اللجوء والأخطاء اللغوية… كيف تطلق نكتة ألمانية بالزمن المضارع؟/ علاء رشيدي
ما زالت أزمة الاندماج شأناً يشغل بال المهاجرين واللاجئين، سواء الذين وصلوا أوروبا الآن، أو هؤلاء الذين مضى على وجودهم فيها سنوات، ومدخل هذا الموضوع دائماً يبدأ باللغة وينتهي عندها.
يواجه المهاجرون واللاجئون الذين وصلوا إلى أوروبا مفهوم الاندماج بصورة دائمة، المبحث الذي يتحرك بين النظرية السياسية (إدماج القادمين الجدد ضمن نظام البلاد الإداري) وبين المقاربة الثقافية (تقبّل قيم البلد المضيف واحترام أعرافه)، من دون أن نمتلك سبيلاً أو أسلوباً دقيقاً لإدراكه، فهل فعلاً يجب الاندماج، أم يكفي دفع الضرائب والالتزام بالقانون؟
لا إجابة واضحة على السؤال السابق، لكن يمكن القول إن شكل سياسات الاندماج الأوروبية القائم لا يرضي أحداً، سواء “المندمج” كلياً أو الحائر الذي يرى في الاندماج أسلوباً للهيمنة. لكن المشترك، أن أسئلة الاندماج كلها تحوم حول اللغة فمثلاً، كم كلمة ألمانية يجب حفظها لفتح محادثة عن غوته؟ ما الذي تجب كتابته في رسالة الدوافع للحصول على وظيفة من دون استخدام كل الأزمنة باللغة الألمانيّة؟
تحضر أطياف الأسئلة السابقة في المجموعة القصصية الثالثة للكاتبة رشا عباس، بعنوان “كيف تم اختراع اللغة الألمانية”، التي تحوي 15 قصة قصيرة، تتمحور في موضوعاتها وأحداثها حول علاقة الكاتبة مع الحياة الجديدة في بلد اللجوء؛ وإشارات إلى الفوارق الثقافية، والبيروقراطية، وكلمات مثل الفيزا، جوب سنتر، أوراق مدرسة اللغة، وغيرها من المصطلحات التي استجدّت في لغويات المجتمع السوري المهاجر واللاجئ، والتي تحظى في هذه المجموعة القصصية بمعالجة فنية ساخرة. ليس أدلّ عليها سوى عنوان المجموعة القصصية وفكرتها، فمن رهبة تعلّم اللغة الألمانية وصرامتها، تمتلك الكتابة الساخرة في نصوص المجموعة لا القدرة على الانتقاد وحسب، وإنما ابتكار اللغة الألمانية بالكامل.
منطق التعجيز في التأليف
تفتتح المجموعة القصصية بنص تقديم ملاذ الزعبي، يورد فيه مجموعة من الاتصالات التي تمت بينه وبين الكاتبة رشا، ليقدم لها في كل مرة مجموعة من عروض العمل التي ترفضها الكاتبة بحجة تركيزها على دراسة اللغة الألمانية، ترفض جائزة تذكرة سفر إلى هاواي، دعوات لورشات عمل حول الأساليب الأمثل لإدماج اللاجئين في المجتمع، وغيرها من القراءات الشعرية عن سوريا، وذلك كله في سبيل فترة من الالتزام في تعلّم اللغة الألمانية، في إشارة ساخرة إلى الجهود المستحيلة المطلوبة في تعلّم اللغة الجديدة، يكتب الزعبي: “رشا التي رفضت كل ما سبق بحجة انهماكها في اكتساب لغة جديدة، أخفت عني حينها أنها ذهبت إلى ما هو أبعد من مجرد الاستحواذ على اللغة، منصرفة إلى حدود البحث في جذور هذه اللغة، بل وكيفية اختراعها”.
