حول اللانهاية: مجموعة من القصائد القصيرة عن الوجود في فيلم المخرج السويدي روي أندرسون/ علي المسعود
مع روابط لمشاهدة الأفلام مترجمة للعربية
المخرج السويدي روي أندرسون من المخرجين المقلين جداً فهو لا يملك حتى هذا اليوم سوى ستة أفلام روائية طويلة بدأها عام 1970 ثم توقف لأكثر من 25 عاما. وربما يعود الأمر لانهماكه الكبير في صناعة الإعلانات التجارية والتي يموّل منها أفلامه أيضاً على الرغم من أنه قدم العديد من الأفلام القصيرة وفيلمين وثائقيين. يتميز بأسلوبه الخاص الذي برز بوضوح منذ فيلمه “حمامة تجلس على الغصن تتأمل الوجود”.
قبل اختيار السينما كوسيلة مفضلة له كان أندرسون يرغب في أن يكون مؤلفا أدبيا. بدت الكلمة المكتوبة أكثر مهارة لافتتانه بالخطاب الفلسفي وتاريخ الفن. فاز فيلمه “أغاني من الطابق الثاني” بجائزة لجنة التحكيم في عام 2000، وكان مستوحى من قصيدة لشاعر بيرو سيزار فاليخو وهي البداية لثلاثية المخرج السويدي وأعقبها بالجزء الثاني وهو فيلم “أنت… الذي تعيش” عام 2007 وختمها بالفيلم الحائز على جائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينيسيا في دورته الحادية والسبعين عام 2014 “حمامة تجلس على الغصن تتأمل الوجود”. في أفلامه السابقة يشخص المخرج السويدي حالة تجرد البشر من إنسانيتهم بعد أن طحنتهم قسوة الحياة وظروف العمل الشاق في الأنظمة الرأسمالية وفي فيلمة “حول الخلود” أو “حول اللانهاية” الذي عرض في مهرجان البندقية عام 2019 وفاز بجائزة الإخراج ونفذه بشكل سلسلة من المشاهد القصيرة ذات الصلة ولكن ليست بالضرورة متصلة، كل منها تم تصويره بكاميرا ثابتة وهي سلسلة من التابلوهات يصور فيها الحالة الإنسانية بحيث يتم تصوير كل مشهد تقريبا بالكامل من وجهة نظر ثابتة. أراد المخرج أن يصنع فيلما من مجموعة من القصص والمواقف التي لا تنتهي أبدا، لهذا السبب أطلق على فيلمه اسم “حول اللانهاية” أو “حول الخلود”.
المشهد الافتتاحي لفيلم روي أندرسون “حول اللانهاية”
يبدأ الفيلم بصورة جذابة لرجل وامرأة يحلقان عبر سماء رمادية غائمة تقتبس من لوحة مارك شاغال لعام 1913 “فوق المدينة” أصابها الخراب بعد أن دمرتها الحروب. بعد تسلسل العنوان، يلاحظ زوجان يجلسان على مقعد في الحديقة قطيعا من الطيور يطير إلى المناخات الأكثر دفئا. كعب حذاء امرأة ينكسر وهي تدفع عربة أطفال عبر محطة قطار. أب يتوقف لربط حذاء ابنته تحت المطر الغزير أثناء سيرهما إلى حفلة عيد ميلاد. رجل يبكي وهو يحمل ابنته الميتة بعد قتلها في جريمة شرف. الكاهن الذي فقد إيمانه بالله، تقوم ثلاث شابات برقصة مرتجلة على أنغام الموسيقى لعدد قليل من رواد البار. وربما يجب أن نكون سعداء لكوننا على قيد الحياة. زوجان يضعان الزهور على قبر ابنهما. امرأة تنتظر شخصا ما في محطة قطار. ينتهي الفيلم بعودة الطيور المهاجرة، كما لو كان يردد سؤال شيلي “إذا جاء الشتاء، فهل يمكن أن يكون الربيع متأخرا كثيرا؟”. انظر كيف يركع الأب في الوحل ويدمر ملابسه الخاصة، أو كيف يؤكد الزوجان لابنهما الميت أنهما سيعتنيان جيدا بمخلفاته حتى لا يحرج أمام زملائه في القبور. في نهاية المطاف يقترب رجل من المرأة في المحطة. لا تبدو سعيدة جدا برؤيته. من المشاهد الأخرى التي تتسم بالسريالية مثل مشهد رجل يجلس وحده على طاولة في مطعم يقرأ صحيفة يقف بجانبه نادل يرتدي سترة بيضاء ويحمل زجاجة من النبيذ الأحمر. الرجل يتذوق القليل من النبيذ وحين يبدأ النادل في الصب يسهو وينسكب النبيذ فيلطخ فرش المائدة ناصع البياض. يمسح النادل النبيذ الذي انسكب بمنديله يحاول محو جريمته لا يتم نطق كلمة واحدة في هذا المشهد. لكن التعليق الصوتي بصوت أنثوي (جيسيكا لوثاندر) يلخص ما يجري “رأيت رجلا عقله في مكان آخر”. الراوية تستخدم ملخصات وصفية مقتضبة وبهمس تروي “رأيت امرأة تحب الشمبانيا”، أو “رأيت رجلا ضل طريقه”.
الفيلم يشكل مجموعة من اللوحات الحية التي تم تقديمها بشكل مكثف تصور تفاصيل الحياة اليومية بكل مجدها الدنيوي والحياة الأبدية التي وعدنا بها في العقيدة هي بالنسبة إليه ديمومة فنه. إذا كرس حقائقنا غير القابلة للتصرف والبؤس المرتبط بها، يطلق أندرسون النار على الخلود من خلال صنع أفلام في خدمة التجربة الإنسانية، يصرح بهذا الخصوص “إذا لم نثق في الإنسانية فإننا نضيع”. “الفن هو الدفاع عن الإنسانية”، ولهذا السبب يصنع أفلاما بأسلوبه المتميز لأنها تمثل مشاهد مضحكة ومأساوية ومؤثرة في إطارات أندرسون المصممة بدقة. في المقاهي وغرف النوم والمكاتب وزوايا الشوارع المكتظة بالأبيض والرمادي الصامت، والجدران عارية في الشقق البائسة في المدينة. يتكاثر اللون الرمادي والأبيض كما لو أن الألوان فقدت بريقها في العيش في هذا المناخ البارد مع شخصيات (معظمها من غير المحترفين) يشاركون في رسم لوحات تشكل صورة من انعدام الأمن والشك والإحباط والهشاشة. السماء في ستوكهولم ملبدة بالغيوم أو شاحبة وتخيم على بعض المشاهد العتمة. الكلمات الأولى التي تنطق على الشاشة من امرأة تشاهد مع رجل بينما يختفي سرب من الطيور المهاجرة، “إنه شهر سبتمبر بالفعل”، ومع تقدم الفيلم يخيم فصل الشتاء وعند الاقتراب من نهايته نصل إلى مشاهد تساقط الثلوج بهدوء.
الشخصية الرئيسية التي تتكرر أكثر من مرة لكاهن (مارتن سيرنر)، نشاهده في أول مرة حين يطارده كابوس يظهر وهو يحمل صليباً خشبيا ثقيلا يسير في شارع جانبي في المدينة ويتعرض للجلد والبصق من قبل مجموعة من رجال غوغائين يرتدون ملابس عصرية، وهو يتألم ويصيح “ماذا أفعل الآن بعد أن فقدت إيماني؟”. ولكن يظهر فيما بعد في عيادة طبيبه يائسا للحصول على المساعدة، (الطبيب النفسي لديه حافلة للحاق بها ولا يمكن أن يكلف نفسه عناء الإجابة) وكل ما يمكن أن يقدمه له الطبيب هو توصية بالعودة مرة أخرى الأسبوع المقبل، يشعر الكاهن باليأس والخذلان ويرد “أنا آسف”، وترد عليه موظفة الاستقبال “نحن على وشك الإغلاق”.
نشأ المخرج روي أندرسون في أسرة لوثرية ومن خلال هذه الشخصية يرسم صورة غير جذابة لزعيم روحي وهو الكاهن الذي فقد إيمانه، وفي مشهد آخر يبتلع الكاهن النبيذ المقدس قبل مواجهة رعيته، ويتمتم بالدموع، نفس السؤال الثاني الذي طرحه على زوجته ومعالجه. ماذا علي أن أفعل الآن بعد أن فقدت إيماني؟”. يتحدث المخرج عن هذه الشخصية ” ربما يمكنك القول إنه الشخصية الرئيسية الوحيدة في الفيلم ولديه الكثير من الأشياء ليحملها على كتفيه!، إنه يتحدث عن الله دون أن يصدق. لذلك لديه الكثير من الاحتمالات (كشخصية ) أنا لست متدينا. أريد فقط أن أصف كيف يتصرف الناس. لكنني أحترم المتدينين ومعتقداتهم”.
يجسد الفيلم غياب الروح عن عالمنا وهروبها منا، حين انعتقت وتحررت من المادة بعد أن أضحى الإنسان غير مبال بما هو روحي ليتحول الجسد بذلك إلى آلة كما أقرّ ديكارت. هناك مشاهد من العبثية ومشاهد من الخسارة وهناك مشاهد من الألم، وبطريقة أكثر وضوحا بكثير من أيّ من أفلام أندرسون السابقة، هناك مشاهد من الفرح، مشاهد جعلها أندرسون بالفعل ذات أهمية متساوية تقريبا. جنود مهزومون، رجل يبكي في حافلة، طبيب أسنان ساخط، قاتل يقتله الندم وحتى هتلر في مخبئه يواجه الدمار المنهار بسبب طموحه الشرير. ومع كل هذا، هناك إشارات حب وإخلاص لأب يربط أربطة حذاء ابنته تحت المطر الغزير. وهناك الفرح الخالص للشابات اللواتي يرقصن خارج حانة ريفية.
يظهر المشهد الافتتاحي السريالي ليس فقط أطلال المدينة التي مزقتها الحرب بل زوجين شابين يحلقان فوقها في عناق جوي وهذا هو الحب والموت المتشابكان في جسد واحد وهي الصورة الأكثر ديمومة في الفيلم لرجل وامرأة يرتديان ما يبدو أنه فستان القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، هما عاشقان محلقان فوق مدينة جميلة كان تم تجديدها لكنها الآن تم تخريبها بفعل الحرب… ملفوفان في ذراعي بعضهما البعض، يطوفان عبر السماء الرمادية العالية فوق منظر المدينة. السرد الصوتي ينساب عن طريق صوت المرأة الذي قدمه المخرج، تشرح صديقنا الراوية (شهرزاد) ما نراه، لدرجة أنه يمكن تفسيره “رأيت زوجين، عاشقين، يطوفان فوق مدينة تشتهر بجمالها ولكنها الآن في حالة خراب”. وسنرى أيضاً شاباً وحيداً لم يعثر على الحب رغم أن هناك فتاة تروي شجرة أوراقها ذابلة تبدو كأنها على طريق الاحتضار، فهل هناك علاقة بين الشاب والشجرة؟ فينظر لها الشاب بحب وكأنه يقول “أنا من يستحق رعايتك، أنا في حاجة إلى من تحبني وترعاني وليست تلك النبتة”، كما أن المشهد يعكس ثقافة الشاب من خلال وقوفه أمام واجهة المكتبة، وعلى مدار الفيلم يمر الكاهن بأزمة إيمان يمكن أن يرتبط بها العديد من الأشخاص الأتقياء السابقين. في الكثير من الأحيان بالنسبة إلى الأشخاص المؤمنين، يساعد إيمانهم في تشكيل هويتهم، وعندما ينهار إيمانهم، يضطرون إلى التساؤل من هم الآن. هناك ثلاثة وثلاثون مشهدا مع موسيقى بيتهوفن، وصف المخرج أندرسون شريطه السينمائي على أنه “مجموعة من القصائد القصيرة عن الوجود”. وقال أندرسون بشكل صريح “أنا لست شخصا متشائما ولكن الحقيقة هي: لا يوجد أمل”. وفي الواقع الفيلم بأكمله هو نوع من المقطوعات الشعرية – السينمائية التي تعرض أفضل في الإنسانية وأسوأ ما فيها. في المشهد الأخير يظهر رجل تعطلت سيارته على طريق ريفي معزول يبدو أنه يمتد إلى ما لا نهاية في المسافة. وهكذا فإن هذا الفيلم لا ينتهي بقدر ما يتوقف فقط مما يتركنا غارقين في التعسف هنا والآن في رحلتنا عبر الأبدية، وكلها تبدو بطريقة أو بأخرى مناسبة تماما لعمل عن اللانهاية. الحياة الأبدية التي وعدنا بها في العقيدة هي بالنسبة إليه ديمومة فنه. إذا كرس حقائقنا غير القابلة للتصرف والبؤس المرتبط بها. يطلق أندرسون النار على الخلود من خلال صنع أفلام في خدمة التجربة الإنسانية. ماذا تعني لك كلمة “لا نهاية “؟، أجاب محرر مجلة “صورة وصوت” قائلاً “لا نهاية لها؟ أعني أن الوجود وكما يقول الشاب في الفيلم (الطاقة هي كل شيء لا يمكن تدميرها ويمكن تحويلها إلا إلى أشكال أخرى). لهذا السبب يقول لصديقته إنه يمكنك أن تكون طماطم أو بطاطس. لكن لا يمكنك تدميرها. يجب أن تكون هناك. وربما سيكون بطاطس، لكن هذا أفضل من لا شيء”.
