مراجعات الكتب

الكذب جزء من هيولى العالم/ عمار المأمون

يصعب تجاهل كتاب بعنوان تاريخ الكذب حين تصفُّح منصة “أبجد”، ولا نتحدث هنا نص جاك ديريدا الشهير الذي يحمل ذات الاسم، بل الكتاب الذي أنجزه الروائي الاسباني خوان رينخل عام 2020، وصدرت طبعته الإنكليزية هذا العام، بالتزامن مع الطبعة العربيّة عن دار الخان للنشر والتوزيع بترجمة طه زيادة، الذي يترك لنا مقدمة مثيرة للاهتمام قبل الشروع بالكتاب، إذ “يشهد” أن هذا الكتاب “يستحق كل جهد الترجمة المبذول فيه”، ويؤكد أننا سواء اتفقنا أو اختلفنا مع مضمون الكتاب فما فيه ليس إلا “أفكار تعبر عن رأي صاحبها”، وكأننا نقرأ Disclaimer على لسان المترجم، تبرئة للذمة أو نفي لتبني أفكار الكتاب الذي لا يشير في “قائمة مراجعه الطويلة” إلى كتاب دريدا الذي يفترض استحالة البحث في تاريخ الكذب.

تقديم المترجم يمكن تفهمه حين نشرع بالكتاب، فالفصل الأول المعنون بـ”واحد” يؤسس لفرضية للقراءة مفادها أن راوي الكتاب متوهم، وكل ما يقوله محض كذب، حتى اعترافه نفسه بأن ما يكتبه كذب، مُكذوبٌ أيضاً (إحالة هنا إلى اللعبة اللغوية المنطقية الشهيرة حين يتناقض معنى العبارة مع قيمتها المنطقية)، يستمر هذا الاتفاق على الكذب ليصل حد افتراض أن القارئ نفسه غارق في الأكاذيب، ذكرياته وما يعرفه وتاريخه كله متخيل و مكذوب، أي باختصار الأنا و ما حولها، وجودها الموجود داخلها وخارجها ليس إلا كذباً، أما تاريخ البشر فليس إلا تاريخاً للأوهام.

لحظة الشكّ ومواجهة الأكاذيب

يمكن وصف فرضية أن كل ما هو موجود مكذوب بالساذجة، أو حل سريع للبدء بتتبع الأكاذيب التي نصدقها، تلك التي بدأت المواجهة معها في القرن السابع عشر في هولندا، منفى الفرنسي رينيه ديكارت، الذي كان يجلس إلى جانب المدفئة، ملتفحاً ببطانية، متأملاً النار التي يتسلل إليه دفؤها، “مُفكراً” بكل ما يعرفه من مسلمات ثم “نافياً” لحقيقتها، في هذه الجو الآمن والشعري، انهارت كل الحقائق أمامه، وبدأ بكتابة ” مقالة في المنهج-1637″ معلناً ولادة الأنا المرتابة في وجودها الذاتي.

وعي “الأنا” بعجزها ونسبيتها وغرقها بالأكاذيب، سابق على العقل، بصورة أخرى، سابق على الظاهرة البشريّة نفسها، إذ يتعامل المؤلف مع الكذب، بوصفه جزءاً من تكوين العالم نفسه، فقبل وجود الإنسان الطبيعة تكذب، والحيوانات تخدع وتنصب المكائد، الكذب أِشبه بجزء من هيولى العالم، وكأن لحظة الخلق، أي منذ أن كان “البدء” و”الكلمة” أو منذ تكون أول بروتين، كان الكذب حاضراً، لتتالى بعدها سلسلة طويلة من سوء الفهم الذي ما زال مستمراً إلى عصر ما بعد الحقيقة الذي نعيشه، المصطلح الذي يرى المؤلف/المُلفق أنه ليس إلا تجميلاً لكلمة “كذب”.

الكذب كعقد اجتماعي وأسلوب للحكم

يتحرك الكذب في الكتاب بوصفه أسلوباً للعيش المشترك، وأداة لخلق مجموعة من الأكاذيب التي يمكن لنا عبرها أن نستمر، إذ يحكي لنا مفارقات من تاريخ العلم (الكذب الأكبر في تاريخنا)، وتاريخ السياسية والحكم منذ تقنيات “فن الحرب” لِسون تزو حتى الإنزال الوهمي الذي قام الأمريكان على شواطئ النورماندي لإنهاء الحرب العالمية الثانية. ما نفهمه إذا، أن الكذب ليس فقط وهماً ذاتياً نعيشه، بل أشبه بشرط جماعي لوجودنا، الدين نفسه كالمسيحية، قدم أكاذيب ليست إلاّ نتاج سوء ترجمة للنص الآرامي، وسطوة مؤسسة اسمها الكنيسة عمدت إلى الترويج للأكاذيب كعذرية مريم، ووجود يسوع الناصري نفسه، كل ذلك لأجل السلطة.

