حرق المصحف… مسرح سياسي أم شعيرة دينية؟/ وضاح شرارة
سياسة نحن والخطاب الديني العالم
في أقل من يومين، توالت تحذيرات السفارات الأميركية والفرنسية والألمانية والإيطالية، إلى السفارات السويدية والهولندية والدنماركية والفنلندية، رعايا هذه البلدان من احتمال تعرّضهم، في تركيا على الأخص، إلى هجمات انتقامية يرد مدبّروها، “الإسلاميون”، على حرق مواطن وسياسي سويدي، وآخر هولندي، نسخاً من المصحف.
وتعمّد الرجلان، رسموس بالودان السويدي، زعيم حزب “الخط المتشدّد”، وإدوين واجنسفيلد الهولندي، زعيم حركة “بيغيدا”، مسرحة فعليهما. فاختارا السفارتين التركيتين في استوكهولم ولاهاي مَعْرَضين، أو خشبات، عَرَضا عليها عمليهما.
وعمل الحرق، وقبله الإعلان عن نية الإقدام عليه، لم يتركا محلاً للشك في دلالة الفعل ولا في القصد منه. فهو أولاً وآخراً، على الأرجح، ردّ سياسي ضعيف ومختلط، ومن وجه ما طفولي، على فعل تركي، سياسي وأمني وانتهازي صرف، هو تعطيل الرئيس رجب طيب أردوغان انضمام السويد أولاً، وفنلندا ثانياً، إلى حلف شمال الأطلسي، وعزمه على مقايضته سحب نقضه بإجراءات بوليسية في حق لاجئين سياسيين كرد إلى البلدين الشماليين.
والمبادرة إلى حرق نسخة من المصحف أمام السفارة الروسية، هذه المرة، في كوبنهاغن، وروسيا هي الدولة المعتدية على أوكرانيا، وعدوانها هو السبب في تخلّي السويد وفنلندا عن حيادهما العسكري والأمني السابق، بينما ليست روسيا دولة إسلامية أو دولة مسلمين، يحمل على اليقين بأن حرق المصحف فعل سياسي ومسرحي يتوجّه إلى الرئيس التركي بهدف ابتزازه.
ولا ريب، كذلك، في أن لبعض بلدان الشمال الأوروبي، وهولندا على الخصوص، ولبعض حركاتها العنصرية، “ثأراً” على إسلاميين مقيمين على أراضيها، لم يحجموا من قبل عن اغتيال محليين ينتسبون إلى هذه الحركات، وكتبوا وخطبوا باسمها. وبعض الحرّاقين جمعوا في فعل الحرق السفارة التركية إلى مسجد المدينة، ولم يفرّقوا بينهما. فكنوا بدين الدولة (وكتابه الإسلام) عن سياستها (“الروسية” والعدوانية)، وكنوا بالسفارة الروسية عن دين أردوغان وسياسته.
دولتان
واستعملت السفارة الروسية الحادثة في التحريض على المتظاهرين. فندّدت بحرق المتظاهرين “كتاب المسلمين المقدّس”، وحملته على موقف ديني، أو حرب دينية، وعلى “سخرية علنية من مشاعر المسلمين”. وسكتت عن السبب في قصدها هي، سفارة بلد غير مسلم، بالحرق و”السخرية”. ونعت على الدولة غضّـ(ـها) الطرف عن هذه الأعمال. ولا يبعد النعي هذا من تحميل الدولة المسؤولية عن تظاهر جزء ضئيل من المواطنين.
وتشارك السياسة الروسية البوتينية السياسة التركية الأردوغانية الرأي في تبعة الدولة عن أفعال المواطنين. فوزارة الخارجية التركية تدعو في بيانها (صدر في 28/1/2023) دولة الدنمارك إلى حظر التظاهر والاقتصاص من “جريمة الكراهية”، رمز “العمل الدنيء”. وتخلص من الإدانة إلى إبداء الرأي الجازم في دلالته ومعناه المفترضين، وفي سياسة الدول الشمالية الداخلية الثلاث (السويد وهولندا والدنمارك)، والإجراء الذي ينبغي عليها اتخاذه.