يتوافق أندرسون مع ميوله نحو الفن التشكيلي لذا يعمل جاهداً لجعل كل مشهد يخرج مثل اللوحة. ولكن على غرار اللوحة هناك قيود على المشهد لأنها تضع المشاهدين في لحظة زمنية محددة. كل مشهد هو لوحة وكل لوحة لها تفاصيل خفية. يتم فصل تأطير أندرسون عن قصد مما يلفت الانتباه إلى تفاصيل الخلفية التي تشير إلى السياق والرمزية والشخصيات التي تحيط بالموضوع الأساسي، نحن نرى عواقب الأشياء في الكثير من الأحيان أكثر من الأشياء نفسها، مثل الندم الفوري المتجذر في روح الأب جراء قتله المروع لابنته بداعي الشرف أو الحزن المستمر على والدي ضحية الحرب وكذلك شخص ما يجر صليبا فوق تلة شديدة الانحدار بينما كان السكان المحليون الغاضبون يضربونه وتبين أنه حلم الكاهن الذي يطارده كاشفاً خطورة فقدان إيمانه.
يوثق أندرسون الشخصيات التي تغرق تحت وطأة العزلة والاكتئاب واليأس والملل. كذلك نرى امرأة شابة تهبط من القطار بحقيبة سفرها فلا تجد أحداً في انتظارها، بينما قبلها بقليل قد هبط رجل وجد في انتظاره دفء الحب الذي غمرته به زوجته وطفلته. كما يوثق الشخصيات التي تتأثر بالحب غير المشروط والرومانسي ومن دون أن يغفل المخرج – المؤلف توابع الحرب وآثارها، فهناك أبوان فقدا ابنهما في الحرب، في حين أن الماضي والحاضر يتداخلان في الكثير من الأحيان، يجمعان المشاعر الإيجابية والسلبية حسب الرغبة.
يمكن القول إن نوايا أندرسون واضحة منذ البداية. في الحياة، نشهد الخير والشر، والجمال وعدم الرضا، والرتابة والغبطة المرتبطة بالحياة، بالنسبة إلى أندرسون فإن مأساة مرور الوقت وتغيير الحياة هي نوع من القفز إلى تجارب عدد قليل من الشخصيات المختارة التي تواجه خياراتها الخاصة والحقائق الحالية. كاهن لديه كوابيس لإعادة تمثيل الآلام، يستيقظ ليدرك أنه فقد إيمانه بالله. إنه تجاور مذهل وحتى مقلق بعض الشيء أن نرى هذا النداء الصارخ على الشاشة، وبهذه الطريقة نفترض الدوافع الإنسانية في إخواننا البشر فقط ليتم تذكيرنا بأنه في الواقع، يجلس جنود حقبة الحرب العالمية الثانية مكتئبين في غرفة مؤتمرات تعرضت للقصف فقط لرفع ذراعهم بالكاد في التحية عندما يدخل هتلر (نعم، هتلر) الغرفة لمسح الأضرار. يستوعب الرجال اللحظة كما نفعل، وينظرون حولنا لاستيعاب كل شيء، ويتساءلون عما حدث وما سيحدث بعد ذلك. نادرا ما يختلف عمل المخرج السويدي روي أندرسون من فيلم إلى آخر حيث تشكل كل منها من مجموعة من اللوحات المصورة بدقة.
فنانون ومخرجون ملهمون
في أحد اللقاءات سئل أندرسون عن الفنانين أو المخرجين الآخرين الذين ألهموه في صناعة فيلم “حول اللانهاية”، أجاب قائلا “كان لفيلم ‘هيروشيما’، وكذلك فيلم ‘مون آمور’ تأثير مهم جدا لهذا الفيلم. والمشهد حيث يواجه رجل زوجته المنفصلة في سوبر ماركت مستوحى من فيلم ‘الصرخة’ للمخرج الايطالي مايكل إنجلو إنطونيوني”، أحد الاختلافات في “اللانهائية” هو إضافة راو، صوت أنثوي هادئ يعلق على كل مشهد من المشاهد القصيرة مستلهماً من حكايات ألف ليلة وليلة شخصية شهرزاد “رأيت شابا لم يجد الحب”، “رأيت رجلا لا يثق في البنوك”، “رأيت امرأة تحب الشمبانيا. كثيرا. كثيرا”. تتحرك الشخصيات في كل مشهد ببطء كما لو كانت خائفة من أن يتم اكتشافها. وفي الصورة الأساسية للفيلم، يمسك رجل وامرأة ببعضهما البعض بإحكام أثناء طوافهما يطوفان فوق مدينة هائلة تعرضت للقصف. (إنها صورة لكولونيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي نموذج مصغر استغرق أندرسون وطاقمه شهرا لبنائه). رأيي في “اللانهاية” هو أنه يوضح تفاهة الوجود وكيف يصرفنا عن تقدير الحياة بشروطها الخاصة. يصف روي أندرسون فيلمه بأنه “مجموعة من القصائد القصيرة عن الوجود. هناك المزيد من الحزن في هذا الفيلم، حزن سببه إدراك أن الحياة تمر وتختفي خطوة بخطوة. هناك سطر في هذا الفيلم مستوحى من “العم فانيا” لتشيخوف حين تقف الشخصيات بجانب نافذة في انتظار فرد آخر من العائلة وأخيرا يقول أحدهم “إنه بالفعل سبتمبر”. إنه حزين للغاية ومشهد غني بالمعلومات حول كيفية مرور الحياة. وهذا هو السطر الأول من الحوار الذي يتحدث عنه هذا الفيلم، في حديث المخرج روي إندرسن لمراسل صحيفة “لوس أنجلس” قال “إذا لم نثق في الإنسانية، فنحن ضائعون”. “الفن هو الدفاع عن الإنسانية، ولهذا السبب أصنع أفلاما بأسلوبي لأنها تمثل ذلك”. وأضاف “يمكن أن أصنع في بعض الأحيان كوميديا، لكن أفلامي مأساوية بشكل عام. ولكن من الجميل جدا أيضا أن نرى أن الفن هو أداة لمقاومة اليأس وبمساعدة الفن يمكنك أن ترى كيف يمكن أن تكون الحياة لطيفة وجميلة. وهذا يكفي، حتى لو كان ذلك لفترة قصيرة”. نرى شخصيات من جميع مناحي الحياة. طفل صغير يقذفه والده في الهواء بينما تشاهد جدته. كاهن فقد إيمانه. امرأة في محطة قطار، وحدها تنتظر أن يتم التقاطها وتتساءل عما إذا كان حبيبها سيصل في أي وقت مضى. جيش مهزوم يسير مظللا بالخذلان. الانطباع العام الذي تركته هذه المشاهد الصغيرة متناقض، لوقت يمر ولكن يبدو أنه توقف أيضا. لم يبق للناس سوى فقدان آمالهم وأحلامهم. تسود خيبة الأمل وجوه أرواح أندرسون القديمة. كل مقالة قصيرة تدور حول شكل آخر من أشكال تسرب اليأس إلى أعماق الروح. يصبح الكاهن في حالة سكر على النبيذ السري بينما ينتظر أبناء رعيته الشراكة. رجل ينام في سريره في شقة قاحلة، والمال الذي أخفاه في الفراش الذي ينام عليه. يعكس الضوء الرمادي دائما تقريبا، المنبثق من الكآبة التي تخيم على أغلب المشاهد، رغم أنها جمال لا يمكن إنكاره. يجد أندرسون ببراعة أن هناك إشراقة مزدهرة للحياة، حتى في الهزيمة. الألم والحزن هما محك عنصريان.
في فيلم “حمامة تجلس على الغصن تتأمل الوجود”، استمد أندرسون موضوعاته المركزية من الرسام الهولندي بيتر بروغل الأكبر “الصيادون في الثلج”. أما في فيلم “حول اللانهاية”، كانت ضربات الفرشاة التي تواصلت معه هي الخاصة بالفنان الروسي مارك شاغال. الصورة الأبرز للفيلم والتي ظهرت في الملصق، صورة عاشقين يحلقان فوق مدينة. يعتقد أندرسون أن هذا المرئي بالذات يوضح تنويعه الدقيق في الإلهام. عن قصص فيلمه يقول لنفس المجلة “أنا لست راوي قصص، أنا أكثر تعبيرا وغالبا ما أعود إلى تاريخ الفن وتاريخ الفن ليس رواية قصص، الفن هو لحظات وتفاصيل وعلامات توضح كيف يمكن للبشرية أن تكون وهذا يكفي”. “في رأيي ليس من الضروري أن تكون لديك قصة خطية لتقديم جوهر نظرتي للعالم”. ولتحقيق ذلك، غالبا ما يعمل كمصمم إنتاج مبكر له يرسم رسومات تخطيطية لمجموعاته المتصورة وزوايا الكاميرا لمساعدة المتعاونين معه على تطويرها وفقا لمواصفاته. كما أن بقايا الصراعات المسلحة والاستعمار تتغلغل في رؤيته. ولد أندرسون في عام 1943، وكان طفلا صغيرا خلال الحرب العالمية الثانية. كان والده جزءا من الجيش السويدي وحرس الحدود مع النرويج التي احتلها النازيون. منه كان أندرسون الشاب يسمع حكايات عن لطف الجنود الألمان. في وقت لاحق، أدرك الفظائع التي ارتكبها الألمان خلال ما يسميه “عصر الجنون”، شعر بالخجل من أوروبا والبشر بشكل عام لتطوير مثل هذه العقليات الوحشية. مستفيدا من تجاهل المخرج للتوقيت المناسب، قام أدولف هتلر وضباطه، الذين تم تصويرهم على أنهم خاسرون مثيرون للشفقة في نهاية حبلهم.
هناك فيلم وثائقي رائع عن أندرسون، بعنوان “أن تكون إنسانا” (2020) من إخراج فريد سكوت، يركز على كيفية تنفيذ فيلم “حول اللانهاية”. هنا نرى أندرسون سيد مجاله في أستوديوهات الإنتاج الخاصة به، في شارع متواضع في ستوكهولم. يتناول الفيلم بكل دقة جوانب من حياة المخرج الصعبة التي مرت في حياة المخرج الشخصية التي أصبحت الآن في الماضي.