الملفت أن الكذب اتفاق تختلف شدة وطئته؛ من يكذب قد يعرف أنه يكذب، أو ينفي عن نفسه الشك بما يؤمن به ويتجنب السؤال، أما من يُكذب عليه فمُدرك أنه يصدق ما يصدقه سخريّةً أو كسلاً، سواءً كنا نتحدث عن المجاملات الاجتماعية، أو أسلوب نفي الذات في ظل الدكتاتورية، أو أصحاب الصور المفلترة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو اثنين أصابهما داء الحب من أول نظرة. يظهر الكذب هنا كصيغة تطويرية، نكذب كي ننجو كبشر، ونستمر في هذا العالم الذي نتوهم أننا أسياده.

كشف أوهام العالم لا يكفي لحل “مشكلة” الكذب، إن افترضنا أنه مشكلة أصلاً !، خصوصاً أننا نتمتع ونقدّر كبشر ظاهرة قائمة على الكذب بصورة تامة، سواء كنا نتحدث عن الفن وقيمته ومحتواه، أو تاريخ الفن المليء بالأكاذيب، والمزورين والمنتحلين، كما أن تاريخ الأدب أيضاً مليء بالشخصيات الوهمية والكتاب المُبتدعين (بورخيس أكثر من عمل على هذا الشأن)، ناهيك أن كل ما هو مكتوب، يحمل ضمناً شكلاً من أشكال الكذب.

ولا ننسى أن شرط العالم حالياً أصبح قائماً على الكذب: الفلترة، التجميل، الحذق والحذلقة، كلها تنويعات على ذات الفكرة، أن الحقيقة غير كافية، وشرط استمرار الجماعة قائم على كذبة، والوعي بهذا الكذب، والتعليق عليه ضمن فنون ما بعد الحداثة ليست إلا إمعاناً في الوهم (وربما السينيكيّة)، وتحويل الكذب إلى أساس لأكاذيب أخرى.

الشرط الإنساني الكاذب

التسليم بكل أكاذيب الكتاب، وصيغة الراوي الكذّاب والقارئ الغارق في أوهامه، وبعض استعراض محطات الكذب المختلفة، يتركنا في النهاية أمام ما يمكن تسميته “خريطة الكذب الإنساني”. والمقصود هنا، أننا كبشر نعتمد في وجودنا على التلفيق، فنحن “الكائنات الوحيدة التي تصدق أوهامها”، وكما اللغة (حسب البعض) استعداد بشري يميزنا كعقلاء، أو شيفرة موجودة في جيناتنا وحمضنا النووي، الكذب شأن مشابه.

لابد لنا كي ننجو، فرادى أو جماعات من “الكذب”، وهنا نعود للإنا، الواضح أن هناك نقص من نوع ما في تكويننا كبشر، فلحظة الشك الديكارتية الموصوفة أعلاه يمكن أن تحال إلى المنفى، ديكارت كان خارج وطنه حين “شكّ”، لكن الكذب أقدم من ديكارت ومن البشر أنفسهم، واشتدّ تعقيده مع مرور الزمن، وهنا يظهر السؤال: ما هو النقص الذي يملؤه “الكذب”؟ خصوصاً أنه سابق على اللغة، وتمارسه الحيوانات، أي يمكن القول إن كل ما يعي/من يعي ذاته كاذب!

تبدو خريطة الكذب كمجموعة من الأوهام المتكررة دائماً، لنسمها أكاذيب جوهريّة مشتركة بين كل الموجودات، هي التي تحدد معنى الوجود، أو بصورة ما تكسبه قدرته على الاستمرار في الزمن، هذه الأكاذيب الجوهريّة ذات مكونات غير لغويّة، ناهيك أن أداة رصدها أي “الأنا” مشكوك بأمرها، ومتهمة أيضاً بالكذب.

بالتالي كيف يمكن رصد تاريخ للكذب، وما هي لحظة الوعي المطلوبة لإدراك أن كل شيء “كذب”؟ منفى دافئ قرب نار مشتعلة؟ صور تقارن الممثلين والممثلات قبل وبعد عمليات التجميل؟ دراسة إيتمولوجية وفيلولوجية لأصل الكتاب المقدس و ما يحوي من انتحال؟ أم يكفي رصد تاريخ المفارقات والحيل للاستمتاع بحقيقة أن كل ما نعرفه قابل للتفاوت، وكل حدث له نسخة أخرى مختلفة تماماً. هذا التسليم، يكشف لنا عن “تاريخ” جديد، لا للكذب، بل لما يمكن أن يكون.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button