فالعمل “كشف الأبعاد الخطيرة التي وصل إليها التعصّب الديني والكراهية في أوروبا من خلال استغلال أجواء الحرية المزعومة”. و”عدم منع” مثله “رغم كل تحذيرات تركيا”، و”التسامح” معه، ينذران بـ”تسميم مجتمعـ(ـهم) بأسره”، ويحرّضان “على الاعتداءات العنصرية والمعادية للأجانب والإسلام التي تحدث كل يوم في كل بقعة من (أراضي) أوروبا”. ويسوي العمل “الدنيء”، على قول وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في تغريدة رافقت بيان وزارته، بين “مرتكبيـ”(ـه) وبين مَن “يسمحون بتنفيذ(ه)”.
فالدولة التركية، في مرآة بيان خارجيتها وتغريدة وزيرها، دولتان: هي دولة وطنية تمثل كياناً شعبياً خاصاً وتقر لها الدول الأخرى بتمثيلها على نحو ما تقر هي بالتمثيل للدول الأخرى، والسفارات قرينة على هذه الأمور. وهي، من وجه آخر ومختلف، دولة شعب مسلم وتركي معاً وجزء من أمة مسلمة، كونية وعالمية. والمصلحة، على المعنى الشرعي وليس النفعي أو الذرائعي، التي ترعاها الدولة الثانية تسوّغ لهذه النظر (الفتوى؟) في ما يجوز للدول الأخرى إباحة قوله وفعله أو النهي عن هذا وذاك.
استعارة القرآن
تجيز الدولة الوطنية التركية لأحد أجهزتها، ولكن باسم الأمة المسلمة ومعتقداتها وربما أنظمتها غير المتعيّنة في دولة أو جامعة دول، “تحذير” دول وطنية أخرى من إنفاذ دساتيرها وقوانينها في مواطنيها، وعلى أراضي هذه الدول. وتكذب الدولة التركية- دولة الأمة من غير تكليف ولا ندب غير التكليف والندب الذاتيّين والمتعسّفين- تعليلَ هذه الدول أفعالها وقوانينها وموجباتها، ومنها إباحة التجمُّع والحرق، وتُؤَوِّل الأفعال هذه تارة بالتحريض، وتارة بـ”السماح”، وبالكراهية الدينية في الأحوال كلها.
وتتعمّد دولة الأمة المسلمة (المفترضة والملتبسة) الإغضاء الصفيق عن البواعث السياسية الصارخة على تنديدها الفظ والمتشاوف بالتظاهرات الضئيلة التي تناولها البيان والتغريدة “الخارجيين”. وتحذو حذو الدولة الروسية التي يعز عليها، هي حاضرة الأرثوذكسية المنقسمة، أن “يسخر” بروتستانت الشمال الأوروبي من دين المسلمين (وهو دين “الإرهابيين” الشيشان و”مافيا” الأوزبك في عهد ليونيد بريجنيف…).
فالدولتان مجمعتان، على رغم اختلاف المعتقدين، على إنكار السياسة وشؤونها وشجونها: الأوكرانية في حال روسيا، والكردية في حال تركيا. وتنتصر تركيا “الغازي” العثماني لمصحف عثمان على كرد “قسد” وحزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي. والانتصار المزدوج والمصطنع يصدر عن نكاية خالصة بعدوّ سياسي. والقرآن، في هذا السياق، ليس قرآن الإسلام إلا على سبيل الاستعارة.
ولا ينفي هذا، على مَن شاء من المسلمين أفراداً وهيئات وجماعات، استنكار حرق القرآن، وذرائعه المتفرّقة، من غير الاحتذاء على وزارة الخارجية التركية. وأقدمت هيئات إسلامية، لا شك في إسلامها، على الاستنكار الصريح من غير أن يحملها فعلها على ورود المورد الأردوغاني الأوغلوي (نسبة إلى وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو)، وازدواجه وقناعه.
الحق في الاحترام
غداة ثلاثة أيام على الحرق الأول، في 21 كانون الثاني/ يناير، أذاعت دار الإفتاء المصرية بياناً تناول الحادثة، ووصفها بـ”الجريمة”، ونعى عليها “استفزاز(ها) الصريح لمشاعر المسلمين في هولندا وخارجها (…) و(خدمتها) الجماعات المتطرّفة والتيارات الإرهابية” (في بلاد المسلمين). ولولا الإلماح الخاطف إلى مسلمي هولندا، لخلا البيان من أضعف تجاوز على ولاية الدولة الهولندية على مواطنيها، مسلمين وغير مسلمين.
ومَن ينكرون على السياسات الغربية “تدخّلها” في الشؤون السيادية، واستقلال الدول، يرفضون التذرُّع بحقوق الإنسان، وعموميتها الجامعة، إلى هذا التدخّل. وملاحظة دار الإفتاء على “مشاعر” مسلمي هولندا تنحو نحو تذرّع بـ”حقوق الإنسان المسلم” في “هولندا وخارجها”، ونحو إقامة الإفتاء الأزهري قائماً أو قوّاماً على حفظ هذه الحقوق ورعايتها المعنوية.
ولكن سرعان ما يخرج البيان من هذه العثرة، وييمّم نحو معالجة تحاول الجمع بين قيود الدولة الوطنية وموجبات الرابطة الدينية والأممية (على المؤمنين). فيكتب أن “احترام المقدّسات الدينية بشكل عام والرموز الدينية بشكل خاص، يمثل أحد أهم حقوق الأمم والشعوب”. والحق أن النص على احترام المقدّسات والرموز الدينية هذا ينقصه نص أول على مَن يجب عليه هذا الاحترام، أهو “الأمم والشعوب”؟ أو هو الدول؟ وينقصه نص ثانٍ على الجزاء المترتّب على منتهك الاحترام: أيقتصر على لوم أو تشهير أم يتخطاهما إلى عقوبة متدرّجة؟
ويحاول الإفتاء الأزهري النسج على منوال حقوق الإنسان وهيئتها القانونية والإجرائية. فيقترح، على حياء، إسناد رعاية احترام المقدسات والرموز إلى “واجب” عام، على “الحكومات والنظم في مختلف بقاع العالم، الحرص…” عليه، وعلى حمايته من “الانتهاكات أو التشويه والإساءات المتعمّدة (و) التصرّفات العنصرية”. ولا يخفى أن ترجمة “الواجب”، والحرص عليه، إلى مواد تنص على معايير وأنصبة وشرائط نظر وإنفاذ وهيئات إجراء… أمر عصيّ. وقد يخالف أصول الحق.
ففي أحوال الدنمارك والسويد وهولندا، على سبيل المثل، مَن يُقاضى على الإخلال (المفترض) بواجب الاحترام؟ أهي الجماعات الداعية إلى التظاهر؟ أم هي “الدول” التي تبيح قوانينها الأساسية الدعاوى كلها والأفعال التي لا تلحق ضرراً جسدياً مباشراً بالمواطنين الآخرين، بحسب القوانين الوطنية؟ والجواب التركي والروسي لا لبس فيه: “الدولة”، على المثالين البوتيني والأردوغاني (وهما ليسا واحداً!)، هي المسؤولة المباشرة، وهي مسؤولة عن “السخرية” وعن “الكراهية” و”التعصُّب” الصادرة عن حفنة من المواطنين لأنها لم تقمع التظاهر وعلانيته، ولأنها تقرّ لمواطنيها بحرية مثل هذا التجمُّع.
مقدّسات وحداثة
ويفترض الجواب أن المجتمع- وكثرة أهواء جماعاته الجزئية، وأفراده، وتنازع مصالح الجماعات والأفراد- لا يجوز أن يقوم، وتقوم له قائمة خارج “الدولة”، أو هذا النمط منها. ونفترض أن لا قيد على “الدولة” لا من المجتمع ولا من القوانين. فنشوء عدد من الدول، أي الكيانات السياسية والحقوقية، عن إثبات حقوق الأفراد وإيجابها في وجه السلطة، وعن التقابل بين الحقوق (ومصدرها المحكومون) وبين القوانين (ومصدرها السلطة)، أمر جوهري يغفل عنه الجواب التركي والروسي.
فدعوة الدول الشمالية- وقبلها الولايات المتحدة الأميركية في حادثة حرق قبل نحو عشرة أعوام، وقبلها، في 2006، الدنمارك في واقعة رسوم كاريكاتورية وسياسية استلهمت نهج تنظيم “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” وحملته على إسلام الصدر الأول، وقبلها بريطانيا في فتوى روح الله خميني في “آيات…” سلمان رشدي…- دعوة هذه الدول إلى الاقتصاص من مواطنين يزاولون “الحق في السبّ”، على ما يسمى صراحة، هي من قبيل دعوتها إلى إنكار تاريخها وانتهاك قوانينها. وهذا ما لا يرى فيه جواب بعض الدول حرجاً.
وربما انتبه أصحاب بيان الإفتاء الأزهري إلى اضطراب موقفهم، وضعف قياسهم المضمر على حقوق الإنسان، حيث لا لبس في تعيين المنتهك والانتهاك والضرر والمسؤولية. فتركوا “واجب الاحترام” الغامض، واستظهروا بـ”أسس المجتمعات الحديثة وقيمها القائمة على المواطنة واحترام الآخر من دون النظر إلى الأبعاد الدينية والعقائدية”. والتنويه باطراح “المجتمعات الحديثة”- وهي مسرح “عدم الاحترام” المزعوم من وجه، وخلاف مجتمعات غير حديثة عددٌ من المجتمعات المسلمة يدخل في عدادها- الأبعاد الدينية، يستحق الملاحظة والتنويه.
وعليه، فالدعوة إلى اقتران “مناخ الحرية”، وهو قيمة “حديثة” ويقوم من حقوق الإنسان مقام أحد أركانها، بـ”مجموعة من القيم الأخرى القائمة على العيش المشترك، والاحترام المتبادل سواء كان عقائدياً أم عرقياً”، هذه الدعوة علامة على الرغبة في الانخراط في حداثة سياسية مشتركة، وعلى نية مثل هذا الانخراط. وهي تعزو الإساءة إلى “المقدّسات” إلى “التيارات اليمينية المتطرفة” و”الإرهابية”. فتتجنّب توحيد الجماعات في الدولة، وتحميل الدول التبعة عن بعض أفعال الجماعات. وتتفادى الاستخفاف بالحريات والحقوق، على خلاف الصنيع الأردوغاني والبوتيني.
وما تتجنّبه دار الإفتاء- ولا تتجنّبه دعوة الأزهر إلى “مقاطعة جميع المنتجات الهولندية والسويدية بكل أنواعها”- لا يحملها على التنبّه إلى علاقة التطرّف اليميني الغربي، واستعدائه على المسلمين وعاداتهم ومعتقداتهم، بإرهاب الإسلاميين. وحكم الأزهر الأخير في “الإخوانيين” بالإرهاب منذ تأسيس جمعيتهم، في 1928 إذن، لا يعم الجماعات الغالبة في الغرب، ولا يتناول الحروب الأهلية التي تحاول هذه الجماعات إشعالها في المَهَاجر الأوروبية.
والمساواة بين حقوق الإنسان، المدنية والدنيوية والزمنية، وبين “واجب احترام المقدّسات”، الدينية والعقائدية تارة وغير الدينية تارة أخرى، لا تستقيم. وقد تجوز المساواة على نحو فرض الكفاية، فتتولّاها الدول وكياناتها على ما تفعل على العموم، ولكنها لا تجوز على صورة فرض عين، على خلاف ما تقوله بعض الدول والهيئات، وتبيته، على نحو أو آخر، كلها. واستحالة المساواة الحقوقية والقانونية هذه ليست ظرفية، بل تمليها بنية السياقات الحقوقية ومعاييرها. وافتراضها تعسّف يقود إلى قيود ثقيلة، وتجاوزات كثيرة. فالقول إن “المقدّس” واحد، وينبغي أن يكون واحداً، لا يصدر إلا عن استبداد ساحق.
رصيف 22