تتخيّل الكاتبة في القصة التي تحمل عنوان “كيف تم اختراع اللغة الألمانية”، محضر جلسة بين كلٍّ من السيّدين المحترمين الدّوق كارل والدّوق لودفيغ، يبتكران فيها قواعد للغة الألمانية. وهكذا، تصبح قواعد اللغة الألمانية قابلة لإعادة التفكير، فأجناس الكلمات التي يصعب على متعلّم اللغة اكتساب قواعدها، توضع قصداً من قبيل جعل المهمة مستحيلة على الدارسين، فلجنس كل كلمة دور مهم في قواعد النحو والإعراب، لكن السبب الحقيقي لقواعد أجناس اللغة الألمانية هو تصعيب المهمة على المتعلّم وجعلها مستحيلة، كما تشير القصة:
” – هل يمكننا أن نجعل الكلمات موحيةً بجنسها، على الأقل، حتّى يكون أمر دراسة اللغة أسهل على الأجانب؟
– لا أرى سبباً لنجعل شاغلنا فقط تسهيل المهمّة على المتعلمين. هل أبدو لك كمكتبٍ سياحيٍّ؟”.
تلعب القصة بسخرية على القواعد اللسانية واللغوية التي يواجهها المتعلمون/ات للغة الألمانية، وتسمح الحبكة المتخيلة باللعب النصي مع القواعد النحوية لهذه اللغة، فيقترح أحد الدوقان اشتقاق أسماء الحيوانات بقاعدة تشبه تلك الخاصّة بتشكيل الألوان: “مثلما هو الحال مع مزج الألوان الأساسيّة لتشكيل بقيّة الألوان المتنوّعة، سنطبّق ذلك على مسألة الحيوانات، ونختار بضع حيوانات أساسيّة، أمّا البقيّة فتكون أسماؤها عبارةً عن تركيب أسماء هذه الحيوانات الأساسيّة مع بعضها البعض”. بينما يقترح الدوق الآخر اختراع عشرات الأفعال التي تسمّى شاذّة إذ لا يحكمها أيّ قانونٍ وإضافتها الى القائمة: “هذا التفصيل بالتّحديد سنتفنّن فيه لنضمن تدمير معنويّات أيّ دارسٍ مغرورٍ للّغة بشكلٍ كامل”.
أجناس الكلمات رسومات غرائبيّة
تتابع عباس الابتكارات الهزلية على عملية تعلّم اللغة، في قصة بعنوان “كيف أصبحت فنانة”، تروي الساردة أنها لم تكن لها علاقة بالفن، حتى اضطرت إلى تعلّم الأجناس في اللغة الألمانية، جلبت أوراق رسم كبيرة وعلقتها على حائط الغرفة لترسم صورة تمثيلية لكل كلمة تتعلم جنسها، ومن هذا التمرين انطلقت شرارة مسيرتها الفنية: “هكذا امتلأ حائط الغرفة برسوماتٍ تتضمّن برتقالاً ذا أثداءٍ، وحَساءً يلتهم حبوب منع الحمل الطازجة، أو تفاحةً لها شاربان وسمكاتٍ بأعضاءٍ ذكريّةٍ وقطاراً هو نفسه عضو ذكري صريح. تضمّنت الرّسومات أيضاً أطفالاً ذكوراً برأسين، أحدهما مؤنثٌ والآخر مذكرٌّ، أمّا باقي كلمات الجنس المحايد فلم أعرف كيف أرسمها بشكلٍ واضحٍ، لذلك حشرتها في زاويةٍ واحدةٍ وصرت أتمرّن على حفظها بأن أقف كلَّ يومٍ وأصرخ في وجهها بعبارات تمييزٍ جنسيٍّ غير متحضّرةٍ”.
