراتهم لم تعد لها القيمة القديمة نفسها، وأن قدرتهم الشرائية تآكلت بشكل مرعب. شعور الرعب هذا يدفعهم للقيام بتغييرات دراماتيكية في حيواتهم، والقبول بأشياء وسلوكيات تتنافى مع مفهومهم القديم عن الكرامة.

وإذا اعتبرنا أن للتضخّم أثر الرضّ النفسي، فإن لهذا النوع من الرضوض دوراً كبيراً في بناء شعور الناس بأنفسهم، ويمكن اعتباره مؤسِّساً للذات الفردية. توجد دراسات حول ما يسمى «علم نفس التضخّم» إلا أنها تبقى متخصصة بالقضايا الاقتصادية وسلوك المستهلك وخيارات سوق العمل، فيما الأثر النفسي لهذه الواقعة الاقتصادية، التي يتلقاها الناس بوصفها كارثة اجتماعية، أكبر بكثير من تلك الميادين الجزئية، فهي تعيد صياغة الثقافة الاجتماعية والسياسية بأكملها، وكذلك العلاقات بين الناس، ووعي كل فرد على حدة. فكيف يغيّر التضخّم نظرتنا لذواتنا؟ وما تأثيراته الأساسية على ثقافتنا المعاصرة حول العالم؟

أخلاق الدَيْن

يعود إلى الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه التنبيه إلى دور الديون، وضرورة الوفاء بها، في تأسيس الأنظمة الأخلاقية للبشر. تصبح الأنا الفردية، حسبه، متعلّقة بآخر أكبر وأقوى منها، يطالبها، تحت طائلة العقوبة والإخراج من الجماعة، بتأدية ما عليها من مستحقات. وعلى أساس ضرورة تذكّر الدَيْن دائماً، وعدم السماح بنسيانه، تتأسس قيم أخلاقية أساسية، مثل الضمير والشعور بالذنب، بل ربما كان النظام الأخلاقي المعروف كله (أو على الأقل الأخلاق المسيحية -اليهودية) ليس أكثر من ثنائية دائن/مدين مُقدّسة. الفيلسوف الإيطالي موريتسيو لاتسراتو جعل هذه الأفكار جانباً أساسياً من تحليله للنظام الاقتصادي المعاصر، ودوره في إنتاج الذوات. تقوم معظم العمليات الاقتصادية الحالية على نظام معقّد من الإقراض والديون، أدى لتضخيم البيانات والرموز المصرفية والمالية بشكل غير مسبوق، ما يجعل الرأسمالية المعاصر أقرب لـ«ماكينة سيميائية» هائلة، حسب تعبير لاتسراتو، وهذه الماكينة لن تعمل وتستمر إلا بوجود قناعة بأن المال المُقرض سيتم الوفاء به في يوم من الأيام. ما يجعل ثنائية دائن/مدين الرمز الأساسي لعمل النظام الاقتصادي، وأكثر أهمية من رمزية القيم المالية نفسها. التضخّم بدوه نتيجة لتلك الماكينة السيميائية، إذ أن عمليات الإقراض تؤدي إلى توافر سيولة مالية كبيرة، غير مستندة إلى وقائع وقيم فعلية في «الاقتصاد الحقيقي» فيفقد المال قيمته. لكن يبقى الدَيْن. الناس جميعهم مديونون اليوم، إن لم يكن بشكل شخصي، فهم مواطنون في دول مديونة، «يخدمون الدَيْن» عبر ضرائبهم، وعليهم أن يعملوا أكثر كي يوفوا ديونهم؛ أو على العكس، يصبحون عاطلين عن العمل عندما تُفلس المؤسسات التي كانوا يعملون بها، تحت ضغط الدَيْن. فينشأ جيش من المُعطّلين، الذين ينافسون العاملين على فرص العمل المحدودة، ما يؤدي لانخفاض الأجور، وهو أمر شديد الكارثية في شرط تفقد فيه العملات، التي تُدفع بها تلك الأجور، قيمتها.