Roy Andersson(I)
https://www.imdb.com/name/nm0027815/
كاتب من العراق
مجلة الجديد
—————————-
بعض من أفلامه
About Endlessness
https://www.imdb.com/title/tt6817944/
لمشاهدة الفيلم مترجما من أحد الروابط التالية
——————————–
ثلاثيّة العيش لروي أندرسون وبرهان السينما لجان-لوك نانسي
بوب هانك – ترجمة: كريم محمد
تقوم هذه الورقة بسبر ثلاثة أفلام تشتمل على ‘‘ثلاثيّة العيش‘‘ للمخرج السويديّ روي أندرسون –أغاني من الطابق الثاني (٢٠٠٠)، وأنتَ، أيها الحيّ (٢٠٠٧)، وحمامة وقفت على غصن تتأمّل الوجود (٢٠١٤). يصبو هدفها إلى دفع المفعول الفلسفيّ لأفلام أندرسون ناحيةَ فلسفة الفنّ والسينما عند جان-لوك نانسي.
كيف يجب علينا أن نفهم طريقته السينمائيّة في الرؤية، والصور الوسيطة، وإنتاج الحسّ والمعنى؟ أولاً، يتعقّبُ الكاتب مفهوم أندرسون لـ‘‘الصّورة المعقّدة‘‘ وجماليّة ‘‘التّفاهة‘‘. ثانياً، يوجزُ مقاربةَ نانسي لـ‘‘العرض‘‘ و‘‘برهان الفيلم‘‘. ثالثاً، يصفُ ‘‘بداهات‘‘ أندرسون للرؤية وجمع الشخصيّات. أخيراً، ينظرُ في هذه الطرق التي توحي بها هذه الثلاثيّة القائمة على الوجوديّة المشتركة لإدراك أنطولوجيا نانسي لـ كينونة المعيّة والتعرّض للحسّ بالعالَم.
لتحميل هذه الورقة
———————-
مقالة حول الحالة الإنسانية: حوار مع روي أندرسون (ترجمة)
مريم عرابي
مترجمة من مصر
أجل بالطبع! ينتمي الفن والفلسفة لبعضهما البعض، فالفن فلسفي للغاية والفلسفة هي فن بحد ذاتها بلا شك. هذا الجانب الفكري للبشر مثير للإعجاب ويفتنني. إنه لأمرٌ رائع أن نملك الوسائل لنتأمل وجودنا بتلك الطريقة.
ترجمة عن مجلة fourbythreemagazine
ماذا يعني أن تكون إنسانًا وهل الفن قادر على تصوير هذا؟ يتحدث المخرج السويدي روي أندرسون، الحائز على الجوائز، إلى مجلة “four by three” عن ثلاثية الوجود، وعن السينما المعاصرة، والعلاقة بين الجماليات والأخلاق، وهشاشة الحالة الإنسانية، أثناء تناوله لغرض الفن والسينما.
على النهج الوجودي لألبير كامو وبقسوة جمالية واستخدام محصور لممثلين هاوين على غرار روبير بريسون، تتأثر أفلام روي أندرسون بنظريات أندريه بازان السينمائية وواقعية فيتوريو دي سيكا في “Bicycle Thieves”. بعد أن قام بإخراج 500 إعلان تجاري، عاد أندرسون إلى الأفلام الطويلة عام 2000 بفيلمه “Songs from the Second floor”، والذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان وشكّل أساس ثلاثية الوجود، متناولًا شيئًا لا يقل أهمية عن معنى أن تكون إنسانًا. في حين أن “Songs from the Second Floor” يدور حول مؤسسات وعلاقات السلطة، كالرأسمالية والدين، يبرز “You, the Living” العلاقات الشخصية بين الأحباء والعائلة بشكل أساسي، بينما يُصوّر فيلمه الأخير “A Pigeon Sat on Branch Reflecting on Existence” كيف يجيد الناس بطريقة صادمة التظاهر بأنهم بخير.
يبدأ “A Pigeon” برجل وامرأة في متحف يتأملون حمامة مُحنطة على غصن، فاتحًا عقلية المشاهد على كل الأشياء الممكنة. تتسم أفلام أندرسون بالسخرية والقسوة على حد سواء، وبإنشائه أسلوب خاص به وحده، فإن أفلامه محيّرة وعظيمة ببراعة.
ما الذي حفّزك لتصبح مخرجًا؟ وما أهدافك الفنّية الآن؟
حين كنت صغيرًا، أردت أن أصبح مهندسًا وأن أقوم بإنتاج بعض الابتكارات المهمة جدًا. ولأنّي نشأت في عائلة من الطبقة العاملة دون أي تقاليد فكرية، فقد أصبحت على صلةٍ فقط بالأدب الجيد جدًا حين كنت في المدرسة. لذا وددت في البداية أن أصبح كاتبًا على خطى كاتبي المفضل آنذاك: ألبير كامو. لكن، في أواخر الخمسينات وخلال الستينات، كانت هناك فترات جيدة في السينما الأوروبية، من الموجة الروسية في أواخر الخمسينات إلى الموجة البولندية خلال الستينات والموجة التشيكية. كانت هناك الكثير من الموجات الرائعة التي جعلتني بدورها أغيّر رأيي وأطمح إلى أن أصبح مخرجًا بدلًا من أن أصبح كاتبًا. في الواقع، لا بد أنني كنت في الرابعة عشر أو الخامسة عشر حين تعرّفت أول مرة إلى الواقعية الإيطالية الجديدة وعلى وجه التحديد فيلم “Bicycle Thieves” لفيتوريو دي سيكا. خلال هذا الوقت طمحت إلى أن أصبح كاتبًا أو مهندسًا أو صانع أفلام في آن واحد. لكن كان تعرّفي إلى “Bicycle Thieves” مثيرًا للإعجاب ومهمًا لي لأنّي قررت حينها أن أصبح صانع أفلام.
أفلامك الثلاثة في ثلاثية الوجود (2000-2015) التي أنهيتها مؤخرًا، والتي يُشار إليها كثيرًا على أنها سخيفة وسيريالية وبلا معنى، تُركّز على جوانب مختلفة للوجود الإنساني. يبدو “You, the Living” مختلفًا في أسلوبه، حيث أنه عاطفي أكثر، أو ربما حتى أكثر تفاؤلًا، من الفيلمين السابقين، يبدو أنهما ينطويان على قدر من الهلاك للبشرية. هل توافق على هذا الوصف؟
من المثير للاهتمام قول الناس أنهم يشعرون أن هناك اختلافات حقيقية بين الأفلام الثلاثة في الثلاثية. لكن بالنسبة لي هم متشابهون للغاية وجزء من نفس العائلة. وكما سبق وأشرت أنت، تدور كل أفلام الثلاثة حول معنى أن تكون إنسانًا. على سبيل المثال، أكره أن أرى الناس يُهانون، مما يشكل اهتمامي حيال أسئلة تخص المصالحة، إلى جانب أسئلة تخص الجرائم الفردية والجماعية، مثل الهولوكوست. كيف لنا أن نتصالح مع تلك الكوارث التي اقترفناها في الماضي وكيف لنا أن نتعايش مع تلك الجرائم الآن؟ المصالحة هي عنصر بالغ الأهمية لي فعلًا.
أحد المشاهد قبيل نهاية “A Pigeon” لافت للنظر وصادم للغاية، خصوصًا لأنه يعكس المشهد الافتتاحي لفيلمك القصير “A World of Glory” (1991). ما شأن تلك الصورة تحديدًا لتجعلك تعود إليها مرة أخرى؟
وُلدت عام 1943 حين كان الهولوكوست في ذروته وحين كانت معسكرات الاعتقال فعّالة على نحو ممل في قتل كل هؤلاء الأشخاص في فترة قصيرة كتلك. نشأت في تلك الفترة التاريخية، وعرفت بشأنها، لكن لم أدرك إلا بعد ذلك كم كان حجم الفظاعة، والقسوة، والدمار. صدمني الانعدام التام للإنسانية. طاردني طوال حياتي سؤال كيف أمكن كل هذا من الحدوث، ولازلت لا أستطيع التخلّص منه. أفكر أيضًا بالغزاة الإسبان وكيف تعاملوا مع الهنود خلال القرن الخامس عشر أو كيف فرّغ البريطانيون سُفنًا مليئة بالعبيد في ليفربول. الهولوكوست ليس حادثًا منعزلًا وأنا مهتم بتكرار الجرائم ضد الإنسانية على مدار التاريخ وكيف يبدو أننا لم نتعلم منها سوى القليل. علينا أن نواجه الماضي، كي نتجنّب ارتكاب نفس الأخطاء في المستقبل.
تتجنب أفلامك المونتاج واللقطات المُقرّبة وتتصف بالحركة البطيئة، واللقطات الطويلة الثابتة، والزوايا الواسعة، والعمق البؤري. لقد وصفت أسلوبك المتناهي الدقة والتكوين المحكم “بالصورة المعقدة”، وهو ما يذكرنا بالمُنظّر السينمائي العظيم أندريه بازان، فأنت تحفز المُشاهد ليكون متفاعلًا بدلًا من أن يتشرّب الفيلم بسلبية. هل يمكنك أن تتناول الدور الذي تلعبه الجماليات والأخلاق في أفلامك بالتفصيل؟
أفكر بهذا كثيرًا وهو سؤال مثير للاهتمام لكنّه حساس. في رأيي هذان المستويان مقترنان ولا يمكنك فصلهما، فهم من نفس العائلة. لا يمكنك ببساطة أن تتخلص من البعد الأخلاقي في الجماليات. التفكير في الأخلاق يجعلني أفكر في طريقة تصرفنا كوحوش على مدى تاريخ البشرية. لكن على الواحد أيضًا أن يفهم ويدرك أن البشر قد حققوا أشياء جيدة للغاية. في فيلمي القادم أوّد أن أعرض هذا على وجه التحديد وبوضوح أكبر: التزامن المطلق للخير والشر في كل واحد منّا. لا أريد أن أكون متشائمًا حيال هذا وأعتقد أن البشر ليسوا جيدين على الدوام ولا سيئين على الدوام.
آمل أن أتمكن عن طريق أفلامي من الإفصاح عن حساسيتنا تجاه بعضنا البعض وأن أُظهر أننا وجوديًا مخلوقات في غاية الضعف. إلى جانب أننا نملك وقتًا ضئيلًا جدًا في حياتنا. ليست هناك نهاية سعيدة لأي منّا [يضحك]. لكن لهذا السبب تحديدًا علينا أن نكون أكثر مسؤولية تجاه ما تبقى لنا من الوقت.
حين أشاهد أفلامك لا يسعني إلا أن أشعر أنك تأخد مشاهدينك على محمل الجد وأنك تثق بنا. معظم الأفلام السائدة تخبرك بماذا عليك أن تفكر، إذ إنهم يتلاعبون بنا لنفكر فيما يحددونه. ولا يقتصر الأمر على أن تلك هي الطريقة الصحيحة للتفكير بمسألة أو حكاية معينة بل إنها الطريقة الوحيدة للتفكير بها. لكنك تفتح الأسئلة بدلًا من أن تغلقها بالإجابات. هل هذا شيء مهم لك؟ كيف تشعر حيال السينما المعاصرة؟
لا أريد أن أكون غير سخي في حق المخرجين الآخرين، لكن السينما المعاصرة تجعلني حزينًا بعض الشيء وأجدها أقل صدقًا بشكل عام، وهو ما يرجع في الغالب إلى الأسلوب. في الوقت الحاضر من الممكن أن تؤدي العمل بسرعة كبيرة بفضل قلة القيود والعقبات التقنية. هناك نقص في الصبر. ومع ذلك يتساءل المخرجون المعاصرون لم ليست أفلامهم مثيرة للإعجاب كأفلام الستينات. رغم أنه كان من الضروري في الستينات أن تعمل بقدر كبير من الصبر. حين أسأل نفسي ما الذي تفتقر إليه السينما المعاصرة، الجواب في غاية البساطة: قلة صبر، وقلة موهبة، وقلة نقود.
كما أشرت أنت مسبقًا، أنا متأثر جدًا بكتابات أندريه بازان. استخدام اللقطات الواسعة هو بمثابة رسم التاريخ، إذ ليس هناك الكثير من لوحات اللقطات المُقرّبة في التاريخ المثيرة للاهتمام بقدر اللقطات الواسعة. مع ذلك، يمكن الاحتجاج بأن استخدامي للقطات الواسعة متلاعب أيضًا، رغم أن الخداع بتلك الطريقة أصعب.
أنت صريح بلا تهاون وجريء حين يتعلق الأمر بإظهار هشاشة الحالة الإنسانية. لقد جادلت في كتابك “Our Time’s Fear of Seriousness” بأن الإنسان المعاصر يعاني من خوف الجدّية ونقص الوعي النقدي والأخلاقي. ما الذي أردت أن تستكشفه وتعرضه عن طريق ثلاثية الوجود؟ ما الذي ترى أنه الأكثر صعوبة أو إدهاشًا بخصوص الحالة الإنسانية؟
مصدري الأساسي للإلهام هو الحياة ذاتها. لكن عليك أيضًا أن تجرؤ على النظر إليها. لقد تأثرت بشكل كبير أيضًا بالأشكال الأخرى للتعبير الفني، كما من خلال الرسم والموسيقى والأدب. من دون ذلك لم أكن لأحقق التنوع في أفلامي، لذا فأنا مدين بالفضل للفنانين الآخرين. كان الفن والتاريخ الثقافي وتاريخ الحضارة مصدراً عظيماً لصناعة أفلامي. تتضمن الحضارة كل شيء، من الوحشية إلى الجمال وكل ما بينهما. من دون ذلك كنت لأصنع أفلامًا فقيرة.
المشاهد التي يقول فيها الشخصيات إنهم بخير في “A Pigeon”، هي مشاهد تدور في الأساس حول الاهتمام بأمر البشر الآخرين. رغم أننا نهتم أكثر بشأن الأشخاص الأقرب إلينا، كأقاربنا وأطفالنا وآبائنا وما إلى ذلك، إلا أننا قادرون أيضًا على الشعور بالاهتمام تجاه أشخاص مجهولين إلينا.
لقد قلت ذات مرة في مقابلة: “أريد أن أصنع أفلامًا أوضح من الواقع نفسه. أن أفسر الواقع.” لمَ يُقدّم عرضُك لواقع العالم من ناحية مؤسلبة ولاواقعية، أقرب كثيرًا إلى الواقع، بدلًأ من الواقعية الإيطالية الجديدة (التي صنعت أول فيلم طويل لك في شكلها A Swedish Love Story)؟ هل ترى أن تقديم العالم في شكل تقليلي مجرد يشبه الحلم، على أسس “مؤثر التغريب” لبرتولت بريشت، يُظهر العمق الهيكلي للواقع بشكل أكثر أصالة؟
يقربنا التجريد للواقع بالفعل، ويجعل فهمه أسهل. بالطبع يمكننا أن نبالغ بهذا الأسلوب التجريدي، لينتهي بنا الأمر فاقدين شيئًا جوهريًا. لكنّي أشعر أيضًا أن مستوى أو شكل معين من التجريد يدعم وضوح كلًا من الصورة والمحتوى. إذا أخذت على سبيل المثال الرّسام الفرنسي ماتيس؛ كانت فلسفته هي أن عليك أن تُبعد كل ما هو غير ضروري للصورة، كي تحقق أعلى درجة من الوضوح. فهو يُنظّف لوحاته إلى درجة أنه لا يبقى له سوى الخطوط.
في بنيتك السردية يبدو الزمان والمكان مُكثفان وتتجنب السبب والمسبب التقليدي، حيث أن مشاهدك مترابطة ارتباطاً غير وثيق من ناحية الموضوع والزمان والمكان، وهو ما يؤدي إلى ظهور عالم متفكك. لمَ تجعل الأولوية لأصغر الأجزاء بدلًا من أن تُصوّر سردًا شاملًا؟
اكتشفت عبر السنين أن الأفلام المُقادة روائيًا مملة. يصبح كلًا من المشاهد والمخرج محاصرين، إذ عليك أن تلتزم بشكل محدد للقصة. ومن هذا المنطلق يصبح الفيلم أيضًا أكثر توقعًا وأشعر أنا كمخرج أني ملزم بالتوقعية، مما يُحد من الإبداع بالطبع. أوّد أيضًا أن أبيّن كيف قد تكون الأشياء الصغيرة في الحياة جميلة جدًا. في أمريكا يشيرون إلى الفن الجيّد بمصطلح “اللحظات السحرية” وليس من الضروري فهم الفيلم بأكمله، ففي بعض الأحيان يكفي أن تشاهد بعض اللحظات السحرية.
أُفضل شظايا الوجود، فهم أغنى وأكثر اتساقًا مع الشعر. أشعر كما لو أن التشظّي أكثر صدقًا وأقرب للحياة نفسها. أرغب في بعض الأحيان أن أقارن أفلامي بالذكريات، فالذكريات مصدر هام للإلهام في أفلامي. يمكن للذكريات أن تكون مُنقاة، فهي تُقصي كل ما لم يعد هامًا. وحتى في الأحلام، تتلاشى التفاصيل، بينما تصبح الأولوية للأكثر أهمية. الأحلام هي واقعية، لكنّها في حالة من الفوضى.
ما غرض السينما بالنسبة لك؟ هل هي كيان قائم بذاته أم أن لها آثاراً أخلاقية أو ثقافية أوسع نطاقًا؟
الغرض من الفن دائمًا هو أن يكون في خدمة الإنسانية وأن يزيد من فهمنا وتعاطفنا مع الآخرين. لا يمكنني إيجاد لوحة واحدة في كل تاريخ الفن لم تكن في خدمة الإنسانية. حتى لو كانت اللوحة قاسية أو تُصوّر شيئًا فظيعًا، فهي لاتزال في خدمة الإنسانية. لو أخذت لوحة غرنيكا لبيكاسو على سبيل المثال، إنها احتجاجية، حتى لو كان من الصعب النظر إليها بسبب العنف المُجسّد فيها. بالنسبة لي، غرض السينما هو نفس غرض الفن. لكن حين أتحدث عن السينما، فأنا لا أتحدث عن الصناعة، إذ أن الأناس الجشعون يسلكون هذا المسار وكل ما يهتمون لأمره هو المال.
كيف ترى العلاقة بين السينما والفلسفة؟ هل ينتمي الفن والفلسفة لبعضهما البعض؟
أجل بالطبع! ينتمي الفن والفلسفة لبعضهما البعض، فالفن فلسفي للغاية والفلسفة هي فن بحد ذاتها بلا شك. هذا الجانب الفكري للبشر مثير للإعجاب ويفتنني. إنه لأمرٌ رائع أن نملك الوسائل لنتأمل وجودنا بتلك الطريقة.
مارغريت دوراس، كاتبة سيناريو “Hiroshima Mon Amour”، الذي أخرجه آلان رينيه، هي مخرجة فرنسية مهمة أيضًا. رغم أن الفلسفة لم تُقدّم بشكل مباشر في هذا الفيلم، إلا أن هناك قدر كبير من الفلسفة فيه! يردد البطل للمرأة مرارًا وتكرارًا أنها لم ترَ أي شيء في هيروشيما. لكن كيف له أن يدّعي هذا؟ لقد رأت الكثير في الحقيقة، حتى لو لم تكن هناك وقتها. لذا فإن التيار الفلسفي الخفي ينشأ عن طريق التوتر الناجم عن ما قد شهدته وما قد اختبرته بشكل غير مباشر.
هذا يقودني إلى سؤال لماذا لم نعد نصنع أفلامًا مثل “Hiroshima” لرينيه أو “Veridiana” لبونويل؟ فقط امنحني القليل من الوقت وسأريك كيف بإمكاننا أن نصنع أفلامًا كما في الستينات من جديد [يضحك]. إن هذا طموحي في الواقع، أن أجد حدود الوسيط السينمائي. أريد أن أصنع أفلامًا فيها أبعاد فلسفية وشعرية في الحياة. أريد أن أنقذ السينما أو على الأقل أعيدها لكونها فنًا.
روي أندرسون هو مخرج سويدي معروف، مشهور بفيلمه A Swedish Love Story (١٩٧٠) وبثلاثية الوجود التي تتضمن فيلم Songs from the Second Floor (٢٠٠٠)، وفيلم You, the Living (٢٠٠٧)، وفيلم A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existense (٢٠١٥) الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا الدولي للسينما، في دورته الـ ٧١.
————————–
Songs from the Second Floor
Original title: Sånger från andra våningen
2000
Not Rated
1h 38m
https://www.imdb.com/title/tt0120263/
لمشاهدة الفيلم مترجما
——————————-
You, the Living
Original title: Du levande
2007
1h 35m
https://www.imdb.com/title/tt0445336/
لمشاهدة الفيلم من أحد الروابط التالية
——————————————
A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence
Original title: En duva satt på en gren och funderade på tillvaron
2014
1h 41m
لمشاهدة الفيلم
A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence
A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence
———————————
روي أندرسون.. السينما نافذة للتأمّل في بؤس الوضع البشريّ/ جورج كعدي
“الحياة مأساة في لقطة قريبة ولكنّها كوميديا في لقطة واسعة”
عالمه خالٍ من الحركة، وذو جمود لا يحتمل (بالإذن من كونديرا و”خفّة الكائن التي لا تُحتمل” لديه)، وذو بطء مقصود الغايات والدلالات ترشح منه رائحة العدم وبؤس الوضع البشريّ (human condition) الآيل إلى التآكل والفراغ. وإن لم يكن أسلوب هذا السينمائيّ السويديّ (مواليد 1943 في غوتنبرغ، أو “يوتيبوري” بالسويدية) فريدًا وجديدًا لناحيتي اللقطات الطويلة الثابتة (Static shot) وجمود الحركة وبطئها (سبقه كثر إلى ذلك من روبير بروسّون وجاك تاتي إلى الفنلنديّ الرائع أكي كوريسماكي)، إلا أنّ روي أندرسون Roy Andersson يتفرّد ويتجاوز أمثاله بنظرته الوجوديّة المتشائمة التي نقع على مثلها لدى أحد أركان الفكر والأدب الوجودييّن ألبير كامو، بل لعلّها نظرة عدميّة تحيلنا على فلسفة الكبير آرثر شوبنهاور. فلا يكتفي أندرسون بالغمز إلى عدم ما قبل، وعدم ما بعد، بل يضيف إليهما عدمًا ثالثًا هو عدم الوجود نفسه، كعدم وسيط أو وَسَطيّ بين عدمين، فالوجود لديه محكوم باللاتواصل بين البشر أوّلًا، وبعنف الإنسان ووحشيّته ثانيًا (لا برهان أعظم من برهان الحروب والصراعات غير المتوقفة مُذ وُجد هذا “الكائن” على الأرض)، وبوحدته وعزلته، وبإحساسه العارم بالسأم والفراغ، وبميله العنيف إلى العدوانيّة والعنصريّة والتعصّب والعبودية… إلى صفات كثيرة من هذا النوع تطغى على الخير والجمال بما لا يُقاس، ليبقى الفنّ والإبداع على صنوفه وأشكاله خلاصًا فرديًّا وحيدًا أمام هذا الكائن المسكين، المدعوّ إنسانًا، في عالم أنتنته الوحشيّة والقسوة غير المنتهيتين، وتوّجته كرزة قالب الحلوى: الموت!
هنا في ما سيأتي، محاولة غوص في لجّة أندرسون العدمية الحارقة لفهم نظرته الخاصة، المبدعة، رغم تشاؤمها المفرط (المحقّ) الى العالم الذي نحيا (نموت واقعًا) فيه.
“روي أندرسون يتفرّد ويتجاوز أمثاله بنظرته الوجوديّة المتشائمة التي نقع على مثلها لدى أحد أركان الفكر والأدب الوجودييّن ألبير كامو، بل لعلّها نظرة عدميّة تحيلنا على فلسفة الكبير آرثر شوبنهاور”
بعد خمسة وعشرين عامًا غيابًا عن السينما (عمل خلالها في الإعلانات إذ لم يكن عثر حقًا على ما يريد في السينما غير السرد الأدبيّ)، أنجز عام 2000 فيلمه “أغانٍ من الطبقة الثانية” كجزء أوّل من ثلاثيّته التي شاءها “ثلاثيّة الأحياء”. فيلم في ساعة وثلاثين دقيقة مكوّن من أربعين مشهدًا فقط، مقترحًا أسلوبًا معاكسًا لسينما السرعة والحركة المتواصلة. وَهَبَ الجمهور فيلمًا بلا حركة، تبعًا للأسلوب الذي سوف يحافظ عليه في أفلامه اللاحقة. حتّى المسار التنفيذيّ للتصوير مخالف لسينما الحقبة، فكلّ من أفلام الثلاثيّة التي سنأتي عليها تباعًا أُنجز في مدّة أربع سنوات، وجمالية اللاحركة (Immobility) تنسحب لديه على كل شيء، من الديكورات إلى الممثلين، حتى باتت تلك اللاحركة سمة صنع الفيلم وطريقته في تصوّر عالمه الخاصّ وخلقه. علمًا بأنّ اللاحركة هي نقيض السينما التي تُعتبر فنّ الحركة، فالسينمائيّ الفرنسيّ الرائد رُنيه كلير René Clair كتب عام 1924: “خُلقت السينما لتسجّل الحركة، وهذا غير قابل البتّة للمناقشة (…). إن تكن ثمة جماليّة للسينما فإنّها اكتشفت في الوقت عينه مع اختراع آلة التصوير والفيلم، مع الأخوين لوميير في فرنسا. إنها تُختزل بكلمة واحدة: الحركة”.
ما هو دور المشاهد في عالم أندرسون السينمائيّ غير المتحرّك (أو الجامد إذا شئنا)؟ وبمَ يشعر؟ يستعير أندرسون من الشاعر والمسرحيّ والصحافيّ البيروفي سيزار ﭬيللّيهو César Vellejo (1938-1892) (لا نعجبّن من تناقض لفظ الاسم وكتابته حتى أنّ ثمة لفظًا أغرب هو “باللّيهو”!) بيتًا من إحدى قصائده فيه: “محبوبون هم الذين يجلسون”، وبهذه العبارة الشعرية لفيلليهو يفتتح أندرسون الجزء الأوّل من ثلاثيّته. فماذا يعني الجلوس في عالم أندرسون، وبالتالي الجمود واللاحركة؟ وفي نهاية الأمر، ماذا يقول استخدامه للاّحركة عن رؤيته للعالم، للإنسان، للسينما؟
إنّ اللاحركة لا تتجسّد بالطريقة نفسها عند أندرسون، بل لها أشكال وأبعاد مختلف، مثلما هي الحال لدى الرسّام أو النحّات اللذين يقدّمان عملًا فنّيًا خاليًا من الحركة إنّما ينطوي على مضامين وأبعاد. هكذا يسعنا فهم عالم أندرسون غير المتحرّك، فاللاحركة موجودة بفضل الحركة التي تسبقها أو تلك التي تليها. بالتالي فإنّ لحظة السكون أو السكينة يمكن اعتبارها لحظة تجمع اللاحركة إلى الحركة. نحن هنا إزاء “السينما عند الدرجة صفر” لو قارنّاها بـ”الكتابة عند الدرجة صفر” لرولان بارت. كذلك يعتبر إدغار موران Morin أنّ اللاحركة تكتسب قيمتها من انتظار الحركة. الانتظار هو الحالة الأساسيّة لدى شخوص أندرسون: المسافرون ينتظرون في المحطة، الناس ينتظرون قدوم الباص، الطبيب والممّرضة ينتظران الزبائن … هم في حالة انتظار مستمرّة لتلك الحركة التي يصفها موران، بيد أنّها، في النهاية، لا تأتي.
“هكذا يسعنا فهم عالم أندرسون غير المتحرّك: اللاحركة موجودة بفضل الحركة التي تسبقها أو تلك التي تليها. بالتالي فإنّ لحظة السكون أو السكينة يمكن اعتبارها لحظة تجمع اللاحركة إلى الحركة. نحن هنا إزاء “السينما عند الدرجة صفر” لو قارنّاها بـ”الكتابة عند الدرجة صفر” لرولان بارت”
غياب الحركة في سينما روي أندرسون يسير توازيًا مع غياب التوليف (المونتاج)، فلو كان المشهد (أو اللقطة الثابتة الطويلة) مقطّعة توليفًا من عدّة لقطات، حتى لو بقيت الأجساد جامدة، فإنّ توالي اللقطات كان ليُعطي انطباعًا بوجود حركة. الشخوص لديه، والمشهد كذلك، في حال من الاستراحة. هنا يلاقي أندرسون المنظّر الكبير أندريه بازان Bazin الذي كان مناهضًا للمونتاج، بلّ كان يدعو حتّى إلى الامتناع عنه. ومع ذلك فإنّ غياب المونتاج مطلقًا لا يصحّ في سينما أندرسون، ففي العديد من المشاهد، ومن خلال الاستخدام المعقّد لمقدّم المشهد وعمقه يخلق أندرسون توليفًا داخل المشهد، أو داخل اللقطة الثابتة غير المقطّعة من حيث الزوايا وأحجام اللقطات. فجأة تظهر شخوصه وسط المشهد، إلاّ أنّها تَفد من خارج حقل الصورة، فهي كانت دومًا حاضرة، لكنّ شخوصًا أخرى كانت تغطّيها أو جزءًا من الديكور. ينطبق ذلك على العديد من مشاهد “أغانٍ من الطبقة الثانية “. بهذا، يترك استخدام التوليف الداخليّ تأثيرًا ليس على الشكل فحسب، بل على السرد (narration) أيضًا. عبر اللجوء إلى “خارج حقل الصورة” الداخليّ يتمكن أندرسون من ابتداع “لصقات” بين مشهدين فيتعاقبان من دون مونتاج. يستخدم ذلك أيضًا للّعب مع السرد وتوليد الغموض والمفاجأة. يكتسب المشهد بأكمله معناه بمجرّد انكشاف الشخصية.
إنّ غياب لقطة القطع تجعل المشهد يدوم طويلًا جدًا، أو يهبنا على الأقلّ انطباعًا بطول مدّته. جيل دولوز Deleuze يدعو لحظات الاستراحة الطويلة هذه “زمنًا ميتًا” في كتابه المرجع “الصورة – الزمن” (له مؤلّفه الآخر المرجعيّ أيضًا “السينما- الحركة”) مقدّمًا أمثلةً من سينما أنطونيوني ودي سيكا . تعبير دولوز ينطبق على كلّ مشاهد أندرسون، فـ”ثلاثيّة الأحياء” ترتكز عليه: مشاهد ذات مواقف محدودة، تأمّلات في الحياة اليوميّة، كما لدى سيكا الذي يعتبره أندرسون أحد منابع تأثّراته. رجل جالس على مقعد، امرأة تستحمّ، امرأة تنظر إلى نفسها في المرآة … زمن اللقطة هو أحد عناصر الشعور باللاحركة. منطق الزمن لدى أندرسون يشبه فكرة برغسون الذي يقول في مؤلَّفه “التطوّر الخلاّق”: “لو أردتُ تحضير كوب ماء محلّى فإن عليّ انتظار ذوبان السكر (…) هذا لا ينتمي إلى الفكر، بل هو المُعاش”. هكذا يدع أندرسون مشاهده تتقدّم تبعًا لحاجتها الزمنية. المشاهد الطويلة تتيح بذلك إبراز الأشياء رويدًا رويدًا والإفساح للمشهد أن يتطوّر غالبًا في زمن واقعيّ. فالرجل الذي يسير من عمق حقل الصورة إلى مقدّم اللقطة بإيقاع طبيعيّ سوف يصل في اللقطة ذاتها. ثّمة شعور بالقلق والضيق يسري بين الشخوص الذي هم في استراحة، بلا كلام، في انتظار أمر ما.
الشريط الصوتيّ مهمّ أيضًا، عنصر مساعد في تثبيت الانطباع بالاستراحة المستمرّة. الصمت يعزّز الإحساس بانعدام الحركة، والحوارات التي تقلّ أكثر فأكثر بالتوازي مع تطوّر “الثلاثيّة”، تجعل العالم المحيط أكثر جمودًا. في عالم كهذا، ليست الصورة وحدها في استراحة، إنّما الشريط الصوتيّ كذلك.
الخمول والبلادة واللامبالاة سمات بارزة جدًا في شخوص أندرسون. ناس أفلامه بلا شغف… بلا شغف حياة تحديدًا. إنّهم ممهورون باللافعل بامتياز. فقدوا شهيّة الحياة، حافز النشاط والحركة. كأنّهم في محطة انتظار، وبلا فعل، بين عدم أتوا منه، وعدم ماضون إليه. شخوص أندرسون منطوون على ذواتهم ولا يفلحون في الحركة. إنسان أندرسون لا يتفاعل ولا ينفعل غالبًا، لذا تغدو اللاحركة وضعًا طبيعيًا له. إنّه يعاني أزمة الحركة والتفاعل مع أي حدث مهما بلغت خطورته. وهناك أزمة حركة إضافيّة متمثّلة في عجز الشخوص عن التصرّف حتّى لو أرادوا ذلك. كانّهم التجسيد المعاصر لشخصية سيزيف الذي لا يبلغ القمّة رغم محاولاته الكثيرة. هم مثل سيزيف محكومون بخلق حركة مستمرّة لا تبلغ قطّ منتهاها. عالم أندرسون اللامتحرك يتحوّل إذًا إلى جحيم حيث كل فرار هباء (من تأثّرات أندرسون التشكيلية لوحة “الكوميديا الإلهية” لدانتي بريشة الرسّام الفرنسيّ غوستاﭫ دوريه Gustave Doré 1832-1883).
أضف إلى ما سبق، فشل التواصل بين البشر، ما يجعل شخوص أندرسون منعزلين أيضًا. اللقطة الواسعة لديه تُبرز عزلة الأفراد ولا تبغي التركيز على أمر محدّد، ولا التعليق على ما نرى، حتى أنّه يبدو لا مباليًا حيال كل ما يحدث أمام الكاميرا. شخوصه كسولون، خمولون، لا رغبة لديهم في الحركة والإتيان بأيّ فعل، كأنّهم مستسلمون لطبيعة الحياة التي بقدر ما تحضّ البعض على كثرة الحركة هربًا من أمر ما أو سعيًا إليه، تُحجم البعض الآخر على الكسل والخمول (يحضرنا هنا عنوان “في مديح الكسل” للفيلسوف البريطاني برتراند راسل) إذ لا فائدة ترجى من الحركة، ولا رجاء.
“في “أنتم الأحياء” You the living (ثاني أجزاء الثلاثية، 2007) تكرّر الشخوص عبارة “غدًا يوم آخر”، وفي “حمامة جاثمة …” لا يكف الجميع عن تكرار الجملة هذه عينها: “إنّني مسرور بأنّك على خير ما يرام”. هذه الجُمل أو العبارات المتكرّرة تؤدي دور اللازمة الموسيقيّة”
أمّا الموسيقى في سينما أندرسون فهي من عناصر الحركة في أفلامه الموسومة باللاحركة إجمالًا. فالإيقاع الموسيقيّ يعزّز لديه الشعور بجمود الصورة. في كلّ فيلم من أفلامه ميلوديا (أو لحن) يمسي “لازِمةً” موسيقيّة مستعادة (Leitmotiv)، ففي “أغانٍ من الطبقة الثانية” ثمّة ميلوديا فَرِحة على آلتي الفلوت (المزمار) والأكورديون، اللتين تتناوبان على الحضور الأكثر طغيانًا، ما يُولِّدُ تنويعات إيقاعية وصوتيّة. وتتحوّل الموسيقى ذات مشهد من نغمة فرحة إلى نغمة حزينة إذ نرى امرأة تعزف تلك الميلوديا نفسها على آلة الفلوت، إنّما بإيقاع أبطأ فتولّد شعورًا بالحزن لا بالفرح. أمّا في الفيلم الثالث من الثلاثية “حمامة جاثمة على غصن تفكّر في الوجود” A Pigeon sat on a branch reflecting on existence (2014)، وهو الموضوع الأساسيّ في دراستنا هذه، تفتح الثيمة الموسيقيّة على آلتي الأكورديون والكمان منذ المشهد الأوّل. في هذا الفيلم، وانطلاقًا من الشريط الصوتيّ، يبرز التضادّ بين الهشاشة (الكمان) والعدوانيّة (الأكورديون). فرح وحزن، من التعارضات الأساسيّة في عالم أندرسون الموجودة بالتوازي في الميلوديات والشريط الصوتيّ. هذه “الموسيقات” تتناقض مع المناخ العام في أفلام أندرسون القاتمة. هي تساعد في إضفاء الجانب الكوميديّ في المواقف لإنتاجها على نحو أفضل. موسيقى كلّ فيلم تُختزل بميلوديا واحدة تتكرّر مرارًا في الفيلم. وسط الصمت، يؤكّد الإطناب الموسيقيّ أكثر على اللاحركة في المشهد. الشريط الصوتيّ هو إذًا في حركة، لكنّ المحصّلة في النهاية هي غلبة اللاحركة.
لدينا ضمن الشريط الصوتيّ الحوارات أيضًا. ليست كثيرة، لكن في كلّ فيلم تتكرّر الجملة الحواريّة طيلة الوقت. في “أغانٍ من الطبقة الثانية” لدينا أبيات ﭬيلليهو المذكورة آنفًا (“محبوبون هم الذين يجلسون” في شكل أساسيّ)، وفي “أنتم الأحياء” You the living (ثاني أجزاء الثلاثية، 2007) تكرّر الشخوص عبارة “غدًا يوم آخر”، وفي “حمامة جاثمة …” لا يكف الجميع عن تكرار الجملة هذه عينها: “إنّني مسرور بأنّك على خير ما يرام”. هذه الجُمل أو العبارات المتكرّرة تؤدي دور اللازمة الموسيقيّة. تصبح “اللازمة الكلاميّة” التي هي في تضادّ مع الموقف فتولّد الضحك.
شخوص أندرسون يكوّنون العنصر الثاني الذي يخلق الازدواجيّة بين اللاحركة والحركة في العالم “الأندرسونيّ”. وثمّة جنس الشخصية سمة جوهريّة، فهناك لاحركة ذكريّة وحركة أنثويّة. معظم شخوص أفلام أندرسون رجال، وهم موضوعون في مقدّم المشهد، في سائر أفلام الثلاثيّة. ولكن عندما تحضر المرأة في حقل الصورة فإنّها غالبًا في حركة. بذلك، النساء في تضادّ مع الرجال الذين يمثّلون الجمود في عوالم أندرسون.
النساء ماثلات غالبًا في خلفيّة المشهد، يحضّرن طعامًا، أو يخاطبن الرجل الذي يلبث جامدًا في مقدّم اللقطة، أو يَصِحنَ في وجهه. هنّ، معظم الأحيان، في فعل يجعلهنّ في حالة حركة. هنّ اللاتي يبكين ويعبّرن عن مشاعرهنّ، وإن بَدَوْنَ عاطفيّات فإنهنّ المسيطرات أثناء الفعل الجنسيّ. الرجل في وضعية لا حركة مستلقيًا على ظهره في حين أنّ المرأة هي التي تتحرّك فوقه. اللاحركة الذكريّة والحركة الأنثويّة تولّدان شعورًا انفعاليًّا في الكادر.
يلعب أندرسون كذلك على عمق حقل الصورة (Depth of Field) الذي يتيح له تكوين مستويات ومنظورات متعدّدة في اللقطة الواحدة. تستطيع شخوصه بهذا أن تتحرّك في مقدّم اللقطة وفي عمقها. عامةً، حين يكون الأول في حركة يكون الثاني في لا حركة، والعكس صحيح. ثمة كوريغرافيا حركة وجمود. الكادر مكوّن بطريقة تمحو الحدود بين الحالتين. اللعبة مبنيّة بفضل عناصر الديكور (لوح زجاجيّ يفصل بين حدثين أو شخصيتين مثلًا) التي تتضاعف. المُشاهد يرى بذلك “شاشتين” في الوقت عينه. الديكور يخلق “شاشة منقسمة” (Split Screen) طبيعيّة تسمح بجمع حدثين مختلفين. يتوصّل أندرسون عبر مستويات جذب الانتباه المختلفة وألعاب الحركة واللاحركة إلى إنجاز توليف (مونتاج) في العمق يمكّنه من عدم قطع المشاهد، ملتقيًا مع بازان و”المونتاج الممنوع”. حتى أنّه يؤثِر تحريك الكاميرا لضبط الكادر على قطع اللقطة. الاستثناء الوحيد الذي يلجأ إليه مستخدمًا المونتاج هو عند حاجته إلى كشف زاوية النظر الأخرى للمشهد. بيد أنّها حركة ثابتة لأنّ الكادر لا يتحرّك ولا يتبدّل. فالتكوين لدى أندرسون مسرحيّ حيث الكاميرا هي في موقع المتفرّج. القفز إلى الزاوية المقابلة يستخدم في الأحلام ولا يُحدِثُ صدمةً، ففي عالم الأحلام كل شيء مباح (هنا يلتقي أندرسون عميقًا مع أحد السينمائيّين المعلمين الكبار لويس بونوييل Bunuel الذي محا في سينماه جميع الفواصل بين الحلم والواقع فلم نعد ندري هل ما نراه هو حلم أم واقع، كما في تحفته “جميلة النهار” Belle du jour، حيث نصاب بدوار من فرط هَدْمِه الجدران بين الحلم والواقع).
“لدى أندرسون في “حمامة جاثمة…” شخصيتا البائعين جوناثان وسام تشبهان إلى حدّ بعيد شخصيتي المشرّدين إستراغون وفلاديمير في مسرحية بيكيت الأشهر والأعظم “في انتظار غودو” حيث المزيج بين المبتذل والميتافيزيقيّ”
يستلهم أندرسون الرسم واللوحة لأفلامه أكثر من السينما، ولذلك فإنّ مراجعه هي في معظم الأحيان تشكيليّة. يحبّ كثيرًا الرسّام البلجيكيّ René Magritte (1967-1898) لدنوّ أعماله من الحلم، أيضًا الرسام البلجيكي Paul Delvaux (1994-1897) لمناخاته الهلوسيّة الحلميّة، فضلًا عن الفرنسي Honoré Daumier (1879-1808) لغرابة شخوص لوحاته وبدانتها. لوحات ماغريت تلهمه بثيماتها السورياليّة وبـ”نسيج” (Texture) الصورة في أفلامه، تحديدًا “حمامة جاثمة….” الذي يعتمد له الجماليّة الباردة أحاديّة اللون. أما لوحات دلفو فتوحي له بالغرائبية وعمق حقل الصورة وتعدّد نقاط الجذب. ومن لوحات دومييه يستلهم هيئات شخوصه والسخرية الحادّة والناحية الكوميديّة – التراجيديّة والمواضيع الاجتماعية.
إضافة إلى هذه المرجعيات الثلاث في فنّ الرسم، يمكننا أن نقع لدى أندرسون على التشاؤم التاريخيّ الذي يسم أعمال فناني القرن التاسع عشر، من غويا إلى رسّامي موجة “الموضوعية الجديدة”، إلى الرسّامين التعبيريين. جميع أولئك الرسامين التراجيديين يلازمون مخيّلته. إلهامات أندرسون هي إذًا خليط من المأساويّ، الغرائبيّ، الساخر والاجتماعيّ.
مسرح العبث، وبخاصة مسرح بيكيت، أيضًا مصدر إلهام كبير لأندرسون. في مسرح العبث توضع الشخوص في خانة المهرّجين، وتدمّر لديهم كلّ إمكانات التواصل، ينزع التماسك من الحبكة وكلّ منطق من الحوارات. فلدى أندرسون في “حمامة جاثمة…” شخصيتا البائعين جوناثان وسام تشبهان إلى حدّ بعيد شخصيتي المشرّدين إستراغون وفلاديمير في مسرحية بيكيت الأشهر والأعظم “في انتظار غودو” حيث المزيج بين المبتذل والميتافيزيقيّ، فخلال ساعات ثلاث يتفوّهان بكل شيء وبأيّ شيء بلا معنى. منطق مسرح العبث هو في أساس البناء السرديّ والإيقاعيّ لدى أندرسون، ومراجعه المسرحيّة تتبدّى من النظرة الأولى إلى شخوصه، فممثّلوه جميعًا ذوو وجوه بيضاء (ألا يهبنا ذلك شعور الأموات – الأحياء؟). هنا نتذكّر أيضًا تبرّجات وجوه مسرح الكابوكي اليابانيّ التقليديّ. شخوص أندرسون منزوعة الهويّة الفرديّة لأنها متماثلة، حتى في ناحيتي الجسد واللباس، بحيث تغدو شخصًا واحدًا.
جانب مسرحيّ آخر في سينما أندرسون: شخوصه تواجه دومًا الكاميرا من غير أن تنظر إليها مباشرة. في ثلاثيّة أفلامه التي نحن في صددها، يتحدث عدد من شخوصه عن حياتهم إلى المشاهد. معالج نفسيّ يتكلّم عن عمله، حسناء تعشق فرق الـPop تفصح عن حلمها، بائع جبنة يكشف عن مزاجه، والحلاّق في “حمامة جاثمة…” يعترف للمشاهدين بأنّه ليس حلاّقًا في الحقيقة بل يحلّ مكان صهره المريض، فيهرب أحد الزبائن الذي كان ينوي قصّ شعره سريعًا.
هذه النظرة المباشرة إلى الكاميرا ومخاطبة المشاهد تهدم واقعًا الجدار الرابع المتعارف عليه في المسرح والذي يعني جدارًا غير مرئيّ يفصل خشبة المسرح عن المشاهدين. هذا الجدار يسمح للمشاهد بأن يقبل على نحو تامّ العالم الذي سينبني أمام ناظريه. هنا يدنو أندرسون من مسرح برتولت بريشت، أبرز روّاد هدم الجدار الرابع عبر مبدأ “التغريب” (Distanciation) الذي اقترن بمنهجه المسرحيّ المناقض للمسرح الأرسطيّ، والرافض لتماهي الممثل مع الشخصية التي يؤديّها (كما لدى ستانيسلافسكي مثلًا) من خلال الإبقاء على مسافة بين الحدث المسرحيّ وجمهور المتفرّجين، فالتغريب بحسب بريشت يذكّر المشاهد على الدوام بأنّ ما يُعرض أمامه هو مجرّد عمل مسرحيّ قابل للمناقشة والتبديل وإعادة النظر وليس نهائيًا ومحتومًا. مسرح بريشت يثير الوعي بالاغتراب لا بالتماهي. روي أندرسون يتبنّى المفهوم البريشتي للتغريب، فضلًا عن العبث الذي أشرنا إليه. يمزج على نحو عبقريّ بين اتجاهين مسرحيين متناقضين: المسرح العبثيّ الوجوديّ والعدميّ، والمسرح العبثيّ والعدميّ، والمسرح “المؤدلج” والملتزم المفترق تمامًا عن التشاؤم الوجوديّ والعبث والعدم، والمتمثلّ بامتياز في مسرح برتولت بريشت الماركسيّ. يأخذ أندرسون من هذا وذاك ما يلائم نظرته الخاصة والفريدة، ويفيد من اتجاهات مختلفة في السينما والمسرح والتشكيل.
“ينتقد أندرسون في أفلامه مأساة الوجود والوضع البشريّ، عبر الإلماح إلى “الهولوكوست” في فيلمه القصير “World of glory” (1990) تحت تأثير من ثقافته الأوروبيّة ومن الدعاية الصهيونيّة التي لا ينجو منها أحد في القارة العجوز المريضة. ويحقّ لي أن أتساءل هنا: كيف يرى سينمائيّ ذو نزعة إنسانيّة ووجوديّة الهولوكوست اليهوديّ ولا يرى الكارثة الفلسطينيّة المستمرّة على أيدي الصهاينة؟”
الملمح الكوميديّ في سينما روي أندرسون سرعان ما يتحوّل تراجيديًا. وضع البعض سينما أندرسون في خانة كوميديا الـ “Slapstick” (burlesque بالفرنسية) أي تلك التي شاعت وازدهرت في مرحلة السينما الهوليوودية الصامتة مع أمثال شابلن وكيتون ولويد ولوريل وهاردي، والقائمة على الحركة والإيماء والمفارقات والمطاردات والمواقف الكوميدية الخلاّقة، ولكن هذا التصنيف لسينما أندرسون غير صحيح لأنّ الكوميديا لديه هي مضادّة لكوميديا الحركة إذ تنهض على الثبات وانعدام الحركة (Statique)، والأهمّ أنّ الملمح الكوميديّ في أفلامه سرعان ما ينقلب نحو البُعد المأساويّ التشاؤميّ، بل العدميّ ميتافيزيقيًا ووجوديًّا، وهو بالتالي يوظّف الكوميديا لأغراض أخرى غير كوميديّة (وإن تكن فعليًّا كذلك في بعض اللحظات) بل مفرطة الجديّة في أبعادها ودلالاتها. تنشأ الكوميديا السوداء و”الساتيريّة ” في ثلاثيّته، موضوع دراستنا، من غياب الحركة، إذًا هي سينما ضدّ – هزليّة لمضيّها في نحو معاكس للهزل والحركة وتوليدها رغم ذلك التأثير عينه للكوميديا العبثيّة.
يؤمن أندرسون بأنّ الإنسان يستطيع تجاوز شرّه الوجوديّ إذا أقرّ بمسؤوليته الأخلاقيّة التي هي مسؤولية كل كائن بشريّ، ويدعو هذه المسؤولية بـ”الذنب حيال الوجود” مستندًا إلى بحث مارتن بوبر Buber الذي يحمل عنوان “الذنب والشعور بالذنب”. والعالم بالنسبة إلى أندرسون قريب من النهاية. إنّهما الشعور والمناخ اللذان يسودان ثلاثيته الميتافيزيقيّة. إنّهما رؤيا “أبوكاليبتيّة” فنائيّة. الإنسان والوجود معلّقان. شيء ما يحصل. لا الشخوص ولا المشاهدون يعرفون أو يفهمون ما يحدث. إنه عالم منعدم الحركة في حالة دائمة من الانتظار.
إعجابي الشديد بسينما روي أندرسون دفعني إلى هذه الدراسة المقتضبة لسينماه، بيد أنّ ذلك لا يمنعني من الإشارة إلى علامة سوداء مستنكرة في فيلموغرافيته، فهذا السينمائي القدير والعميق والمدهش لا يرعوي، وهو ينتقد في أفلامه مأساة الوجود والوضع البشريّ، عن الإلماح إلى “الهولوكوست” في فيلمه القصير World of glory” (1990)” تحت تأثير من ثقافته الأوروبيّة ومن الدعاية الصهيونيّة التي لا ينجو منها أحد في القارة العجوز المريضة.
ويحقّ لي أن أتساءل هنا: كيف يرى سينمائيّ ذو نزعة إنسانيّة ووجوديّة الهولوكوست اليهوديّ ولا يرى الكارثة الفلسطينيّة المستمرّة على أيدي الصهاينة منذ أربعة وسبعين عامًا؟!
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان
——————–
ثلاثية روي أندرسون: صرخة هادئة في وجه الحضارة/ دانة الكريدي
غاب المخرج السويدي روي أندرسون عن شاشات السينما لمدة ربع قرن، ليعود مع مطلع القرن في أول جزء من ثلاثية ساخرة متهكمة، وضعت الوجود الإنساني تحت سطوة الكوميديا السوداء، وجعلت من عيوبه ثيمات مشتركة بين أجزاء ثلاثيةٍ غير مترابطة، ثلاثية بعنوان «أن تكون إنساناً».
قدّمَ أندرسون على مدى أربعة عشر عاماً ثلاثية بدأت عام 2000 مع فيلم «أغنيات من الطابق الثاني»، ثم فيلم «أنت أيها العيش» في عام 2007، وانتهت عام 2014 مع فيلم «حمامة وقفت على الغصن تتأملُ الوجود»، ليجذب بذلك أنظار نقاد ومحبي السينما، وخصوصاً بعد قطيعة طويلة مع السينما جاءت في أعقاب فشل فيلمه «Giliap» عام 1975، والنقد اللاذع الذي تلقاه بسببه.
كانت بوادر نهاية انقطاعه عن العمل السينمائي قد جاءت عام 1992 مع إنجازه فيلماً قصيراً مدته سبع دقائق بعنوان «world of glory»، كان أشبه باستهلال للسينما التي سيقدمها لاحقاً في ثلاثيته، وقدّمَ فيه نقداً لاذعاً للوجود البشري والمجتمعات المعاصرة، وبالتحديد مجتمعات دول العالم الأول، خالقاً أسئلة متعددة لدى المشاهد.
ما يتلقاه المشاهد في سينما أندرسون ليس قصة محبوكة، وليس شخصيات تملك خصوصية في ملامحها، ولا حتى صراعاً ملموساً واضح الجوانب، بل يجد المتلقي نفسه أمام سينما مغايرة ذهنياً تماماً، تعرض اسكيتشات أقرب للتجريد، سواء عن طريق المشهد والصورة أو عن طريق النص. هذه المقاطع المنفصلة تتوحد في جملة من التساؤلات حول إشكالية «أن تكون إنساناً»، كما يراها أندرسون.
يسلّطُ أندرسون الضوء على إشكاليات إنسانية، تحتَ عنوانٍ فج وتهكمي في آن معاً، أن تتواجد كإنسان، وأن تتعامل مع هذه الكينونة التي خُلِقتَ على شاكلتها بِلا قرار أو إرادة. يطرحُ روي إشكاليات الإنسانية المتعددة بشكل ثانوي أمامَ المشكلة الأساسية، وهي التواجد بحد ذاته، التواجد كإنسان ضعيف يحكمه هاجس الموت الملازم له، التواجد في المجتمعات المعاصرة حيث فقدان القيمة والانتماء وسيطرة اللامبالاة وقتل وسائل التواصل الإنساني وأهمها الحوار، هذا التواجد الركيك كما يعرضه روي، هو منبعٌ للسخرية من الوجود والقدر، والإنسان بينهما.
يحاكي روي هشاشة مجتمعات الوفرة الكاملة، المجتمعات التي تحكمها قواعد الجشع والسلطة والتوسع والمنافسة، ويعرض أناساً مهزومين أمام الحياة مهما كانت صفتهم وموقعهم الاجتماعي، يعرض الإذلال والاحتقار والعنف، ويتلمّس الوحدة والعزلة والتفكك. يحكي روي قصة الإنسانية في أوج تطورها، وقد تحولت إلى وحش يلتهم نفسه منهزماً.
إنسان أندرسون
لا شيء أشق وأصعب من أن تكون إنساناً، وهذا الحمل الصعب هو ما تجسده شخصيات الثلاثية، وهي شخصيات كبيرة العدد غير واضحة المعالم تعكس الطبيعة الاكتئابية للإنسان المعاصر. بملامح شاحبة وحركات بطيئة والقليل من الكلام، تشكّلُ هذه الشخصيات صورة قاتمة وسوداوية عن لا جدوى الحياة.
شخصيات الثلاثية تسوقها الحاجة والغريزة، خالية من الإحساس، تعيش في عالم لا روحاني ابتعد أفراده عن الطبيعة، حتى باتوا يشبهون قطع الأثاث والآلات. يعيشون في عزلة مفرطة، ورغم الحاجة الملحة للتواصل، إلا أن هواجس ومخاوف وأولويات الحياة المادية تخفي تلك الحاجة.
تحتاج الشخصيات للقيام بفعل، فكلُّها شخصيات غير فاعلة، والحوار شكل من أشكال الفعل، وهي تتوق له، لكنها لا تستطيع ممارسته لأنها منغلقة على نفسها ولا تسمع. شخصيات غير حالمة، فاقدةٌ الشغف والدهشة، محكومةٌ بمسلمات حديثة من صناعة بشرية، كقواعد السلطة والتقسيمات الاجتماعية والحكم الجمعي.
فقدان الشغف والإحساس وموت التواصل الإنساني، أمورٌ تجعل من شخصيات أندرسون أشبه بجثث حية تترقب موتها الجسدي، أجسادٌ فارغة تمارس ما تبقى من القسوة لديها بحق الآخر، أجسادٌ كهلة حتى وإن كانت في عمر الشباب.
علاقة أنا والآخر لدى أندرسون يشوبها الإنكار والنفور والهجر، العلاقة بين الأفراد في أبسط أشكالها، العلاقة الحوارية، هي علاقة نفعية قائمة على تلبية رغبة الكلام والسمع، وحتى هذه العلاقة الحوارية تترفّع عنها شخصياته، لنصبح في عالم مات فيه الحوار الذي يخلق الإحساس بالأمان، عالم يشوبه القلق.
يكرر روي أندرسون في ثلاثيته عدداً من الجمل التهكمية، الجمل العفوية والكليشيهات التقليدية التي تُسمع غالباً، ففي «أغنيات من الطابق الثاني» تتكرر جملة «هل تسمعني»، بينما لا أحد يسمع سوى نفسه، وسط علاقات تحكمها السلطة، في مجتمع يقود شاباً حاول أن يصبح شاعراً إلى مشفى الأمراض العقلية. بينما في فيلم «أنت أيها العيش» تتكرر عبارة «ما العمل؟»، والكل غارقٌ في أحلامه وكوابيسه دون عمل، ينتظر حكم المجتمع. أما في «حمامة وقفت على غصن تتأمل الوجود»، فإن التهكم أشد قسوة، إذ يطرح أندرسون علاقة صداقة بين زميلي عمل يرددان دوماً «أنا سعيد لسماعي أنك بخير اليوم»، بينما في الواقع يكون المُشاهد أمام رجلين أربعينين يقومان ببيع ألعاب ترفيه، ويقطنان سكناً مشتركاً في غرف يضبط نظامها موظفٌ يحدد مواعيد النوم والاستيقاظ.
عالم روي
الحياة كما يرويها روي هي حياة في حالة خمول، عالمٌ فقد الدهشة، وفقد الإيمان سواء كان الإيمان الروحاني أو التمسك بأي مذهب أو توجه، حياة راكدة خالية من أزمات كبرى وصراعات، المجتمع يتغنى بأمجاد وهزائم الماضي ويعيش التطور البشري متجاوزاً قضايا شغلته وتشغل العالم حتى اليوم، كالعبودية وحقوق الإنسان والحيوان، أو القضايا السياسية الكبرى أو الإشكاليات الأخلاقية وغيرها من القضايا التي تثير الصراعات في العالم الثالث. عالمٌ يكتفي فيه المرء بذاته وحدود هذه الذات، وفيما تُتركُ الصراعات لرجالها الغريبين، أصحاب السلطة المغيبين عن المجتمع الواقعي.
تختفي في مجتمع أندرسون الصراعات بين التوجهات المختلفة لعدم وجودها، فالحياة آلية وميكانيكية، يستطيع المرء العيش بأقصى حدود حريته التي ستقود للجنون كما الشاعر في الجزء الثاني من الثلاثية، الشاعر الشاب الذي يلقي قصائد لسيزار فايخوو، ويقرأ أبياتاً لغوته، كانت بمثابة الصرخة الفجة التي وضعها أندرسون لتمثّل صدمة الحضارة.
إنسان العالم المعاصر عالقٌ في عالم يحكمه الموت، لا وجود للماورائيات فيه، مات الإله وغرق الناس في عدمية سوداء، هاجس الموت يحيط بهم من كل الجوانب ليخلق اللامبالاة التي تثقل كاهل الحياة، هذا الهاجس هو مصدر سخرية القدر وضعف الإنسان، الذي يستخدمهما أندرسون كمنبع للاستهزاء بالإنسان المهزوم أمام الواقع، في ثلاثة مشاهد مضحكة عن الموت يفتتح بها الجزء الأخير من ثلاثيته، ثلاثة مشاهد تصور وجود الانسان الآني والمؤقت، واستمرارية الحياة لمن يستطيع اقتناص الفرص. رجلٌ يفتح زجاجة نبيذ فتصيبه ذبحة قلبية ويسقط ميتاً قبل العشاء؛ امرأة على افراش الموت تتشبث بحقيبة تحوي كل ما تملك من مال ومجوهرات يحاول أبنائها انتزاعها منها ولكنها ترفض وتوصي بأن تُدفن معها؛ رجلٌ يسقط ميتاً في مطعم بعد أن طلب وجبته، فيدور حوار حول من يريد أن يأخذ الوجبة المجانية.
هذا هو الموت، بهذه البساطة يفقد الإنسان حياته، ولكن شخوص أندرسون الحيّة ضمن هاجس لحظة موتها ميتةٌ أكثر من هؤلاء. في المشهد الأول من فيلمه الأخير، يقف رجل سمين في متحف للشمع والتحنيط أمام مجسم لطائر على غصن، يقف بصمت متأملاً، ثم يطول المشهد ليخلق تساؤلاً: من يراقب من؟
أندرسون المخرج
امتاز روي أندرسون في ثلاثيته بأسلوب إخراجي مختلف عمّا قدمه سابقاً، فهو يصنع كوادره كلها بنفسه ويصمم تفاصيلها الدقيقة. أول ما يلفت الانتباه هو شحوب شخصياته وألوان مشاهده المتدرجة بين الأزرق والأخضر والرمادي، ألوان باردة مع شخصيات شبه مجمدة تعكس بيئة السويد، مع لقطات بعيدة وثابته وطويلة منتقاة من زاوية خاصة.
أغلب المشاهد عامة تصور المكان الذي يدور فيه الحدث، والشخصيات تتحرك ببطء وسطه. ويستلهم روي كثيراً من الفن التشكيلي، وخاصة في تصميمه للمقاهي والغرف التي تشبه إلى حد بعيد مقاهي الرسام إدوارد هيوبر، وطبيعة لوحات رينه مارغريت.
فهيوبر يصور في لوحاته الواقعية عزلةَ الفرد في المجتمعات الحديثة وسط الماديات المفرطة، ويركز فيها على المقاهي والشوارع والغرف الأشبه بعلب إسمنية. بينما رينيه مارغت، الفنان السوريالي، يستلهم منه أندرسون العديد من اللقطات، كالبيت الذي يسير كقطار والناس تقف مودعة إياه، وغزو الطائرات لسماء السويد.
بهذه اللقطات البعيدة والطويلة يترك روي مساحة للاهتمام والتأمل بكل شخصية على حدة، وترقب أي انفعال نفسي يعتري وجهها وأي كلمة تنطق بها، لكن شخوصه كما لو أنها ديكورات تتحرك ببطء متناغمة مع المكان، ومولدة وقتاً كافياً للمتفرج للتفكير في أسئلة أندرسون وما وراء المشهد.
بهذا الأسلوب المتفرد، يقدم الرسام السينمائي روي أندرسون فيلماً لا يورط المتفرج به، لا عن طريق حكاية ولا عن طريق إبهار بصري، بل يجعل المتفرج يحافظ على دوره كملتقٍ، ويتعامل بحيادية وتجرّد مع كل اسكيتش على حدة.
الموسيقى بدورها تشبع أسلوب روي بالتهكم، فهي استمرارية ساخرة للحياة، وهو يوظفها في لحظات يكاد فيها المتفرج أن يقع أسير اللقطة، فيعيده إلى تركيزه.
ثلاثية لنقد أوروبا الحديثة
يمكن أن يُعدَّ روي أندرسون من أهم الناقدين للحداثة وأقساهم، فهو من خلال أفلامه يعيد تشكيل ماضي هذه الحضارة بشكل تهكمي قاسٍ، ويظهر هذا بوضوح في تصويره لشخصية كارل تشارلز الثاني عشر، ملك السويد العبقري السياسي المهزوم على يد القيصر الروسي الأكبر. كارل هذا يعود مع جيشه وعتاده ليدخل مقهىً بسيطاً ويطرد ويعاقب الجالسين فيه قبل ذهابه لحرب بولتوفا، التي يعود منها منكسراً بعد أن خسر أكثر من نصف جيشه، لينتظر دوره على باب دورة المياه في المقهى نفسه.
بهذه المفارقة ينتقد أندرسون ارتباط السويديين بالماضي والتغني به وصولاً إلى حالة الخمول اليوم، إلى جانب تركيزه على جذور هذه الحضارة وانتهاكات الإنسانية جمعاء، التي تعيش اليوم أزمة وجودية، طارحاً هذه الأزمة من خلال تساؤل: كيف لإنسان استطاع إبادة عرق إنساني كامل أن يعيش في قلق من الموت؟ فيصور بعضاً من العجزة الأثرياء يصعدون الشرفة لتأمل جنود يرتدون زي المستعمرين الإنكليز، ويقومون بوضع بعض من الأفارقة في أسطوانة معدنية تحوي فتحات لخروج الصوت، ويتم إشعال النار تحتهم ليصدر صوتُ موسيقا بدلاً من الصراخ. هذه الطريقة في الإعدام كان قد اتبعها ملكٌ في جزيرة صقلية عام 500 ق.م.
يطعن روي مفاهيم الإنسانية والعدالة والمساواة بتهكمه القاسي على خوف البشرية من الموت وخمولها الممل، الضجر والملل هو الخطيئة الأولى، والإنسان غارق بها، هو كائن خامل لا يعمل، ينتظر شركات التأمين لتعويضه عن خسارات هو من يفتعلها، يشتكي من الوحدة وهو سببها، يتحدث ويأكل ويناقش وإلى جانبه قرد يتعذب ويُصعق بالكهرباء في مركز للبحوث العلمية.
يعيد أندرسون تكرار عدد من الطقوس القديمة، كمظاهرات تحوي على عملية جلد وتعذيب للنفس لطلب التحسينات الاقتصادية، وتقديم أضاحٍ كالطفلة الصغيرة التي أقنعها أصحاب رؤوس الأموال أنهم يدركون مصلحتها أكثر منها كونها صغيرة، ثم قدموها أضحية أمام رجال الدين والتلفاز. يوجه المخرج صفعة قاسية للإنسان، تدعوه إلى أن يتأمل ذاته، وهو يعبر عن حاجة الإنسان لهذا التأمل عبر مشهد يصوّرُ عرضاً لمواهب أطفال من ذويّ الاحتياجات الخاصة، تقوم فيه فتاةٌ لتلقي قصيدة تقول فيها: إن حمامة جلست على غصن تفكر… وتتأمل الحياة
مشاهدة فيلم لروي اندرسون تكاد تشبه تأملاً في رحلة دانتي للجحيم، وهو معجبٌ يستقي من عدة أدباء في أعماله، لكنه صرح عدة مرات عن مدة إعجابه برواية غريب لألبير كامو، ورغبته بصناعة ما يوازيها في السينما.
ربما لم يصنع غريباً جديدة، لكنه قدّم مجتمعاً كاملاً من الغرباء.
أندرسون وتحطيم أحلام العالم الثالث
في نظرة روي أندرسون التشاؤمية الناقدة لمجتمعات الوفرة الكاملة، تكاد تغدو صراعات وانتماءات مجتمعات العالم الثالث وحركتها المستمرة وفوضاها سبباً للحياة، ففي مجتمعات تجاوزت أنماط الصراعات الإنسانية وصراعات إثبات الهوية وغيرها، تغدو أسباب العيش ميكانيكية تخلق الضجر والسخط، إذ لا هدف ولا سبب لنشوب نزاع ولا مبرر لقيام علاقات إنسانية. العلاقات تقوم بتجرد على أسس غريزية ودوافع قائمة على المنفعة المتبادلة، ولكن لا حاجة للفعل في حياة يحكمها القدر، حتى الحوار يبدو فيها ميتاً، ومع انعدام الحوار تحيا الشخصيات في عالم من العزلة والترقب والخوف من الآخر، إذ ليس هناك لغة متبادلة لخلق مساحة من الأمان بين الشخصيات، وبانعدام العلاقات الإنسانية الكلاسيكية يحطّم أندرسون أساس المجتمعات البشرية، ويقدم نقداً سينمائياً عميقاً وهادئاً للمجتمعات المعاصرة، ربما يكون من أفضل ما تم تقديمه سينمائياً في هذا المجال.
قد يكون من الصعب تقبّلُ الصراع كما يقدمه أندرسون بالنسبة لمتلقٍ من العالم الثالث، فهو سيمرّ أمامه كأي صراع حياتي آخر، دون أن يشكل صفعة قاسية، بل إنه سيبدو صراعاً بسيطاً أمام أهمية الصراعات الحقيقية والواقعية التي يعيشها، وهذا بالضبط ما يسخر منه أندرسون، إذ هناك صراعاتٌ ومعارك حقيقية يخوضها أناسٌ دفاعاً عن حياة أفضل، وبالمقابل هناك أناسٌ أصابهم الخمولٌ واللامبالاة وفقدانُ الإحساس بالآخر، مات الإنسان في داخلهم فيما يجلسون خائفين من الموت.
يخوض كثيرون من سكان دول العالم الثالث صراعات سياسية وصراعات هوية وإيديولوجيا وانتماء، وثورات على أنظمة سياسية واقتصادية جائرة، تهدف للوصول إلى تحقيق أحلام الرخاء الاجتماعي، وأحلام حرية ممارسة المعتقدات والتفكير والتعبير. لكن أندرسون يبدو كما لو أنه يقوم بتقديم نتائج هذه الصراعات والمعارك، مُحطّماً هذا الأحلام، محاولاً القول إنه لا وجود للحرية في مجتمع لا تزال تسيطر عليه رؤوس الأموال، ويغيب فيه صراع المبادئ الذي يجعل الفرد يقوم بالحوار، فتنتفي فيه الحاجة إلى تبادل الأفكار والجدل.