تحضر أيضاً العلاقة مع اللغة الجديدة في قصة “تعلم اللغة في مدرسة الحياة”، حيث تصرّ اللاجئة على عدم الالتحاق بمدرسة تعليم اللغات، وإنما تعلُّم اللغة من مدرسة الحياة. في دمشق، اعتادت شراء أقراص مدمجة لتعليم اللّغات، وكانت تشاهد أوّل درسٍ من كلِّ لغةٍ فقط، هكذا تشكّلت لديها مجموعةٌ غريبةٌ من مفردات اللغات الأجنبيّة، بحسب الدرس الأوّل من كلِّ “سي دي”. واليوم في برلين، حين يطلب منها المستشار المهني عن اسم مدرسة اللغة التي سجلت فيها، تجيب بإصرار “مدرسة الحياة”. وهكذا، تبحث اللاجئة عبر الإنترنت، عن سحرة اللغة، الذين يصورون فيديوات يبدون فيها إتقانهم لغات كثيرة، فتتعرف إلى “جيمي ساحر اللغات”، الذي يكشف لها في لحظة مصارحة، أنه ليس إلا مدعٍّ يصوّر الفيديوات ليكسب أكبر عدد من المشاهدات على الإنترنت: “هل كنت لتصدّقي أنّ أحداً ما يتقن تسع لغاتٍ ومن بينها الألمانيّة؟ كنت عاطلاً عن العمل لوقتٍ طويلٍ، ومن هنا انطلقت فكرة تصوير فيديواتٍ أنصح النّاس خلالها بأساليب لتعلّم اللّغات بشكلٍ ثوري، وأدّعي فيها أنّني على معرفةٍ تامّةٍ بكلِّ تلك اللّغات التّسع”.
الحكايات الملائمة لكتاب القراءة
تشير القاصة في “مقترحات لتطوير مناهج الاندماج واللغة الألمانية”، إلى مجموعة من الحوارات التي يجب دمجها في تمارين تعليم اللغة، مثل: كيفية التواصل مع تاجر المخدرات والدوائر الرسمية ومؤجري المنازل. أما على صعيد القصص والحكايات المختارة في دروس القراءة، فتقترح القاصة تعديلات حكائية تتماثل مع التراث الثقافي للمجتمع الذي جاءت منه:
“رغم لطف قصص الكتاب، مثل قصّة (يان وسارة) اللذين يكابدان الحبّ من بعدٍ وما شابه، ولكنّها في الحقيقة غير جذّابةٍ بالنّسبة إلى عيوننا المعتادة على أنواعٍ أقوى من الدراما والمتلّهفة للقصص الشائقة. من المفيد أن يتم إدخال قصصٍ عن مكائد الحموات وحرب زوجات الأخوة. فلم لا نتعلّم قواعد الأزمنة المختلفة في اللغة مثلاً عن طريق قصّة السّيّدة شنايدر، والتي يتزوّج ابنها أوفه من الكنّة زابين، التي تبدو صاحبة مشاكل وتنتقل للعيش معهم في المنزل، وتحاول أن توقع بين الابن وأمّه. فتذهب إلى السحرة وأحضرت حجاباتٍ للسيّدة شنايدر، غير أن الأخيرة، بفطنتها وخبرتها الطويلة في الحياة، تكتشف مكان السحر في النباتات المنزلية”.
طريق التواصل معبّد بالاختلافات الثقافية
يحضر موضوع الاختلافات الثقافية، أو الاحتكاك الثقافي بين اللاجئة من جهة وبين المجتمع الأصلي ومجتمع المستقبل من جهة أخرى، بما يُعرف بالصدمات الثقافية، وتلعب القصص على الكوميديا في التناقضات بين الصور النمطية التي يفرضها السوريون/ات على المجتمع الألماني وبالعكس. قصة “تواصل اجتماعي يؤدي إلى الوحدة” نموذجية في التعريف عن هذا الموضوع، فالقصة تروي لقاءاً يجمع بين سوريين/ات وبين ألمان/يات، يدور بينهما حوار بهدف التقارب، إلا أنه سيؤدي إلى نتائج كارثية، بسبب جهل القادم الجديد بتاريخ البلاد السياسي، فيحيي الألمان بالهتاف ومديح أدولف هتلر: ”ألمانيا؟ جوود جوود… هتلر سو جوود… نايس مان”، أو القول إن الموسيقى الألمانية هي الرامشتاين. أما قصة “مخدرات شمسية”، فتعري الصور النمطية التي يمتلكها المجتمع السوري عن الحياة الألمانية، فالعائلات السورية تعتقد أن الشباب والشابات اللاجئين واللاجئات لا يريدون من اللجوء إلا العيش بحرية وتناول المخدرات وممارسة الجنس: “بعدما أصبحت في أوروبا، لاحظت أنّ هنالك مخيلةً غريبةً مرتبطةً بهذا المكان أيضاً. قد تجد في مجموعات فيسبوك المخصّصة للقادمين الجدد أسئلةً من نوع: “هل صحيحٌ أنّ الأوروبيين سيجبرون ابني على ممارسة الجنس في المدرسة كنوعٍ من التربية الجنسيّة؟”.
التهام الجثث والعنف الطائفي
إضافة إلى الموضوعات المتعلّقة بتجربة اللجوء والاندماج، التغيير الثقافي والأسئلة الاجتماعية، فإن القاصة تتفكر في نصوصها حول فعل الكتابة في الفترة السورية الراهنة. ففي القصة المعنونة “أريني مزيداً من العنف”، تصف لقاء مع مسؤول نشر أو مسؤول ثقافي يخبرها بعدم قبول روايتها للنشر، ويصفها بالرواية “الخراء”، بينما تدافع الكاتبة عن مخطوط روايتها، وتعتقد أنها ضمّنتها كل العناصر التي تسمح لها بأن تبيعها إلى الأجانب، الجرأة بإبراز التابوهات التي عملت على تحطيمها، ويظهر المحظور الجنسي برغبة امرأة في الحصول على قضيب، وتنتقد الرواية الديكتاتوريات: “لن يخضرّ العشب تحت أحذية العسكر”.
حرصت القاصة على إدخال أحداث من الثورة السورية وتدبيج الرواية بالخطابات والهتاف، وتختلق شخصية البطل مهرب اللاجئين، خفيف الظلّ، يضحّي بحياته في النهاية لإنقاذ اللاجئين على القارب. أما الشخصية الشريرة في الرواية، فهي عنصر أمنٍ، وهي إشارة رمزية تختصر الواقع”.
إن الجانب الكوميدي السابق في معالجة الأدب السوري الراهن، يتحول إلى نقد جاد مع نهاية القصة، إذ يعلن الناشر عما يرغبه، وهو إضافة مزيد من العنف في الرواية، تقول الكاتبة:
“أستطيع أن أمارس الضرب المبرح بحق إحدى الشخصيات. أو أن أجعل إحدى الشخصيات تأكل لحوم البشر، لا أعرف. تشتهي الجثث أيضاً، تمارس الجنس مع الجثث وتأكلها.
-لا بأس، ولكن ما زلنا دون المستوى المطلوب.
-المزيد من الجثث، لنقل: مقبرةٌ جماعيةٌ، وكذلك أورجي في المقبرة تقوم به طائفةٌ منحرفةٌ تؤمن أن أكل الآخرين هو تقديرٌ لهم”.
تنتقد بعض القصص الإدارة البيروقراطية في دول اللجوء، ففي قصة “كيف ساعدتني ألعاب الفيديو في المعاملات البيرقراطية الألمانيّة؟”، تلجأ القاصة إلى المهارات الخاصة بشخصيات ألعاب الفيديو الخارقة للتعامل مع الجهاز الإداري الألماني. وفي قصة “كيف فشلت في محاولة ابتكار بطل خارق ألماني”، تصطدم القاصة بالبيروقراطية التي يخضع لها حتى البطل الخارق “يان” الذي ابتكرته القاصة على شكل سوبرمان ملهوف لإلقاء القبض على عصابة من الأشقياء يخطفون حقيبة إحدى السيدات على الرصيف المقابل، لكن هذا البطل الخارق يصطدم بالعجز أمام الإجراءات الإدارية:
“قطع المشهد فجأةً دخول موظّفةٍ تحمل في يدها مجموعةً من الأوراق وقلماً. توجّهت بالحديث إلى يان:
– عذراً، حضرتك على ما أظنّ السيّد المكلّف بإنقاذ البنك من عمليّة السّرقة، أليس كذلك؟
– نعم أنا هو.
– هل تحمل تصريحاً يخوّلك حماية البنك؟”.
أخيراً، وضمن ملف حققه موقع “الجمهورية نت” عن الكتابة ومشاغلها، كتبت رشا عباس تحت عنوان “تلك الفكاهة المنجية”: “محاولة الإجابة على سؤال جدوى الفكاهة تحيلنا إلى السؤال الأولي الأكثر صعوبة بعد: لماذا يكتب المرء أصلاً؟. إذا قاربنا من هذا المنظور الرغبة في كتابة الفكاهة، لن تكون مختلفة عن غيرها من أجناس الكتابة. لا داعي لاستجلاب نظريات المهرج الحزين المبتذلة، ليس الأمر على هذا النحو. مثل الآخرين تريد أيضاً أن تجول في مساحاتٍ أخرى خارج حياتك غير المثيرة للاهتمام كثيراً. بعض الحيوية التي تريد استعارتها قليلاً وتجربتها أمام مرآة بعوزٍ شديد. تستطيع الادعاء أنّك حيٌّ للغاية. تمثّل دور صانع البهجة كما يفتنك أن تجرب دور الثري في محالٍ تجارية فاخرة”.
درج
———————
تلك الفكاهة المنجية/ رشا عباس
ما الذي يفعله الكتّابُ زمنَ الحرب؟ يحاول ملف الجمهورية هذا، «عن الكتابة ومشاغلها»، الإجابة على جوانب مختلفة من هذا السؤال، إجابة تتعدد وتختلف بتعدد كتّاب الملف، وبتعدد الزوايا التي يتناولون الموضوع من خلالها، وبتعدد تجاربهم وخلفياتهم وآمالهم ومخاوفهم وهواجسهم.
رشا عباس
لِمَ نكتب الفكاهة في وضع كهذا؟ هل كتابة الفكاهة مفيدة؟ ماهي هذه الفائدة أو الأثر الذي نتحدث عنه أصلاً؟ الحديث عن الفكاهة كأداة مقاومة محبطٌ بعض الشيء، قد لا تستطيع أن تغيّر ما يحدث، حتى أنّها لا تجعلك أقل بؤساً بالضرورة.
ما نعايشه ليس مضحكاً بالتأكيد، لا التفكير بما يجري الآن هناك في البقعة التي تركها المرء خلفه، ولا فكرة أن تُزرَع على نحو مفاجئ في تلك الأماكن الجديدة كلها. ليس هناك شيء مضحك في ذلك، في الواقع، من الغريب أن أحدنا إذ يمشي وحده في طريق العودة إلى المنزل مستغرقاً في التفكير بواقع الأمور وما يحدث فعلاً، ألّا يتداعى ويقع أرضاً لتوّه. لا شيء أكثر حضوراً من ذلك التوتّر الذي يسري كالسمّ مفسداً كل شيء، ولكن إن تكن الفكاهة عديمة الفائدة في حال كهذه، فكذلك العويل أيضاً. على العكس أيضاً: إن نَفَعَ أحدهما سينفعُ الآخر. يستطيع الكثيرون من صانعي الفكاهة (أياً كان معنى ذلك) تمييز الحالة: قد تبدأ باستخدام النكتة عندما تعجزك السبل وتريد وسيلة تتفاوض بها مع العالم. لبعضنا هي اليد التي نمدّها لكل أولئك الآخرين الكثر من خلف ساتر زجاجي، عندما نتوجّس من اقترابهم أكثر.
لم أفكّر، مع ذلك، بامتهان الكتابة «الفكاهية»، للصراحة لا أستسيغ كثيراً ألقاباً مثل: الكاتب/ة الساخر/ة. ثقل الكلمة بذاته مضاد لطبيعة الفكاهة، وكذلك أن يقال عن شخصٍ ما أنّه يكتب الفكاهة «من قلب المأساة والألم». يبدو ذلك محاولة لشرعنة النكتة وإعطائها حقاً في الوجود طالما ارتبطت بقضية نبيلة.
في الواقع محاولة كتابة الفكاهة هي الأصعب على الإطلاق. إذا جرّبتَ كتابة كتاب جدّي وفشلت في ذلك. لا بأس. ستنضّم إلى الآلاف من زملائك من الكتّاب الفشلة. تستطيع حتى أن تصنع من ذلك ميّزةً، متهماً الذائقة الشعبية بالانحطاط. لكن أن تجرّب كتابة الفكاهة وتفشل في ذلك، أنت لستَ فاشلاً فحسب. سيتمنى الناس موتك. سقوطكَ أرضاً من على المنصّة التي تقرأ عليها وموتك على الفور. ترى ذلك بوضوح في عيونهم.
محاولة الإجابة على سؤال جدوى الفكاهة تحيلنا إلى السؤال الأولي الأكثر صعوبة بعد: «لماذا يكتب المرء أصلاً؟». الإجابات على هذا السؤال تختلف تقريباً بعدد من أجابوا عليه. تكتب لتنقذ نفسك من الجنون كما تقترح إحدى شخصيات الطاهر بن جلون في رواية الكاتب العمومي، أو لتزيح عبئاً عن كاهلك كما يقترح كازنتزاكس متحدثاً عن استلاب مراهقٍ اختفى مع إنهائه كتابة عمله الأول (الثعبان والزنبقة).
أميلُ إلى هذا الاتجاه أكثر، جدوى الإنقاذ الذاتي للكتابة. أن تنقذ نفسك أولاً قبل أن تحاول إنقاذ العالم إذ يتداعى من حولك، أثناء هذه المحاولة، قد تحمل في طريقك دون أن تدري أشخاصاً لا تعرفهم. لا بأس بهذه الصفقة.
المشكلة أنّ السعي نحو هذا الخلاص الذاتي عبر الكتابة غالباً ما يكون غائم المعالم، وقد لا ينجح بالضرورة. التاريخ حافل بضحايا هذه اللعنة. الأمر يشبه أن تُدَفع معصوب العينين في قلب الخراب. مع اشتداد الحلكة ستكون أشد رغبةً في توجيه طعنات متتابعة في قلب كل ذلك العماء المحيط. الحياة في مكانٍ ما حيث توجه ضرباتك الضريرة هذه. إذ أصبتها مرّة عندها تعرف أنّك ناجٍ، سيغمرك الاطمئنان إلى الأبد. تعرف ذلك أكثر من أي شيء آخر، رغم أنّك ستعجز عن شرح ذلك إذا سُئلتَ لماذا تفعل ما تفعله. ليست لديك أدنى فكرة، تجهل ذلك بقدر تأكدك من فكرة واحدة: الحياة موجودةٌ في مكان على مدى نصلٍ تحمله بيدك.
الذعر من الفناء جزءٌ من هذه الدوافع أيضاً. لا علاقة لذلك بأية أوهام مفترضة عن عظمة أعمالك أو رغبتك في استمرارها كاستطالة لك في الزمن حتى بعد ذهابك، بل الفعل بذاته دفعٌ لكابوس العدم، أن يُمحَى ذكرك كأنّك لم تكن. لا بأس ولكن ليس قبل أن تشغل حيزاً من هذا المكان قبل أن ترحل. أن تزرع صوتك ليستقّر في أذن سَمعت، أن تنفخ في نفسك بعناد أرواحاً عشتها، وكذلك تلك التي لم يُقدَّر لك أن تعيشها. أن تنتزع معك ما استطعت اقتلاعه في قبضتك وتحت أظافرك من أرضٍ تشبّثت بها حين ستجبر على المغادرة. يشبه ذلك المنحة الإلهية التي رفضها موسى النبي حين عرض عليه رسول الموت المساومة بقبضة شعر ينتزعها من ظهر ثور بعدد سنوات يحياها من جديد. هذا فرقٌ رئيسي: النبي هو أحد القلائل الصادقين في نية رحيلهم، ولكنّك أيها الفاجر تريد قبضةً لعينةً ملأى من شعر ظهر ذلك الثور. لا تخجل من رغبتك في أن تعيش وتوجد إلى الأبد.
ربما لا تكون الكتابة مقاومةً لرعب الفناء عن العالم وحسب، وإنما لرعب فنائك في نفسك أيضاً. انظر: التباينات بين من يكتبون وبين نصوصهم، ترى اتساع المسافة التي قطعها الكثيرون هاربين من سيرة ذاتية خانقة. مراقبة أولئك ستكون ممارسة لهو فقط، ولكنّ موضوع اختلاف الكتّاب عما يكتبونه هو من جملة المواضيع التي لا يملّ المرء منها مهما تمّ الحديث عنها وتناولها، كما مواضيع مثل تشابه الأشخاص مع كلابهم وفرضيات نهاية العالم واحتمالات ما يقع في الطرف الثاني من المرآة. انظر: لا يوجد لديك ما يؤكد ذلك، ولكن راقب كم من نصّ يجول في مساحاتٍ بعيدة عن صاحبه. الخافت الشاحب الذي لا يبارح كرسيه مراقباً العالم من نافذة زجاجية، ممن تسري نصوصه شريدة حرّة في شوارع مزدحمة غارقة في الوشوم، تمد ذراعها لمصارعة من يرغب في حانة وتقضي نحبها مرميةً على الرصيف، القساة الذين تجري الأنهار من بين أيديهم. من يرسل من سجنه في حياته النبيلة محدودة العوالم رسائل استنجاد تحملها الجرذان.
لا يوجد لديك ما يؤكد كل ذلك، ولكنّك تريد تصديق ذلك فحسب. مثلما بقية المواضيع التي لا يملّ المرء منها، إذ لا وجود لما يؤكد أيضاً شَبَه الفتاة الفارعة التي تركض على طريق ترابي في حديقة بكلبها الأسود النحيل، وأنّ لدى ابن آدم أربع سنواتٍ يحياها على الأرض بعد أن تموت آخر نحلة، وعلى هذا النحو سينتهي العالم، وأنّ ما في الطرف الآخر من المرآة ليس سوى منتهى انعكاسات متتالية يُظهر وجه من تحبّ في مرآة أخرى.
إذا قاربنا من هذا المنظور الرغبة في كتابة الفكاهة، لن تكون مختلفة عن غيرها من أجناس الكتابة. لا داعي لاستجلاب نظريات المهرج الحزين المبتذلة، ليس الأمر على هذا النحو. مثل الآخرين تريد أيضاً أن تجول في مساحاتٍ أخرى خارج حياتك غير المثيرة للاهتمام كثيراً. بعض الحيوية التي تريد استعارتها قليلاً وتجربتها أمام مرآة بعوزٍ شديد. تستطيع الادعاء أنّك حيٌّ للغاية. تمثّل دور صانع البهجة كما يفتنك أن تجرب دور الثري في محالٍ تجارية فاخرة. أن تنجو أيضاً، بدل أن تتآكل نفسك كل يوم في مواجهتك الخائفة الوحيدة للعالم، ستنقل معركتك للخارج، وليتوزع عبئها على الجميع، ليحضروا فيها أيضاً شهوداً وشركاء حتى لحظة النجاة المشتهاة، أو لحظة تفنون فيها معاً. آمين
موقع الجمهورية