نعمة النسيان غير متوفّرة في حالة الإنسان الغارق في الديون، عليه أن يتذكّر دائماً ما عليه الوفاء به، وإلا قد يتعرّض لـ«إلغاء» فعلي شديد الإيلام. شهدت بعض الدول العربية مؤخراً ارتفاعاً كبيراً في حالات الانتحار، رغم الفكرة السائدة بأنها أفعال لا تتسق مع الثقافة الاجتماعية. ربما كان كثير من المنتحرين نموذجاً لـ«الإنسان المديون» الذي تحدّث عنه لاتسراتو. مشاعر الذنب والخطيئة، المتعلّقة بالدَيْن، قد تكون أساسية في تكوين الذاتية الفردانية المعاصرة. إذ يجب أن «يتذكّر» المرء نفسه دائماً، يسعى لتطوير قدراتها، وإكسابها مهارات جديدة، و»يعمل عليها» باستمرار، وإلا فإنه سيعرّضها لعقوبة الإلغاء. لا مجال هنا للاسترخاء والكسل، اللذين وسما حياة الناس ضمن مجتمعات حميمية ومتراصة، بحسب الصورة النمطية. وهذا «العمل على الذات» لا يرتبط فقط بالوفاء بالدَيْن المالي، فكل ما في حياتنا يُشعرنا بأننا مذنبون: لأننا لا نعيش حياة رغيدة، كالتي نراها في صور المؤثّرين على «انستغرام» مثلاً؛ أو لأننا لا نملك أجساماً مثالية؛ أو ربما لكوننا لا نعيش «علاقات صحيّة». وكأننا مديونون للأبد لجهة ما، لا نعرف ما هي بالضبط، لكنها تغرقنا بآلاف الصور والعلامات والرموز، التي يجب أن نطوّع ذاتنا لـ«تفي» بها، أي أن نتطابق معها، وإلا قد نُنفى من ملكوت «الذات السليمة». ما تلك الجهة حقاً؟ إذا عدنا للاتسراتو فسيؤكد أنها «الماكينة السيميائية» نفسها، التي تُنتج ديوننا المادية. أي الرأسمالية المعاصرة بتعبير يساري عتيق.

هل فردانية الذنب والخطيئة والدَيْن فردانية فعلا؟ من المنظور القانوني والاقتصادي والسياسي السائد هي كذلك، لكن قد يكون لفلاسفة مثل نيتشه أو حتى جورجيو أغامبين رأي آخر، فالأخير اعتبر كل تلك الذوات المفردنة «حشداً سلبياً» متراصاً، بلا رأس أو ملامح.

اقتصاد الألم

يغيّر التضخّم، وتكثير الديون الفردية والجمعية، ما يمكن تسميته «اقتصاد الألم» في مجتمع ما. يُبنى عادةً على الألم، والتهديد به، كثير من الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية في حياتنا. وتلعب آليات العقاب والرقابة، المباشرة وغير المباشرة، دوراً سياسياً وتربوياً كبيراً، يؤمّن ترسيخ قيم وأيديولوجيات معينة في الجسد الإنساني، بل تشكيل الذات نفسها. وتحت ضغط الألم الاجتماعي المُستجد، الذي تسببه صدمة التضخّم، ستنهار قيم كثيرة، وبنى كانت راسخة في اقتصاد الألم السائد حتى وقت قريب. وهذا أمر مثير للقلق في المجتمعات العربية خاصة، التي تعاني أصلاً من التراجع على كل المستويات. الانهيار الشامل للبنى الأبوية، وأنظمة رعاية الدولة، والمؤسسات التعليمية والثقافية، قد يؤسس لاقتصاد ألم جديد، يُطوّع الأفراد والمجموعات على أساس عنف غير حضاري، بدأنا نشهد وقائعه فعلاً، مثل العزل الطبقي بين الأثرياء والفئات المنحدرة المتكاثرة؛ الاعتداء الهمجي على النساء في الفضاء العام، علناً وفي وضح النهار؛ تفكك ما تبقى من شبكات البر والإحسان؛ انهيار علاقات القرابة والتضامن الأسري؛ التطرّف الديني المعادي للمجتمع. ربما سيبقى «أفراد» لهم «خصوصيتهم» لكنهم قد لا يجدون مساحة ليعيشوا فيها حياة يتوفّر فيها الحد الأدنى من ضرورات الاستمرار. وعندها سيصبح سعيهم لوفاء ديونهم أشبه بنبوءات نصوص العصور الوسطى عن عذاب الخطاة في الجحيم.

العمل الاجتماعي

وسط هذا الظرف المتردي قد يكون الأجدى البحث عمّا تبقى من سياقات تضامنية في المجتمعات المبتلاة بصدمة التضخّم، ومحاولة تعزيزها وإسنادها كي لا تنهار. «الفرد» لن ينفع، فقد لا يكون أصلاً إلا أحد أعراض الأزمة، فيما قد تكون محاولة إعادة بناء الروابط الجمعية طريقاً للتخفيف من المعاناة. من الصعب التعويل على البنى التقليدية في هذا الظرف، لأن لانحلالها أسباباً موضوعية قاهرة، ومن العبث مطالبة رجل منهك بالديون أن يعود «رباً» لأسرته أو عشيرته أو حارته. وربما الأفضل التركيز على العمل الاجتماعي، الذي يتم استغلاله للوفاء بالديون وتكثيرها، وهو ليس فقط العمل المأجور، بل كل أشكال الرعاية والتواصل والتضامن ونقل المعرفة بين البشر، التي دونها لا يمكن أصلاً أن توجد مجتمعات تعمل وتُنتج، محققةً القيم المادية المباشرة. قد يكون السعي لتجميع البشر، على أساس أنهم «عمّال اجتماعيون» متضامنون، يعيشون الظرف نفسه؛ ومحاولة بناء هياكل تنظيمية لهم، الجهد السياسي والأخلاقي الأفضل، الذي قد يقي من الآثار الكارثية لانهيار أنظمة التحضّر المعاصرة.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى