الكتاب الأسود للأسدَين: مدخل إلى الجحيم السوري/ عمار المأمون
صدر عام 2018 كتاب داخل رأس بشار الأسد عن دار آكت-سود الفرنسية،
من تحرير فاروق مردم بيك وصبحي حديدي وزياد ماجد. يعد الكتاب استمراراً لسلسلة الكتب التي تصدرها الدار ذاتها، متناولةً شخصياتٍ إشكالية تساهم في صناعة التاريخ العالمي المعاصر، ليكون الكتاب إضافة إلى مجموعة عناوين عديدة، منها داخل رأس «فلاديمير بوتين، مارك زوكيربيرغ، جوليان أسانج، مارين لوبين وغيرهم». في السياق ذاته، أي دخول سوريا إلى التاريخ العالمي والفرنسي، صدر كتاب سوريا-البلاد المحروقة (Syrie Le Pays Brûler) أو بحسب العنوان الهامشي الكتاب الأسود للأسدَين 1970-2021 عن دار سوي-Seuil، ويتكرر فيه اسم الناشر والمؤرخ الغنيّ عن التعريف فاروق مردم بيك كأحد محرِّري الكتاب إلى جانب كاثرين كوكيو وجويل هوبريشت ونائلة منصور.
الكتاب كسابقه جزء من تقليد يرتبط باسم الكتاب الأسود. إذ سبق أن صدر الكتاب الأسود لـ«الشيوعيّة، اليسار الفرنسي، التحليل النفسي، الاستعمار، الدعارة وغيرها». تُعتبر هذه الكتب أشبه بمراجع من نوع ما، وجهد ثقافي لرسمِ صورةِ قضيةٍ أو حدثٍ تاريخيّ في محاولة للإحاطة بكافة جوانبه، ولا يخلو الأمر من الانتقادات والجدالات والاتهامات المختلفة التي تطال مفهوم «الكتاب الأسود» وطبيعته التمثيلية.
يبلغ عدد صفحات الكتاب ما يقارب الـ900، تُفتَتح بعد كلمة المُحررين، بمقدمة لـجويل هوبريشت وأنتوان غارابون، الجملة الأولى منها هي عبارةٌ قد تكون شعريّة، لكنها دقيقة نوعاً ما، إذ نقرأ «هذا الكتاب يفتح أمام القراء أبواب الجحيم السوريّ»، وهذا ما لا يمكن إنكاره، فالكتاب يحوي مواداً منشورةً سابقاً وأخرى جديدة تتناول «سوريا»، بهدف رصد طبيعة العنف والهيمنة اللذين تعرّض لهما السوريون طوال حكم الأسدَين.
تنتمي المواد في الكتاب إلى أنواع عديدة: النصوص البحثية، النصوص الأدبية، الشعر، الشهادات، الصور، اللوحات، لقطات الفيديو وغيرها من الأدوات التي حاولت توثيق ما حصل ويحصل في سوريا. هي رحلة مُرعبة للقارئ الفرنسي والفرانكفوني الذي، إن قرر قراءة الكتاب، سيجد نفسه أمام كتلة نصية وبصريّة، أنتجها المهجرّون والمعذبون والضحايا ممّن حاول الأسدان إخفاء أصواتهم، ترافقها أصوات مختصين ومهتمين وباحثين في الشأن السوريّ، كرّسوا وقتهم لثورةٍ وحرب قد تبدو محليّة، لكنها طالت أنحاء العالم.
يُقسم الكتاب، الذي يُفتتح بمقالين لمصطفى خليفة، إلى ستّة أقسام نستعيض عن الدخول في تفاصيلها بإيراد عناوينها مرتبةً منذ البداية: «الرعب والعنف، عالم الاعتقال السوري، نظام في حرب ضد شعبه، سياسات التدمير، الفخ الجهادي، إعادة الإعمار لأجل المحو». الأقسام الستة للكتاب تتتبّع تاريخ سوريا منذ الأسد الأول، وبناء الدولة الديكتاتورية، حتى دمار سوريا وسياسات إخفاء الجريمة، ولا تكتفي بالمقاربات النظريّة، فتنوعُ النصوص وطبيعتها يُكسبان الكتاب غنىً يجعله مفيداً للهاوي، ومن يريد تعميق معرفته بسوريا، وللمختص في الشأن السوري، وللباحث الذي يحاول ضبط ما فاته. لا يعني ذلك أن الكتاب شامل، وهذا أمر يدركه الجميع. لكن يمكن الإشارة إلى غياب جوانب تتعلق بالاقتصاد السياسي للنظام السوري، وهو من ضمن مقومات سمحت للنظام بأن يبقى قائماً إلى لحظة صدور الكتاب، وبشكل عام يشهد هذا الجانب فقراً بحثياً لا يمكن لوم محرِّري الكتاب عليه.
يشير الكتاب في مقدمته – وحتى في محتواه – إلى خصوصية الحرب السوريّة، سواء كنا نتحدث عن المستوى التاريخيّ، فيما يخص أساليب استعراض العنف وتوظيف تكنولوجيا الاتصال الحديثة لإيصاله خارج سوريا، أو على المستوى العسكري، حيث تحوّلت سوريا إلى ساحةٍ لاختبار الأسلحة المتطورة والبدائية على حد سواء، من قبل روسيا وإيران والنظام السوري نفسه. كما يشير الكتاب في لفتة مثيرة للاهتمام إلى طبيعة بعض الأعمال المنشورة في الكتاب من لوحات وأبيات شعرية واسكتشات، نعم هي أعمال فنيّة، لكنها في ذات الوقت تحمل صيغة وثائقية تختزن سلطة «الشهادة». الشأن الذي أشرنا إليه سابقاً حين الحديث عن رسوم نجاح البقاعي، في مقالة كلهم شهود الموجودة في الكتاب أيضاً، فالحدود بين الجمالي والوثائقي والشخصي مائعة، لا بسبب الرغبة بسرد الحكاية التي يحملها كل سوريّ وحسب، بل أيضاً بسبب الرقابة والعنف الذي يمارسه النظام السوري على مواطنيه حتى وهم خارج مساحات سيادته. إذ يشير الكتاب إلى إغفال أسماء بعض الذين ساهموا في الكتاب خوفاً على حياتهم.
تصعب الإشارة إلى «كل» ما يحويه الكتاب، فعلى سبيل المثال، الكثير من النصوص تعود لكتّاب مثل ياسين الحاج صالح، سلوى إسماعيل، كاثيرن كوكيو، سيسل بويكس وغيرهم، الذين يمتلك كل واحد منهم كتلةَ أعمال تحمل اسمه، يمكن تناول كل منها على حدة.
المثير للاهتمام هو مجموع الأسماء في الكتاب، أي وجودها جميعاً ضمن فهرس واحد، سواء كانوا سوريين أو فرنسيين أو من جنسيات أخرى. تصفّح أسمائهم يحرك فينا تساؤلات حول «العالم» الذي يخاطبه الكتاب، الشأن الذي أشارت له سابقاً نسرين الزهر وكاثرين كوكيو في حوار نُشر في الجمهورية.نت مع ياسين حاج صالح، أي يمكن القول الآن، إن «العالم» يمتلك «كتاباً» عن سوريا وما حصل فيها، كُتبَ بلغة «عالميّة»، الكثيرون ممّن فيه اضطروا إليها كي يفقه «العالم» معاني الألم، التعذيب، الفقدان، التي قد تبدو شعريةً. لكن في الوقت ذاته، وهنا الشأن المرعب، هناك سوء فهم بيننا وبين «العالم»، تجاه مفاهيم يُفترض الاتفاق عليها، كالدليل، الوثيقة، الجسد الميت، تلك التي لا تحتاج لغة كي «تُفهم»، وهنا السؤال المقلق، أيمكنُ أن يكون كل ما حصل نتاج «سوء فهم»؟ قد تقودنا حذلقة من هذا النوع إلى الغرق في العدمية، والاستسلام أمام حقيقة بابلية مفادها أننا لا نتحدث اللغة ذاتها حين الحديث عن العدالة، الطغيان والانتهاك.
أتحدث عن الكتاب ككلّ بوصفه «علامة» في الحكاية السورية، بمعنى، مضى من الزمن ما يكفي منذ عام 2011 كي يُنتج كتاب قادر على سرد الحكاية؛ انتخاب النصوص والصور والوثائق بأشكالها المتنوعة، قد يعني نهايةً ما، نهاية تثير القشعريرة، نهاية يمكن أن تُختزل بالتالي: هذا الكتاب عن سوريا، أقرأه، أضعه على الرف بارزاً، ثم أنتقل إلى غيره، ربما هناك تورط عاطفي في الشأن السوري، أو هي تهويمات بورخيسيّة عن الكتب ذاتها ومعانيها، خصوصاً أن بوابة الجحيم السوري لم تغلق بعد، لم يبرد، بل ازداد عمقاً، جوعاً، فقراً، احتلالاً وكوليرا.
أهمية الكتاب- من وجهة نظر شخصيّة – تكشف الدور الذي لعبته الثورة في سوريا وما نتج عنه من تغيرات سياسية عالمية، الدور الذي هدّد العديد من المفاهيم، كحقوق الإنسان، الشرعية الدولية، وغيرها من البلاغات السياسية – الإنسانيّة. فأن يشاهد «العالم» بشراً يُعدَمون ثم يُلقََون في حفرة، أو جثثاً تُرصف للاستعراض العلني، دون أن يوقف المجزرة، يعني أننا في عالم ما بعد الرعب، عالم غير «عالمي» يُستعرض فيه الألم، وتُؤخذ مسافة منه، ولكلٍ جزيرته التي سيموت فيها.
موقع الجمهورية